١٥٥

ولنبلونكم بشيء من . . . . .

{وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ } : تقدم أن الابتلاء : هو الاختبار ، ليعلم ما يكون من حال

المختبر ، وهذا مستحيل بالنسبة إلى اللّه تعالى ، وإنما معناه هنا : الإجابة ، والضمير الذي للخطاب . قيل : هو للصحابة فقط ، قاله عطاء . خاطبهم بذلك بعد الهجرة ، وأخبرهم بذلك قبل وقوعه تطميناً لقلوبهم ، لأنه إذا تقدم العلم بالواقع ، كان قد استعد له ، بخلاف الأشياء التي تفاجىء ، فإنها أصعب على النفس ، وزيادة ثواب وأجر على ما يحصل لهم من انتظار المصيبة ، وإخباراً بمغيب يقع وفق ما أخبر ، وتمييزاً لمن أسلم مريداً وجه اللّه ممن نافق ، وازدياد إخلاص في حال البلاء على إخلاصه في حال العافية ، وحملاً لمن لم يسلم على النظر في دلائل الإسلام ، إذ رأى هؤلاء المبتلين صابرين على دينهم ثابتي الجأش فيه ، ما ابتلوا به .

وقيل : هؤلاء أهل مكة ، خاطبهم بذلك إعلاماً أنه أجاب دعوة نبيه صلى اللّه عليه وسلم فيهم ، وليبقوا يتوقعون المصيبة ، فتضاعف عليهم المصيبات .

وقيل : هو خطاب للأمة ، ويكون آخر الزمان ، قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا ثمرة ، يكون هذا الإخبار تحذيراً وموعظة على الركون إلى الدنيا وزهرتها ، ويكون إخباراً بالمغيبات .

وقيل : الخطاب لا يراد به معين ، بل هو عام ، لا يتقيد بزمان ولا بمخاطب خاص ، فكأنه قيل : ولنصيبن بكذا ، فيكون في ذلك تحذير ، وأنه للصحابة وغيرهم .

وهذه الآية لها تعلق بقوله : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ } الآية ، وقبلها :{ وَاشْكُرُواْ لِي } ، والشكر يوجب زيادة النعم ، والابتلاء بما ذكر ينافيه ظاهرا ، وتوجيه أن إتمام الشرائع إتمام للنعمة ولذلك يوجب الشكر والقيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المشاق ، فأمر فيها بالصبر ، وأنه أنعم عليه أولاً فشكر ، وابتلي ثانياً فصبر ، لينال درجتي الشكر والصبر ، فيكمل إيمانه . كما روي عنه عليه السلام : { الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر} . بشيء : متعلق بقوله :{ وَلَنَبْلُوَنَّكُم } ، والباء فيه للإلصاق ، وأفرده ليدل على التقليل ، إذ لو جمعه فقال : بأشياء ، لاحتمل أن تكون ضروباً من كل واحد مما بعده . وقد قرأ الضحاك : بأشياء ، فلا يكون حذف فيما بعدها ، فيكون من في موضع الصفة ، بخلاف قراءة الجمهور : بشيء ، فلا بد من تقدير حذف أي شء من الخوف ، وشيء من الجوع ، وشيء من نقص . والمعنى في هذه القراءة : ولنبلونكم بطرف من كذا وكذا . والخوف : خوف العدو ، قاله ابن عباس ، وقد حصل الخوف الشديد في وقعة الأحزاب . وقال الشافعي : هو خوف اللّه تعالى . والجوع : القحط ، قاله ابن عباس ، عبر بالمسبب عن السبب .

وقيل : الجوع : الفقر ، عبر بالمسبب عن السبب أيضاً . وقال الشافعي : هو صيام شهر رمضان . ونقص من الأموال : بالخسران والهلاك . وقال الشافعي : بالصدقات . والأنفس : بالقتل والموت . وقال الشافعي : بالأمراض ،

وقيل : بالشيب . والثمرات : يعني الجوائح في الثمرات ، وقلة النبات ، وانقطاع البركات . وقال القفال : قد يكون نقصها بالجدوب ، وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بالجهاد ، وقد يكون بالإنفاق على من يرد من الوفود على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

وقيل : بظهور العدوّ عليهم . وقال الشافعي : والثمرات : موت الأولاد ، لأن ولد الرجل ثمرة قلبه . وفي حديث أبي موسى ، أن اللّه يقول للملائكة إذا مات ولد العبد : أقبضتم ثمرة فؤاده ؟ .

وقال بعض العلماء : المراد في هذه الآية : مؤن الجهاد وكلفه ، فالخوف من العدوّ ، والجوع به وبالأسفار إليه ، ونقص الأموال بالنفقات فيه ، والأنفس بالقتل ، والثمرات بإصابة العدوّ لها ، أو الغفلة عنها بسبب الجهاد . انتهى كلامه . وعطف ونقص على قوله : بشيء ، أي : ولنمتحننكم بشيء من الخوف والجوع وبنقص ، ويحسن العطف تنكيرها ، على أنه يحتمل أن يكون معطوفاً على الخوف والجوع فيكون تقديره : وشيء من نقص . ومن الأموال : متعلق بنقص ، لأنه مصدر نقص ، وهو يتعدّى إلى واحد ، وقد حذف ، أي : ونقص شيء . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لنقص . وتكون من لابتداء الغاية . ويحتمل أن يكون في موضع الصفة لذلك المحذوف ، أي ونقص شيء من الأموال ، وتكون من إذ ذاك للتبعيض . وقالوا : يجوز أن تكون من عند الأخفش زائدة ، أي ونقص الأموال

والأنفس والثمرات . وأتى بالجملة الخبرية مقسماً عليها ، تأكيداً لوقوع الابتلاء ، وإسناد الفعل إليه صريح في إضافة أسباب البلايا إليه . وأن هذه المحن من اللّه تعالى ، ووعده بها المؤمنين يدل على أنها ليست عقوبات ، بل إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين . وجاء هذا الترتيب في العطف على سبيل الترقي : فأخبر أولاً بالابتلاء بشيء من الخوف ، وهو توقع ما يرد من المكروه . ثم انتقل منه إلى الابتلاء بشيء من الجوع ، وهو أشد من الخوف بأي تفسير فسر به من القحط ، أو الفقر ، أو الحاجة إلى الأكل ، إلا على تفسير الشافعي ، وهو صوم رمضان . ولا ترقي بين نقص وشيء ، على ما اختاره من عطف نقص على بشيء ، بل الترقي في العطف بعدو نقص ، فبدأ أولاً بالأموال ، ثم ترقي إلى الأنفس .

وأما والثمرات ، فجاء كالتخصيص بعد التعميم ، لأنها تندرج تحت الأموال ، فلا ترقي فيها .

{وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ } : خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ،أو لكل من تتأتى منه البشارة ، أي على الجهاد بالنصر ، أو على الطاعة بالجزاء ، أو على المصائب بالثواب ، أقوال : والأحسن عدم التقييد ، أي كل من صبر صبراً محموداً شرعاً ، فهو مندرج في الصابرين . قالوا : والصبر من خواص الإنسان ، لأنه يتعارض فيه العقل والشهوة ، وهو بدني . وهو : إما فعلي ، كتعاطي الأعمال الشاقة ،

وإما احتمال ، كالصبر على الضرب الشديد ، ونفسي ، وهو قمع النفس عن مشتهيات الطبع . فإن كان من شهوة الفرج والبطن ، سمي عفة . وإن كان من احتمال مكروه ، اختلفت أسامية باختلاف المكروه . ففي المصيبة يقتصر عليه باسم الصبر ، ويضاده الجزع . وإن كان في الغنى ، سمي ضبط النفس ، ويضاده البطر . وإن كان في حرب ، سمي شجاعة ، ويضاده الجبن . وإن كان في نائبة مضجرة ، سمي سعة صدر ، ويضاده الضجر . وإن كان في إخفاء كلام ، سمي كتماناً ، وضاده الإعلان . وإن كان في فضول الدنيا ، سمي زهداً ، ويضاده الحرص . وإن كان على يسير من المال ، سمي قناعة ، ويضاده الشره . وقد جمع اللّه أقسام ذلك وسمى جميعها صبراً ، فقال :{ وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء } ،أي المصيبة والضرّاء ، أي الفقر وحين البأس ، أي المحاربة . قال القفال : ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ، ولا أن لا يكره ذلك ، إنما هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، وإن ظهر دمع عين ، أو تغير لون ، ولو ظهر منه أول ما لا يعد معه صابراً ثم صبر ، لم يعد ذلك إلا سلواناً .

﴿ ١٥٥