١٤١تلك أمة قد . . . . . تقدّم الكلام على شرح هذه الجمل ، وتضمنت معنى التخويف والتهديد ، وليس ذلك بتكرار ، لأن ذلك ورد إثر شيء مخالف لما وردت الجمل الأولى بإثره . وإذا كان كذلك ، فقد اختلف السياق ، فلا تكرار . بيان ذلك أن الأولى وردت إثر ذكر الأنبياء ، فتلك إشارة إليهم ، وهذه وردت عقب أسلاف اليهود والنصارى ، فالمشار إليه هم . فقد اختلف المخبر عنه والسياق ، والمعنى : أنه إذا كان الأنبياء على فضلهم وتقدّمهم ، يجازون بما كسبوا ، فأنتم أحق بذلك . وقيل : الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن ذكر معه ، واستبعد أن يراد بذلك أسلاف اليهود والنصارى ، لأنه لم يجر لهم ذكر مصرّح بهم ، وإذا كانت الإشارة بتلك إلى إبراهيم ومن معه ، فالتكرار حسن لاختلاف الأقوال والسياق . وقد تضمنت هذه الآيات الشريفة من كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الدعاء إلى اللّه تعالى ، حتى جعلوا ذلك وصية يوصون بها واحداً بعد واحد . فأخبر تعالى عن إبراهيم أنه أوصى بملته الحنيفية بنيه ، وأن يعقوب أوصى بذلك ، وقدّم بين يدي وصيته اختيار اللّه لهم هذا الدين ، ليسهل عليهم اتباع ما اختاره اللّه لهم ، ويحضهم على ذلك ، وأمرهم أنهم لا يموتون إلا عليه ، لأن الأعمال بخواتيمها . ثم ذكر سؤال يعقوب لبنيه عما يعبدون بعد موته ، فأجابوه بما قرّت به عينه من موافقته وموافقة آبائه الأنبياء من عبادة اللّه تعالى حده ، والانقياد لأحكامه . وحكمة هذا السؤال أنه لما وصاهم بالحنيفية ، استفسرهم عما تكن صدورهم ، وهل يقبلون الوصية ؟ فأجابوه بقبولها وبموافقة ما أحبه منهم ، ليسكن بذلك جأشه ، ويعلم أنه قد خلف من يقوم مقامه في الدعاء إلى اللّه تعالى . وصدر سؤال يعقوب بتقريع اليهود والنصارى بأنهم ما كانوا شهدوا وصية يعقوب ، إذ فاجأه مقدّمات الموت ، فدعواهم اليهودية والنصرانية على إبراهيم ويعقوب وبنيهم باطلة ، إذ لم يحضروا وقت الوصية ، ولم تنبئهم بذلك توراتهم ولا إنجيلهم ، فبطل قولهم ، إذ لم يتحصل لا عن عيان ولا عن نقل ، ولا ذلك من الأشياء التي يستدل عليها بالعقل . ثم أخبر تعالى أن تلك الأمة قد مضت لسبيلها ، وأنها رهينة بما كسبت ، كما أنكم مرهونون بأعمالكم ، وأنكم لا تسألون عنهم . ثم ذكر تعالى ما هم عليه من دعوى الباطل . والدعاء إليه ، وزعمهم أن الهداية في اتباع اليهودية والنصرانية . ثم أضرب عن كلامهم ، وأخذ في اتباع ملة إبراهيم الحنيفية المباينة لليهودية والنصرانية والوثنية . ثم أمرهم بأن يفصحوا بأنهم آمنوا بما أنزل إليهم وإلى إبراهيم ومن ذكر معه ، فإن الإيمان بذلك هو الدين الحنيف ، وأنهم منقادون للّه اعتقاداً وأفعالاً . ثم أخبر أن اليهود والنصارى ، إن وافقواكم على ذلك الإيمان ، فقد حصلت الهداية لهم ، ورتب الهداية على ذلك الإيمان ، فنبه بذلك على فساد ترتيب الهداية على اليهودية والنصرانية في قوله : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ} ثم أخبر تعالى أنهم إن تولوا فهم الأعداء المشاقون لك ، وأنك لا تبالي بشقاقهم ، لأن اللّه تعالى هو كافيك أمرهم ، ومن كان اللّه كافيه فهو الغالب ، ففي ذلك إشارة إلى ظهوره عليهم . ثم ذكر أن صبغة الملة الحنيفية هي صبغة اللّه ، وإذا كانت صبغة اللّه ، فلا صبغة أحسن منها ، وأن تأثير هذه الصبغة هو ظهورها عليهم بعبادة اللّه ، تعالى ، فقال :{ وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} ثم استفهمهم أيضاً على طريق التوبيخ والتقريع عن مجادلتهم في اللّه ولا يحسن النزاع فيه ، لأن اللّه هو ربنا كلنا ، فالذي يقتضيه العقل أنه لا يجادل فيه . ثم ذكر أنه رب الجميع ، وأشار إلى أنه يجازى الجميع بقوله : { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} ثم ذكر ما انفردوا به من الإخلاص له ، لأن اليهود والنصارى غير مخلصين له في العبادة . ثم استفهمهم أيضاً على جهة التوبيخ والتقريع ، عن مقالتهم في إبراهيم ومن ذكر معه ، من أنهم كانوا يهوداً ونصارى ، وأن دأبهم المجادلة بغير حق ، فتارة في اللّه وتارة في أنبياء اللّه . ثم بين أنهم لا علم عندهم بل اللّه هو أعلم به . ثم بين أن تلك المقالة لم تكن عن دليل ولا شبهة ، بل مجرد عناد ، وأنهم كاتمون للحق ، دافعون له ، فقال ما معناه : لا أحد أظلم من كاتم شهادة استودعه اللّه إياها ، والمعنى : لا أحد أظلم منكم في المجادلة في اللّه ، وفي نسبة اليهودية والنصرانية لإبراهيم ومن ذكر معه ، إذ عندهم الشهادة من اللّه بأحوالهم . ثم هدّدهم بأن اللّه تعالى لا يغفل عما يعملون . ثم ختم ذلك بأن تلك أمّة قد خلت منفردة بعملها ، كما أنتم كذلك ، وأنكم غير مسؤولين عما عملوه ، وجاءت هذه الجمل من ابتداء ذكر إبراهيم إلى انتهاء الكلام فيه ، على ختلاف معانيه وتعدّد مبانيه ، كأنها جملة واحدة ، في حسن مساقها ونظم اتساقها ، مرتقية في الفصاحة إلى ذروة الإحسان ، مفصحة أن بلاغتها خارجة عن طبع الإنسان ، مذكرة قوله تعالى :{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءانِ} جعلنا اللّه ممن هدى إلى عمل به وفهم ، ووفى من تدبره أوفر سهم ، ووقى في تفكره من خطأ ووهم . |
﴿ ١٤١ ﴾