١١٢

بلى من أسلم . . . . .

{بَلَى } : رد لقولهم :{ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ } ، والكلام فيها كالكلام الذي تقدّم في قوله :{ بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً } ، وقبل ذلك :{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً } ، وكلاهما فيه نفي وإيجاب ، إلا أن ذلك استثناء مفرّغ من الأزمان ، وهذا استثناء مفرّغ من الفاعلين . وأبعد من ذهب إلى أن بلى رد لما تضمن قوله :{ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } من النفي ، لأن معناه لا برهان لكم على صدق دعواكم ، فأثبت ببلى أن لمن أسلم وجهه برهاناً ، وهذا ينبو عنه اللفظ .

{مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه} : الكلام في : من ، كالكلام في : من ، من قوله :{ مَن كَسَبَ سَيّئَةً } ، والأظهر أنها مبتدأة ، وجوّزوا أن تكون فاعلة ، أي يدخلها من أسلم ، وإذا كانت مبتدأة ، فلا يتعين أن تكون شرطية . فالجملة بعدها هي الخبر ، وجواب الشرط { فَلَهُ أَجْرُهُ} وإذا كانت موصولة ، فالجملة بعدها صلة لا موضع لها من الإعراب ، والخبر هو ما دخلت عليه الفاء من الجملة الابتدائية ، وإذا كانت من فاعلة فقوله :{ فَلَهُ أَجْرُهُ } جملة اسمية معطوفة على ذلك الفعل الرافع لمن . والوجه هنا يحتمل أن يراد به الجارحة خص بالذكر ، لأنه أشرف الأعضاء ، أو لأنه فيه أكثر الحواس ، أو لأنه عبر به عن الذات ومنه :{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } ، ويحتمل أن يراد به الجهة ، والمعنى : أخلص طريقته في الدين للّه . وقال مقاتل : أخلص دينه .

وقال ابن عباس : أخلص عمله للّه .

وقيل : قصده .

وقيل : فوّض أمره إلى اللّه تعالى .

وقيل : خضع وتواضع . وهذه أقوال متقاربة في المعنى ، وإنما يقولها السلف على ضرب المثال ، لا على أنها متعينة يخالف بعضها بعضاً . وهذا نظير ما يقوله النحوي : الفاعل زيد من قولك ، قام زيد ، وآخر يقول : جعفر من خرج جعفر ، وآخر يقول : عمرو من انطلق عمرو ، وهذا أحسن ما يظن بالسلف رحمهم اللّه ، فيما جاء عنهم من هذا النوع .

{وَهُوَ مُحْسِنٌ } : جملة حالية ، وهي مؤكدة من حيث المعنى ، لأن من أسلم وجهه للّه فهو محسن . وقد قيد الزمخشري الإحسان بالعمل ؛ وجعل معنى قوله :{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه } : من أخلص نفسه له ، لا يشرك به غيره ، وهو محسن في عمله ، فصارت الحال هنا مبينة ، إذ من لا يشرك قسمان : محسن في عمله ، وغير محسن ، وذلك منه جنوح إلى مذهبه الاعتزالي من أن العمل لا بد منه ، وأنه بهما يستوجب دخول الجنة ، ولذلك فسر قوله :{ فَلَهُ أَجْرُهُ } الذي يستوجبه ، وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حقيقة الإحسان الشرعي حين سئل عن ماهيته فقال : { أن تعبد اللّه كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} . وقد فسر هنا الإحسان بالإخلاص ، وفسر بالإيمان ، وفسر بالقيام بالأوامر ، والانتهاء عن المناهي .

{فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ } : العامل في

عند هو العامل في له ، أي فأجره مستقر له عند ربه ، ولما أحال أجره على اللّه أضاف الظرف إلى لفظه ربه ، أي الناظر في مصالحة ومربيه ومدبر أحواله ، ليكون ذلك أطمع له ، فلذلك أتى بصفة الرب ، ولم يأت بالضمير العائد على اللّه في الجملة قبله ، ولا بالظاهر بلفظ اللّه . فلم يأت فله أجره عنده ، لما ذكرناه ، ولقلق الإتيان بهذه الضمائر ، ولم يأت فله أجره عند اللّه ، لما ذكرنا من المعنى الذي دل عليه لفظ الرب . { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } : جمع الضمير في قوله :{ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } حملاً على معنى من ، وحمل أوّلاً على اللفظ في قوله :{ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ } ، وهذا هو الأفصح ، وهو أن يبدأ أولاً بالحمل على اللفظ ، ثم بالحمل على المعنى . وقد تقدم تفسير هذه الجملة . وقراءة ابن محيصن : فلا خوف ، برفع الفاء من غير تنوين ، باختلاف عنه . وقراءة الزهري وعيسى الثقفي ويعقوب وغيرهم : فلا خوف ، بالفتح من غير تنوين ، وتوجيه ذلك ، فأغنى عن إعادته هنا .

﴿ ١١٢