١٣٦قولوا آمنا باللّه . . . . . {قُولُواْ ءامَنَّا بِاللّه } الآية ، خرج البخاري ، عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، ولكن قولوا آمنا باللّه وما أنزل إلينا الآية ، فإن كان حقاً لم تكذبوه وإن كان كذباً لم تصدّقوه} . والضمير في قوله :{ قُولُواْ } عائد على الذين قالوا :{ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى} أمروا بأن يكونوا على الحق ، ويصرحوا به . ويجوز أن يعود على المؤمنين ، وهو أظهر . وارتبطت هذه الآية بما قبلها ، لأنه لما ذكر في قوله :{ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ } ، جواباً إلزامياً ، وهو أنهم : وما أمروا باتباع اليهودية والنصرانية ، وإنما كان ذلك منهم على سبيل التقليد . هذا ، وكل طائفة منهما تكفر الأخرى ، أجيبوا بأن الأولى في التقليد اتباع إبراهيم ، لأنهم ، أعني الطائفتين المختلفتين ، قد اتفقوا على صحة دين إبراهيم . والأخذ بالمتفق أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، إن كان الدين بالتقليد . فلما ذكر هنا جواباً إلزامياً ، ذكر بعده برهاناً في هذه الآية ، وهو ظهور المعجزة عليهم بإنزال الآيات . وقد ظهرت على يد محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فوجب الإيمان بنبوّته . فإن تخصيص بعض بالقبول وبعض بالرّدّ ، يوجب التناقض في الدليل ، وهو ممتنع عقلاً . {وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } : إن كان الضمير في قولوا للمؤمنين ، فالمنزل إليهم هو القرآن ، وصح نسبة إنزاله إليهم ، لأنهم فيه هم المخاطبون بتكاليفه من الأمر والنهي وغير ذلك ، وتعدية أنزل بإلى ، دليل على انتهاء المنزل إليهم . وإن كان الضمير في قولوا عائداً على اليهود والنصارى ، فالمنزل إلى اليهود : التوراة ، والمنزل إلى النصارى : الإنجيل ، ويلزم من الإيمان بهما ، الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ويصح أن يراد بالمنزل إليهم : القرآن ، لأنهم أمروا باتباعه ، وبالإيمان به ، وبمن جاء على يديه . {وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْراهِيمَ } : الذي أنزل على إبراهيم عشر صحائف . قال :{ إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْولَى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى } ، وكرر الموصول ، لأن المنزل إلينا ، وهو القرآن ، غير تلك الصحائف التي أنزلت على إبراهيم . فلو حذف الموصول ، لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إلى إبراهيم ، قالوا : ولم ينزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وعطفوا على إبراهيم ، لأنهم كلفوا العمل به والدعاء إليه ، فأضيف الإنزال إليهم ، كما أضيف في قوله :{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} والأسباط هم أولاد يعقوب ، وهم اثنا عشر سبطاً . قال الشريف أبو البركات الجوّاني النسابة : وولد يعقوب النبي صلى اللّه عليه وسلم : يوسف النبي صلى اللّه عليه وسلم ، صاحب مصر وعزيزها ، وهو السبط الأول من أسباط يعقوب عليه السلام الاثني عشر ، والأسباط سوى يوسف : كاذ ، وبنيامين ، ويهوذا ، ويفتالي ، وزبولون ، وشمعون ، وروبين ، ويساخا ، ولاوي ، وذان ، وياشيرخا من يهوذا بن يعقوب ، وسليمان النبي صلى اللّه عليه وسلم. وجاء من سليمان عليه السلام النبي : مريم ابنة عمران ، أمّ المسيح عليهما السلام . وجاء من لاوي بن يعقوب : موسى كليم اللّه وهارون أخوه عليهما السلام . انتهى كلامه . و قال ابن عطية : والأسباط هم ولد يعقوب . وهم : روبيل ، وشمعون ، ولاوي ، ويهوذا ، ورفالون ، وبشجر ، وذينة بنته ، وأمّهم لياثم . خلف على أختها راحيل ، فولدت له : يوسف ، وبنيامين . وولد له من سريتين : داني ، ونفتالي ، وجاد ، وآشر . انتهى كلامه ، وهو مخالف لكلام الجواني في بعض الأسماء . وقيل : روبيل أكبر ولده . وقال الحسين بن أحمد بن عبد الرحيم البيساني : روبيل أصح وأثبت ، يعني باللام ، قال : وقبره في قرافة مصر ، في لحف الجبل ، في تربة أليسع عليهما السلام . {وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى } : أي : وآمنا بالذي أوتي موسى من التوراة والآيات ، وعيسى من الإنجيل والآيات . وموسى هنا : هو موسى بن عمران ، كليم اللّه . وقال الحسين بن أحمد البيساني : وفي ولد ميشا بن يوسف ، يعني الصديق : موسى بن ميشا بن يوسف . وزعم أهل التوراة أن اللّه نبأه ، وأنه صاحب الخضر . وذكر المؤرّخون أنه لما مات يعقوب ، فشا في الأسباط الكهانة ، فبعث اللّه موسى بن ميشا يدعوهم إلى عبادة اللّه ، وهو قبل موسى بن عمران بمائة سنة ، واللّه أعلم بصحة ذلك . انتهى كلامه ، ونص على موسى وعيسى ، لأنهما متبوعا اليهود والنصارى بزعمهم ، والكلام معهم ، ولم يكرر الموصول في عيسى ، لأن عيسى إنما جاء مصدقاً لما في التوراة ، لم ينسخ منها إلا نزراً يسيراً . فالذي أوتيه عيسى هو ما أوتيه موسى ، وإن كان قد خالف في نزر يسير . وجاء :{ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } ، وجاء :{ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى } ، تنويعاً في الكلام وتصرفاً في ألفاظه ، وإن كان المعنى واحداً ، هذ لو كان كله بلفظ الإيتاء ، أو بلفظ الإنزال ، لما كان فيه حلاوة التنوع في الألفاظ . ألا تراهم لم يستحسنوا قول أبي الطيب : ونهب نفوس أهل النهب أولى بأهل النهب من نهب القماش ولما ذكر في الإنزال أوّلاً خاصاً ، عطف عليه جمعاً . كذلك لما ذكر في الإيتاء خاصاً ، عطف عليه جمعاً . ولما أظهر الموصول في الإنزال في العطف ، أظهره في الإيتاء فقال :{ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ } ، وهو تعميم بعد تخصيص . وظاهر قوله :{ وَمَا أُوتِيَ } يقتضي التعميم في الكتب والشرائع . وفي حديث لأبي سعيد الخدري ، قلت : يا رسول اللّه ، كم أنزل اللّه ؟ قال : { مائة كتاب وأربعة كتب ، أنزل على شيث خمسين صحيفة ، وأنزل على أخنوخ ثلاثين صحيفة ، وأنزل على إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى قبل التوراة عشر صحائف ، ثم أنزل التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان . وأما عدد الأنبياء ، فروي عن ابن عباس ووهب بن منبه : أنهم مائة ألف نبي ، ومائة وعشرون ألف نبي ، كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرين ألف نبي . وعدد الرسل : ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، كلهم من ولد يعقوب ، إلا عشرين رسولاً ، ذكر منهم في القرآن خمسة وعشرين ، نص على أسمائهم وهم : آدم ، وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وشعيب ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وأليسع ، وإلياس ، ويونس ، وأيوب ، وداود ، وسليمان ، وزكريا ، وعزير ، ويحيى ، وعيسى ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم. وفي رواية عن ابن عباس : أن الأنبياء كلهم من بني إسرائيل ، إلا عشرة : نوحاً ، وهوداً ، وشعيباً ، وصالحاً ، ولوطاً ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمداً / صلى اللّه عليه وسلم أجمعين . وابتدىء أولاً بالإيمان باللّه ، لأن ذلك أصل الشرائع ، وقدم { أَنزَلَ اللّه إِلَيْنَا } ، وإن كان متأخراً في الإنزال عن ما بعده ، لأنه أولى بالذكر ، لأن الناس ، بعد بعثة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، مدعوّون إلى الإيمان بما أنزل إليه جملة وتفصيلاً . وقدم { مَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ } على { مَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى } ، للتقدّم في الزمان ، أو لأن المنزل على موسى ، ومن ذكر معه ، هو المنزل إلى إبراهيم ، إذ هم داخلون تحت شريعته .{ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى } : ظاهره العطف على ما قبله من المجرورات المتعلقة بالإيمان ، وجوّزوا أن يكون :{ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى } في موضع رفع بالابتداء ، وما أوتي الثانية عطف على ما أوتي ، فيكون في موضع رفع . والخبر في قوله { مّن رَّبّهِمُ } ،أو لا نفرق ، أو يكون :{ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى } معطوفاً على المجرور قبله ، { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ } رفع على الابتداء ، { وَمِنْ رَّبُّهُمْ } الخبر ، أو لا نفرق هو الخبر . والظاهر أن من ربهم في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، فتتعلق بما أوتي الثانية ، أو بما أوتي الأولى ، وتكون الثانية توكيداً . ألا ترى إلى سقوطها في آل عمران في قوله :{ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبّهِمْ } ؟ ويجوز أن يكون في موضع حال من الضمير العائد على الموصول ، فتتعلق بمحذوف ، أي وما أوتيه النبيون كائناً من ربهم . . {لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ } : ظاهره الاستئناف . والمعنى : أنا نؤمن بالجميع ، فلا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، كما فعلت اليهود والنصارى . فإن اليهود آمنوا بالأنبياء كلهم ، وكفروا بمحمد وعيسى ، صلوات اللّه على الجميع . والنصارى آمنوا بالأنبياء ، وكفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم . وقيل : معناه لا نقول إنهم يتفرقون في أصول الديانات . وقيل : معناه لانشق عصاهم ، كما يقال شق عصا المسلمين ، إذا فارق جماعتهم . وأحد هنا ، قيل : هو المستعمل في النفي ، فأصوله : الهمزة والحاء والدال ، وهو للعموم ، فلذلك لم يفتقر بين إلى معطوف عليه ، إذ هو اسم عام تحته أفراد ، فيصح دخول بين عليه ، كما تدخل على المجموع فتقول : المال بين الزيدين ، ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه . وقيل : أحد هنا بمعنى : واحد ، والهمزة بدل من الواو ، إذ أصله : وحد ، وحذف المعطوف لفهم السامع ، والتقدير : بين أحد منهم وبين نظيره ، فاختصر ، أو بين أحد منهم والآخر ، ويكون نظير قول الشاعر : فما كان بين الخير لو جاء سالما أبو حجر إلا ليال قلائل يريد : بين الخير وبيني ، فحذف لدلالة لمعنى عليه ، إذ قد علم أن بين لا بد أن تدخل بين شيئين ، كما حذف المعطوففي قوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} ومعلوم أن ما وقي الحر وقي البرد ، فحذف والبرد لفهم المعنى . ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه . وذكر الوجهين غير الزمخشري وابن عطية ، والوجه الأول أرجح ، لأنه لا حذف فيه . {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } : هذا كله مندرج تحت قوله :{ قُولُواْ} ولما ذكر أولاً الإيمان ، وهو التصديق ، وهو متعلق بالقلب ، ختم بذكرالإسلام ، وهو الانقياد الناشىء عن الإيمان الظاهر عن الجوارح . فجمع بين الإيمان والإسلام ، ليجتمع الأصل والناشىء عن الأصل . وقد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإيمان والإسلام حين سئل عنهما ، وذلك في حديث جبريل عليه السلام . وقد فسروا قوله :{ مُّسْلِمُونَ } بأقوال متقاربة في المعنى ، فقيل : خاضعون ، وقيل : مطيعون ، وقيل : مذعنون للعبودية ، وقيل : مذعنون لأمره ونهيه عقلاً وفعلاً ، وقيل : داخلون في حكم الإسلام ، وقيل : منقادون ، وقيل : مخلصون . وله متعلق بمسلمون ، وتأخر عنه العامل لأجل الفواصل ، أو تقدّم له للاعتناء بالعائد على اللّه تعالى لما نزل قوله :{ قُولُواْ ءامَنَّا بِاللّه } الآية ، قرأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على اليهود والنصارى وقال : { اللّه أمرني بهذا} . فلما سمعوا بذكر عيسى أنكروا وكفروا . وقالت النصارى : إن عيسى ليس بمنزلة سائر الأنبياء ، ولكنه ابن اللّه تعالى ، |
﴿ ١٣٦ ﴾