١٣٢

ووصى بها إبراهيم . . . . .

الوصية : العهد ، وصى بنيه : أي عهد إليهم وتقدم إليهم بما يعمل به مقترناً بوعظ . ووصى وأوصى لغتان ، إلا أنهم قالوا : إن وصى المشدّد يدل على المبالغة والتكثير . يعقوب : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، ويعقوب عربي ، وهو ذكر القبج ، وهو مصروف ، ولو سمي بهذا لكان مصروفاً . ومن زعم أن يعقوب النبي إنما سمي يعقوب لأنه هو وأخوه العيص توأمان ، فخرج العيص أولاً ثم خرج هو يعقبه ، أو سمي بذلك لكثرة عقبه ، فقوله فاسد ، إذ لو كان كذلك لكان له اشتقاق عربي ، فكان يكون مصروفاً . الحضور : الشهود ، تقول منه : حضر بفتح العين ، وفي المضارع : يحضر بضمهما ،

ويقال : حضر بكسر العين ، وقياس المضارع أن يفتح فيه فيقال : يحضر ، لكن العرب استغنت فيه بمضارع فعل المفتوح العين فقالت : حضر يحضر بالضم ، وهي ألفاظ شذت فيها العرب ، فجاء مضارع فعل المكسور العين على يفعل بضمها ، قالوا : نعم ينعم ، وفض يفضل ، وحضر يحضر ، ومت تموت ، ودمت تدوم ، وكل هذه جاء فيها فعل بفتح العين ، فلذلك استغنى بمضارعه عن مضارع فعل ، كما استغنت فيه بيفعل بكسر العين عن يفعل بفتحها . قالوا : ضللت بكسر العين ، تضل بالكسر ، لأنه يجوز فيه ضللت بفتح العين .

إسحاق : اسم أعجمي لا ينصرف للعلمية والعجمة الشخصية ، وإسحاق : مصدر إسحاق ، ولو سميت به لكان مصروفاً ، وقالوا في الجمع : أساحقة وأساحيق ، وفي جمع يعقوب : يعاقبه ويعاقيب ، وفي جمع إسرائيل : أسار له . وجوز الكوفيون في إبراهيم وإسماعيل : براهمة وسماعلة ، والهاء بدل من الياء كما في زنادقة زناديق . وقال أبو العباس : هذا الجمع خطأ ، لأن الهمزة ليست زائدة ، والجمع : أباره وأسامع ، ويجوز : أباريه وأساميع ، والوجه أن يجمع هذه جمع السلامة فيقال : إبراهيمون ، وإسماعيلون ، وإسحاقون ، ويعقوبون .

وحكى الكوفيون أيضاً : براهم ، وسماعل ، وأساحق ، ويعاقب ، بغير ياء ولا هاء . وقال الخليل وسيبويه : براهيم ، وسماعيل . وردّ أبو العباس على من أسقط الهمزة ، لأن هذا ليس موضع زيادتها . وأجاز ثعلب : براه ، كما يقال في التصغير : بريه . وقال أبو جعفر : الصفار : أما إسرائيل ، فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله ، وإنما يقال : أساريل .

وحكى الكوفيون : أسارلة وأسارل . انتهى . وقد تقدّم لنا الكلام في شيء من نحو جمع هذه الأشياء ، واستوفي النقل هنا . الحنف : لغة الميل ، وبه سمي الأحنف لميل كان في إحدى قدميه عن الأخرى ، قال الشاعر : واللّه لولا حنف في رجله

ما كان في صبيانكم من مثله

وقال ابن قتيبة : الحنف الاستقامة ، وسمي الأحنف على سبيل التفاؤل ، كما سمي اللديغ سليماً . وقال القفال : الحنف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات . وقال عمر : حمدت اللّه حين هدى فؤادي

إلى الإسلام والدين الحنيف

وقال الزجاج : الحنيف : المائل عما عليه العامّة إلى ما لزمه ، وأنشد : ولكنا خلقنا إذ خلقنا

حنيفاً ديننا عن كل دين

الأسباط : جمع سبط ، وهم في بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل ، وهم ولد يعقوب اثنا عشر ، لكل واحد منهم أمة من الناس ، وسيأتي ذكر أسمائهم . سموا بذلك من السبط : وهو التتابع ، فهم جماعة متتابعون .

ويقال : سبط عليه العطاء إذا تابعه .

ويقال : هو مقلوب بسط ، ومنه السباطة والساباط . ويقال للحسن والحسين : سبطا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، سموا بذلك لكثرتهم وانبساطهم وانتشارهم ، ثم صار إطلاق السبط على ابن البنت ، فيقال : سبط أبي عمر بن عبد البر ، وسبط حسين بن منده ، وسبط السلفي في أولاد بناتهم .

وقيل : أصل الأسباط من السبط ، وهو الشجر الملتف ، والسبط : الجماعة الراجعون إلى أصل واحد . الشقاق : مصدر شاقه ، كما تقول : ضارب ضراباً ، وخالف خلافاً ، ومعناه : المعاداة والمخالفة ، وأصله من الشق ، أي صار هذا في شق ، وهذا في شق . والشق : الجانب ، كما قال الشاعر : إذا ما بكى من خلفها انحرفت له

بشق وشق عندنا لم يحوّل

وقيل : هو من المشقة ، لأن كل واحد منهما يحرص على ما يشق على صاحبه . الكفاية : الأحساب . كفاني كذا : أي أحسبني ، قال الشاعر : فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

أي أغناني قليل من المال . الصبغة : فعلة من صبغ ، كالجلسة من جلس ، وأصلها الهيئة التي يقع عليها الصبغ . والصبغ : المصبوغ به ، والصبغ : المصدر ، وهو تغيير الشيء بلون من الألوان ، وفعله على فعل بفتح العين ، ومضارعه المشهور فيه يفعل بضمها ، والقياس الفتح إذ لامه حرف حلق . وذكر لي عن شيخنا أبي العباس أحمد بن

يوسف بن علي الفهري ، عرف بالليلى ، وهو شارح الفصيح ، أنه ذكر فيه صنم الباء في المضارع والفتح والكسر .

{وَوَصَّى بِهَا إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِىَّ بَنِى إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ } : قرأ نافع وابن عامر : وأوصى ،

وقرأ الباقون : ووصى . قال ثعلب : أملى عليّ خلف بن هشام البزار ، قال : اختلف مصحف أهل المدينة وأهل العراق في اثنى عشر حرفاً . كتب أهل المدينة : وأوصى ، وسارعوا ، يقول ، الذين آمنوا من يرتدد ، الذين اتخذوا ، مسجداً خيراً منهما ، فتوكل ، وأن يظهر ، بما كسبت أيديكم ، ما تشتهيه الأنفس ، فإن اللّه الغني ، ولا يخاف عقباها . وكتب أهل العراق : ووصى ، سارعوا ، ويقول ، من يرتد ، والذين اتخذوا ، خيراً منها ، وتوكل ، أن يظهر ، فيما كسبت أيديكم ، ما تشتهي ، فإن اللّه هو ، فلا يخاف . وبها متعلق بأوصى ، والضمير عائد على الملة في قوله :{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ } ، وبه ابتدأ الزمخشري ، ولم يذكر المهدوي غيره ، أو على الكلمة التي هي قوله :{ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ } ، ونظيره ، وجعلها كلمة باقية في عقبه ، حيث تقدم { إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ} وبهذا القول ابتدأ ابن عطية وقال : هو أصوب ، لأنه أقرب مذكور ، ورجح العود على الملة بأنه يكون المفسر مصرحاً به ، وإذا عاد على الكلمة كان غير مصرح به ، وعوده على المصرح أولى من عوده على المفهوم . وبأن عوده على الملة أجمع من عوده على الكلمة ، إذ الكلمة بعض الملة . ومعلوم أنه لا يوصي إلا بما كان أجمع للفلاح والفوز في الآخرة .

وقيل : يعود على الكلمة المتأخرة ، وهو قوله :{ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}

وقيل : على كلمة الإخلاص وهي : لا إلاه إلا اللّه ، وإن لم يجر لها ذكر ، فهي مشار إليها من حيث المعنى ، إذ هي أعظم عمد الإسلام .

وقيل : يعود على الوصية الدال عليها ووصى .

وقيل : يعود على الطاعة .

بنيه : بنو إبراهيم ، إسماعيل وأمه هاجر القبطية ، وإسحاق وأمه سارة ، ومدين : ومديان ، ونقشان ، وزمزان ، ونشق ، ونقش سورج ، ذكرهم الشريف النسابة أبو البركات محمد بن علي بن معمر الحسيني الجواني وغيره ، وأم هؤلاء الستة قطورا بنت يقطن الكنعانية . هؤلاء الثمانية ولده لصلبه ، والعقب الباقي فيهم اثنان إسماعيل وإسحاق لا غير . قرأ الجمهور : ويعقوب بالرفع ،

وقرأ إسماعيل بن عبد اللّه المكي ، والضرير ، وعمرو بن فائد الأسواري : بالنصب . فأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون معطوفاً على إبراهيم ، ويكون داخلاً في حكم توصية بنيه ، أي ووصى يعقوب بنيه . ويحتمل أن يكون مرفوعاً على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : قال يا بني إن اللّه اصطفى ، والأول أظهر .

وأما قراءة النصب فيكون معطوفاً على بنيه ، أي ووصى بها نافلته يعقوب ، وهو ابن ابنه إسحاق . وبنو يعقوب يأتي ذكر أسمائهم عند الكلام على الأسباط . يا بني : من قرأ ويعقوب بالنصب ، كان يا بني من مقولات إبراهيم ، ومن رفع على العطف فكذلك ، أو على الابتداء ، فمن كلام يعقوب . وإذا جعلناه من كلام إبراهيم ، فعند البصريين هو على إضمار القول ، وعند الكوفيين لا يحتاج إلى ذلك ، لأن الوصية في معنى القول ، فكأنه

قال : قال إبراهيم لبنيه يا بني ، ونحوه قول الراجز : رجلان من ضبة أخبرانا

أنا رأينا رجلاً عريانا

بكسر الهمزة على إضمار القول ، أو معمولاً لأخبرانا على المذهبين ، وفي النداء لمن بحضرة المنادي . وكون النداء بلفظ البنين مضافين إليه تلطف غريب وترجئة للقبول وتحريك وهز ، لما يلقى إليهم من أمر الموافاة على دين الإسلام الذي ينبغي أن يتلطف في تحصيله ، ولذلك صدر كلامهبقوله :{ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ } ، وما اصطفاه اللّه لا يعدل عنه العاقل .

وقرأ أبيّ وعبد اللّه والضحاك : أن يا بني ، فيتعين أن تكون أن هنا تفسيرية بمعنى أي ، ولا يجوز أن تكون مصدرية ، لأنه لا يمكن انسباك مصدر منها ومما بعدها . ومن لم يثبت معنى التفسير ، لأن جعلها هنا زائدة ، وهم الكوفيون .{ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ } ،أي استخلصه لكم وتخيره لكم صفوة الأديان . والألف واللام في الدين للعهد ، لأنهم كانوا قد عرفوه ، وهو دين الإسلام .

{فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } : هذا استثناء من الأحوال ، أي إلا على هذه الحالة ، والمعنى : الثبوت على الإسلام ، والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الإسلام . إلا أن ذلك نهى عن الموت ، ونظير ذلك في الأمر : مت وأنت شهيد ، لا يكون أمراً بالموت ، بل أمر بالشهادة ، فكأنه قال : لتستشهد في سبيل اللّه ، وذكر الموت على سبيل التوطئة للشهادة . وقد تضمن هذا الكلام إيجازاً بليغاً ووعظاً وتذكيراً ، وذلك أن الإنسان يتيقن بالموت ولا يدري متى يفاجئه . فإذا أمر بالتباس بحالة لا يأتيه الموت إلا عليها ، كان متذكراً للموت دائماً ، إذ هو مأمور بتلك الحالة دائماً ، . وهذا على الحقيقة نهي عن تعاطي الأشياء التي تكون سبباً للموافاة على غير الإسلام ، ونظير ذلك قولهم : لا أرينك هنا ، لا ينهي نفسه عن الرؤية ، ولكن المعنى على النهي عن حضوره في هذا المكان ، فيكون يراه ، فكأنه قال : اذهب عن هذا المكان . ألا ترى أن المخاطب ليس له أن يحجب إدراك الآمر عنه إلا بالذهاب عن ذلك المكان ، فأتى بالمقصود بلفظ يدل على الغضب والكراهة ، لأن الإنسان لا ينهى إلا عن شيء يكره وقوعه .

وقد اشتملت هذه الجملة على لطائف ، منها : الوصية ، ولا تكون إلا عند خوف الموت . ففي ذلك ما كان عليه إبراهيم من الاهتمام بأمر الدين ، حتى وصى به من كان ملتبساً به ، إذ كان بنوه على دين الإسلام . ومنها اختصاصه ببنيه ، ولا يختصهم إلا بما فيه سلامة عاقبتهم . ومنها أنه عمم بنيه ، ولم يخص أحداً منهم ، كما جاء في حديث النعمان بن بشير ، حين نحله أبوه شيئاً ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { أتحب أن يكونوا لك في البر سواء ؟} ورد نحله إياه وقال : لا أشهد على جور . ومنها إطلاق الوصية ، ولم يقيدها بزمان ولا مكان . ثم ختمها بأبلغ الزجر أن يموتوا غير مسلمين . ثم التوطئة لهذا النهي والزجر بأن اللّه تعالى هو الذي اختار لكم دين الإسلام ، فلا تخرجوا عما اختاره اللّه لكم . قال المؤرخون : نقل إبراهيم ولده إسماعيل إلى مكة وهو رضيع ،

وقيل : ابن سنتين .

وقيل : ابن أربع عشرة سنة ، وولد قبل إسحاق بأربع عشرة سنة ، ومات وله مائة وثلاثون سنة . وكان لإسماعيل ، لما مات أبوه إبراهيم أبوه ، تسع وثمانون سنة . وعاش إسحاق مائة وثمانين سنة ، ومات بالأرض المقدّسة ، ودفن عند أبيه إبراهيم . وكان بين وفاة أبيه إبراهيم ومولد محمد صلى اللّه عليه وسلم نحو من ألفي سنة وستمائة سنة ، واليهود تنقص من ذلك نحواً من أربعمائة سنة

﴿ ١٣٢