١١٤ومن أظلم ممن . . . . . المنع : الحيلولة بين المريد ومراده . ولما كان الشيء قد يمنع صيانة ، صار المنع متعارفاً في المتنافس فيه ؛ قاله الراغب . وفعله : منع يمنع ، بفتح النون ، وهو القياس ، لأن لام الفعل أحد حروف الحلق . المساجد : معروفة ، وسيأتي الكلام على المفرد أول ما يذكر في القرآن ، إن شاء اللّه . السعي : المشي بسرعة ، وهو دون العدو ، ثم يطلق على الطلب ، كما قال امرؤ القيس : فلولا أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي فسره الشراح بالطلب . الخراب : ضد العمارة ، وهو مصدر خرب الشيء يخرب خراباً ، ويوصف به فيقال : منزل خراب ، واسم الفاعل : خرب ، كما قال أبو تمام : ما ربع مية معموراً يطيف به غيلان أبهى ربا من ربعها الخرب والخرب : ذكر الحبارى ، يجمع على خربان . المشرق والمغرب : مكان الشروق والغروب ، وهما من الألفاظ التي جاءت على مفعل ، بكسر العين شذوذاً ، والقياس الفتح ، لأن كل فعل ثلاثي لم تكسر عين مضارعة ، فقياس صوغ المصدر منه ، والزمان والمكان مفعل ، بفتح العين . أين : من ظروف المكان ، وهو مبني لتضمنه في الاستفهام معنى حرفه ، وفي الشرط معنى حرفه ، وإذا كان للشرط جاز أن تزيد بعده ما ، ومما جاء فيه شرطاً بغير ما قوله : أين تضرب بنا العداة تجدنا وزعم بعضهم أن أصل أين : السؤال عن الأمكنة . ثم : ظرف مكان يشار به للبعيد ، وهو مبني لتضمنه معنى الإشارة ، وهو لازم للظرفية ، لم يتصرف فيه بغير من يقول : من ثم كان كذا . وقد وهم من أعرهبا مفعولاً به في قوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} بل : مفعول رأيت محذوف . واسع : اسم فاعل من وسع يسع سعة ووسعاً ، ومقابلة ضاق ، إلا أن وسع يأتي متعدّياً :{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ،{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء} الولد : معروف ، وهو فعل بمعنى مفعول ، كالقبض والنقض ، ولا ينقاس فعل بمعنى مفعول ، وفعله : ولد يلد ولادة ووليدية ، وهذا المصدر الثاني غريب . القنوت : القيام ، ومنه أفضل الصلاة طول القنوت ، أي القيام والطاعة والعبادة والدعاء . قنت شهراً : دعا . البديع : النادر الغريب الشكل . بدع يبدع بداعة فهو بديع ، إذا كان نادراً ، غريب الصورة في الحسن ، وهو راجع لمعنى الابتداع ، وهو الاختراع والإنشاء . قضى : قدّر ، ويجيء بمعنى أمضى . قضى يقضي قضاء . قال : سأغسل عني العار بالسيف جالبا عليّ قضاء اللّه ما كان جالبا قال الأزهري : قضى على وجوه ، مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قال أبو ذؤيب : وعليهما مسرودتان قضاهما داود أو صنع السوابغ تبع وقال الشماخ في عمر : قضيت أموراً ثم غادرت بعدها بوائق في أكمامها لم تفتق فيكون بمعنى خلق : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } ، وأعلم :{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ فِى الْكِتَابِ } ، وأمر :{ وَقَضَى رَبُّكَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ } ، وألزم ، منه قضى القاضي ، ووفى :{ فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاْجَلَ } ، وأراد :{ إِذَا قَضَى أَمْرًا} لولا : حرف تحضيض ، وجاء ذلك في القرآن كثيراً ، وحكمها حكم هلا ، وتأتي أيضاً حرف امتناع لوجود ، وأحكامها بمعنييها مذكورة في كتب النحو ، ومنها أن التحضيضية لا يليها إلا الفعل ظاهراً أو مضمراً ، وتلك لا يليها إلا الاسم ، على خلاف في إعرابه . الجحيم : إحدى طبقات النار ، أعاذنا اللّه منها . وقال الفراء : الجحيم : النار على النار . وقال أبو عبيد : النار المستحكمة المتلظية . وقال الزجاج : النار الشديدة الوقود ، يقال جحمت النار تحجم : اشتدّ وقودها . وهذه كلها أقوال يقرب بعضها من بعض . وقال ابن فارس : الجاحم : المكان الشديد الحر ، ويقال لعين الأسد : جحمة ، لشدة توقدها ، ويقال لشدة الحر : جاحم ، قال : والحرب لا يبقى لجا حمها التخيل والمراح الرضا : معروف ، ويقابله الغضب ، وفعله رضي يرضى رضاً بالقصر ، ورضاء بالمد ، ورضواناً ، فياؤه منقلبة عن واو يدل على ذلك الرضوان ، والأكثر تعديته بعن وقد جاء تعديته بعلى ، قال : إذا رضيت عليّ بنو قشير وخرج على أن يكون على بمعنى عن ، أو على تضمين رضي معنى عطف ، فعدي بعلى كما تعدى عطف . الملة : الطريقة ، وكثر استعمالها بمعنى الشريعة ، فقيل : الاشتقاق من أمللت ، لأن الشريعة تبتني على متلو ومسموع . وقيل : من قولهم طريق ممل ، أي قد أثر المشي فيه . الخسران والخسارة : هو النقص من رأس المال في التجارة ، هذا أصله ، ثم يستعمل في النقص مطلقاً ، وفعله متعد ، كما أن مقابله متعد ، وهو الربح . تقول : خسر درهماً ، كما تقول : ربح درهماً . وقال :{ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّه أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ } : نزلت في نطوس بن اسبيسيانوس الرومي ، الذي خرب بيت المقدس ، ولم يزل خراباً إلى أن عمر في زمان عمر بن الخطاب . وقيل في مشركي العرب : منعوا المسلمين من ذكر اللّه في المسجد الحرام ، قاله عطاء ، عن ابن عباس ، أو في النصارى ، كانوا يودون خراب بيت المقدس ، ويطرحون به الأقذار . وروي عن ابن عباس ، وقال قتادة والسدي ، في الروم الذين أعانوا بختنصر على تخريب بيت المقدس : حين قتلت بنو إسرائيل يحيى بن زكريا ، على نبينا وعليه السلام ، قال أبو بكر الرازي : لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد بختنصر كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل . وقيل في بختنصر ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد وأبو مسلم : المراد كفار قريش حين صدوا : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن المسجد الحرام . وعلى اختلاف هذه الأقوال يجيء الاختلاف في تفسير المانع والمساجد . وظاهر الآية العموم في كل مانع وفي كل مسجد ، والعموم وإن كان سبب نزوله خاصاً ، فالعبرة به لا بخصوص السبب . ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه جرى ذكر النصارى في قوله : { وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَىْء } ، وجرى ذكر المشركين في قوله :{ كَذالِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } ، وفي أي نزلت منهم كان ذلك مناسباً لذكرها تلي ما قبلها . ومن : استفهام ، وهو مرفوع بالابتداء . وأظلم : أفعل تفضيل ، وهو خبر عن من . ولا يراد بالاستفهام هنا حقيقته ، وإنما هو بمعنى النفي ، كما قال :{ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ } ؟ أي ما يهلك . ومعنى هذا : لا أحد أظلم ممن منع . وقد تكرر هذا اللفظ في القرآن ، وهذا أول موارده ، وقال تعالى :{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّه كَذِباً} وقال :{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّه } ؟{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بِئَايِاتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا } ؟ إلى غير ذلك من الآيات . ولما كان هذا الاستفهام معناه النفي كان خبراً ، ولما كان خبراً توهم بعض الناس أنه إذا أخذت هذه الآيات على ظواهرها سبق إلى ذهنه التناقض فيها ، لأنه قال المتأول في هذا : لا أحد أظلم ممن منع مساجد اللّه ، وقال في أخرى : لا أحد أظلم ممن افترى ، وفي أخرى : لا ؛ أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها . فتأول ذلك على أن خص كل واحد بمعنى صلته ، فكأنه قال : لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد اللّه ، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على اللّه ، وكذلك باقيها . فإذا تخصصت بالصلات زال عنده التناقض . وقال غيره : التخصيص يكون بالنسبة إلى السبق ، لما لم يسبق أحد إلى مثله ، حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم ، سالكاً طريقتهم في ذلك ، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية ، أو الافترائية . وهذا كله بعد عن مدلول الكلام ووضعه العربي ، وعجمة في اللسان يتبعها استعجام المعنى . وإنما هذا نفي للأظلمية ، ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية ، لأن نفي المقيد لا يدل على نفي المطلق . لو قلت : ما في الدار رجل ظريف ، لم يدل ذلك على نفي مطلق رجل ، وإذا لم يدل على نفي الظالمية لم يكن تناقضاً ، لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية . وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر ، لأنهم يتساوون في الأظلمية . وصار المعنى : لا أحد أظلم ممن منع ، وممن افترى ، وممن ذكر . ولا إشكال في تساوي هؤلاء في الأظلمية . ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر . كما أنك إذا قلت : لا أحد أفقه من زيد وعمرو وخالد ، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر ، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم . لا يقال : إن من منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه ، وسعى في خرابها ، ولم يفتر على اللّه الكذب ، أقلّ ظلماً ممن جمع بينهما ، فلا يكون مساوياً في الأظلمية ، لأن هذه الآيات كلها إنما هي في الكفار ، فهم متساوون في الأظلمية ، وإن اختلفت طرق الأظلمية . فكلها صائرة إلى الكفر ، فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة بالنسبة لأفراد من اتصف به ، وإنما تمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ، وللعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركوا فيه من المخالفة ، فنقول : الكافر أظلم من المؤمن ، ونقول : لا أحد أظلم من الكافر . ومعناه : أن ظلم الكافر يزيد على ظلم غيره . ومن في قوله : ممن منع ، موصولة بمعنى الذي . وجوّز أبو البقاء أن تكون نكرة موصوفة . أن يذكر : يحتمل أن يكون مفعولاً ثانياً لمنع ، أو مفعولاً من أجله ، فيتعين حذف مضاف ، أي دخول مساجد اللّه ، أو ما أشبه ذلك ، أو بدلاً من مساجد بدل اشتمال ، أي ذكر اسم اللّه فيها ، أو مفعولاً على إسقاط حرف الجر ، أي من أن يذكر . فلما حذفت من انتصب على رأي ، أو بقي مجروراً على رأي . وكنى بذكر اسم اللّه عما يوقع في المساجد من الصلوات والتقرّبات إلى اللّه تعالى بالأفعال القلبية والقالبية ، من تلاوة كتبه ، وحركات الجسم من القيام والركوع والسجود والقعود الذي تعبد به ، أو إنما ذكر تعلق المنع بذكر اسم اللّه تنبيهاً على أنهم منعوا من أيسر الأشياء ، وهو التلفظ باسم اللّه . فمنعهم لما سواه أولى . وحذف الفاعل هنا اختصاراً ، لأنهم عالم لا يحصون . وجاء تقديم المجرور على المفعول الذي لم يسم فاعله ، لأن المحدث عنه قبل هي مساجد اللّه ، وهي في اللفظ مذكورة قبل اسم اللّه ، فناسب تقديم المجرور لذلك . وأضيفت المساجد للّه على سبيل التشريف ، كما قال تعالى : { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للّه } ، وخصّ بلفظ المسجد ، وإن كان الذي يوقع فيه أفعالاً كثيرة من القيام والركوع والقعود والعكوف . وكل هذا متعبد به ، ولم يقل مقام ولا مركع ولا مقعد ولا معكف ، لأن السجود أعظم الهيئات الدالة على الخضوع والخشوع والطواعية التامة . ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم : { أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد } ؟ وهي حالة يلقي فيها الإنسان نفسه للانقياد التام ، ويباشر بأفضل ما فيه وأعلاه ، وهو الوجه ، التراب الذي هو موطىء قدميه . قال ابن عطية : وهذه الآية تتناول كل من منع من مسجد إلى يوم القيامة ، أو خرّب مدينة إسلام ، لأنها مساجد ، وإن لم تكن موقوفة ، إذ الأرض كلها مسجد . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف قيل مساجد اللّه ؟ وإنما وقع المنع والتخريب على مسجد واحد وهو بيت المقدس ، أو المسجد الحرام ؟ قلت : لا بأس أن يجيء الحكم عامًّا ، وإن كان السبب خاصاً ، كما تقول لمن آذى صالحاً واحداً ، ومن أظلم ممن آذى الصالحين ؟ وكما قال اللّه عز وجل : { وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } ، والمنزول فيه الأخنس بن شريق . انتهى كلامه . وقال غيره : جمعت لأنها قبلة المساجد كلها ، يعني الكعبة للمسلمين ، وبيت المقدس لغيره .{ وَسَعَى فِى خَرَابِهَا } : إما حقيقة ، كتخريب بيت المقدس ، أو مجازاً بانقطاع الذكر فيها ومنع قاصديها منها ، إذ ذلك يؤول بها إلى الخراب . فجعل المنع خراباً ، كما جعل التعاهد بالذكر والصلاة عمارة ، وذلك مجار . وقال المروزي : قال ومن أظلم ليعلم أن قبح الإعتقاد يورث تخريب المساجد ، كما أن حسن الإعتقاد يورث عمارة المساجد . {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } : هذه جملة خبرية قالوا تدلّ على ما يقع في المستقبل ، وذلك من معجز القرآن ، إذ هو من الإخبار بالغيب . وفيها بشارة للمؤمنين بعلوّ كلمة الإسلام وقهر من عاداه . إلا خائفين : نصب على الحال ، وهو استثناء مفرّغ من الأحوال . وقرأ أبي : إلا خيفاً ، وهو جمع خائف ، كنائم ونوّم ، ولم يجعلها فاصلة ، فلذلك جمعت جمع التكسير . وإبدال الواو ياء ، إذ الأصل خوّف ، وذلك جائز كقولهم ، في صوم صيم ، وخوفهم : هو ما يلحقهم من الصغار والذل والجزية ، أو من أن يبطش بهم المؤمنون ، أو في المحاكمة ، وهي تتضمن الخوف ، أو ضرباً موجعاً ، لأن النصارى لا يدخلون بيت المقدس إلا خائفين من الضرب ، أقوال . والظاهر أن المعنى : أولئك ما ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد اللّه إلا وهم خائفون من اللّه وجلون من عقابه . فكيف لهم أن يلتبسوا بمنعها من ذكر اللّه والسعي في تخريبها ، إذ هي بيوت أذن اللّه أن ترفع ويذكر فيها اسمه { يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ } ؟ وما هذه سبيله ينبغي أن يعظم بذكر اللّه فيه ، ويسعى في عمارته ، ولا يدخله الإنسان إلا وجلاً خائفاً ، إذ هو بيت اللّه أمر بالمثول فيه بين يديه للعبادة . ونظير الآية أن يقول : ومن أظلم ممن قتل ولياً للّه تعالى ؟ ما كان له أن يلقاه إلا معظماً له مكرّماً أي هذه حالة من يلقى ولياً للّه ، لا أن يباشره بالقتل . ففي ذلك تقبيح عظيم على ما وقع منه ، إذ كان ينبغي أن يقع ضده ، وهو التبجيل والتعظيم . ولما لم يقع هذا المعنى الذي ذكرناه للمفسرين ، اختلفوا في الآية على تلك الأقوال التي ذكرناها عنهم . ولو أريد ما ذكروه ، لكان اللفظ : أولئك ما يدخلونها إلا خائفين ، ولم يأت بلفظ : ما كان لهم ، الدالة على نفي الابتغاء . وقيل المعنى : ما كان لهم في حكم اللّه ، يعني أن اللّه قد حكم وكتب في اللوح المحفوظ أنه ينصر المؤمنين ويقوّيهم حتى لا يدخل المساجد الكفار إلا خائفين . قال بعض الناس : وفيها دلالة على جواز دخول الكفار المساجد على صفة الخوف ، وليس كما قال ، إذ قد ذكرنا ما دلّ عليه ظاهر الآية . وقيلفي قوله :{ أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا } : أن لفظه لفظ الخبر ، ومعناه الأمر لنا بأن نخيفهم ، وإنما ذهب إلى ذلك لأن اللّه تعالى قد أخبر أنهم سيدخلون بيت المقدس على سبيل القهر والغلبة بقوله {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ لِيَسُوءواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا } ، ولأن النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبر أن ذا السويقتين من الحبشة يهدم الكعبة حجراً حجراً . فلما رأى أن هذا يعارض الآية ، إذا جعلناها خبراً لفظاً ، ومعنى حملها على الأمر ودلالتها على الأمر لنا بالإخافة لهم بعيدة جداً ، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه ، بطلت هذه الأقوال . وأماقوله تعالى :{ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الاْخِرَةِ } ، فليس ذلك كناية عن يوم القيامة ، وسيأتي الكلام عليه في موضعه ، إن شاء اللّه تعالى . وقوله :{ أُوْلَائِكَ } ، حمل على معنى من في قوله :{ وَمَنْ أَظْلَمُ } ، ولا يختص الحمل فيها على اللفظ وعلى المعنى بكونها موصولة ، بل هي كذلك في سائر معانيها من الوصل والشرط والاستفهام ، وكلاهما موجود فيها في سائر معانيها في كلام العرب . أما إذا كانت موصوفة نحو : مررت بمن محسن لك ، فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها . وقد تكلمنا قبل على كونها موصوفة . وقال بعض الناس في قوله تعالى :{ وَمَنْ أَظْلَمُ } : الآية ، دليل على منع دخول الكافر المسجد ، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك ، وهي مسألة تذكر في علم الفقه ، وليس في الآية ما يدل على ما ذكره على ما فهمنا نحن من الآية . {لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } : هذا الجزاء مناسب لما صدر منهم . أما الخزي في الدنيا فهو الهوان والإذلال ، وهو مناسب للوصف الأول ، لأن فيه إخمال المساجد بعدم ذكر اللّه وتعطيلها من ذلك ، فجوزوا على ذلك بالإذلال والهوان . وأما العذاب العظيم في الآخرة ، فهو العذاب بالنار ، وهو إتلاف لهياكلهم وصورهم ، وتخريب لها بعد تخريب { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ} وهو مناسب للوصف الثاني ، وهو سعيهم في تخريب المساجد ، فجوزوا على ذلك بتخريب صورهم وتمزيقها بالعذاب . ولما كان الخزي الذي يلحقهم في الدنيا لا يتفاوتون فيه حكماً ، سواء فسرته بقتل أو سبي للحربي ، أو جزية للذمي ، لم يحتج إلى وصف . ولما كان العذاب متفاوتاً ، أعني عذاب الكافر وعذاب المؤمن ، وصف عذاب الكافر بالعظم ليتميز من عذاب المؤمن . وقيل : الخزي هو الفتح الإسلامي ، كالقسطنطينية وعمورية ورومية ، وقيل : جزية الذمي ، قاله ابن عباس ، وقيل : طردهم عن المسجد الحرام ، وقيل : قتل المهدي إياهم إذا خرج ، قاله المروزي ، وقيل : منعهم من المساجد . قال بعض معاصرينا : إن على كل طائفة من الكفار في الدنيا خزياً . أما اليهود والنصارى ، فقتل قريظة ، وإجلاء بني النضير ، وقتل النصارى وفتح حصونهم وبلادهم ، وإجراء الجزية عليهم ، والسيما التي التزموها ، وما شرطه عمر عليهم . وأما مشركو العرب ، فقتل أبطالهم وأقيالهم ، وكسر أصنامهم ، وتسفيه أحلامهم ، وإخراجهم من جزيرة العرب التي هي دار قرارهم ومسقط رؤوسهم ، وإلزامهم خطة الهلاك من القتل إلا أن يسلموا . وقال الفرّاء : معناه في آخر الدنيا ، وهو ما وعد اللّه به المسلمين من فتح الروم ، ولم يكن بعد . قال القشيري : في قوله تعالى :{ وَمَنْ أَظْلَمُ } الآية ، إشارة إلى ظلم من خرّب أوطان المعرفة بالمنى والعلاقات ، وهي قلوب العارفين وأوطان العبادة بالشهوات ، وهي نفوس العباد وأوطان المحبة بالحظوظ والمساكنات ، وهي أرواح الواجدين وأوطان المشاهدات بالالتفات إلى القربات ، وهي أسرار الموحدين .{ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ } : ذل الحجاب ، وفي الآخرة عذاب لاقتناعهم بالدرجات . انتهى ، وبعضه ملخص . وهذا تفسير عجيب ينبو عنه لفظ القرآن ، وكذا أكثر ما يقوله هؤلاء القوم . |
﴿ ١١٤ ﴾