١٢٦

وإذ قال إبراهيم . . . . .

{وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا } : ذكروا أن العامل في إذا ذكر محذوفة ، ورب : منادى مضاف إلى الياء ، وحذف منه حرف النداء ، والمضاف إلى الياء فيه لغات ، أحسنها : أن تحذف منه ياء الإضافة ، ويدل عليها بالكسرة ، فيجتزأ بها لأن النداء موضع تخفيف . ألا ترى إلى جواز الترخيم فيه ؟ وتلك اللغات مذكورة في النحو ، وسيأتي منها في القرآن شيء ، ونتكلم عليه في مكانه ، إن شاء اللّه تعالى . وناداه بلفظ الرب مضافاً إليه ، لما في ذلك من تلطف السؤال والنداء بالوصف الدال على قبول السائل وإجابة ضراعته . واجعل هنا بمعنى : صير ، وصورته أمر ، وهو طلب ورغبة . وهذا إشارة إلى الوادي الذي دعا لأهله حين أسكنهم فيه ، وهو قوله :{ بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } ،أو إلى المكان الذي صار بلداً ، ولذلك نكره فقال :{ بَلَدًا آمِنًا} وحين صار بلداً قال :{ رَبّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ امِنًا وَاجْنُبْنِى } ،{ وَقَالَ لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ } ، هذا إن كان الدعاء مرتين في وقتين .

وقيل : الآيتان سواء ، فتحتمل آية التنكير أن يكون قبلها معرفة محذوفة ، أي اجعل هذا البلد بلداً آمناً ، ويكون بلداً النكرة ، توطئة لما يجيء بعده ، كما تقول : كان هذا اليوم يوماً حاراً ، فتكون الإشارة إليه في الآيتين بعد كونه بلداً . ويحتمل وجهاً آخر وهو : أنه لا يكون محذوف ولا يكون إذ ذاك بلداً ، بل ادعى له بذلك ، وتكون المعرفة الذي جاء في قوله :{ هَاذَا الْبَلَدَ } ، باعتبار ما يؤول إليه سماه بلداً . ووصف بلد بآمن ، إما على معنى النسب ، أي ذا أمن ، كقولهم :{ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } ،أي ذات رضا ، أو على الاتساع لما كان يقع فيه الأمن جعله آمناً كقولهم : نهارك صائم وليلك قائم . وهل الدعاء بأن يجعله آمناً من الجبابرة والمسلطين ، أو من أن يعود حرمه حلالاً ، أو من أن يخلو من أهله ، أو آمناً من القتل ، أو من الخسف والقذف ، أو من القحط والجدب ، أو من دخول الدجال ، أو من أصحاب الفيل ؟ أقوال . ومن فسر آمنا بكونه آمنا من الجبابرة ، فالواقع يرده ، إذ قد دخل فيه الجبابرة وقتلوا ، كعمرو بن لحي الجرهمي ، والحجاج بن يوسف ، والقرامطة ، وغيرهم . وكذلك من قال آمنا من القحط والجدب ، فهي أكثر بلاد اللّه قحطاً وجدباً . وقال القفال : معناه مأموناً فيه ، وكانوا قبل أن تغزوهم العرب في غاية الأمن ، حتى أن أحدهم إذا وجد بمفازة أو برّية ، لا يتعرض إليه عندما يعلم أنه من سكان الحرم .

{وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ } : لما بنى إبراهيم البيت في أرض مقفرة ، وكان حال من يتمدّن من الأماكن يحتاج فيه إلى ماء يجري ومزرعة يمكن بهما القطان بالمدينة ، دعا اللّه للبلد بالأمن ، وبأن يجبى له الأرزاق . فإنه إذا كان البلد ذا أمن ، أمكن وفود التجار إليه لطلب الربح . ولما سمع في الإمامة قوله تعالى :{ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} قيد هنا من سأل له الرزق فقال :{ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ ءامَنَ مِنْهُم بِاللّه } ، والضمير في منهم عائد على أهله . دعا لمؤمنهم بالأمن والخصب ، لأن

الكافر لا يدعى له بذلك . ألا ترى أن قريشاً لما طغت ، دعا عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { اللّهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين ، كسني يوسف } ، وكانت مكة إذ ذاك قفراً ، لا ماء بها ولا نبات ، كما قال : { بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } فبارك اللّه فيما حولها ، كالطائف وغيره ، وأنبت اللّه فيه أنواعاً من الثمر . وروي أن اللّه تعالى لما دعاه إبراهيم ، أمر جبريل فاقتلع فلسطين ،

وقيل : بقعة من الأردن ، فطاف بها حول البيت سبعاً ، فأنزلها بواد ، فسميت الطائف بسبب ذلك الطواف ،

وقال بعضهم : كل الأماكن إعظاماً لحرمتها

تسعى لها ولها في سعيها شرف

وذكر متعلق الإيمان ، وهو اللّه تعالى واليوم الآخر ، لأن في الإيمان باللّه إيماناً بالصانع الواجب الوجود ، وبما يليق به تعالى من الصفات ، وفي الإيمان باليوم الآخر إيمان بالثواب والعقاب المرتبين على الطاعة والمعصية اللذين هما مناط التكليف المستدعي مخبراً صادقاً به ، وهم الأنبياء . فتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، وبما جاؤا به . فلما كان الإيمان باللّه واليوم الآخر يتضمن الإيمان بجميع ما يجب أن يؤمن به ، اقتصر على ذلك ، لأن غيره في ضمنه . ودعاء إبراهيم لأهل البيت يعم من يطلق عليه هذا الاسم ، ولا يختص ذلك بذريته ، وإن كان ظاهر قوله :{ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ } مختصاً بذريته لقوله :{ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى } لعود الضمير في وارزقهم عليه ، فيحتمل أن يكونا سؤالين . ومن : في قوله : من الثمرات للتبعيض ، لأنهم لم يرزقوا إلا بعض الثمرات .

وقيل : هي لبيان الجنس ، ومن بدل من أهله ، بدل بعض من كل ، أو بدل اشتمال مخصص لما دل عليه المبدل منه ، وفائدته أنه يصير مذكوراً مرتين : إحداهما بالعموم السابق في لفظ المبدل منه ، والثانية بالتنصيص عليه ، وتبيين أن المبدل منه إنما عنى به وأريد البدل فصار مجازاً ، إذ أريد بالعام الخاص . هذه فائدة هذين البدلين ، فصار في ذلك تأكيد وتثبيت للمتعلق به الحكم ، وهو البدل ، إذ ذكر مرتين .

{قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } : قرأ الجمهور من السبعة : فأمتعه ، مشدّداً على الخبر .

وقرأ ابن عامر : فأمتعه ، مخففاً على الخبر .

وقرأ هؤلاء : ثم اضطره خبراً .

وقرأ يحيى بن وثاب : فأمتعه مخففاً ، ثم أضطره بكسر الهمزة ، وهما خبران .

وقرأ ابن محيصن : ثم أضطره ، بإدغام الضاد في الطاء خبراً .

وقرأ يزيد بن أبي حبيب : ثم اضطره بضم الطاء ، خبراً .

وقرأ أبي بن كعب : فنمتعه ثم نضطره بالنون فيهما .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما :{ فَأُمَتّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ } على صيغة الأمر فيهما ، فأما على هذه القراءة فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على إبراهيم ، لما دعا للمؤمنين بالرزق ، دعا على الكافرين بالأمتاع القليل والإلزازا إلى العذاب . ومن : على هذه القراءة يحتمل أن تكون في موضع رفع ، على أن تكون موصولة أو شرطية ، وفي موضع نصب على الاشتغال على الوصل أيضاً .

وأما على قراءة الباقين فيتعين أن يكون الضمير في : قال ، عائداً على اللّه تعالى ، ومن : يحتمل أن يكون في موضع نصب على إضمار فعل تقديره : قال اللّه وارزق من كفر فأمتعه ، ويكون فأمتعه معطوفاً على ذلك الفعل المحذوف الناصب لمن . ويحتمل أن تكون من في موضع رفع على الابتداء ، إما موصولاً ،

وإما شرطاً ، والفاء جواب الشرط ، أو الداخلة في خبر الموصول لشبهة باسم الشرط . ولا يجوز أن تكون من في موضع نصب على الاشتغال إذا كانت شرطاً ، لأنه لا يفسر العامل في من إلا فعل الشرط ، لا الفعل الواقع جزاء ، ولا إذا كانت موصولة ، لأن الخبر مضارع قد دخلته الفاء تشبيهاً ، للموصول باسم الشرط . فكما لا يفسر الجزاء ، كذلك لا يفسر الخبر المشبه بالجزاء .

وأما إذا كان أمراً ، أعني الخبر نحو : زيداً فاضربه ، فيجوز أن يفسر ، ولا يجوز أن تقول : زيدا

فتضربه على الاشتغال ، ولجواز : زيداً فاضربه على الأمر ، علة مذكورة في كتب النحو . قال أبو البقاء : لا يجوز أن تكون من مبتدأ ، وفأمتعه الخبر ، لأن الذي لا يدخل الفاء في خبرها ، إلا إذا كان الخبر مستحقاً لصلتها ، كقولك : الذي يأتيني فله درهم . والكفر لا يستحق به التمتع . فإن جعلت الفاء زائدة على قول الأخفش جاز ، أو الخبر محذوفاً ، وفأمتعه دليل على جاز ، تقديره : ومن كفر أرزقه فأمتعه . ويجوز أن تكون من شرطية والفاء جوابها .

وقيل : الجواب محذوف تقديره : ومن يكفر ارزق . ومن على هذا رفع بالابتداء ، ولا يجوز أن تكون منصوبة ، لأن أداة الشرط لا يعمل فيها جوابها ، بل الشرط . انتهى كلامه . وقوله أولاً لا يجوز كذا وتعليله ليس بصحيح ، لأن الخبر مستحق بالصلة ، لأن التمتع القليل والصيرورة إلى النار مستحقان بالكفر . ثم إنه قد ناقض أبو البقاء في تجويزه أن تكون من شرطية والفاء جوابها . وهل الجزاء إلا مستحق بالشرط ومترتب عليه ؟ فكذلك الخبر المشبه به أيضاً . فلو كان التمتع قليلاً ليس مستحقاً بالصلة ، وقد عطف عليه ما يستحق بالصلة ، ناسب أن يقع خبراً من حيث وقع جزاء ، وقد جوّز هو ذلك .

وأما تقدير زيادة الفاء ، وإضمار الخبر ، وإضمار جواب الشرط ، إذا جعلنا من شرطية ، فلا حاجة إلى ذلك ، لأن الكلام منتظم في غاية الفصاحة دون هذا الإضمار . وإنما جرى أبو البقاء في إعرابه في القرآن على حد ما يجري في شعر الشنفري والشماخ ، من تجويز الأشياء البعيدة والتقادير المستغنى عنها ، ونحن ننزه القرآن عن ذلك .

وقال الزمخشري : ومن كفر : عطف على من آمن ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك . انتهى كلامه . وتقدم لنا الردّ عليه في زعمه أن ومن ذريتي عطف على الكاف في جاعلك .

وأما عطف من كفر على من آمن فلا يصح ، لأنه يتنافى في تركيب الكلام ، لأنه يصير المعنى : قال إبراهيم : وارزق من كفر ، لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل ، ومن آمن العامل فيه فعل الأمر ، وهو العامل في ومن كفر . وإذا قدرته أمراً ، تنافى مع قوله : فأمتعه ، لأن ظاهر هذا إخبار من اللّه بنسبه التمتع وإلجائهم إليه تعالى ، وأن كلاً من الفعلين يضمن ضمير اللّه تعالى ، وذلك لا يجوز إلا على بعد ، بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير للّه تعالى ، أي قال إبراهيم : وارزق من كفر ، فقال اللّه : أمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار . ثم ناقض الزمخشري قوله هذا ، أنه عطف على من ، كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك فقال :

فإن قلت : لم خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه ؟

قلت : قاس الرزق على الإمامة ، فعرف الفرق بينهما ، لأن الاستخلاف استرعاء مختص بمن ينصح للمرعى . وأبعد الناس عن النصيحة الظالم ، بخلاف الرزق ، فإنه قد يكون استدراجاً للمرزوق وإلزاماً للحجة له . والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه . انتهى كلامه . فظاهر قوله والمعنى : وارزق من كفر فأمتعه يدل على أن الضمير في قال ، ومن كفر عائد على اللّه ، وأن من كفر منصوب بأسش

رزق الذي هو فعل مضارع مسند إلى اللّه تعالى ، وهو يناقص ما قدم أولاً من أن من كفر معطوف على من آمن . وفي قوله خص إبراهيم المؤمنين حتى رد عليه سوء أدب على الأنبياء ، لأنه لم يرد عليه ، لأنه لا يدعي ، ويرغب في أن يرزق الكافر ، بل قوله تعالى : { قَالَ وَمَن كَفَرَ } ، إخبار من اللّه تعالى بما يكون مآل الكافر إليه من التمتيع القليل والصيرورة إلى النار ، وليس هنا قياس الرزق على الإمامة ، ولا تعريف الفرق بينهما ، كما زعم .

وقد تقدم تفسير المتاع ، وأنه كل ما انتفع به ، وفسر هنا التمتيع والإمتاع بالإبقاء ، أو بتيسير المنافع ، ومنه متاع الحياة الدنيا ، أي منفعتها التي لا تدوم ، أو بالتزويد ، ومنه : فمتعوهن ؛ أي زوّدوهنّ نفقة . والمتعة : ما يتبلغ به من الزاد ، والجمع متع ، ومنه : متاعاً لكم . وللسيارة والهمزة في أمتع يجعل الشيء صاحب ما صيغ منه : أمتعت زيداً ، جعلته صاحب متاع ، كقولهم : أقبرته وأنعلته ، وكذلك التضعيف في متع هو : يجعل الشيء بمعنى ما صيغ منه نحو قولهم : عدلته . وليس التضعيف في متع يقتضي التكثير ، فينافي ظاهر

ذلك القلة ، فيحتاج إلى تأويل ، كما ظنه بعضهم وتأوّله على أن الكثرة بإضافة بعضها إلى بعض ، والقلة بالإضافة إلى نعيم الآخرة . فقد اختلفت جهتا الكثرة والقلة فلم يتنافينا . وانتصاب قليلاً على أنه صفة لظرف محذوف ، أي زماناً قليلاً ، أو على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي تمتيعاً قليلاً ، على تقدير الجمهور ، أو على الحال من ضمير المصدر المحذوف ، الدال عليه الفعل ، وذلك على مذهب سيبويه . والوصف بالقلة لسرعة انقضائه ، إما لحلول الأجل ،

وإما بظهور محمد صلى اللّه عليه وسلم فيقتله ، أو يخرجه عن هذا البلد ، إن أقام على الكفر والإمتاع بالنعيم والزينة ، أو بالإمهال عن تعجيل الانتقام فيها ، أو بالرزق ، أو بالبقاء في الدنيا ، أقوال للمفسرين . وقراءة يحيى بن وثاب : ثم إضطره بكسر الهمزة . قال ابن عطية ، على لغة قريش ، في قولهم : لا إخال ، يعني بكسر الهمزة . وظاهر هذا النقل في أن ذلك ، أعني كسر الهمزة التي للمتكلم في نحو اضطر ، وهو ما أوله همزة وصل . وفي نحو إخال ، وهو افعل المفتوح العين من فعل المكسور العين مخالف لما نقله النحويون . فإنهم نقلوا عن الحجازيين فتح حرف المضارعة مما أوّله همزة وصل ، ومما كان على وزن فعل بكسر العين يفعل بفتحها ، أو ذا ياء مزيدة في أوله ، وذلك نحو علم يعلم ، وانطلق ينطلق ، وتعلم يتعلم ، إلا إن كان حرف المضارعة ياء ، فجمهور العرب من غير الحجازيين لا يكسر الياء ، بل يفتحها . وفي مثل يوجل بالياء مضارع وجل ، مذاهب تذكر في علم النحو ، وإنما المقصود هنا : أن كلام ابن عطية مخالف لما حكاه النحاة ، إلا إن كان نقل أن إخال بخصوصيته في لغة قريش مكسور الهمزة دون نظائره ، فيكونون قد تبعوا في ذلك لغة غيرهم من العرب ، فيمكن أن يكون قول ابن عطية صحيحاً .

وقد تقدم لنا في سورة الحمد في قوله : { نَسْتَعِينُ } أن الكسرة لغة قيس وتميم وأسد وربيعة . وقد أمعنا الكلام على ذلك في كتاب التكميل لشرح كتاب التسهيل من تأليفنا . وقراءة ابن محيصن : ثم اطره ، بإدغام الضاد في الطاء .

قال الزمخشري : هي لغة مرذولة ، لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها ، ولا تدغم هي فيما يجاورها ، وهي حروف ضم شفر . انتهى كلامه . إذا لقيت الضاد الطاء في كلمة نحو مضطرب ، فالأوجه البيان ، وإن أدغم قلب الثاني للأول فقيل : مضرب ، كما قيل : مصبر في مصطبر . قال سيبويه : وقد قال بعضهم : مطجع ، في مضطجع ومضجع أكثر ، وجاز مطجع ، وإن لم يجز في مصطبر مطبر ، لأن الضاد ليست في السمع كالصاد ، يعني أن الصفير الذي في الصاد أكثر في السمع من استطالة الضاد . فظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة ، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب مطجع ، وإلى قوله : ومضجع أكثر ، فيدل على أن مطجعا كثير ؟ وألا ترى إلى تعليله ، وكون الضاد قلبت إلى الطاء وأدغمت ، ولم يفعل ذلك بالصاد ، وإبداء الفرق بينهما ؟ وهذا كله من كلام سيبويه ،يدل على الجوار . وقد أدغمت الضاد في الذال فيقوله تعالى : { الاْرْضَ ذَلُولاً } ، رواه اليزيدي ، عن أبي عمرو ، وهو ضعيف . وفي الشين في قوله تعالى :{ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } ،{ وَالاْرْضِ شَيْئًا } ، وهو ضعيف أيضاً .

وأما الشين فأدغمت في السين . روي عن أبي عمرو ذلك في قوله تعالى :{ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً } ، والبصريون لا يجيزون ذلك عن أبي عمرو ، وهو رأس من رؤوس البصريين .

وأما الفاء فقد أدغمت في الباء في قراءة الكسائي :{ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ } ، وهو إمام الكوفيين .

وأما الراء ، فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل تكريرها ، ولا في النون . وأجاز ذلك في اللام : يعقوب ، وأبو عمرو ، والكسائي ، والفراء ، وأبو جعفر الرؤاسي ، وهؤلاء الثلاثة رؤوس الكوفيين ، حكوه سماعاً عن العرب . وإنما تعرضت لإدغام هذه الحروف فيما يجاورها ، وذكر الخلاف فيها ، لئلا يتوهم من قول الزمخشري : لا تدغم فيما يجاورها ، أنه لا يجوز ذلك

بإجماع من النحويين . فأوردت هذا الخلاف فيها ، تنبيهاً على أن ذلك ليس بإجماع ، إذ طلاقه يدل على المنع ألبتة . وقراءة ابن أبي حبيب : بضم الطاء ، توجيهها أنه أتبع حركة الطاء لحركة الراء ، وهو شاذ .

وأما قراءة أبي بالنون فيهما ، فهي مخالفة لرسم المصحف ، فهي شاذة . وقراءة ابن عباس بصيغة الأمر يكون تكرير قال على سبيل التوكيد ، أو ليكون ذلك جملتين ، جملة بالدعاء لمن آمن ، وجملة بالدعاء على من كفر ، فلا يندرجان تحت معمول واحد ، بل أفرد كلاً بقول . واضطره على هذه القراءة ، هو بفتح الراء المشدّدة ، كما تقول : عضه بالفتح ، وهذا الإدغام هو على لغة غير الحجازيين ، لأن لغة الحجازيين في مثل هذا الفك . ولو قرأ على لغة قومه ، لكان اضطره إلى عذاب يتعلق بقوله : ثم أضطره . ومعنى الاضطرار هنا هو أنه يلجأ ويلز إلى العذاب ، بحيث لا يجد محيصاً عنه إذا حد ، لا يؤثر دخول النار ولا يختاره . ومفهوم الشرط هناملغي ، إذ قد يدخل النار بعض العصاة من المؤمنين . { وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } المخصوص بالذم محذوف لفهم المعنى ، أي وبئس المصير النار ، إن كان المصير اسم مكان ، وإن كان مصدراً على رأي من أجاز ذلك فالتقدير : وبئست الصيرورة صيرورته إلى العذاب .

﴿ ١٢٦