١٠٥

ما يود الذين . . . . .

{مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ } : ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود : آمنوا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : وددنا لو كان خيراً مما نحن عليه فنتبعه ، فأكذبهم اللّه بقوله :{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب : الذين بحضرة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والظاهر ، العموم في أهل الكتاب : وهم اليهود والنصارى ، وفي المشركين : وهم مشركو العرب وغيرهم ، ونفى بما ، ونها لنفي الحال ، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم . ومن ، في قوله : من أهل الكتاب ، تبعيضية ، فتتعلق بمحذوف ، أي كائنين من أهل الكتاب . ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس قال ذلك هنا ، وبه

قال الزمخشري ، وأصحابنا لا يثبتون كونها للبيان .{ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ } ، معطوف على :{ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ورأيت في كتاب لأبي إسحاق الشيرازي ، صاحب { التنبيه} ، كلاماً يرد فيه على الشيعة ، ومن قال بمقالتهم : في أن مشروعية الرجلين في الوضوء هي المسح ، للعطف في قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } ، على قوله :{ بِرُؤُوسِكُمْ } ، خرج فيه أبو إسحاق قوله : وأرجلكم بالجر ، على أنه من الخفض على الجوار ، وأن أصله النصب فخفض عطفاً على الجوار . وأشار في ذلك الكتاب إلى أن القرآن ولسان العرب يشهدان بجواز ذلك ، وجعل منه قوله : ولا المشركين ، في هذه الآية ، وقوله :{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ } ، وأن الأصل هو الرفع ، أي ولا المشركون ، عطفاً على الذين كفروا ، وهذا حديث من قصر في العربية ، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة ، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح . ودخلت لا في قوله : ولا المشركين ، للتأكيد ، ولو كان في غير

القرآن لجاز حذفها . ولم تأت في قوله : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكّينَ } لمعنى يذكر هناك ، إن شاء اللّه تعالى .

{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم } : في موضع المفعول بيود ، وبناؤه للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وللتصريح به في قوله :{ مّن رَّبّكُمْ} ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله :{ مّن رَّبّكُمْ}{ مّنْ خَيْرٍ } ، من : زائدة ، والتقدير : خير من ربكم ، وحسن زيادتها هنا ، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي ، فليس نظير : ما يكرم من رجل ، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى ، لأنه إذا نفيت الودادة ، كان كأنه نفى متعلقها ، وهو الإنزال ، وله نظائر في لسان العرب ، من ذلك قوله تعالى :{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّه الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء ، وكذلك قول العرب : ما ظننت أحداً يقول ذلك إلا زيد ، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول ، وإن لم يباشره حرف النفي ، لأن المعنى : ما يقول ذلك أحد إلا زيد ، فيما أظن . وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل .

وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان ، فيجوز زيادتها ، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه ، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره . ويزيد الأخفش : أنه يجيز زيادتها في المعرفة . وذهب قوم إلى أن من للتبعيض ، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم ، ويكون المعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم .

{مّن رَّبّكُمْ } : من : لابتداء الغاية ، كما تقول : هذا الخير من زيد . ويجوز أن تكون للتبعيض . المعنى من خير كائن من خيور ربكم ، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله : ينزل ، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف ، وكان ذلك على حذف مضاف ، كما قدّرناه . والخير هنا : القرآن ، أو الوحي ، إذ يجمع القرآن وغيره ، أو ما خص به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من التعظيم ؛ أو الحكمة والقرآن والظفر ؛ أو النبوة الإسلام ، أو العلم والفقه والحكمة ؛ أو هنا عام في جميع أنواع الخير ، فهم يودون انتفاء ذلك عن المؤمنين ، سبعة أقوال ، أظهرها الآخر . وسبب عدم ودهم ذلك : أما في اليهود ، فلكون النبوّة كانت في بني إسماعيل ، ولخوفهم على رئاستهم ،

وأما النصارى ، فلتكذيبهم في إدعائهم ألوهية عيسى ، وأنه ابن اللّه ، ولخوفهم على رئاستهم ،

وأما المشركون ، فلسبّ آلهتهم وتسفيه أحلامهم ، ولحسدهم أن يكون رجل منهم يختص بالرسالة ، واتباع الناس له .

{وَاللّه يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } : أي يفرد بها ، وضد الاختصاص : الاشتراك . ويحتمل أن يكون يختصّ هنا لازماً ، أي ينفرد ، أو متعدّياً ، أي يفرد ، إذ الفعل يأتي كذلك . يقال : اختصّ زيد بكذا ، واختصصته به ، ولا يتعين هنا تعديه ، كما ذكر بعضهم ، إذ يصح ، واللّه يفرد برحمته من يشاء ، فيكون من فاعلة ، وهو افتعل من : خصصت زيداً بكذا . فإذا كان لازماً ، كان لفعل الفاعل بنفسه نحو : اضطررت ، وإذا كان متعدياً ، كان موافقاً لفعل المجرّد نحو : كسب زيد مالاً ، واكتسب زيد مالاً . والرحمة هنا عامة بجميع أنواعها ؛ أو النبوّة والحكمة والنصرة ، اختص بها محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قاله عليّ والباقر ومجاهد والزجاج ؛ أو الإسلام ، قاله ابن عباس ؛ أو القرآن ، أو النبي صلى اللّه عليه وسلم ،{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَالَمِينَ } ، هو نبي الرحمة ، أقوال خمسة ، أظهرها الأول .

{وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } : قد تقدّم أن ذو بمعنى صاحب . وذكر جملة من أحكام ذو ، والوصف بذو ، أشرف عندهم من الوصف بصاحب ، لأنهم ذكروا أن ذو أبداً لا تكون إلا مضافة لاسم ، فمدلولها أشرف . ولذلك جاء ذو رعين ، وذو يزن ، وذو الكلاع ، ولم يسمعوا بصاحب رعين ، ولا صاحب يزن ونحوها . وامتنع أن يقول في صحابي أبي سعيد أو جابر : ذو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وجاز أن يقول : صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ولذلك وصف اللّه تعالى نفسه بقوله :{ ذُو الْجَلْالِ } ،{ ذُو الْفَضْلِ } ، وسيأتي الفرق بين قوله تعالى :{ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } ،

وقوله تعالى :{ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ } ، إن شاء اللّه تعالى . وتقدّم تفسير { الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ، ويجوز أن يراد به هنا : جميع أنواع التفضلات ، فتكون أل للاستغراق ، وعظمه من جهة سعته وكثرته ، أو فضل النبوّة . وقد وصف تعالى ذلك بالعظم في قوله :{ وَكَانَ فَضْلُ اللّه عَلَيْكَ عَظِيماً } ،أو الشريعة ، فعظمها من جهة بيان أحكامها ، من حلال ، وحرام ، ومندوب ، ومكروه ، ومباح ؛ أو الثواب والجزاء ، فعظمه من جهة السعة والكثرة

{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } ، أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وعلى هذه التأويلات تكون أل للعهد ، والأظهر القول الأول .

﴿ ١٠٥