١٠٢واتبعوا ما تتلوا . . . . . {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } ، معنى تبعوا : أي اقتدوا به إماماً ، أو فضلوا ، لأن من اتبع شيئاً فضله ، أو قصد واو الضمير في واتبعوا لليهود ، فقال ابن زيد والسدّي : يعود على من كان في عهد سليمان . وقال ابن عباس : في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : يعود على جميع اليهود . والجملة من قوله : واتبعوا ، معطوفة على جميع الجملة السابقة من قوله : ولما جاءهم إلى آخرها ، وهو إخبار عن حالهم في اتباعهم ما لا ينبغي أن يتبع ، وهذا هو الظاهر ، لا أنها معطوفة على قوله : نبذه فريق منهم ، لأن الاتباع ليس مترتباً على مجيء الرسول ، لأنهم كانوا متبعين ذلك قبل مجيء الرسول ، بخلاف نبذ كتاب اللّه ، فإنه مترتب على مجيء الرسول . وتتلو : تتبع ، قاله ابن عباس ، أو تدعي ، أو تقرأ ، أو تحدث ، قاله عطاء ، أو تروي ، قاله يمان ، أو تعمل ، أو تكذب ، قاله أبو مسلم . وهي أقوال متقاربة . وما موصولة ، صلتها تتلو ، وهو مضارع في معنى الماضي ، أي ما تلت . وقال الكوفيون : المعنى : ما كانت تتلو ، لا يريدون أن صلة ما محذوفة ، وهي كانت وتتلو ، في موضع الخبر ، وإنما يريدون أن المضارع وقع موقع الماضي ، كما أنك إذا قلت : كان زيد يقوم ، هو إخبار بقيام زيد ، وهو ماض لدلالة كان عليه . والشياطين : ظاهره أنهم شياطين الجن ، لأنه إذا أطلق الشيطان ، تبادر الذهن إلى أنه من الجان . وقيل : المراد شياطين الإنس . وقرأ الحسن والضحاك : الشياطون ، بالرفع بالواو ، هو شاذ ، فاسه على قول العرب : بستان فلان حوله بساتون ، رواه الأصمعي . قالوا : والصحيح أن هذا الجن فاحش . وقال أبو البقاء : شبه فيه الياء قبل النون بياء جمع الصحيح ، وهو قريب من الغلط . وقال السجاوندي : خطأه الخازربجي . على ملك : متعلق بتتلو ، وتلا يتعدى بعلى إذا كان متعلقها يتلى عليه لقوله : يتلى على زيد القرآن ، وليس الملك هنا بهذا المعنى ، لأنه ليس شخصاً يتلى عليه ، فلذلك زعم بعض النحويين أن على تكون بمعن في ، أي تتلو في ملك سليمان . وقال أصحابنا : لا تكون على في معنى في ، بل هذا من التضمين في الفعل ضمن تتقول ، فعديت بعلى لأن تقول : تعدى بها ، قال تعالى :{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا } ومعنى :{ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } ،أي شرعه ونبوّته وحاله . وقيل : على عهده ، وفي زمانه ، وهو قريب . وقيل : على كرسي سليمان بعد وفاته ، لأنه كان من آلات ملكه . وفسروا ما يتلو الشياطين بالسحر ، قالوا : وهو الأشهر والأظهر على ما نقل في أسباب النزول ، من أن الشياطين كتبت السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف . وقيل : الذي تلته هو الكذب الذي تضيفه إلى ما تسترق من أخبار السماء ، وأضافوا ذلك إلى سليمان تفخيماً لشأن ما يتلونه ، لأن الذي كان معه : من المعجزات ، وإظهار الخوارق ، وتسخير الجن والإِنس ، وتقريب المتباعدات ، وتأليف الخواطر ، وتكليم العجماوات ، كان أمراً عظيماً . والساحر يدّعي أشياء من هذا النوع : من تسخير الجن ، وبلوغ الآمال ، والتأثير في الخواطر ، بل ويدّعي قلب الأعيان على ما يأتي في الكلام على السحر في قوله تعالى : { يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ } ،أو لأنهم كانوا يزعمون أن ملك سليمان إنما حصل بالسحر . وقد ذكر المفسرون في كيفيات ما رتبوه من هذا الذي تلوه قصصاً كثيرة ، اللّه أعلم به ، ولم تتعرض الآية الكريمة ، ولا الحديث المسند الصحيح لشيء منه ، فلذلك لم نذكره . {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } : تنزيه لسليمان عن الكفر ، أي ليس ما اختلقته الجن من نسبة ما تدعيه إلى سليمان تعاطاه سليمان ، لأنه كفر ، ومن نبأه اللّه تعالى منزه عن المعاصي الكبائر والصغائر ، فضلاً عن الكفر . وفي ذلك دليل على صحة نفي الشيء عمن لا يمكن أن يقع منه ، لأنّ النبي لا يمكن أن يقع منه الكفر ، ولا يدل هذا على أن ما نسبوه إلى سليمان من السحر يكون كفراً ، إذ يحتمل أنهم نسبوا إليه الكفر مع السحر . وروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما ذكر سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود : انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء ، وما كان إلا ساحراً . ولم يتقدّم في الآيات أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر ، ولكنها آية نزلت في السبب المتقدّم أن اليهود نسبته إلى السحر والعمل به . {وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ } : كفرهم ، إما بتعليم السحر ، وإما تعلمهم به ، وإما بتكفيرهم سليمان به ، ويحتمل أن يكون كفرهم بغير ذلك . واستعمال لكن هنا حسن ، لأنها بين نفي وإثبات . وقرىء : ولكنّ بالتشديد ، فيجب إعمالها ، وهي قراءة نافع وعاصم وابن كثير وأبي عمرو . وقرىء : بتخفيف النون ورفع ما بعدها بالابتداء والخبر ، وهي قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي . وإذا خففت ، فهل يجوز إعمالها ؟ مسألة خلاف الجمهور على المنع ونقل أبو القاسم بن الرماك عن يونس جواز إعمالها ، ونقل ذلك غيره عن الأخفش ، والصحيح المنع . وقال الكسائي والفراء : الاختيار ، التشديد إذا كان قبلها واو ، والتخفيف إذا لم يكن معها واو ، وذلك لأنها مخففة تكون عاطفة ولا تحتاج إلى واو معها . كبل : فإذا كانت قبلها واو لم تشبه بل ، لأن بل لا تدخل عليها الواو ، فإذا كانت لكن مشدّدة عملت عمل إن ، ولم تكن عاطفة . انتهى الكلام . وهذا كله على تسليم أن لكن تكون عاطفة ، وهي مسألة خلاف الجمهور على أن لكنّ تكون عاطفة . وذهب يونس إلى أنها لبيست من حروف العطف ، وهو الصحيح لأنه لا يحفظ ذلك من لسان العرب ، بل إذا جاء بعدها ما يوهم العطف ، كانت مقرونة بالواو كقوله تعالى :{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللّه} وأما إذا جاءت بعدها الجملة ، فتارة تكون بالواو ، وتارة لا يكون معها الواو ، كما قال زهير : إن ابن ورقاء لا تخشى بوادره لكن وقائعه في الحرب تنتظر وأما ما يوجد في كتب النحويين من قولهم : ما قام زيد لكن عمرو ، وما ضربت زيداً لكن عمراً ، وما مررت بزيد لكن عمرو ، فهو من تمثيلهم ، لا أنه مسموع منا لعرب . ومن غريب ما قيل في لكن : إنها مركبة من كلم ثلاث : لا للنفي ، والكاف للخطاب ، وأن التي للإثبات والتحقيق ، وأن الهمزة حذفت للاستثقال ، وهذا قول فاسد ، والصحيح أنها بسيطة . {يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ } : الضمير في يعلمون اختلف في من يعود عليه ، فالظاهر أنه يعود على الشياطين ، يقصدون به إغواءهم وإضلالهم ، وهو اختيار الزمخشري . وعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال من الضمير في كفروا . قالوا : أو خبراً ثانياً . وقيل : حال من الشياطين . ورد بأن لكن لا تعمل في الحال ، وقيل : بدل من كفروا ، بدل الفعل من الفعل ، لأن تعليم الشياطين السحر كفر في المعنى . والظاهر أنه استئناف إخبار عنهم . وقيل : الضمير عائد على الذين اتبعوا ما تتلو الشياطين . على اختلاف المفسرين فيمن يعود عليه ضمير اتبعوا ، فيكون المعنى : يعلم المتبعون ما تتلو الشياطين الناس ، فالناس معلمون للمتبعين . وعلى القول الأول يكونون معلمين للشياطين . واختلف في حقيقة السحر على أقوال : الأول : أنه قلب الأعيان واختراعها وتغيير صور الناس مما يشبه المعجزات والكرامات ، كالطيران وقطع المسافات في ليلة . الثاني : أنه خدع ومخاريق وتمويهات وشعوذة لا حقيقة لها ، ويدل عليه ، { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} وفي الحديث ، حين سحر لبيد بن الأعصم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله} . وهو قول المعتزلة : يرون أن السحر ليست له حقيقة ، ووافقهم أبو إسحاق الاسترأباذي من الشافعية . الثالث : أنه أمر يأخذ بالعين على جهة الحيلة ، ومنه :{ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ } ، كما روي أن حبالهم وعصيهم كانت مملوءة زئبقاً ، فسجروا تحتها ناراً ، فحميت الحبال والعصي ، فتحركت وسعت . ولأرباب الحيل والدك والشعوذة من هذا أشياء ، يبين كثير منها في الكتاب المسمى } بكشف الدّك والشعوذة وإيضاح الشك { ، وفي كتاب } إرخاء الستور والكلل في الشعوذة والحيل} . وفي الحديث ، حين انشق القمر نصفين بمكة ، قال أبو جهل : اصبروا حتى يأتي أهل البوادي ، فإن لم يخبروا بذلك ، كان محمد قد سحر أعيننا ، فأتوا فأخبروا بذلك ، فقال : ما هذا إلا سحر عظيم . الرابع : أنه نوع من خدمة الجن ، وهم الذين استخرجوه من جنس لطيف أجسامهم وهيآتها ، فلطف ودق وخفي . الخامس : أنه مركب من أجسام تجمع وتحرق ، وتتخذ منها أرمدة ومداد ، ويتلى عليها أسماء وعزائم ، ثم تستعمل فيما يحتاج إليها م السحر . السادس : أن أصله طلسمات وقلفطريات ، تبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصى فرعون ، أو استخدام الشياطين لتسهيل ما عسر . السابع : أنه مركب من كلمات ممزوجة بكفر . قال بعض معاصرينا : هذه الأقوال كلها التي قالوها في حقيقة السحر أنواع من أنواع السحر ، وقد ضم إليها أنواع أخر من الشعبذة والدّك والنارنجيات والأوفاق والعزائم وضروب المنادل والصرع ، وما يجري مجرى ذلك . انتهى كلامه . ولا يشك في أن السحر كان موجوداً ، لنطق القرآن والحديث الصحيح به . وأما في زماننا الآن ، فكلما وقفنا عليه في الكتب ، فهو كذب وافتراء ، لا يترت بعليه شيء ، ولا يصح منه شيء ألبتة . وكذلك العزائم وضرب المندل ، والناس الذين يعتقد فيهم أنهم عقلاء ، يصدّقون بهذه الأشياء ، ويصغون إلى سماعها . وقد رأيت بعض من ينتمي إلى العلم ، إذا أفلس ، وضع كتباً وذكر فيها أشياء من رأسه ، وباعها في الأسواق بالدراهم الجيدة . وقد أطلق اسم السحر بعض العلماء على الوشي بين الناس بالنميمة ، لأن فيه قلب الصديق عدواً ، والحبيب بغيضاً . كما أطلق على حسن التوسل باللفظ الرائق العذب ، لما فيه من الاستمالة ، وسمي : سحراً حلالاً . وقد روي أن من البيان لسحراً ، وقال وحديثها السحر الحلال لو أنه لم يجن قتل المسلم المنحرز وظاهر قوله : { يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ } : أنهم يفهمونهم إياه بالإقراء والتعليم . وقيل : المعنى يدلونهم على تلك الكتب ، فأطلق على الدلالة تعليماً ، تسمية للمسبب بالسبب . وقيل : المعنى يوقرون في قلوبهم أنها حق ، تضر وتنفع ، وأن سليمان إنما تم له ما تم بذلك ، وهذا أيضاً تسمية للمسبب بالسبب . وقيل : يعلمون معناه يعلمون ، أي يعلمونهم بما يتعلمون به السحر ، أو بمن يتعلمون منه ولم يعلموهم ، فهو من باب الإعلام لا من باب التعليم . وأما حكم السحر ، فما كان منه يعظم به غير اللّه من الكواكب والشياطين ، وإضافة ما يحدثه اللّه إليها ، فهو كفر إجماعاً ، لا يحل تعلمه ولا العمل به . وكذا ما قصد بتعلمه سفك الدماء ، والتفريق بين الزوجين والأصدقاء . وأما إذا كان لا يعلم منه شيء من ذلك ، بل يحتمل ، فالظاهر أنه لا يحل تعلمه ولا العمل به . وما كان من نوع التحيل والتخييل والدّك والشعبذة ، فإن قصد بتعليمه العمل به والتمويه على الناس ، فلا ينبغي تعلمه ، لأنه من باب الباطل . وإن قصد بذلك معرفته لئلا تتم عليه مخايل السحرة وخدعهم ، فلا بأس بتعلمه ، أو اللّهو واللعب ، وتفريج الناس على خفة صنعته فيكره . روي : لست من دد ولا دد مني . وأما سحر البيان ، فما أريد به تأليف القلوب على الخير ، فهو السحر الحلال ، أو ستر الحق ، فلا يجوز تعلمه ولا العمل به . وأما حكم الساحر حدًّا وتوبة ، فقد تعرض المفسرون لذلك ، ولم تتعرض إليه الآية ، وهي مسألة موضوعها علم الفقه ، فتذكر فيه . {وَمَا أَنَزلَ } : ظاهره أن ما موصول اسمي منصوب ، وأنه معطوف على قوله : السخر ، وظاهر العطف التغاير ، فلا يكون ما أنزل على الملكين سحراً . وقيل : هو معطوف على ما تتلو الشياطين ، أي { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ } ، و { الَّذِى أَنزَلَ } ، وظاهره أن ما علموه الناس ، أو ما اتبعوه هو منزل . واختلف في هذا المنزل الذي علم ، أو الذي اتبع فقيل : علم السحر أنزل على الملكين ابتلاء من اللّه للناس ، من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً ، ومن تجنبه أو تعلمه لا يعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمناً ، كما ابتلى قوم طالوت بالنهر ، وهذا اختيار الزمخشري . وقال مجاهد وغيره : المنزل هو الشيء الذي يفرق به بين المرء وزوجه ، وهو دون السحر . وقيل : السحر ليعلم على جهة التحذير منه ، والنهي عنه ، والتعليم على هذا القول إنما هو تعريف يسير بمبادئه . وقيل : ما في موضع جر عطفاً على ملك سليمان ، والمعنى : افتراء على ملك سليمان ، وافتراء على ما أنزل على الملكين ، وهو اختيار أبي مسلم ، وأنكر أن يكون الملكان نازلاً عليهما السحر ، قال : لأنه كفر ، والملائكة معصومون ، ولأنه لا يليق باللّه إنزاله ، ولا يضاف إليه ، لأن اللّه يبطله ، وإنما المنزل على الملكين الشرع ، وإنهما كانا يعلمان الناس ذلك . وقيل : ما حرف نفي ، والجملة معطوفة على { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ، وذلك أن اليهود قالوا : إن اللّه أنزل جبريل وميكال بالسحر ، فنفى اللّه ذلك . {عَلَى الْمَلَكَيْنِ } : قراءة الجمهور بفتح اللام ، وظاهره أنهما ملكان من الملائكة ، وقد تقدّم الكلام على الملك في قوله تعالى :{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ } ، فقيل : هما جبريل وميكال ، كما ذكرناه في هذا القول الأخير . وقيل : ملكان غيرهما وهما : هاروت وماروت . وقيل : ملكان غيرهما ، وسيأتي إعراب هاروت وماروت على تقدير هذه الأقوال ، إن شاء اللّه . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو الأسود الدؤلي والضحاك وابن ابزي : الملكين ، بكسر اللام ، فقال ابن عباس : هما رجلان ساحران كانا ببابل ، لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر . وقال الحسن : هما علجان ببابل العراق . وقال أبو الأسود : هما هاروت وماروت ، وهذا موافق لقول الحسن . وقال ابن أبزي : هما داود وسليمان ، على نبينا وعليهما الصلاة والسلام . وقيل : هما شيطانان . فعلى قول ابن أبزي تكون ما نافية ، وعلى سائر الأقوال ، في هذه القراءة ، تكون ما موصولة . ومعنى الإنزال : القذف في قلوبهما . وقد ذكر المفسرون ، في قراءة من قرأ : الملكين بفتح اللام ، قصصاً كثيراً ، تتضمن : أن الملائكة تعجبت من بني آدم في مخالفتهم ما أمر اللّه به ، وأن اللّه تعالى بكتهم ، بأن قال لهم : اختاروا ملكين للّهبوط إلى الأرض ، فاختاروا هاروت وماروت ، وركب فيهما الشهوة ، فحكما بين الناس ، وافتتنا بامرأة ، تسمى بالعربية الزهرة ، وبالفارسية ميذخت ، فطلباها وامتنعت ، إلا أن يعبدا صنماً ، ويشربا الخمر ويقتلا . فخافا على مرهما ، فعلماها ما تصعد به إلى السماء وما تنزل به ، فصعدت ونسيت ما تنزل به ، فمسخت . وأنهما تشفعا بإدريس إلى اللّه تعالى ، فخيرهما في عذاب الدنيا والآخرة ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما ببابل يعذبان . وذكروا في كيفية عذابهما اختلافاً . وهذا كله لا يصح منه شيء . والملائكة معصومون ، { لاَّ يَعْصُونَ اللّه مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ،{ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } ،{ يُسَبّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} ولا يصح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يلعن الزهرة ولا ابن عمر . وقيل : سبب إنزال الملكين : أن السحرة كثروا في ذلك الزمان ، وادعوا النبوّة ، وتحدّوا الناس بالسخر . فجاء ليعلما الناس السحر ، فيتمكنوا من معاوضة السحر ، فيتبين كذبهم في دعواهم النبوّة ، أو لأن المعجزة والسحر ماهيتان متباينتان ، ويعرض بينهما الالتباس . فجاء الإيضاح الماهيتين ، أو لأن السحر الذي يوقع التفرقة بين أعداء اللّه وأوليائه كان مباحاً ، أو مندوباً ، فبعثا لذلك ، ثم استعمله القوم في التفرقة بين أولياء اللّه . أو لأن الجن كان عندهم من أنواع السحر ما لم تقدر البشر على مثله ، فأنزلا بذلك لأجل المعارضة . وقيل : أنزلا على إدريس ، لأن الملائكة لا يكونون رسلاً لكافة الناس ، ولا بد من رسول من البشر . {بِبَابِلَ } : قال ابن مسعود : هي في سواد الكوفة . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين . وقيل : هي جبل دماوند . وقيل : هي بالمغرب . وقيل : في أرض غير معلومة ، فيها هاروت وماروت ، وسميت ببابل ، قال الخليل : لتبلبل الألسنة حين أراد اللّه أن يخالف بينها ، أتت ريح فحشرت الناس إلى بابل ، فلم يدر أحد ما يقول الآخر ، ثم فرّقتهم الريح في البلاد . وقيل : لتبلبل الألسنة بها عند سقوط قصر نمروذ .{ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } : قرأ الجمهور : بفتح التاء ، وهما بدل من الملكين ، وتكون الفتحة علامة للجرّ لأنهما لا ينصرفان ، وذلك إذا قلنا إنهما إسمان لهما . وقيل : بدل من الناس ، فتكون الفتحة علامة للنصب ، ولا يكون هاروت وماروت اسمين للملكين . وقيل : هما قبيلتان من الشياطين ، فعلى هذا يكونان بدلاً من الشياطين ، وتك ن الفتحة علامة للنصب ، على قراءة من نصب الشياطين . وأما من رفع الشياطين ، فانتصابهما على الذم ، كأنه قال : أذم هاروت وماروت ، أي هاتين القبيلتين ، كما قال الشاعر : أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع وهذا على قراءة الملكين ، بفتح اللام . وأما من قرأ بكسرها ، فيكونان بدلاً من الملكين ، إلا إذا فسرا بداود وسليمان عليهما السلام ، فلا يكون هاروت وماروت بدلاً منهما ، ولكن يتعلقان بالشياطين على الوجهين اللذين ذكرنا في رفع الشياطين ونصبه . وقرأ الحسن والزهري : هاروت وماروت بالرفع ، فيجوز أن يكونا خبر مبتدأ محذوف ، أي هما هاروت وماروت ، إن كانا ملكين . وجاز أن يكونا بدلاً من الشياطين ، الأول أو الثاني ، على قراءة من رفعه ، إن كانا شيطانين . وتقدّم لنا القول في هاروت وماروت ، وأنهما أعجميان . وزعم بعضهم أنهما مشتقان من الهرت والمرت ، وهو الكسر ، وقوله خطأ ، بدليل منعهم الصرف لهما ، ولو كانا ، كما زعم ، لانصرفا ، كما انصرف جاموس إذا سميت به . واختصت بابل بالإنزال لأنها كانت أكثر البلاد سحراً . {وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } : قرأ الجمهور : بالتشديد ، من علم على بابها من التعليم . وقالت طائفة : هو هنا بمعنى يعلمان التضعيف ، والهمزة بمعنى واحد ، فهو من باب الإعلام ، ويؤيده قراءة طلحة بن مصرّف . وما يعلمان : من أعلم قال : لأن الملكين إنما نزلا يعلمان السحر وينهيان عنه . والضمير في يعلمان عائد على الملكين ، أي وما يعلم الملكان . وكذلك قراءة أبي ، أي بإظهار الفاعل لا إضماره . وقيل : عائد على هاروت وماروت ، ففي القول الأول يكون عائداً على المبدل منه ، وفي الثاني على البدل ، ومن زائدة لتأكيد استغراق الجنس ، لأن أحداً من الألفاظ المستعملة للاستغراق في النفي العام ، فزيدت هنا لتأكيد ذلك ، بخلاف قولك : ما قام من رجل ، فإنها زيدت لاستغراق الجنس ، وشرط زيادتها هنا موجود عند جمهور البصريين ، لأنهم شرطوا أن يكون بعدها نكرة ، وأن يكون قبلها غير واجب . وقد أمعنا الكلام على زيادة من في { كتاب منهج السالك} من تأليفنا ، وأجاز أبو البقاء أن يكون أحد هنا بمعنى واحد ، والأول أظهر . { حَتَّى يَقُولاَ حَتَّى يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} وقال أبو البقاء : حتى هنا بمعنى إلا أن ، وهذا معنى لحتى لا أعلم أحداً من المتقدّمين ذكره . وقد ذكره ابن مالك في { التسهيل} وأنشد عليه في غيره : ليس العطاء من الفضول سماحة حتى تجود وما لديك قليل قال : يريد إلا أن تجود ، وما في { إِنَّمَا } كافة ، لإن عن العمل ، فيصير من حروف الابتداء . وقد أجاز بعض النحويين عمل إن مع وجود ما ، نحو : إنما زيداً قائم .{ نَحْنُ فِتْنَةٌ } : أي ابتلاء واختبار . {فَلاَ تَكْفُرْ } : قال علي رضي اللّه عنه : كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه ، كأنهما يقولان : لا تفعل كذا ، كما لو سأل سائل عن صفة الزنا ، أو القتل ، فأخبر بصفته ليجتنبه . فكان المعنى في يعلمان : يعلمان . وقال الزمخشري : فلا تكفر : فلا تتعلم ، معتقداً أنه حق فتكفر . وحكى المهدوي : أن قولهما { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } ، فلا تكفر استهزاء ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله . وقال في { المنتخب} قوله : { إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ } توكيد لقبول الشرع والتمسك به ، فكانت طائفة تمثيل وأخرى تخالف . وقيل : فلا تكفر ، أي لا تستعمله فيما نهيت عنه ، ولكن إذا وقفت عليه فتحرز من أن ينفذ لساحر عليك تمويه . وقيل : فلا تفعله لتعمل به . وهذا على قول من قال : تعلمه جائز والعمل به كفر . وقيل : فلا تكفر بتعليم السحر ، وهذا على قول من قال : إن تعلمه كفر . وقيل : فلا تكفر بنا ، وهذا على قول : إن الملكين نزلا من السماء بالسحر ، وإن من تعلمه في ذلك الوقت كان كافراً ، ومن تركه كان مؤمناً ، كما جاء في نهر طالوت ، وقد تقدم ما حكاه المهدوي إن قولهما : فلا تكفر ، على سبيل الاستهزاء ، لا على سبيل النصيحة . وقوله : حتى يقولا مطلقاً في القول ، وأقل ما يتحقق بالمرة الواحدة ، فقيل مرة ، وقيل سبع مرات ، وقيل تسع مرات ، وقيل ثلاث . ويحتاج ذلك إلى صحة نقل ، وإن لم يوجد ، فيكون محتملاً ، والمتحقق المرة الواحدة . واختلف في كيفية تلقي ذلك العلم منهما ، فقال مجاهد : هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ، ويختلف إليهما شيطانان في كل سنة اختلافه واحدة ، فيتعلمان منهما ما يفرّقان به بين المرء وزوجه . والظاهر أن هاروت وماروت هما اللذان يباشران التعليم لقوله :{ وَمَا يُعَلّمَانِ} وقد ذكر المفسرون قصصاً فيما يعرض من المحاورة بين الملكين وبين من جاء ليتعلم منهما ، وفي كل من ذلك القصص أنهما يأمرانه بأن يبول في تنور . فاختلفوا في الإيمان الذي يخرج منه ، أيرى فارساً مقنعاً بحديد يخرج منه حتى يغيب في السماء ؟ أو نوراً خرج من رماد يسطع حتى يدخل السماء ؟ أو طائراً خرج من بين ثيابه وطار نحو السماء ؟ وفسروا ذلك الخارج بأنه الإيمان . وهذا كله شيء لا يصح البتة ، فلذلك لخصنا منه شيئاً ، وإن كان لا يصح ، حتى لا نخلي كتابنا مما ذكروه . {فَيَتَعَلَّمُونَ } : قاله الفراء ، واختاره الزجاج ، وهو معطوف على شيء دل عليه أول الكلام ، كأنه قال : فيأبون فيتعلمون . وقال الفرّاء أيضاً : هو عطف على { يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ } ،{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} وأنكره الزجاج بسبب لفظ الجمع في يعلمون ، وقد قال منهما . وأجازه أبو علي وغيره ، إذ لا يمتنع عطف فيتعلمون على يعلمون ، وإن كان التعليم من الملكين خاصة ، والضمير في منهما راجع إليهما ، لأن قوله : فيتعلمون منهما ، إنما جاء بعد ذكر الملكين . وقال سيبويه : هو معطوف على كفروا ، قال : وارتفعت فيتعلمون ، لأنه لم يخبر عن الملكين أنهما قالا : لا تكفر ، فيتعلموا ليجعلا كفره سبباً لتعلم غيره ، ولكنه على كفروا فيتعلمون . يريد سيبويه : أنّ فيتعلمون ليس بجواب لقوله : فلا تكفر ، فينصب كما نصب { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللّه كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } ، لأن كفر من نهي أن يكفر في الآية ، ليس سبباً لتعلم من يتعلم . وكفروا : في موضع فعل مرفوع ، فعطف عليه مرفوع ، ولا وجه لاعتراض من اعترض في العطف على كفروا ، أو على يعلمون ، بأن فيه إضمار الملكين . قيل : ذكرهما من أجل أن التقدير :{ وَلَاكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلّمُونَ النَّاسَ السّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } ، لأن قوله :{ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا } إنما جاء بعد ذكر الملكين ، كما تقدّم . وقد نقل عن سيبويه أن قوله : فيتعلمون ، هو على إضمارهم ، أي فهم يتعلمون ، فتكون جملة ابتدائية معطوفة على ما قبلها عطف الجمل ، والضمير على هذه الأقوال في فيتعلمون عائد على الناس ، ويجوز أن يكون فيتعلمون معطوفاً على يعلمان ، والضمير الذي في فيتعلمون لأحد ، وجمع حملاً على منفى ، فذلك المنفي هو موجب في المعنى ، لأن معناه : إنهما يعلمان كل واحد ، إذا قالا له : إنما نحن فتنة فلا تكفر . وذكر الزجاج هذا الوجه . وقال الزجاج أيضاً : الأجود أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون ، واستغنى عن ذكر يعلمان ، بما في الكلام من الدليل عليه . وقال أبو علي : لا وجه لقول الزجاج استغنى عن ذكر يعلمان ، لأنه موجود في النص . انتهى كلام أبي علي ، وهو كلام فيه مغالطة ، لأن الزجاج لم يرد أن فيتعلمون معطوف على يعلمان ، الداخل عليها ما النافية في قوله : ولا ما يعلمان ، فيكون يعلمان موجوداً في النص ، وإنما يريد أن يعلمان مضمرة مثبتة لا منفية . وهذا الذي قدّره الزجاج ليس موجوداً في النص . وحمل أبا عليّ على هذه المغالطة حب ردّه على الزجاج وتخطئته ، لأنه كان مولعاً بذلك . وللشنآن الجاري بينهما سبب ذكره الناس . انتهى ما وقفنا عليه للناس في هذا العطف ، وأكثره كلام المهدوي ، لأنه هو الذي أشبع الكلام في ذلك . وتلخص في هذا العطف أنه عطف على محذوف تقدير : فيأبون فيتعلمون ، أو يعلمان فيتعلمون ، أي على مثبت ، أو يتعلمون خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يتعلمون عطف جملة اسمية على فعلية ، أو معطوفاً على يعلمون الناس ، أو معطوفاً على كفروا ، أو على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى . فتلك أقوال ستة ، أقر بها إلى اللفظ هذا القول الأخير . {مِنْهُمَا } : الضمير في الظاهر عائد على الملكين ، أي فيتعلمون من الملكين ، سواء قرىء بفتح اللام ، أو كسرها . وقيل : يعود على السحر ، وعلى الذي أنزل على الملكين ، وقيل : عائد على الفتنة والكفر ، الذي هو مصدر مفهوم من قوله :{ فَلاَ تَكْفُرْ } ، وهذا قول أبي مسلم ، والتقدير عنده : فيتعلمون من الفتنة والكفر مقدار ما يفرقون به بين المرء وزوجه .{ مَا يُفَرّقُونَ بِهِ } : ما موصولة ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأجل عود الضمير عليها . والمصدرية لا يعود عليها ضمير ، لأنها حرف في قول الجمهور ، والذي يفرق به هو السحر . وعني بالتفريق : تفريق الألفة والمحبة ، بحيث تقع الشحناء والبغضاء فيفترقان ، أو تفريق الدين ، بحيث إذا تعلم فقد كفر وصار مرتداً ، فيكون ذلك مفرقاً بينهما . {بَيْنَ الْمَرْء } : قراءة الجمهور بفتح الميم وسكون الراء والهمز . وقرأ الحسن والزهري وقتادة : المر بغير همز مخففاً . وقرأ ابن أبي إسحاق : المرء بضم الميم والهمزة . وقرأ الأشهب العقيلي : المرء بكسر الميم والهمز ، ورويت عن الحسن . وقرأ الزهري أيضاً : المر بفتح الميم وإسقاط الهمز وتشديد الراء فأمّا فتح الميم وكسرها وضمها فلغات ، وأما المر بكسر الراء فوجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الراء ، وحذف الهمزة ، وأما تشديدها بعد الحذف ، فوجهه أنه نوى الوقف فشدد ، كما روي عن عاصم : مستطرّ بتشديد الراء في الوقف ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ، فأقرها على تشديدها فيه . { وَزَوْجِهِ } : ظاهره أنه يريد به امرأة الرجل . وقيل الزوج هنا : الأقارب والإخوان ، وهم الصنف الملائم للإنسان ، ومنه من كل زوج بهيج ، { احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْواجَهُمْ} {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ } : الضمير الذي هو : هم عائد على السحرة الذين عاد عليهم ضمير فيتعلمون . وقيل : على اليهود الذين عاد عليهم ضمير واتبعوا . وقيل : على الشياطين . وبضارين : في موضع نصب على أن ما حجازية ، أو في موضع رفع على أن ما تميمية . والضمير في به عائد على ما في قوله :{ مَا يُفَرّقُونَ} وقرأ الجمهور : بإثبات النون في بضارين . وقرأ الأعمش : بحذفها ، وخرّج ذلك على وجهين : أحدهما : أنها حذفت تخفيفاً ، وإن كان اسم الفاعل في صلة الألف واللام . والثاني : أن حذفها لأجل الإضافة إلى أحد ، وفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور الذي هو به ، كما قال : هما أخوا في الحرب من لا أخا له وكما قال : كما خط الكتاب بكف يوماً يهودي وهذا اختيار الزمخشري ، ثم استشكل ذلك ، لأن أحداً مجرور بمن ، فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالإضافة ؟ فقال : فإن قلت : كيف يضاف إلى أحد ، وهو مجرور بمن ؟ قلت : جعل الجار جزءاً من المجرور . انتهى . وهذا التخريج ليس بجيد ، لأن الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف ، والجار والمجرور من ضرائر الشعر ، وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه ، لأنه مشغول بعامل جر ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة . وأما جعل حرف الجر جزءاً من المجرور ، فهذا ليس بشيء ، لأنه مؤثر فيه . وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء ، والأجود التخريج الأول ، لأن له نظيراً في نظم العرب ونثرها . فمن النثر قول العرب ، قطا قطا بيضك ثنتا وبيضي مائتا ، يريدون : ثنتان ومائتان . {مّنْ أَحَدٍ } ، من زائدة ، واحد : مفعول بضارين . ومن تزاد في المعفول ، إلا أن المعهود زيادتها في المفعول الذي يكون معمولاً للفاعل الذي يباشره حرف النفي نحو : ما ضربت من رجل ، وما ضرب زيد من رجل . وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة من الفعل والفاعل ، لأن المعنى : وما يضرون من أحد .{ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه } : مستثنى مفرغ من الأحوال ، فيحتمل أن يكون حالاً من الضمير الفاعل في قوله :{ بِضَارّينَ } ، ويحتمل أن يكون حالاً من المفعول الذي هو :{ مّنْ أَحَدٍ } ، ويحتمل أن يكون حالاً من به ، أي السحر المفرق به ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضرر المصدر المعرف المحذوف . والإذن هنا فسر الوجوه التي ذكرناها عند الكلام على المفردات . فقال الحسن : الإذن هنا : هو التخلية بين المسحور وضرر السحر . وقال الأصم : العلم . وقال غيره : الخلق ، ويضاف إلى إذنه كقوله : { كُنْ فَيَكُونُ } وقيل : الأمر ، قيل : والإذن حقيقة فيه ، واستبعد ذلك ، لأن اللّه لا يأمر بالسحر ، ولأنه ذمّهم على ذلك . وأوّل معنى الأمر فيه بأن يفسر التفريق بالصيرورة . كافراً فإن هذا حكم شرعي ، وذلك لا يكون إلا بأمر اللّه . وفي هذه الجملة دليل على أن ما يتعلمون له تأثير وضرر ، لكن ذلك لا يضر إلا بإذن اللّه ، لأنه ربما أحدث اللّه عنده شيئاً ، وربما لم يحدث . {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } : لما ذكر أنه يحصل به الضرر لمن يفرق بينهما ، ذكر أيضاً أن ضرره لا يقتصر على من يفعل به ذلك ، بل هو أيضاً يضر من تعلمه . ولما كان إثبات الضرر بشيء لا ينفي النفع ، لأنه قد يوجد الشيء فيحصل به الضرر ويحصل به النفع ، نفى النفع عنه بالكلية ، وأتى بلفظ لا ، لأنها ينفي بها الحال والمستقبل . والظاهر أن { وَلاَ يَنفَعُهُمْ } معطوف على { يَضُرُّهُمْ } ، وكلا الفعلين صلة لما ، فلا يكون لها موضع من الإعراب . وجوز بعضهم أن يكون لا ينفعهم على إضمار هو ، أي وهو لا ينفعهم ، فيكون في موضع رفع ، وتكون الواو للحال ، فتكون جملة حالية ، وهذا ضعيف . وقد قيل : الضرر وعدم النفع مختص بالآخرة . وقيل : هو في الدنيا والآخرة ، فإن تعلمه ، إن كان غير مباح ، فهو يجر إلى العمل به ، وإلى التنكيل به ، إذا عثر عليه ، وإلى أن ما يأخذه عليه حرام هذا في الدنيا . وأما في الآخرة فلما يترتب عليه من العقاب .{ وَلَقَدْ عَلِمُواْ } : الضمير عائد قيل : على اليهود الذين كانوا في عهد سليمان عليه السلام ، وكانوا حاضرين استخراج الشياطين السحر ودفنه ، أو أخذ سليمان السحر ودفنه تحت كرسيه ، ولما أخرجوه بعد موته قالوا : واللّه ما هذا من عمل سليمان ولا من دخائزه . وقيل : عائد على من بحضرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اليهود . وقيل : عائد على اليهود قاطبة ، أي علموا ذلك في التوراة . وقيل : عائد على علماء اليهود . وقيل : عائد على الشياطين . وقيل : على الملكين ، لأنهما كانا يقولان لمن يتعلم الحسر : فلا تكفر ، فقد علموا أنه لا خلاق له في الآخرة . وأتى بضمير الجمع على قول من يرى ذلك . وعلم : هنا يحتمل أن تكون المتعدية لمفعولين ، وعلقت عن الجملة ، ويحتمل أن يكون المتعدية لمفعول واحد ، وعلقت أيضاً كما علقت عرفت . والفرق بين هذين التقديرين يظهر في العطف على موضعها . واللام في :{ لَمَنِ اشْتَرَاهُ } هي لام الابتداء ، وهي المانعة من عمل علم ، وهي أحد الأسباب الموجبة للتعليق ، وأجازوا حذفها ، وهي باقية على منع العمل ، وخرجوا على ذلك . إني وجدت ملاك الشيمة الأدب يريد لملاك الشيمة . ومن هنا موصولة ، وهي مرفوعة بالابتداء . والجملة من قوله :{ مَا لَهُ فِى الاْخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ } في موضع الخبر . واللام في لقد للقسم . هذا مذهب سيبويه وأكثر النحويين . وجملة { وَلَقَدْ عَلِمُواْ } مقسم عليها التقدير : واللّه لقد علموا . والجملة الثانية عنده غير مقسم عليها . وأجاز الفراء أن تكون الجملتان مقسماً عليهما ، وتكون من للشرط ، وتبعه في ذلك الحوفي وأبو البقاء . قال أبو البقاء : اللام في { لَمَنِ اشْتَرَاهُ } هي التي يوطأ بها القسم مثل :{ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } ، ومن في موضع رفع بالابتداء ، وهي شرط وجواب القسم ماله في الآخرة من خلاق . انتهى كلامه . فاشتراه في القول الأول صلة ، وفي هذا القول خبر عن من ، ويكون إذ ذاك جواب الشرط محذوفاً يدل عليه جواب القسم ، لأنه اجتمع قسم وشرط ، ولم يتقدّمهما ذو خبر ، فكان الجواب للسابق ، وهو القسم ، ولذلك كان فعل الشرط ماضياً في اللفظ . هذا هو تقرير هذا القول وتوضيحه . وفي كلا القولين يكون : لمن اشتراه ، في موضع نصب بيعلموا . وقد نقل عن الزجاج ردّ قول من قال من شرط ، وقال هذا ليس موضع شرط ، ولم ينقل عنه توجيه ، كونه ليس موضع شرط . وأرى المانع من ذلك أن الفعل الذي يلي من هو ماض لفظاً ومعنى ، لأن الاشتراء قد وقع ، وجعله شرطاً لا يصح ، لأن فعل الشرط إذا كان ماضياً لفظاً ، فلا بد أن يكون مستقبلاً في المعنى . فلما كان كذلك ، كان ليس موضع شرط . والضمير المنصوب في اشتراه عائد على السحر ، أو الكفر ، أو كتابهم الذي باعوه بالسحر ، أو القرآن ، لأنه تعوضوا عنه بكتب السحر ، أقوال أربعة . والخلاق : النصيب ، قاله مجاهد ، أو الدين ، قاله الحسن ؛ أو القوام ، قاله ابن عباس ، أو الخلاص ، أو القدر ، قاله قتادة ؛ أقوال خمسة . {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ } : تقدّم القول في بئس ، وفي ما الواقعة بعدها ، ومعناه : ذمّ ما باعوا به أنفسهم . والضمير في به عائد على السحر ، أو الكفر . والمخصوص بالذمّ محذوف تقديره : على أحسن الوجوه التي تقدّمت في بئسما السحر ، أو الكفر . والضمير في : شروا ، ويعلمون ، باتفاق لليهود . فمتى فسر الضمير في ولقد علموا بأنه عائد على الشياطين ، أو اليهود الذين كانوا بحضرة سليمان ، وفي زمانه ، أو الملكين بفتح اللام ، أو بكسرها ، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم . وإن اتحد المسند إليه ، أوّل العلم الثاني بالعقل ، لأن العلم من ثمرته ، فلما انتفى الأصل ، نفى ثمرته . أو بالعمل ، لأنه من ثمرة العلم ، فلما انتفت الثمرة ، جعل ما ينشأ عنه منفياً ، أو أوّل متعلق العلم ، وهو المحذوف ، أي علموا ضرره في الآخرة ، ولم يعلموا نفعه في الدنيا . أو علموا نفي الثواب ، ولم يعلموا استحقاق العذاب . وجواب لو محذوف تقديره :{ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ذمّ ذلك لما باعوا أنفسهم . |
﴿ ١٠٢ ﴾