١٣٩

قل أتحاجوننا في . . . . .

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِى اللّه وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } : سبب النزول ، قيل : إن اليهود والنصارى قالوا : يا محمد إن الأنبياء كانوا منا ، وعلى ديننا ، ولم تكن من العرب ، ولو كنت نبياً ، لكنت منا وعلى ديننا .

وقيل : حاجوا المسلمين فقالوا : نحن أبناء اللّه وأحباؤه وأصحاب الكتاب الأول ، وقبلتنا أقدم ، فنحن أولى باللّه منكم ، فأنزلت . قرأ الجمهور : أتحاجوننا بنونين ، إحداهما نون الرفع ، والأخرى الضمير ؟

وقرأ زيد بن ثابت ، والحسن ، والأعمش ، وابن محيصن : بإدغام النون في النون ، وأجاز بعضهم حذف النون . أما قراءة الجمهور فظاهرة ،

وأما قراءة زيد ومن ذكر معه ، فوجهها أنه لما التقى مثلان ، وكان قبل الأول حرف مدّ ولين ، جاز الإدغام كقولك : هذه دار راشد ، لأن المد يقوم مقام الحركة في نحو : جعل لك .

وأما جواز حذف النون الأولى ، فوجهه من أجاز ذلك على قراءة من قرأ : فبم تبشرون ، بكسر النون ، وأنشدوا : تراه كالثغام يعل مسكا

يسوء الفاليات إذا فليني

يريد : فلينني . والخطاب بقوله : قل للرسول ، أو للسامع ، والهمزة للاستفهام مصحوباً بالإنكار عليهم ، والواو ضمير اليهود والنصارى .

وقيل : مشركو العرب ، إذ قالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم .

وقيل : ضمير اليهود والنصارى والمشركين . والمحاجة هنا : المجادلة . والمعنى : أتجادلوننا في شأن اللّه واصطفائه النبي من العرب دونكم ، وتقولون لو أنزل اللّه على أحد لأنزل علينا ، وترونكم أحق بالنبوّ منا ؟{ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } : جملة حالية ، يعني أنه مالكهم كلهم ، فهم مشتركون في العبودية ، فله أن يخص من شاء بما شاء من الكرامة . والمعنى : أنه مع اعترافنا كلنا أنا مربوبون لرب واحد ، فلا يناسب الجدال فيما شاء من أفعاله ، وما خص به بعض مربوباته من الشرف والزلفى ، لأنه متصرف في كلهم تصرف المالك .

وقيل المعنى : أتجادلوننا في دين اللّه ، وتقولون إن دينكم أفضل الأديان ، وكتابكم أفضل الكتب ؟ والظاهر إنكار المجادلة في اللّه ، حيث زعمت النصارى أن اللّه هو المسيح ، وحيث زعم بعضهم أن اللّه ثالث ثلاثة ، وحيث زعمت اليهود أن اللّه له ولد ، وزعموا أنه شيخ أبيض الرأس واللحية ، إلى ما يدعونه فيه من سمات الحدوث والنقص ، تعالى اللّه عن ذلك ، فأنكر عليهم كيف يدعون ذلك ، والرب واحد لهم ، فوجب أن يكون الإعتقاد فيه واحداً ، وهو أن تثبت صفاته العلا ، وينزه عن الحدوث والنقص .

{وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } ، المعنى : ولنا جزاء أعمالنا ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . والمعنى : أن الرب واحد ، وهو المجازي على الأعمال ، فلا تنبغي المجادلة فيه ولا المنازعة .{ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } : ولما بين القدر المشترك من الربوبية والجزاء ، ذكر ما يميز به المؤمنون من الإخلاص للّه تعالى في العمل والاعتقاد ، وعدم الإشراك الذي هو موجود في النصارى وفي اليهود ، لأن من عبد موصوفاً بصفات الحدوث والنقص ، فقد أشرك مع اللّه إلهاً آخر . والمعنى : أنا لم نشب عقائدنا

وأفعالنا بشيء من الشرك ، كما ادعت اليهود في العجل ، والنصارى في عيسى . وهذه الجملة من باب التعريض بالذم ، لأن ذكر المختص بعد ذكر المشترك نفي لذلك المختص عمن شارك في المشترك ، ويناسب أن يكون استطراداً ، وهو أن يذكر معنى يقتضي أن يكون مدحاً لفاعله وذماً لتاركه ، نحو قوله : وأنا لقوم ما نرى القتل سبة

إذا ما رأته عامر وسلول

وهي منبهة على أن من أخلص للّه ، كان حقيقاً أن يكون منهم الأنبياء وأهل الكرامة ، وقد كثرت أقوال أرباب المعاني في الإخلاص . فروي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :  { سألت جبريل عن الإخلاص ما هو ؟ فقال : سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو ؟ فقال : سر من أسراري استودعته قلب من أحببته من عبادي} . وقال سعيد بن جبير : الإخلاص : أن لا يشرك في دينه ، ولا يرائي في عمله أحداً . وقال الفضيل : ترك العمل من أجل الناس رياء ، والعمل من أجل الناس شرك ، والإخلاص أن يعافيك اللّه منهما . وقال ابن معاذ : تمييز العمل من الذنوب ، كتمييز اللبن من بين الفرث والدم . وقال البوشنجي : هو معنى لا يكتبه الملكان ، ولا يفسده الشيطان ، ولا يطلع عليه الإنسان ، أي لا يطلع عليه إلا اللّه . وقال رويم : هو ارتفاع عملك عن الرؤية . وقال حذيفة المرعشي : أن تستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن . وقال أبو يعقوب المكفوف : أن يكتم العبد حسناته ، كما يكتم سيئاته . وقال سهل : هو الإفلاس ، ومعناه أن يرجع إلى احتقار العمل . وقال أبو سليمان الداراني : للمرائي ثلاث علامات : يكسل إذا كان وحده ، وينشط إذا كان في الناس ، ويزيد في العمل إذا أثني عليه . وهذا القول الذي أمر به صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله على وجه الشفقة والنصيحة في الدين ، لينبهوا على أن تلك المجادلة منكم ليست واقعة موقع الصحة ، ولا هي مما ينبغي أن تكون . وليس مقصودنا بهذا التنبيه دفع ضرر منكم ، وإنما مقصودنا نصحكم وإرشادكم إلى تخليص اعتقادكم من الشرك ، وأن تخلصوا كما أخلصنا ، فنكون سواء في ذلك .

﴿ ١٣٩