١٤٣

وكذلك جعلناكم أمة . . . . .

{وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } : الكاف : للتشبيه ، وذلك : اسم إشارة

والكاف في موضع نصب ، إما لكونه نعتاً لمصدر محذوف ،

وإما لكونه حالاً . والمعنى : وجعلناكم أمة وسطاً جعلاً مثل ذلك ، والإشارة بذلك ليس إلى ملفوظ به متقدم ، إذ لم يتقدم في الجملة السابقة اسم يشار إليه بذلك ، لكن تقدم لفظ يهدي ، وهو دال على المصدر ، وهو الهدى ، وتبين أن معنى { يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } : يجعله على صراط مستقيم ، كما

قال تعالى :{ مَن يَشَإِ اللّه يُضْللّه وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ} قابل تعالى الضلال بالجعل على الصراط المستقيم ، إذ ذلك الجعل هو الهداية ، فكذلك معنى الهدي هنا هو ذلك الجعل . وتبين أيضاً من قوله :{ قُل للّه الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } إلى آخره ، أن اللّه جعل قبلتهم خيراً من قبلة اليهود والنصارى ، أو وسطاً . فعلى هذه التقادير اختلفت الأقاويل في المشار إليه بذلك . فقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ، أي أنعمنا عليكم بجعلكم أمة وسطاً ، مثل ما سبق إنعامنا عليكم بالهداية إلى الصراط المستقيم ، فتكون الإشارة بذلك إلى المصدر الدال عليه يهدي ، أي جعلناكم أمة خياراً مثل ما هديناكما باتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وما جاء به من الحق .

وقيل : المعنى أنه شبه جعلهم أمة وسطاً بجعلهم على الصراط المستقيم ، أي جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجعل الغريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية ، لأنه قال :{ يَهْدِى مَن يَشَآء } ، فلا تقع الهداية إلا لمن شاء اللّه تعالى .

وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم خير القبل ، جعلناكم خير الأمم .

وقيل : المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب ، جعلناكم أمة وسطاً .

وقيل : المعنى كما جعلنا الكعبة وسط الأرض ، كذلك جعلناكم أمة وسطاً ، دون الأنبياء ، وفوق الأمم ، وأبعد من ذهب إلى أن ذلك إشارة إلى قوله تعالى :{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا } أي مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً . ومعنى وسطاً : عدولاً ، روي ذلك عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقد تظاهرت به عبارة المفسرين وإذا صح ذلك عن رسل اللّه صلى اللّه عليه وسلم وجب المصير في تفسير الوسط إليه .

وقيل : خيار ، أوقيل : متوسطين في الدين بين المفرط والمقصر ، لم يتخذوا واحداً من الأنبياء إلهاً ، كما فعلت النصارى ، ولا قتلوه ، كما فعلت اليهود . واحتج جمهور المعتزلة بهذه الآية على أن إجماع الأمة حجة فقالوا : أخبر اللّه عن عدالة هذه الأمة عن خيرتهم ، فلو أقدموا على شيء ، وجب أن يكون قولهم حجة .

{لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } : تقدم شرح الشهادة في قوله :{ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم } ، وفي شهادتهم هنا أقوال :

أحدها : ما عليه الأكثر من أنها في الآخرة ، وهي شهادة هذه الأمة للأنبياء على أممهم الذين كذبوهم ، وقد روي ذلك نصاً في الحديث في البخاري وغيره . وقال في المنتخب : وقد طعن القاضي في الحديث من وجوه ، وذكروا وجوهاً ضعيفة ، وأظنه عني بالقاضي هنا القاضي عبد الجبار المعتزلي ، لأن الطعن في الحديث الثابت الصحيح لا يناسب مذاهب أهل السنة .

وقيل : الشهادة تكون في الدنيا . واختلف قائلوا ذلك ، فقيل : المعنى يشهد بعضكم على بعض إذا مات ، كما جاء في الحديث من أنه مر بجنازة فأثنى عليها خيراً ، وبأخرى فأثنى عليها شرًّا ، فقال الرسول : { وجبت } ، يعني الجنة والنار ،  { أنتم شهداء اللّه في الأرض } ثبت ذلك في مسلم .

وقيل : الشهادة الاحتجاج ، أي لتكونوا محتجين على الناس ، حكاه الزّجاج .

وقيل : معناه لتنقلوا إليهم ما علمتموه من الوحي والدين كما نقله رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وتكون على بمعنى اللام ، كقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } ،أي للنصب .

وقيل : معناه ليكون إجماعكم حجة ، ويكون الرسول عليكم شهيداً ، أي محتجاً بالتبليغ .

وقيل : لتكونوا شهداء لمحمد صلى اللّه عليه وسلم على الأمم ، اليهود والنصارى والمجوس ، قاله مجاهد .

وقيل : شهداء على الناس في الدنيا ، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار . وأسباب هذه الشهادة ، أي شهادة هذه العدول أربعة : بمعاينة ، كالشهادة على الزنا ، وبخبر الصادق ، كالشهادة على الشهادة ؛ وبالاستفاضة ، كالشهادة على الأنساب ؛ وبالدلالة ، كالشهادة على الأملاك ، وكتعديل الشاهد وجرحه

وقال ابن دريد : الإشهاد أربعة : الملائكة بإثبات أعمال العباد ، والأنبياء ، وأمة محمد ، والجوارح . انتهى . ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة ، سمي إدراك البصيرة : مشاهدة وشهوداً ، وسمي العارف : شاهداً ومشاهداً ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شهادة عليه ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً . وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات . قالوا : وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واستدل بقوله : { أُمَّةً وَسَطًا } ،أي عدولاً خياراً . وقال بقية العلماء : العدالة وصف عارض لا يثبت إلاببينة ، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور ، لتغير أحوال الناس ، ولما غلب عليهم في هذا القوت ، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص .

{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } : لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وفي شهادته أقوال :

أحدها : شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه .

الثاني : شهادته عليهم بإيمانهم .

الثالث : يكون حجة عليهم .

الرابع : تزكيته لهم وتعديله إياهم ، قاله عطاء ، قال : هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين ، والرسول شهيد معد مرك لهم . وروي في ذلك حديث . وقد تقدم أيضاً ما روى البخاري في ذلك . واللام في قوله : لتكونوا هي ، لام كي ، أو لام الصيروة عند من يرى ذلك ، فمجيء ما بعدها سبباً لجعلهم خياراً ، أو عدولاً ظاهراً .

وأما كون شهادة الرسول عليهم سبباً لجعلهم خياراً ، فظاهر أيضاً ، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية ، أو بأي معنى فسرت شهادته ، ففي ذلك الشرف التامّ لهم ، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليه . ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له ، جيء بكلمة على ، وتأخر حرف الجر في قوله : على الناس ، عما يتعلق به . جاء ذلك على الأصل ، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول .

وأمافي قوله :{ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة ، ولأن شهيداً أشبه بالفواصل والمقاطع من قوله : عليكم ، فكان قوله : شهيداً ، تمام الجملة ، ومقطعها دون عليكم . وما ذهب إليه الزمخشري من أن تقديم على أوّلاً ، لأن الغرض فيه إثبات شهادتهم على الأمم ؛ وتأخير على : لاختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم ، فهو مبني على مذهبه : أن تقديم المفعول والمجرور يدل على الاختصاص . وقد ذكرنا بطلان ذلك فيما تقدم ، وأن ذلك دعوى لا يقوم عليها برهان . وتقدّم ذكر تعليل جعلهم وسطاً بكونهم شهداء ، وتأخر التعليل بشهادة الرسول ، لأنه كذلك يقع . ألا ترى أنهم يشهدون على الأمم ، ثم يشهد الرسول عليهم ، على ما نص في الحديث من أنهم إذا ناكرت الأمم رسلهم وشهدت أمّة محمد عليهم بالتبليغ ، يؤتى بمحمد صلى اللّه عليه وسلم فيسأل عن حال أمّته ، فيزكيهم ويشهد بصدقهم ؟ وإن فسرت الشهادتان بغير ذلك مما يمكن أن تكون شهادة الرسول متقدّمة في الزمان ، فيكون التأخير لذكر شهادة الرسول من باب الترقي ، لأن شهادة الرسول عليهم أشرف من شهادتهم على الناس . وأتى بلفظ الرسول ، لما في الدلالة بلفظ الرسول على اتصافه بالرسالة من عند اللّه إلى أمّته . وأتى بجمع فعلاء ، الذي هو جمع فعيل وبشهيد ، لأن ذلك هو للمبالغة دون قوله : شاهدين ، أو إشهاداً ، أو شاهداً . وقد استدل بقوله :{ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } على أن التزكية تقتضي قبول الشهادة ، فإن أكثر المفسرين قالوا : معنى شهيداً : مزكياً لكم ، قالوا : وعليكم تكون بمعنى : لكم .

{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } : جعل هنا : بمعنى صير ، فيتعدى لمفعولين : أحدهما القبلة ، والآخر { الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا} والمعنى : وما صيرنا قبلتك الآن الجهة التي كنت أوّلاً عليها إلا لنعلم ، أي ما صيرنا متوجهك الآن في الصلاة المتوجه أوّلاً ، لأنه كان يصلي أولاً إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، ثم

صار يصلي إلى الكعبة . وتكون القبلة : هو المفعول الثاني ، والتي كنت عليها : هو المفعول الأول ، إذ التصيير هو الانتقال من حال إلى حال . فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول ، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني . ألا ترى أنك تقول : جعلت الطين خزفاً ، وجعلت الجاهل عالماً ؟ والمعنى هنا على هذا التقدير : وما جعلنا الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً ، ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس ، قبلتك الآن إلا لنعلم . ووهم الزمخشري في ذلك ، فزعم أن التي كنت عليها : هو المفعول الثاني لجعل ، قال : التي كنت عليها ليس بصفة للقبلة ، إنما هي ثاني مفعولي جعل . تريد : وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها ، وهي الكعبة ، لأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة ، تألفاً لليهود ، ثم حوّل إلى الكعبة ، فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولاً بمكة ، يعني : وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاءً ، انتهى ما ذكره .

وقد أوضحنا أن التي كنت عليها : هو المفعول الأول .

وقيل : هذا بيان لحكمة جعل بيت المقدس قبلة . والمعنى : وما جعلنا متوجهك بيت المقدس إلا لنعلم ، فيكون ذلك على معنى : أن استقبالك بيت المقدس هو أمر عارض ، ليتميز به الثابت على دينه من المرتدّ . وكل واحد من الكعبة وبيت المقدس صالح بأن يوصف بقوله : التي كنت عليها ، لأنه قد كان متوجهاً إليهما في وقتين .

وقيل : التي كنت عليها صفة للقبلة ، وعلى هذا التقدير اختلفوا في المفعول الثاني ، فقيل : تقديره : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة إلا لنعلم .

وقيل : التقدير : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها منسوخة إلا لنعم .

وقيل : ذلك على حذف مضاف ، أي وما جعلنا صرف القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم ، ويكون المفعول الثاني على هذا قوله : لنعلم ، كما تقول : ضرب زيد للتأديب ، أي كائن وموجود للتأديب ، أي بسبب التأديب . وعلى كون التي صفة ، يحتمل أن يراد بالقبلة : الكعبة ، ويحتمل أن يراد بيت المقدس ، إذ كل منهما متصف بأنه كان عليه .

وقال ابن عباس : القبلة في الآية : الكعبة ، وكنت بمعنى : أنت ، كقوله تعالى : { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } بمعنى : أنتم . انتهى . وهذا من ابن عباس ، إن صح تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، لأنه يؤول إلى زيادة كان الرافعة للاسم والناصبة للخبر ، وهذا لم يذهب إليه أحد . وإنما تفسير الإعراب على هذا التقدير ، ما نقله النحويون ، أن كان تكون بمعنى صار ، ومن صار إلى شيء واتصف به ، صح من حيث المعنى نسبة ذلك الشيء إليه . فإذا

قلت : صرت عالماً ، صح أن تقول : أنت عالم ، لأنك تخبر عنه بشيء هو فيه . فتفسير ابن عباس : كنت بأنت ، هو من هذا القبيل ، فهو تفسير معنى ، لا تفسير إعراب . وكذلك من صار خير أمّة ، صح أن يقال فيه : أنتم خير أمّة .

إلا لنعلم : استثناء مفرّغ من المفعول له ، وفيه حصر السبب ، أي ما سبب تحويل القبلة إلا كذا . وظاهر قوله : لنعلم ، ابتداء العلم ، وليس المعنى على الظاهر ، إذ يستحيل حدوث علم اللّه تعالى . فأول على حذف مضاف ، أي ليعلم رسولنا والمؤمنون ، وأسند علمهم إلى ذاته ، لأنهم خواصه وأهل الزلفى لديه . فيكون هذا من مجاز الحذف ، أو على الحذف ، أو على إطلاق العلم على معنى التمييز ، لأن بالعلم يقع التمييز ، أي لنميز التابع من الناكص ، كما

قال تعالى :{ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ } ، ويكون هذا من مجاز إطلاق السبب ، ويراد به المسبب . وحكي هذا التأويل عن ابن عباس ، أو على أنه أراد ذكر علمه وقت موافقتهم الطاعة أو المعصية ، إذ بذلك الوقت يتعلق الثواب والعقاب . فليس المعنى لنحدث العلم ، وإنما المعنى لنعلم ذلك موجوداً ، إذ اللّه قد علم في القدم من يتبع الرسول . واستمر العلم حتى وقع حدوثهم ، واستمرّ في حين الاتباع والانقلاب ، واستمر بعد ذلك . واللّه تعالى متصف في كل ذلك بأنه يعلم ، ويكون هذا قد كنى فيه بالعلم عن تعلق العلم ، أي ليتعلق علمنا بذلك في حال وجوده . أو على أنه أراد بالعلم التثبيت ، أي لنثبت التابع ، ويكون من إطلاق السبب ، ويراد به المسبب ، لأن من علم اللّه أنه متبع للرسول ، فهو ثابت الاتباع . أو على أنه أريد

بالعلم الجزاء ، أي لنجازي الطائع والعاصي ، وكثيراً ما يقع التهديد في القرآن ، وفي كلام العرب ، بذكرالعلم ، كقولك : زيد عصاك ، والمعنى : أنا أجازيه على ذلك ، أو على أنه أريد بالمستقبل هنا الماضي ، التقدير : لما علمنا ، أو لعلمنا من يتبع الرسول ممن يخالف . فهذه كلها تأويلات في قوله : لنعلم ، فراراً من حدوث العلم وتجدّده ، إذ ذلك على اللّه مستحيل . وكل ما وقع في القرآن ، مما يدل على ذلك ، أوّل بما يناسبه من هذه التأويلات . ونعلم هنا متعدّ إلى واحد ، وهو الموصول ، فهو في موضع نصب ، والفعل بعده صلته . وقال بعض الناس : نعلم هنا متعلقة ، كما تقول : علمت أزيد في الدر أم عمرو ، حكاه الزمخشري . وعلى هذا القول تكون من استفهامية في موضع رفع على الابتداء ، ويتبع في موضع الجر ، والجملة في موضع المفعول ب نعلم . وقد ردّ هذا الوجه من الإعراب بأنه إذا علق نعلم ، لم يبق لقوله : { مِمَّن يَنقَلِبُ } ، ما يتعلق به ، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلق بما قبله ، ولا يصح تعلقها بقوله :{ يَتَّبِعُ } ، الذي هو خبر عن من الاستفهامية ، لأن المعنى ليس على ذلك ، وإنما المعنى على أن يتعلق ب نعلم ، كقولك : علمت من أحسن إليك ممن أساء . وهذا يقوى أنه أريد بالعلم الفصل والتمييز ، إذ العلم لا يتعدى بمن إلا إذا أريد به التييز ، لأن التمييز هو الذي يتعدى بمن .

وقرأ الزهري : ليعلم ، على بناء الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهذا لا يحتاج إلى تأويل ، إذ الفاعل قد يكون غير اللّه تعالى ، فحذف وبنى الفعل للمفعول ، وعلم غير اللّه تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون . وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله :{ كُنتَ عَلَيْهَا } ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة . وجاء الخطاب مكتنفاً ذكر الرسول مرّتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة . ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض . ولما كان التوجه إلى الكعبة توجهاً إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل :{ الَّتِى كُنتَ عَلَيْهَا } ، فهذه ، واللّه أعلم ، حكمة الالتفات هنا . وقوله :{ يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ } كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل . والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به . والمعنى : أنه كان متلبساً بالإيمان ، فلما حوّلت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه . وقوله :{ عَلَى عَقِبَيْهِ } في موضع الحال ، أي ناكصاً على عقبيه ، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه ، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الجالة الأولى التي كان عليها ، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه ، ومشى أدراجه التي تقدّمت له ، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلاً . قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها . فقيل : بالأول ، لأنه كان يصلي إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة ، فشق ذلك على اليهود من حيث إنه ترك قبلتهم . وقال الأكثرون بالقول الثاني ، قالوا : لو كان محمد على يقين من أمره ، لما تغير رأيه . وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا ، وهذا أشبه ، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة ، وقد وصفها اللّه بالكبر في قوله :{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً}

وقرأ ابن أبي إسحاق : على عقبيه ، بسكون القاف وتسكين عين فعل ، اسماً كان أو فعلاً ، لغة تميمية ، وقد تقدّم ذكر ذلك .

{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه} : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله :{ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ } ،أي وإن كانت الجعلة لكبيرة ، أو يعود على القبلة التي كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يتوجه إليها ، وهي بيت المقدس ، قبل التحويل ، قاله أبو العالية والأخفش .

وقيل : يعود على الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس . ومعنى كبيرة : أي شاقة صعبة ، ووجه صعوبتها أن ذلك مخالف

للعادة ، لأن من ألف شيئاً ، ثم انتقل عنه ، صعب عليه الانتقال ، أو أن ذلك محتاج إلى معرفة النسخ وجوازه ووقوعه . وإن هنا هي المخففة من الثقيلة ، دخلت على الجملة الناسخة . واللام هي لام الفرق بين إن النافية والمخففة من الثقيلة ، وهل هي لام الابتداء ألزمت للفرق ، أم هي لام اجتلبت للفرق ؟ في ذلك خلاف ، هذا مذهب البصريين والكسائي والفراء وقطرب في إن التي يقول البصريون إنها مخففة من الثقيلة ، خلاف مذكور في النحو . وقراءة الجمهور : لكبيرة بالنصب ، على أن تكون خبر كانت .

وقرأ اليزيدي : لكبيرة بالرفع ، وخرج ذلك الزمخشري على زيادة كانت ، التقدير : وإن هي لكبيرة ، وهذا ضعيف ، لأن كان الزائدة لا عمل لها ، وهنا قد اتصل بها الضمير فعملت فيه ، ولذلك استكن فيها . وقد خالف أبو سعيد ، فزعم أنها إذا زيدت عملت في الضمير العائد على المصدر المفهوم منها ، أي كان هو ، أي الكون . وقد ردّ ذلك في علم النحو . وكذلك أيضاً نوزع من زعم أن كان زئادة في قوله :

وجيران لنا كانوا كرام

لاتصال الضمير به وعمل الفعل فيه ، والذي ينبغي أن تحمل القراءة عليه أن تكون لكبيرة خبر مبتدأ محذوف ، والتقدير : لهي كبيرة . ويكون لام الفرق دخلت على جملة في التقدير ، تلك الجملة خبر لكانت ، وهذا التوجيه ضعيف أيضاً ، وهو توجيه شذوذ . { إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّه } ، هذا استثناء من المستثنى منه المحذوف ، إذ التقدير : وإن كانت لكبيرة على الناس إلا على الذين هدى اللّه ، ولا يقال في هذا إنه استثناء مفرغ ، لأنه لم يسبقه نفي أو شبهة ، إنما سبقه إيجاب . ومعنى هدى اللّه : أي هداهم لاتباع الرسول ، أو عصمهم واهتدوا بهدايته ، أو خلق لهم الهدى الذي هو الإيمان في قلوبهم ، أو وفقهم إلى الحق وثبتهم على الإيمان . وهذه أقوال متقاربة ، وفيه إسناد الهداية إلى اللّه ، أي أن عدم صعوبة ذلك إنما هو بتوفيق من اللّه ، لا من ذوات أنفسهم ، فهو الذي وفقهم لهدايته .

{وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } : قيل : سبب نزول هذا أن جماعة ماتوا قبل تحويل القبلة ، فسئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عنهم ، فنزلت .

وقيل : السائل أسعد بن زرارة ، والبراء بن معرور مع جماعة ، وهذا مشكل ، لأنه قد روي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة . وقد فسر الإيمان بالصلاة إلى بيت المقدس ، وكذلك ذكره البخاري والترمذي ، وقال ذلك ابن عباس والبراء بن عازب وقتادة والسدي

والربيع وغيرهم ، وكنى عن الصلاة بالإيمان لما كانت صادرة عنه ، وهي من شعبه العظيمة . ويحتمل أن يقرّ الإيمان على مدلوله ، إذ هو يشمل التصديق في وقت الصلاة إلى بيت المقدس ، وفي وقت التحويل . وذكر الإيمان ، وإن كان السؤال عن صلاة من صلى إلى بيت المقدس ، لأنه هو العمدة ، والذي تصح به الأعمال . وقد كان لهم ثابتاً في حال توجههم إلى بيت المقدس وغيره ، فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمانكم ، فاندرج تحته متعلقاته التي لاتصح إلا به . وكان ذكر الإيمان أولى من ذكر الصلاة ، لئلا يتوهم اندراج صلاة المنافقين إلى بيت المقدس ، وأتى بلفظ الخطاب ، وإن كان السؤال عمن مات على سبيل التغليب ، لأن المصلين إلى بيت المقدس لم يكونوا كلهم ماتوا .

وقرأ الضحاك : ليضيع ، بفتح الضاد وتشديد الياء ، وأضاع وضيع الهمزة ، والتضعيف ، كلاهما للنقل ، إذ أصل الكلمة ضاع . وقال في المنتخب : لولا ذكر سبب نزول هذه الآية : لما اتصل الكلام بعضه ببعض . ووجه تقرير الإشكال ، أن الذين لا يجوّزون النسخ إلا مع البداء يقولون : إنه لما تغير الحكم ، وجب أن يكون الحكم مفسدة ، أو باطلاً ، فوقع في قلوبهم ، بناء على هذا السؤال ، أن تلك الصلوات التي أتوا بها متوجهين إلى بيت المقدس كانت ضائعة . فأجاب اللّه تعالى عن هذا الإشكال ، وبين أن النسخ نقل من مصلحة إلى مصلحة ، ومن تكليف إلى تكليف ، والأول كالثاني في أن المتمسك به قائم . انتهى .

وإذا كان الشك إنما تولد ممن يجوّز البداء على اللّه ، فكيف يليق ذلك بالصحابة ؟ والجواب : أنه لا يقع إلا من منافق ، فأخبر عن جواب سؤال المنافق ، أو جواب على تقدير خطور ذلك ببال صحابي لو خطر ، أو على تقدير اعتقاده أن التوجه إلى الكعبة أفضل . وما ذكره في المنتخب من أنه لولا ذكر سبب نزول هذه الآية ، لما اتصل الكلام بعضه ببعض ، ليس بصحيح ، بل هو كلام متصل ، سواء أصح ذكر السبب أم لم يصح ، وذلك أنه لما ذكر قوله تعالى : { لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } ، كان ذلك تقسيماً للناس حالة الجعل إلى قسمين : متبع للرسول ، وناكص . فأخبر تعالى أنه لا يضيع إيمان المتبع ، بل عمله وتصديقه ، قبل أن تحول القبلة ، وبعد أن تحوّل لا يضيعه اللّه ، إذ هو المكلف بما شاء من التكاليف ، فمن امتثلها ، فهو لا يضيع أجره . ولما كان قد يهجس في النفس الاستطلاع إلى حال إيمان من اتبع الرسول في الحالتين ، أخبر تعال أنه لا يضيعه ، وأتى بكان المنفية بما الجائي بعدها لام الجحود ، لأن ذلك أبلغ من أن لا يأتي بلام الجحود . فقولك : ما كان زيد ليقوم ، أبلغ مما : كان زيد يقوم ، لأن في المثال

الأول : هو نفي للتهيئة والإرادة للقيام ، وفي

الثاني : هو نفي للقيام . ونفي التهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل ، لأن نفي الفعل لا يستلزم نفي إرادته ، ونفي التهيئة والصلاح والإرادة للفعل تستلزم نفي الفعل ، فلذلك كان النفي مع لام الجحود أبلغ . وهكذا القول فيما ورد من هذا النحو في القرآن . وكلام العرب . وهذه الأبلغية إنما هي على تقدير مذهب البصريين ، فإنهم زعموا أن خبر كان التي بعدها لام الجحود محذوف ، وأن اللام بعدها أن مضمرة ينسبك منها مع الفعل بعدها مصدر ، وذلك الحرف متعلق بذلك الحرف المحذوف ، وقد صرّح بذلك الخبر في قول بعضهم :

سموت ولم تكن أهلاً لتسمو

ومذهب الكوفيين : أن اللام هي الناصبة ، وليست أن مضمرة بعده ، وأن اللام بعدها للتأكيد ، وأن نفس الفعل المنصوب بهذه اللام هو خبر كان ، فلا فرق بين : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إلا مجرد التأكيد الذي في اللام . والكلام على هذين المذهبين مذكور في علم النحو .

{إِنَّ اللّه بِالنَّاسِ لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ } : ختم هذه الآية بهذه الجملة

ظاهر ، وهي جارية مجرى التعليل لما قبلها ، أي للطف رأفته وسعة رحمته ، نقلكم من شرع إلى شرع أصلح لكم وأنفع في الدين ، أو لم يجعل لها مشقة على الذين هداهم ، أو لا يضيع إيمان من آمن ، وهذا الأخير أظهر . والألف واللام في بالناس يحتمل الجنس ، كما قال : { اللّه لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } ،{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } ،{ وَسِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } ، ويحتمل العهد ، فيكون المراد بالناس المؤمنين .

وقرأ الحرميان وابن عامر وحفص : لرؤوف ، مهموزاً على وزن فعول حيث وقع ، قال الشاعر : نطيع رسولنا ونطيع ربا

هو الرحمن كان بنا رؤفاً

وقرأ باقي السبعة : لرؤف ، مهموزاً على وزن ندس ، قال الشاعر : يرى للمسلمين عليه حقا

كحق الوالد الرؤف الرحيم

وقال الوليد بن عقبة : وشر الظالمين فلا تكنه

يقابل عمه الرؤوفُ الرحيمُ

وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : لروف ، بغير همزٍ ، وكذلك سهل كل همزة في كتاب اللّه ، ساكنة كانت أو متحركة . ولما كان نفي الجملة السابقة مبالغاً فيها من حيث لام الجحود ، ناسب إثبات الجملة الخاتمة مبالغاً فيها ، فبولغ فيها بأن وباللام وبالوزن على فعول وفعيل ، كل ذلك إشارة إلى سعة الرحمة وكثرة الرأفة . وتأخر الوصف بالرحمة لكونه فاصلة ، وتقدّم المجرور اعتناء بالمرؤوف بهم . وقال القشيري : من نظر الأمر بعين التفرقة ، كبر عليه أمر التحويل ؛ ومن نظر بعين الحقيقة ، ظهر لبصيرته وجه الصواب .{ وَمَا كَانَ اللّه لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } : أي من كان مع اللّه في جميع الأحوال على قلب واحد ، فالمختلفات من الأحوال له واحدة ، فسواء غير ، أو قرّر ، أو أثبت ، أو بدل ، أو حقق ، أو حوّل ، فهم به له في جميع الأحوال . قال قائلهم : حيثما دارت الزجاجة درنا

يحسب الجاهلون أنا جننا

﴿ ١٤٣