١٢٩

ربنا وابعث فيهم . . . . .

{رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ } : لما دعا ربه بالأمن لمكة ، وبالرزق لأهلها ، وبأن يجعل من ذريته أمّة مسلمة ، ختم الدعاء لهم بما فيه سعادتهم دنيا وآخرة ، وهو بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيهم ، فشمل دعاؤه لهم الأمن والخصب والهداية . وقد تقدم معنى البعث في قوله :{ ثُمَّ بَعَثْنَاكُم } ، والمراد هنا : الإرسال إليهم . والضمير في فيهم يحتمل أن يعود على الذرية ، ويحتمل أن يعود على أمّة مسلمة ، ويحتمل أن يعود على أهل مكة ، وييده قوله :{ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الامّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ } ، ولا خلاف أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وصح عنه أنه قال : { أنا دعوة أبي إبراهيم} . ولم يبعث اللّه إلى مكة وما حولها إلا هو صلى اللّه عليه وسلم.

وقرأ أبيّ : وابعث فيهم في آخرهم ، قال ابن عباس : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم. ومنهم في موضع الصفة لرسولا ، أي كائناً منهم لا من غيرهم ، فهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته ، كما قال :{ لَقَدْ مَنَّ اللّه عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ } ، ودعا بأن يبعث الرسول فيهم منهم ، لأنه يكون أشفق على قومه ، ويكونون هم أعزبه وأشرف وأقرب للإجابة ، لأنهم يعرفون منشأه وصدقه وأمانته . قال الربيع : لما دعا إبراهيم قيل له : قد استجيب لك ، وهو في آخر الزمان .

{يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ } جملة في موضع الصفة لرسولاً .

وقيل : في موضع الحال منه ، لأنه قد وصف بقوله منهم ، ووصف إبراهيم الرسول بأنه يكون يتلو عليهم آيات اللّه ، أي يقرؤها ، فكان كذلك ، وأوتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القرآن ، وهو أعظم المعجزات . وقبل اللّه دعاء إبراهيم ، فأتى بالمدعو له على أكمل الأوصاف التي طلبها إبراهيم ، والآيات هنا آيات القرآن .

وقيل : خبر من مضى ، وخبر من يأتي إلى يوم القيامة ، وقال الفضل : معناه يبين لهم دينهم .

{وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ } : هو القرآن ، والمعنى : أنه يفهمهم ويلقي إليهم معانيه . وكان ترتيب التعليم بعد التلاوة ، لأنه أول ما يقرع السمع هو التلاوة والتلفظ بالقرآن ، ثم بعد ذلك تتعلم معانيه ويتدبر مدلوله . وأسند التعليم للرسول ، لأنه هو الذي يلقي الكلام إلى المتعلم ، وهو الذي يفهمه ويتلطف في إيصال المعاني إلى فهمه ، ويتسبب في ذلك . والتعليم يكون بمعنى التفهيم وحصول العلم للمتعلم ، ويكون بمعنى إلقاء أسباب العلم ، ولا يحصل به العلم ، ولذلك يقبل النقيضين ، تقول : علمته فتعلم ، وعلمته فما تعلم ، وذلك لاختلاف المفهومين من تعلم .

قال الزمخشري : يتلو عليهم آياتك : يقرأ عليهم ، ويبلغهم ما يوحي إليه من دلائل وحدانيتك وصدق أنبيائك ، ويعلمهم الكتاب القرآن ، { وَالْحِكْمَةِ } : الشريعة وبيان الأحكام . وقال قتادة : الحكمة : السنة ، وبيان النبي الشرائع . وقال مالك وأبو رزين : الحكمة ، الفقه في الدين ، والفهم الذي هو سجية ونور من اللّه تعالى . وقال مجاهد : الحكمة : فهم القرآن . وقال مقاتل : العلم والعمل به لا يكون الرجل حكيماً حتى يجمعهما .

وقيل : الحكم والقضاء .

وقيل : ما لا يعلم إلا من جهة الرسول . وقال ابن زيد : كل كلمة وعظتك ، أو دعتك إلى مكرمة ، أو نهتك عن قبيح فهي حكمة .

وقال بعضهم : الحكمة هنا الكتاب ، وكررها توكيداً . وقال أبو جعفر محمد بن يعقوب : كل صواب من القول ورّث فعلاً صحيحاً فهو حكمة . وقال يحيى بن معاذ : الحكمة جند من جنود اللّه ، يرسلها اللّه إلى قلوب العارفين حتى يروّح عنها وهج الدنيا .

وقيل : هي وضع الأشياء مواضعها .

وقيل : كل قول وجب فعله . وهذه الأقوال في الحكمة كلها متقاربة ، ويجمع هذه الأقوال

قولان : أحدهما ، القرآن والآخر السنة ، لأنها المبينة لما أنبهم من الكتاب ، والمظهرة لوجوه الأحكام . ويكون المعنى ، واللّه أعلم ، في قوله : { يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِكَ } ،أي يفصح لهم عن ألفاظه ويوقفهم بقراءته على كيفية تلاوته ، كما قال صلى اللّه عليه وسلم لأبي :إن اللّه أمرني أن أقرأ عليك القرآن، وذلك لأن يتعلم أبي منه صلى اللّه عليه وسلم كيفية أداء القرآن ومقاطعه ومواصلة .

وفي قوله : { وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ } ،أي يبين لهم وجوه أحكامه : حلاله وحرامه ، ومفروضه ، ومسنونه ، ومواعظه ، وأمثاله ، وترغيبه ، وترهيبه ، والحشر ، والنشر ، والعقاب ، والثواب ، والجنة والنار .

وفي قوله : والحكمة ، أي السنة تبين ما في الكتاب من المجمل ، وتوضح ما أنبهم من المشكل ، وتفصح عن مقادير ، وعن إعداد مما لم يتعرض الكتاب إليه ، ويثبت أحكاماً لم يتضمنها الكتاب .{ وَيُزَكّيهِمْ } باطناً من أرجاس الشرك وأنجاس الشك ، وظاهراً بالتكاليف التي تمحص الآثام وتوصل الأنعام . قال ابن عباس : التزكية : الطاعة والإخلاص . وقال ابن جريج : يطهرهم من الشرك .

وقيل : يأخذ منهم الزكاة التي تكون سبباً لطهارتهم .

وقيل : يدعوا إلى ما يصيرون به أزكياء .

وقيل : يشهد لهم بالتزكية من تزكية العدول ، ومعنى الزكاة لا تخرج عن التطهير أو التنمية .

{إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } ، العزيز : الغالب ، أو المنيع الذي لا يرام ، قاله المفضل بن سلمة ، أو الذي لا يعجزه شيء ، قاله ابن كيسان ، أو الذي لا مثل له ، قاله ابن عباس ، أو المنتقم ، قاله الكلبي ، أو القوي ، ومنه فعززنا بثالث ، أو المعز ومنه :{ وَتُعِزُّ مَن تَشَاء} الحكيم : قد تقدم تفسير الحكيم في قصة الملائكة وآدم في قوله :{ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} وأنت : يجوز فيها ما جاز في { أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } قبل من الأعاريب . وهاتان الصفتان متناسبتان لما قبلهما ، لأن إرسال رسول متصف بالأوصاف التي سألها إبراهيم لا تصدر إلا عمن اتصف بالعزة ، وهي الغلبة أو القوّة ، أو عدم النظير ، وبالحكمة التي هي إصابة مواقع الفعل ، فيضع الرسالة في أشرف خلقه وأكرمهم عليه ، اللّه أعلم حيث يجعل رسالاته . وتقدّمت صفة العزيز على الحكيم لأنها من صفات الذات ، والحكيم من صفات الأفعال ، ولكون الحكيم فاصلة كالفواصل قبلها . وفي المنتخب : يتلو عليهم آياتك : هي القرآن .

وقيل : الأعلام الدالة على وجود الصانع وصفاته . ومعنى التلاوة : تذكيرهم بها ودعاؤهم إليها وحملهم على الإيمان بها ، وحكمة التلاوة : بقاء لفظها على الألسنة ، فيبقى مصوناً عن التحريف والتصحيف ، وكون نظمها ولفظها معجزاً ، وكون تلاوتها في الصلوات وسائر العبادات نوع عبادة إلا أن الحكمة العظمى تعليم ما فيه من الدلائل والأحكام . وقال القفال ، عبر بعض الفلاسفة عن الحكمة ، بأنها التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية ،

وقيل الحكمة المتشابهات .

وقيل : الكتاب أحكام الشرائع ، والحكمة وجوه المصالح والمنافع فيها ،

وقيل : كلها صفات للقرآن ، هو آيات ، وهو كتاب وهو حكمة . انتهى ما لخص من المنتخب .

﴿ ١٢٩