١٤٦

الذين آتيناهم الكتاب . . . . .

{الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } : هم علماء اليهود والنصارى ، أو من آمن برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اليهود ، كابن سلام وغيره ، أو من آمن به مطلقاً ، أقوال . والكتاب : التوراة ، أو الإنجيل ، أو مجموعهما ، أو القرآن . أقوال تنبني على من المراد بالذين آتيناهم ، ولفظ آتيناهم أبلغ من أوتوا ، لإسناد الإيتاء إلى اللّه تعالى ، معبراً عنه بنون العظمة ، وكذا ما يجيء من نحو هذا ، مراداً به الإكرام نحو : هدينا ، واجتبينا ، واصطفينا . قيل : ولأن أوتوا قد يستعمل فيما لم يكن له قبول ، وآتيناهم أكثر ما يستعمل فيما له قبول نحو :{ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } ، وإذا أريد بالكتاب أكثر من واحد ، فوحد ، لأنه صرف إلى المكتوب المعبر عنه بالمصدر .

{يَعْرِفُونَهُ } : جملة في موضع الخبر عن المبتدأ الذي هو الذين آتيناهم ، وجوز أن يكون الذين مجروراً على أنه صفة للظالمين ، أو على أنه بدل من الظالمين ، أو على أنه بدل من { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } في الآية التي قبلها ، ومرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي هم الذين ، ومنصوباً على إضمار ، أعني : وعلى هذه الأعاريب يكون قوله :{ يَعْرِفُونَهُ } ، جملة في موضع الحال ، إما من المفعول الأول في آتيناهم ، أو من الثاني الذي هو الكتاب ، لأن في يعرفونه ضميرين يعودان عليهما . والظاهر هو الإعراب الأول ، لاستقلال الكلام جملة منعقدة من مبتدأ وخبر ، ولظاهر انتهاء الكلام عند قوله :{ إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما .

وروي عن ابن عباس ، واختاره الزجاج ، ورجحه التبريزي ، وبدأ به الزمخشري فقال : يعرفونه معرفة جلية ، يميزون بينه وبين غيره بالوصف المعين المشخص .

قال الزمخشري وغيره : واللفظ للزمخشري ، وجاز الإضمار ، وإن لم يسبق له ذكر ، لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته وكونه علماً معلوم بغير إعلام . انتهى . وأقول : ليس كما قالوه من أنه إضمار قبل الذكر : بل هذا من باب الالتفات ، لأنه

قال تعالى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ } ، ثم قال :{ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ } إلى آخر الآية ، فهذه كلها ضمائر خطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم التفت عن ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة . وحكمة هذا الالتفات أنه لما فرغ من الإقبال عليه بالخطاب ، أقبل على الناس فقال :{ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } واخترناهم لتحمل العلم والوحي ، يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه ، لا يشكون في معرفته ، ولا في صدق أخباره ، بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة ، لما في كتابهم من ذكره ونعته ، والنص عليه يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل . فقد اتضح بما ذكرناه أنه ليس من باب الإضمار قبل الذكر ، وأنه من باب الالتفات ، وتبينت حكمة الالتفات . ويؤيد كون الضمير لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما روي أن عمر سأل عبد اللّه بن سلام ، رضي اللّه عنهما ، وقال : إن اللّه قد أنزل على نبيه :{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ } الآية ، فكيف هذه المعرفة ؟ فقال عبد اللّه : يا عمر ، لقد عرفته حين رأيته ، كما أعرف ابني ، ومعرفتي بمحمد صلى اللّه عليه وسلم أشدّ من معرفتي بابني . فقال عمر : وكيف ذلك ؟ فقال : أشهد أنه رسول اللّه حقاً ، وقد نعته اللّه في كتابنا ، ولا أدري ما يصنع النساء . فقال عمر : وفقك اللّه يا ابن سلام فقد صدقت ، وقد روي هذا الأثر مختصراً بما يرادف بعض ألفاظه ويقاربها ، وفيه : فقبل عمر رأسه . وإذا كان الضمير للرسول ، فقيل : المراد معرفة الوجه وتميزه ، لا معرفة حقيقة النسب .

وقيل : المعنى يعرفون صدقه ونبوّته .

وقيل : الضمير عائد على الحق الذي هو التحوّل إلى الكعبة ، قاله ابن عباس وقتادة أيضاً ، وابن جريج والربيع .

وقيل : عائد على القرآن .

وقيل : على العلم .

وقيل : على كون البيت الحرام قبلة إبراهيم ومن قبله من الأنبياء ، وهذه المعرفة مختصة بالعلماء ، لأنه قال :{ الَّذِينَ ءاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } ، فإن تعلقت المعرفة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فيكون حصولها بالرؤية والوصف ، أو بالقرآن ، فحصلت من تصديق كتابهم للقرآن ، وبنبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم وصفته ، أو بالقبلة ، أو التحويل ، فحصلت بخبر القرآن وخبر الرسول المؤيد بالخوارق .

{كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ } ، الكاف : في موضع نصب ، على أنها صفة لمصدر محذوف تقديره عرفاناً مثل عرفانهم . أبناءهم : أو في موضع نصب على الحال من ضمير المعرفة المحذوف ، كان التقدير : يعرفونه معرفة مماثلة لمعرفة أبنائهم . وظاهر هذا التشبيه أن المعرفة أريد بها معرفة الوجه والصورة ، وتشبيهها بمعرفة الأبناء يقوي ذلك ، ويقوي أن الضمير عائد على الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، حتى تكون المعرفتان تتعلقان بالمحسوس المشاهد ، وهو آكد في التشبيه من أن يكون التشبيه وقع بين معرفة متعلقها المعنى ، ومعرفة متعلقها المحسوس . وظاهر الأبناء الاختصاص بالذكور ، فيكونون قد خصوا بذلك ، لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوب الآباء . ويحتمل أن يراد بالأبناء : الأولاد ، فيكون ذلك من باب التغليب . وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس ، لأن الإنسان قد يمر عليه برهة من الزمان لا يعرف فيها نفسه ، بخلاف الأبناء ، فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه .

{وَإِنَّ فَرِيقًا مّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } : أي من الذين آتيناهم الكتاب ، وهم المصرّون على الكفر والعناد ، من علماء اليهود النصارى ، على أحسن

التفاسير في الذين آتيناهم الكتاب ، وأبعد من ذهب إلى أنه أريد بهذا الفريق جهال اليهود والنصارى ، الذين قيل فيهم : { وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ } ، للإخبار عن هذا الفريق أنهم يكتمون الحق وهم عالمون به ، ولوصف الأمّيين هناك بأنهم لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ . والحق المكتوم هنا هو نعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، قاله قتادة ومجاهد ، والتوجه إلى الكعبة ، أو أن الكعبة هي القبلة ، أو أعم من ذلك ، فيندرج فيه كل حق .

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ } : جملة حالية ، أي عالمين بأنه حق . ويقرب أن يكون حالاً مؤكدة ، لأن لفظ يكتمون الحق يدل على علمه به ، لأن الكتم هو إخفاء لما يعلم .

وقيل : متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب ، أي وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق ، فيكون إذ ذاك حالاً مبينة .

﴿ ١٤٦