١٠٦

ما ننسخ من . . . . .

{مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } : سبب نزولها ، فيما ذكروا ، أن اليهود لما حسدوا المسلمين في التوجه إلى الكعبة ، وطعنوا في الإسلام قالوا : إن محمداً يأمر أصحابه بأمر اليوم ، وينهاهم عنه غداً ، ويقول اليوم قولاً ، ويرجع عنه غداً ، ما هذا القرآن إلا من عند محمد ، وأنه يناقض بعضه بعضاً ، فنزلت .

وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه ، وما اتفق عليه منه ، وما اختلف فيه ، وفي جوازه عقلاً ، ووقوعه شرعاً ، وبماذا ينسخ ، وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام ، وطوّلوا في ذلك . وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه ، فيبحث في ذلك كله فيه . وهكذا جرت عادتنا : أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم ، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم ، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير ، فنخرج عن طريقة التفسير ، كما فعله أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي ، المعروف بابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة ، لا حاجة بها في علم التفسير . ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال : فيه كل شيء إلا التفسير .

وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه علم التفسير . فمن زاد على ذلك ، فهو فضول في هذا العلم ، ونظير ما ذكره الرازي وغيره ، إن النحوي مثلاً يكون قد شرع في وضع كتاب في النحو ، فشرع يتكلم في الألف المنقلبة ، فذكر أن الألف في اللّه ، أهي منقلبة من ياء أو واو ؟ ثم استطرد من ذلك إلى الكلام في اللّه تعالى ، فيما يجب له ويجوز عليه ويستحيل . ثم استطرد إلى جواز إرسال الرسل منه تعالى إلى الناس . ثم استطرد إلى أوصاف الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، ثم استطرد من ذلك إلى إعجاز ما جاء به القرآن وصدق ما تضمنه ، ثم استطرد إلى أن من مضمونه البعث والجزاء بالثواب والعقاب . ثم المثابون في الجنة لا ينقطع نعيمهم ، والمعاقبون في النار لا ينقطع عذابهم . فبينا هو في علمه يبحث في الألف المنقلبة ، إذا هو يتكلم في الجنة والنار ، ومن هذا سبيله في العلم ، فهو من التخليط والتخبيط في أقصى الدرجة ، وكان أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي ، قدّس اللّه تربته ، يقول ما معناه : متى رأيت الرجل ينتقل من فن إلى فن في البحث أو التصنيف ، فاعلم أن ذلك ، إما لقصور علمه بذلك الفن ، أو لتخليط ذهنه وعدم إدراكه ، حيث يظنّ أن المتغايرات متماثلات .

وإنما أمعنت الكلام في هذا الفصل لينتفع به من يقف عليه ، ولئلا يعتقد أنا لم نطلع على ما أودعه الناس في كتبهم في التفسير ، بل إنما تركنا ذلك عمداً ، واقتصرنا على ما يليق بعلم التفسير . وأسأل اللّه التوفيق

للصواب .

وما من قوله : ما ننسخ ، شرطية ، وهي مفعول مقدّم ، وفي ننسخ التفات ، إذ هو خروج من غائب إلى متكلم . ألا ترى إلى قوله : { وَاللّه يَخْتَصُّ } ؟{ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ } ؟

وقرأ الجمهور : ننسخ من نسخ ، بمعنى أزال ، فهو عام في إزالة اللفظ والحكم معاً ، أو إزالة اللفظ فقط ، أو الحكم فقط . وقرأت طائفة وابن عامر من السبعة : ما ننسخ من الإنساخ ، وقد استشكل هذه القراءة أبو علي الفارسي فقال : ليست لغة ، لأنه لا يقال نسخ وأنسخ بمعنى ، ولا هي للتعدية ، لأن المعنى يجيء : ما يكتب من آية ، أي ما ينزل من آية ، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً . وليس الأمركذلك ، فلم يبق إلا أن يكون المعنى : ما نجده منسوخاً ، كما يقال : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً ، وأبخلته إذا وجدته بخيلاً . قال أبو عليّ : وليس نجده منسوخاً إلا بأن ينسخه ، فتتفق القراءات في المعنى ، وإن اختلفا في اللفظ . انتهى كلامه . فجعل الهمزة في النسخ ليست للتعدية ، وإنما أفعل لوجود الشيء بمعنى ما صيغ منه ، وهذا أحد معاني أفعل المذكورة فيه فاتحة الكتاب . وجعل الزمخشري الهزة فيه للتعدية قال : وإنساخها الأمر بنسخها ، وهو أن يأمر جبريل عليه السلام بأن يجعلها منسوخة ، بالإعلام بنسخها ، وهذا تثبيج في العبارة عن معنى كون الهمزة للتعدية . وإيضاحه أن نسخ يتعدى لواحد ، فلما دخلت همزة النقل تعدى لاثنين . تقول : نسخ زيد الشيء ، أي أزاله ، وأنسخه إياه عمرو : أي جعل عمرو زيداً ينسخ الشيء ، أي يزيله . و

قال ابن عطية : التقدير ما ننسخك من آية ، أي ما نبيح لك نسخة ، كأنه لما نسخه اللّه أباح لنبيه تركها بذلك النسخ ، فسمى تلك الإباحة إنساخاً . وهذا الذي ذكر ابن عطية أيضاً هو جعل الهمزة للتعدية ، لكنه والزمخشري اختلفا في المفعول الأول المحذوف ، أهو جبريل أم النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ وجعل الزمخشري الإنساخ هو الأمر بالنسخ . وجعل ابن عطية الإنساخ إباحة الترك بالنسخ . وخرّج ابن عطية هذه القراءة على تخريج آخر وهو : أن تكون الهمزة فيه للتعدية أيضاً ، وهو من نسخ الكتاب ، وهو نقله من غير إزالة له ، قال : ويكون المعنى ما نكتب وننزل من اللوح المحفوظ ، أو ما نؤخر فيه ونترك فلا ننزله ، أي ذلك فعلنا ، فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك ، أو بمثله ، فتجيء الضميرات في منها وبمثلها عائدين على الضمير في ننسأها . انتهى كلامه . وذهل عن القاعدة النحوية ، وهي أن اسم الشرط لا بد في جوابه من عائد عليه . وما في قوله : ما ننسخ شرطية ، وقوله : أو ننساها ، عائد على الآية ، وإن كان المعنى ليس عائداً عليها نفسها من حيث اللفظ والمعنى ، إنما يعود عليها لفظاً لا معنى ، فهو نظير قولهم : عندي درهم ونصفه ، فهو في الحقيقة على إضمار ما الشرطية . التقدير : أو ما ننسأ من آية ، ضرورة أن المنسوخ هو غير المنسوء ، لكن يبقى قوله :{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } مفلتاً من الجواب ، إذ لا رابط فيه منه له ، وذلك لا يجوز ، فبطل هذا المعنى .

من آية ، من : هنا للتبعيض ، وآية مفرد وقع موقع الجمع ، ونظيره فارس في قولك : هذا أول فارس ، التقدير : أول الفوارس . والمعنى : أي شيء من الآيات . وكذلك ما جاء من هذا النحو في القرآن ، وفي كلام العرب تخريجه هكذا ، نحو قوله :{ مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } ،{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ } ، وقولهم : من يضرب من رجل اضربه . ويتضح بهذا المجرور ما كان معمولاً لفعل الشرط ، لأنه مخصص له ، إذ في اسم الشرط عموم ، إذ لو لم يأت بالمجرور لحمل على العموم . لو

قلت : من يضرب أضرب ، كان عاماً في مدلول من . فإذا

قلت : من رجل ، اختص جنس الرجال بذلك ، ولم يدخل فيه النساء ، وإن كان مدلول من عامًّا للنوعين . ولهذا المعنى جعل بعضهم من آية ، وما أشبهه في موضع نصب على التمييز . قال : والمميز ما

قال ، والتقدير : أي شيء نسخ من آية . قال : ولا يحسن أن يقدر أي آية ننسخ ، لأنك لا تجمع بين آية وبين المميز بآية . لا تقول : أي آية ننسخ من آية ، ولا أي رجل يضرب من رجل أضربه . وجوّزوا أيضاً أن تكون من زائدة ، وآية حالاً . والمعنى : أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً . قالوا : وقد جاءت الآية حالاً في قوله تعالى هذه : { نَاقَةُ اللّه لَكُمْ ءايَةً } ، وهذا فاسد لأن ، الحال لا يجرّ بمن وجوّزوا أيضاً أن تكون ما مصدراً ، وآية مفعولاً به ، التقدير : أي نسخ ننسخ آية ، ومجيء ما الشرطية مصدراً جائز ، تقول : ما تضرب زيداً أضرب مثله ، التقدير : أي ضرب تضرب زيداً أضرب مثله ، وقال الشاعر : نعب الغراب فقلت بين عاجل

ما شئت إذ ظعنوا لبين فانعب

وهذا فاسد ، لأن ما إذا جعلتها للنسخ ، عرى الجواب من ضمير يعود عليها ، ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط . ألا ترى أنك لو

قلت : أي ضرب يضرب هنداً أضرب أحسن منها ، لم يجز لعرو جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط ، لأن الضمير في منها عائد على المفعول الذي هو هند ، لا على أي ضرب الذي هو اسم الشرط ، ولأن المفعول به لا تدخل عليه من الزائدة إلا بشرط أن يتقدّمه غير موجب ، وأن يكون ما دخلت عليه نكرة ، وهذا على الجادة من مشهور مذهب البصريين . والشرط ليس من قبيل غير الموجب ، فلا يجوز : إن قام من رجل أقم معه ، وفي هذا خلاف ضعيف لبعض البصريين .

{أَوْ} : قرأ عمر ، وابن عباس ، والنخعي ، وعطاء ، ومجاهد ، وعبيد بن عمير ، ومن السبعة ابن كثير ، وأبو عمرو : أو ننسأها ، بفتح نون المضارعة والسين وسكون الهمزة . وقرأت طائفة كذلك ، إلا أنه بغير همز . وذكر أبو عبيد البكري في { كتاب اللآلىء} ذلك عن سعد بن أبي وقاص ، وأراه وهم ، وكذا قال ابن عطية ، قال :

وقرأ سعد بن أبي وقاص تنساها بالتاء المفتوحة وسكون النون وفتح السين من غير همز ، وهي قراءة الحسن وابن يعمر . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنهم همزو .

وقرأ أبو حياة كذلك ، إلا أنه ضم التاء .

وقرأ سعيد كذلك ، إلا أنه بغير همز .

وقرأ باقي السبعة ، ننسها ، بضم النون وكسر السين من غير همز . وقرأت فرقة كذلك ، إلا أنها همزت بعد السين .

وقرأ الشحاك وأبو رجاء : بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد السين وبلا همز .

وقرأ أبي : أو ننسك ، بضم النون الأولى وسكون الثانية وكسر السين من غير همز ، وبكاف للخطاب بدل ضمير الغيبة . وفي مصحف سالم مولى أبي حذيفة كذلك ، إلا أنه جمع بين الضميرين ، وهي قراءة أبي حذيفة .

وقرأ الأعمش : ما ننسك من آية أو ننسخها نجيء بمثلها . وهكذا ثبت في مصحف عبد اللّه ، فتحصل في هذه اللفظة ، دون قراءة الأعمش ، إحدى عشرة قراءة : فمع الهمزة : ننسأها وننسئها وننسأها وتنسأها ، وبلا همز : ننسها وننسها وتنسها وتنسها ونسك وننسكها . وفسر النسخ هنا بالتبديل ، قاله ابن عباس والزجاج ، أو تبديل الحكم مع ثبوت الخط ، قاله عبد اللّه وابن عباس أيضاً ، أو الرفع ، قاله السدّي .

وأما قوله : أو ننسها بغير همز ، فإن كان من النسيان ضد الذكر ،

فالمعنى : ننسكها إذا كان من أفعل ، أو ننسها إذا كان من فعل ، قاله مجاهد ، وقتادة ، وإن كان من الترك ،

فالمعنى :أو نترك إنزالها ، قاله

الضحاك ، أو نمحها ، فلا نترك لها لفظاً يتلى ولا حكماً يلزم ، قاله ابن زيد ، أو نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء : أي أمرت بتركه ، ونسيته : تركته ، قال : إن عليّ عقبة أقضيها

لست بناسيها ولا منسيها

أي لا آمر بتركها . وقال الزجاج : قراءة ننسها ، بضم النون وسكون النون الثانية وكسر السين ، لا يتوجه فيها معنى الترك ، لأنه لا يقال : أنسى بمعنى ترك . وقال أبو علي الفارسي وغيره : ذلك متجه ، لأنه بمعنى نجعلك تتركها . وكذلك ضعف الزجاج أن تحمل الآية على النسيان الذي هو ضد الذكر ، وقال : إن هذا لم يكن للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا نسي قرآناً . وقال أبو عليّ وغيره : ذلك جائز ، وقد وقع ، ولا فرق بين أن ترفع الآية بنسخ أو بنسئه . واحتج الزجاج بقوله تعالى : { قَلِيلاً وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } ،أي لم نفعل . قال أبو علي : معناه لم نذهب بالجميع ،

وحكى الطبري قول الزجاج عن أقدم منه .

قال ابن عطية : والصحيح في هذا أن نسيان النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لما أراد اللّه أن ينساه ، ولم يرد أن يثبته قرآناً جائزاً .

وأما النسيان الذي هو آفة في البشر ، فالنبي صلى اللّه عليه وسلم معصوم منه ، قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظه أحد من الصحابة ،

وأما بعد أن يحفظ ، فجائز عليه ما يجوز على البشر ، لأنه قد بلغ وأدى الأمانة ، ومنه الحديث ، حين أسقط آية ، فلما فرغ من الصلاة قال : { أفي القوم أبي ؟ } قال : نعم يا رسول اللّه ، قال :  { فلم لم تذكرني ؟ } قال : خشيت أنها رفعت} . فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { لم ترفع ولكني نسيتها} . انتهى كلام ابن عطية .

وأما من قرأ بالهمز فهو من التأخير ، تقول العرب : نسأت الإبل عن الحوض ، وأنسأ الإبل عن ظمئها يوماً أو يومين ، أو أكثر أخرها عن الورد .

وأما في الآية

فالمعنى : نؤخر نسخها أو نزولها ، قاله عطاء وابن أبي نجيح ، أو نمحها لفظاً وحكماً ، قاله ابن زيد ، أونمضها فلا ننسخها ، قاله أبو عبيدة ، وهذا يضعفه قوله :{ نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا } ، لأن ما أمضى وأقر ، لا يقال فيه نأت بخير منها . وحكي عن ابن عباس أن في الآية تقديماً وتأخيراً تقديره : ما نبدل من حكم آية نأت بخير منها ، أي أنفع منها لكم ، أو مثلها . ثم قال : أو ننساها ، أي نؤخرها ، فلا ننسخها ولا نبدلها . وهذه الحكاية لا تصح عن ذلك الحبر ابن عباس ، إذ هي محيلة لنظم القرآن .

{نَأْتِ } : هو جواب الشرط ، واسم الشرط هنا جاء بعده الشرط والجزاء مضارعين ، وهذا أحسن التراكيب في فعلي الشرط والجزاء ، وهو أن يكونا مضارعين .{ بِخَيْرٍ مّنْهَا } : الظاهر أن خيراً هنا أفعل التفضيل ، والخيرية ظاهرة ، لأن المأتي به ، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء ، فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف ، وإن كان أثقل ، فخيريته بالنسبة لزيادة الثواب .{أَوْ مِثْلِهَا } : أو مساو لها في التكليف والثواب ، وذلك كنسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة . وذهب قوم إلى أن خيراً هنا ليس بأفعل التفضيل ، وإنما هو خير من الخيور ، كخير في قوله :{ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ } ، فهو عندهم مصدر ، ومن لابتداء الغاية . ويصير المعنى : أنه ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، نأت بخير من الخيور من جهة المنسوخ أو المنسوء ، لكن يبعد هذا المعنى قوله :{أَوْ مِثْلِهَا } ، فإنه لا يصح عطفه على قوله :{ بِخَيْرٍ } على هذا المعنى ، إلا إن أطلق الخير على عدم التكليف ، فيكون المعنى : نأت بخير من الخيور ، وهو عدم التكليف ، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء ، فكأنه يقول : ما ننسخ من آية أو نؤخرها ، فإلى غير بدل ، أو إلى بدل مماثل ، والذي إلى غيره بدل ، هو خير أتاكم من جهة الآية المنسوخة أو المنسوءة ، إذ هو راحتكم من التكاليف .

وأما عطف مثلها على الضمير المجرور في منها فيضعف لعدم إعادة الجار .

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ؟

قال ابن عطية : ظاهره الاستفهام المحض ، فالمعادل هنا على

قول جماعة : أم تريدون . وقال قوم : أم هنا منقطعة ، فالمعادل على قولهم محذوف تقديره : أم علمتم ، وهذا كله على أن القصد بمخاطبة النبي صلى اللّه عليه وسلم مخاطبة أمته ،

وأما إن كان هو المخاطب وحده ، فالمعادل محذوف لا غير ، وكلا القولين مروي . انتهى كلامه ونقله . وما قالوه ليس بجيد ، بل هذا استفهام معناه التقرير ، فلا يحتاج إلى معادل ألبتة ، والأولى أن يكون المخاطب السامع ، والاستفهام بمعنى التقرير كثير في كلامهم جداً ، خصوصاً إذا دخل على النفي : {أَوَ لَيْسَ اللّه بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ } ؟{ أَلَيْسَ اللّه بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ } ؟{ أَلَمْ نُرَبّكَ بِكَ فِينَا وَلِيداً } ؟{ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَاوَى } ؟{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } ؟ فهذا كله استفهام لا يحتاج فيه إلى معادل ، لأنه إنما يراد به التقرير . والمعنى : قد علمت أيها المخاطب أن اللّه قادر على كل شيء ، فله التصرف في تكاليف عباده ، بمحو وإثبات وإبدال حكم بحكم ، وبأن يأتي بالأخير لكم وبالمماثل . وحكمة إفراد المخاطب : أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك ، والمنبه به ، والمقرر على شيء ثابت عنده ، وهو أن قدرة اللّه تعالى متعلقة بالأشياء ، فلن يعجزه شيء ، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ ، لأن اللّه تعالى يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه .

وفي قوله :{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه } ، فيه خروج من ضمير جمع مخاطب وهو :{ مّنْ خَيْرٍ مّن رَّبّكُمْ } ، إلى ضمير مخاطب مفرد للحكمة التي بيناها ، وخروج من ضمير متكلم معظم نفسه ، إلى اسم ظاهر غائب وهو اللّه ، إذ هو الإسم العلم الجامع لسائر الصفات ، ففي ضمنه صفة القدرة ، فهو أبلغ في نسبة القدرة إليه من ضمير المتكلم المعظم ، فلذلك عدل عن قوله :{ أَلَمْ تَعْلَمْ إِنَّنَا } إلى قوله :{ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّه } ، وقد تقدم تفسيره قوله :{ إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } في أوائل هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته .

﴿ ١٠٦