١١٥وللّه المشرق والمغرب . . . . . {وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} : قال الحسن وقتادة : أباح لهم في الابتداء أن يصلوا حيث شاؤا ، فنسخ ذلك . وقال مجاهد والضحاك : معناها إشارة إلى الكعبة ، أي حيثما كنتم من المشرق والمغرب ، فأنتم قادرون على التوجه إلى الكعبة . فعلى هذا هي ناسخة لبيت المقدس . وقال أبو العالية وابن زيد : نزلت جواباً لمن عير من اليهود بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وقال ابن عمر : نزلت في صلاة المسافر ، حيث توجهت به دابته . وقيل : جواب لمن قال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ قاله سعيد بن جبير . وقيل : في الصلاة على النجاشي ، حيث قالوا : لم يكن يصلي إلى قبلتنا . وقيل : فيمن اشتبهت عليه القبلة في ليلة متغيمة ، فصلوا بالتحري إلى جهات مختلفة . وقد روي ذلك في حديث عن جابر ، أن ذلك وقع لسرية ، وعن عامر بن ربيعة ، أن ذلك جرى مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في السفر ، ولو صح ذلك ، لم يعدل إلى سواه من هذه الأقوال المختلفة المضطربة . وقال النخعي : الآية عامّة ، أينما تولوا في متصرّفاتكم ومساعيكم . وقيل : نزلت حين صدر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن البيت . وهذه أقوال كثيرة في سبب نزول هذه الآية ، وظاهرها التعارض ، ولا ينبغي أن يقبل منها إلا ما صح ، وقد شحن المفسرون كتبهم بنقلها . وقد صنف الواحدي في ذلك كتاباً قلما يصح فيه شيء ، وكان ينبغي أن لا يشتغل بنقل ذلك إلا ما صح . والذي يظهر أن انتظام هذه الآية بما قبلها هو : أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر اللّه والسعي في تخريبها ، نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ، ولا من ذكر اللّه ، إذ المشرق والمغرب للّه تعالى ، فأي جهة أدّيتم فيها العبادة ، فهي للّه يثيب على ذلك ، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد . والمعنى : وللّه بلاد المشرق والمغرب وما بينهما . فيكون على حذف مضاف ، أو يكون المعنى : وللّه المشرق والمغرب وما بينهما ، فيكون على حذف معطوف ، أو اقتصر على ذكرهما تشريفاً لهما ، حيث أضيفا للّه ، وإن كانت الأشياء كلها للّه ، كما شرف البيت الحرام وغيره من الأماكن بالإضافة إليه تعالى . وهذا كله على تقدير أن يكون المشرق والمغرب أسمى مكان . وذهب بعض المفسرين إلى أنهما اسما مصدر ، والمعنى أن للّه تولى إشراق الشمس من مشرقها وإغرابها من مغربها ، فيكونان ، إذ ذاك ، بمعنى الشروق والغروب . ويبعد هذا القول قوله بعد : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه} وأفرد المشرق والمغرب باعتبار الناحية ، أو باعتبار المصدر الواقع في الناحية . وأما الجمع فباعتبار اختلاف المغارب والمطالع كل يوم . وأما التثنية فباعتبار مشرقي الشتاء والصيف ومغربيهما . ومعنى التولية : الاستقبال بالوجوه . وقيل : معناها الاستدبار من قولك : وليت عن فلان إذا استدبرته ، فيكون التقدير : فأي جهة وليتم عنها واستقبلتم غيرها فثم وجه اللّه . وقيل : ليست في الصلاة ، بل هو خطاب للذين يخرّبون المساجد ، أي أينما تولوا هاربين عني فإني ألحظهم . ويقويه قراءة الحسن : فأينما تولوا ، جعله للغائب ، فجرى على قوله :{ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ } ، وعلى قوله :{ وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّه وَلَدًا } ، فجرت الضمائر على نسق واحد . قال الزمخشري : ففي أي مكان فعلتم التولية ، يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله تعالى :{ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } ، انتهى . فقيد التولية التي هي مطلقة بالتولية التي هي شطر القبلة ، وهو قول حسن . وقد ذكر بعض المفسرين في قوله تعالى :{ وَللّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } مسائل موضوعها علم الفقه منها : من صلى في ظلمة مجتهداً إلى جهة ، ثم تبين أنه صلى لغير القبلة ، ومسألة من صلى على ظهر الدابة فرضاً لمرض أو نفلاً ، ومسألة الصلاة على الميت الغائب ، إذا قلنا نزلت في النجاشي ، وشحن كتابه بذكر هذه المسائل ، وذكر الخلاف فيها ، وبعض دلائلها وموضوعها ، كما ذكرناه هو علم الفقه .{ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه } ، هذا جواب الشرط ، وهي جملة ابتدائية ، فقيل : معناه فثمّ قبلة اللّه ، فيكون الوجه بمعنى الجهة ، وأضيف ذلك إلى اللّه حيث أمر باستقبالها ، فهي الجهة التي فيها رضا اللّه تعالى ، قاله الحسن ومجاهد وقتادة ومقاتل . وقيل : الوجه هنا صلة ، والمعنى فثمّ اللّه أي علمه وحكمه . وروي عن ابن عباس ومقاتل : أو عبر عن الذات بالوجه ، كقوله تعالى :{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ } ،{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } ، وقيل : المعنى العمل للّه ، قاله الفراء ، قال : أستغفر اللّه ذنباً لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل وقيل : يحتمل أن يراد بالوجه هنا : الجاه ، كما يقال : فلان وجه القوم ، أي موضع شرفهم ، ولفلان وجه عند الناس : أي جاه وشرف . والتقدير : فثمّ جلال اللّه وعظمته ، قاله أبو منصور في المقنع . وحيث جاء الوجه مضافاً إلى اللّه تعالى ، فله محمل في لسان العرب ، إذ هو لفظ يطلق على معان ، ويستحيل أن يحمل على العضو ، وإن كان ذلك أشهر فيه . وقد ذهب بعض الناس إلى أن تلك صفة ثابتة للّه بالسمع ، زائدة على ما توجبه العقول من صفات القديم تعالى . وضعف أبو العالية وغيره هذا القول ، لأن فيه الجزم بإثبات صفة للّه تعالى بلفظ محتمل ، وهي صفة لا يدرى ما هي ، ولا يعقل معناها في اللسان العربي ، فوجب إطراح هذا القول والإعتماد على ما له محمل في لسان العرب . إذا كان للفظ دلالة على التجسيم فنحمله ، إمّا على ما يسوغ فيه من الحقيقة التي يصح نسبتها إلى اللّه تعالى إن كان اللفظ مشتركاً ، أو من المجاز إن كان اللفظ غير مشترك . والمجاز في كلام العرب أكثر من رمل يبرين ونهر فلسطين . فالوقوف مع ظاهر اللفظ الدال على التجسيم غباوة وجهل بلسان العرب وأنحائها ومتصرّفاتها في كلامها ، وحجج العقول التي مرجع حمل الألفاظ المشكلة إليها . ونعوذ باللّه أن نكون كالكرامية ، ومن سلك مسلكهم في إثبات التجسيم ونسبة الأعضاء للّه ، تعالى اللّه عما يقول المفترون علواً كبيراً . وفي قوله : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّه } ردّ على من يقول : إنه في حيز وجهة ، لأنه لما خير في استقبال جميع الجهات دل على أنه ليس في جهة ولا حيز ، ولو كان في حيز لكان استقباله والتوجه إليه أحق من جميع الأماكن . فحيث لم يخصص مكاناً ، علمنا أنه لا في جهة ولا حيز ، بل جميع الجهات في ملكه وتحت ملكه ، فأي جهة توجهنا إليه فيها على وجه الخضوع كنا معظمين له ممتثلين لأمره . {إِنَّ اللّه واسِعٌ عَلِيمٌ } : وصف تعالى نفسه بصفة الواسع ، فقيل ذلك لسعة مغفرته . وجاء :{ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ } ، وهو معنى قول الكلبي : لا يتعاظمه ذنب . وقيل : واسع العطاء ، وهو معنى قول أبي عبيدة : غني ، ومعنى قول الفراء : جواد . وقيل : معناه عالم ، من قوله :{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } ، على أحد التفاسير ، وجمع بينه وبين عليم على سبيل التأكيد . وقيل : واسع القدرة . وقيل : معناه يوسع على عباده في الحكم دينه يسر . عليم : أي بمصالحهم أو بنيات القلوب التي هي ملاك العمل ، وإن اختلفت ظواهرها في قبلة وغيرها . وهذه التفاسير على قول من قال : إن الآية نزلت في أمر القبلة . وقال القفال : ليس فيها ذكر القبلة والصلاة ، وإنما أخبرهم تعالى عن علمه بهم ، وطوق سلطانه إياهم حيث كانوا ، كقوله تعالى :{ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ } ، الآية ، وقوله :{ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى } الآية ، ويكون في هذا تهديد لمن منع مساجد اللّه من الذكر ، وسعى في خرابها ، أنه لا مهرب له من اللّه ولا مفر ، كما قال تعالى :{ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ } ، وكما قال : فإنك كالليل الذي هو مدركي وإن خلت أن المنتأى عنك واسع وقال : ولم يكن المغتر باللّه إذ سرى ليعجز والمغتر باللّه طالبه وقال : أين المفر ولا مفر لهارب وله البسيطان الثرى والماء وعلى هذا المعنى يكون الخطاب عاماً مندرج فيه من منع المساجد من الذكر وغيره . وجاءت هذه الجملة مؤكدة بأن مصرحاً باسم اللّه فيها دالة على الاستقلال . وقد قدّمنا ذلك في قوله :{ تَجِدُوهُ عِندَ اللّه } ، وكقوله :{ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّه إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وذلك أفخم وأجزل من الضمير ، لأن الضمير يشعر بقوة التعلق والظاهر يشعر بالاستقلال . ألا ترى أنه يصح الابتداء به ، وإن لم يلحظ ما قبله ؟ بخلاف الضمير ، فإنه رابط للجملة التي هو فيها بالجملة التي قبلها . ألا ترى إلى أن أكثر ما ورد في القرآن من ذلك إنما جاء بالظاهر ؟ كما مثلناه ، وكقوله : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللّه } ،{ وَلَوْ شَاء اللّه لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللّه } ، وقال : ليت شعري وأين مني ليت إن ليتا وإن لوّا عناء |
﴿ ١١٥ ﴾