١٤٨

ولكل وجهة هو . . . . .

{وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا } ، لما ذكر القبلة التي

أمر المسلمون بالتوجه إليها ، وهي الكعبة ، وذكر من تصميم أهل الكتاب على عدم اتباعها ، وأن كلاً من طائفتي اليهود والنصارى مصممة على عدم اتباع صاحبها ، أعلم أن ذلك هو بفعله ، وأنه هو المقدر ذلك ، وأنه هو موجه كل منهم إلى قبلته . ففي ذلك تنبيه على شكر اللّه ، إذ وفق المسلمين إلى اتباع ما أمر به من التوجه واختارهم لذلك .

وقرأ الجمهور : ولكل : منوناً ، وجهة : مرفوعاً ، هو موليها : بكسر اللام اسم فاعل .

وقرأ ابن عامر : هو مولاها ، بفتح اللام اسم مفعول وهي ، قراءة ابن عباس .

وقرأ قوم شاذاً : ولكل وجهة ، بخفض اللام من كل من غير تنوين ، وجهة : بالخفض منوناً على الإضافة ، والتنوين في كل تنوين عوض من الإضافة ، وذلك المضاف إليه كل المحذوف اختلف في تقديره . فقيل : المعنى : ولكل طائفة من أهل الأديان .

وقيل : المعنى : ولكل أهل صقع من المسلمين وجهة من أهل سائر الآفاق ، إلى جهة الكعبة ، وراءها وقدّامها ، ويمينها وشمالها ، ليست جهة من جهاتها بأولى أن تكون قبلة من غيرها .

وقيل : المعنى : ولكل نبي قبله ، قاله ابن عباس .

وقيل : المعنى : ولكل ملك ورسول صاحب شريعة جهة قبلة ، فقبلة المقربين العرش ، وقبلة الروحانيين الكرسي ، وقبلة الكروبيين البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة ، وقد اندرج في هذا الذي ذكرناه أن المراد بوجهه : قبلة ، وهو قول ابن عباس ، وهي قراءة أبيّ ، قرأ : ولكل قبلة .

وقرأ عبد اللّه : ولكل جعلنا قبلة . وقال الحسن : وجهة : طريقة ، كما قال : { لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } ،أي لكل نبي طريقة . وقال قتادة : وجهة : أي صلاة يصلونها ، وهو من قوله : هو موليها عائد على كل على لفظه ، لا على معناه ، أي هو مستقبلها وموجه إليها صلاته التي يتقرب بها ، والمفعول الثاني لموليها محذوف لفهم المعنى ، أي هو موليها وجهه أو نفسه ، قاله ابن عباس وعطاء والربيع ، ويؤيد أن هو عائد على كل قراءة من قرأ : هو مولاها .

وقيل : هو عائد على اللّه تعالى ، قاله الأخفش والزجاج ، أي اللّه موليها إياه ، اتبعها من اتبعها وتركها من تركها . فمعنى هو موليها على هذا التقدير : شارعها ومكلفهم بها . والجملة من الابتداء والخبر في موضع الصفة لوجهة .

وأما قراءة من قرأ : ولكل وجهة على الإضافة ، فقال محمد بن جرير : هي خطأ ، ولا ينبغي أن يقدم على الحكم في ذلك بالخطأ ، لا سيما وهي معزوّة إلى ابن عامر ، أحد القراء السبعة ، وقد وجهت هذه القراءة .

قال الزمخشري : المعنى : ولكل وجهة اللّه موليها ، فزيدت اللام لتقدمّ المفعول ، كقولك : لزيد ضربت ، ولزيد أبوه ضاربه . انتهى كلامه ، وهذا فاسد لأن العامل إذا تعدّى لضمير الاسم لم يتعدّ إلى ظاهره المجرور باللام . لا يجوز أن يقول : لزيد ضربته ، ولا : لزيد أنا ضاربه . وعليه أن الفعل إذا تعدّى للضمير بغير واسطة . كان قوياً ، واللام إنما تدخل على الظاهر إذا تقدّم ليقويه لضعف وصوله إليه متقدماً ، ولا يمكن أن يكون العامل قوياً ضعيفاً في حالة واحدة ، ولأنه يلزم من ذلك أن يكون المتعدي إلى واحد يتعدى إلى اثنين ، ولذلك تأوّل النحويون قوله هذا :

سراقة للقرآن يدرسه

وليس نظير ما مثل به من قوله : لزيد ضربت ، أي زيداً ضربت ، لأن ضربت في هذا المثال لم يعمل في ضمير زيد ، ولا يجوز أن يقدر عامل في لكل وجهة يفسره قوله موليها ، كتقديرنا زيداً أنا ضاربه ، أي اضرب زيداً أنا ضاربه ، فتكون المسألة من باب الاشتغال ، لأن المشتغل عنه لا يجوز أن يجر بحرف الجر . تقول : زيداً مررت به ، أي

لابست زيداً ، ولا يجوز : بزيد مررت به ، فيكون التقدير : مررت بزيد مررت به ، بل كل فعل يتعدى بحرف الجر ، إذا تسلط على ضمير اسم سابق في باب الاشتغال ، فلا يجوز في ذلك الاسم السابق أن يجر بحرف جر ، ويقدر ذلك الفعل ليتعلق به حرف الجر ، بل إذا أردت الاشتغال نصبته ، هكذا جرى كلام العرب .

قال تعالى : { وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} وقال الشاعر : أثعلبة الفوارس أم رباحا

عدلت به طهية والخشابا

وأما تمثيله : لزيد أبوه ضاربه ، فتركيب غير عربي .

فإن قلت : لم لا تتوجه هذه القراءة على أن لكل وجهة في موضع المفعول الثاني لموليها ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو مولّ ، وهو الهاء ، وتكون عائدة على أهل القبلات والطوائف ، وأنث على معنى الطوائف ، وقد تقدم ذكرهم ، ويكون التقدير : وكل وجهة اللّه مولى الطوائف أصحاب القبلات ؟ فالجواب : أنه منع مع هذا التقدير نص النحويين على أن المتعدي إلى واحد هو الذي يجوز أن تدخل اللام على مفعوله ، إذا تقدّم . أما ما يتعدى إلى اثنين ، فلا يجوز أن يدخل على واحد منهما اللام إذا تقدم ، ولا إذا تأخر . وكذلك ما يتعدى إلى ثلاثة . ومول هنا اسم فاعل من فعل يتعدى إلى اثنين ، فلذلك لا يجوز هذا التقدير . وقال ابن عطية ، في توجيه هذه القراءة : أي فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاّكموها ، ولا تعترضوا فيما أمركم بين هذه وهذه ، أي إنما عليكم الطاعة في الجميع . وقدم قوله : لكل وجهة على الأمر في قوله : فاستبقوا الخيرات ، للاهتمام بالوجهة ، كما تقدم المفعول . انتهى كلام ابن عطية ، وهو توجيه لا بأس به .

{فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } : هذا أمر بالبدار إلى فعل الخير والعمل الصالح . وناسب هذا أن من جعل اللّه له شريعة ، أو قبلة ، أو صلاة ، فينبغي الاهتمام بالمسارعة إليها . قال قتادة : الاستباق في أمر الكعبة رغماً لليهود بالمخالفة . وقال ابن زيد : معناه : سارعوا إلى الأعمال الصالحة من التوجه إلى القبلة وغيره .

وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى : فاستبقوا الفاضلات من الجهات ، وهي الجهات المسامتة للكعبة ، وإن اختلفت . وذكرنا أن استبق بمعنى : تسابق ، فهو يدل على الاشتراك .{ إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } ،أي نتسابق ، كما تقول . تضاربوا . واستبق لا يتعدى ، لأن تسابق لا يتعدى ، وذلك أن الفعل المتعدي ، إذا بنيت من لفظ ، معناه : تفاعل للاشتراك ، صار لازماً ، تقول : ضربت زيداً ، ثم تقول : تضاربنا ، فلذلك قيل : إن إلى هنا محذوفة ، التقدير : فاستبقوا إلى الخيرات . قال الراعي : ثنائي عليكم آل حرب ومن يمل

سواكم فإني مهتد غير مائل

يريد ومن يمل سواكم { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعًا } : هذه جملة تتضمن وعظاً وتحذيراً وإظهاراً لقدرته ، ومعنى :{ يَأْتِ بِكُمُ اللّه جَمِيعًا } : أي يبعثكم ويحشركم للثواب والعقاب ، فأنتم لا تعجزونه ، وافقتم أم خالفتم ، ولذلك قال ابن عباس : يعني يوم القيامة .

وقيل : المعنى : أينما تكونوا من الجهات المختلفة يأت بكم اللّه جميعاً ، أي يجمعكم ويجعل صلاتكم كلها إلى جهة واحدة ، وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام ، قاله

الزمخشري . { إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } تقدم شرح هذه الجملة ، وسيقت بعد الجملة الشرطية المتضمنة للبعث والجزاء ، أي لا يستبعد إتيان اللّه تعالى بالأشلاء المتمزقة في الجهات المتعددة المتفرقة ، فإن قدرة اللّه تتعلق بالممكنات ، وهذا منها . وقد تقدم لنا أن مثل هذه الجملة المصدرة بأن تجيء كالعلة لما قبلها ، فكان المعنى : إتيان اللّه بكم جميعاً لقدرته على ذلك .

﴿ ١٤٨