١٦٣

وإلهكم إله واحد . . . . .

{وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ } الآية . روي عن ابن عباس أنها نزلت في كفار قريش ، قالوا : يا محمد ، صف وانسب لنا ربك ، فنزلت سورة الإخلاص وهذه الآية . وروي عنه أيضاً أنه كان في الكعبة ،

وقيل حولها ، ثلاثمائة وستون صنماً يعبدونها من دون اللّه ، فنزلت . وظاهر الخطاب أنه لجميع المخلوقات المتصور منهم العبادة ، فهو إعلام لهم بوحدانية اللّه تعالى . ويحتمل أن يكون خطاباً لمن قال : صف لنا ربك وانسبه ، أو خطاباً لمن يعبد مع اللّه غيره من صنم ووثن ونار . وإله : خبر عن إلهكم ، وواحد : صفته ، وهو الخبر في المعنى لجواز الاستغناء عن إله ، ومنع الاقتصار عليه ، فهو شبيه بالحال الموطئة ، كقولك : مررت بزيد رجلاً صالحاً . والواحد المراد به نفي النظير ، أو القديم الذي لم يكن معه في الأزل

شيء ، أو الذي لا أبعاض له ولا أجزاء ، أو المتوحد في استحقاق العبادة . أقوال أربعة أظهرها الأول . تقول : فلان واحد في عصره ، أي لا نظير له ولا شبيه ، وليس المعنى هنا بواحد مبدأ العدد .

{لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } : توكيد لمعنى الوحدانية ونفي الإلهية عن غيره . وهي جملة جاءت لنفي كل فرد فرد من الآلهة ، ثم حصر ذلك المعنى فيه تبارك وتعالى ، فدلت الآية الأولى على نسبة الواحدية إليه تعالى ، ودلت الثانية على حصر الإلهية فيه من اللفظ الناص على ذلك ، وإن كانت الآية الأولى تستلزم ذلك ، لأن من ثبتت له الواحدية ثبتت له الإلهية . وتقدم الكلام على إعراب الإسم بعد لا في قوله :{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } ، والخبر محذوف ، وهو بدل من اسم لا على الموضع ، ولا يجوز أن يكون خبراً . كما جاز ذلك في قولك : زيد ما العالم إلا هو ، لأن لا لا تعمل في المعارف ، هذا إذا فرعنا على أن الخبر بعد لا التي يبني الإسم معها هو مرفوع بها ،

وأما إذا فرعنا على أن الخبر ليس مرفوعاً بها ، بل هو خبر المبتدأ الذي هو لا مع المبني معها ، وهو مذهب سيبويه ، فلا يجوز أيضاً ، لأنه يلزم من ذلك جعل المبتدأ نكرة ، والخبر معرفة ، وهو عكس ما استقر في اللسان العربي . وتقرير البدل فيه أيضاً مشكل على قولهم : إنه بدل من إله ، لأنه لا يمكن أن يكون على تقدير تكرار العامل ، لا تقول : لا رجل إلا زيد . والذي يظهر لي فيه أنه ليس بدلاً من إله ولا من رجل في قولك : لا رجل إلا زيد ، إنما هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف ، فإذا قلنا : لا رجل إلا زيد ، فالتقدير : لا رجل كائن أو موجود إلا زيد . كما تقول : ما أحد يقوم إلا زيد ، فزيد بدل من الضمير في يقوم لا من أحد ، وعلى هذا يتمشى ما ورد من هذا الباب ، فليس بدلاً على موضع اسم لا ، وإنما هو بدل مرفوع من ضمير مرفوع ، ذلك الضمير هو عائد على اسم لا . ولولا تصريح النحويين أنه يدل على الموضع من اسم لا ، لتأوّلنا كلامهم على أنهم يريدون بقولهم بدل من اسم لا ، أي من الضمير العائد على اسم لا . قال بعضهم : وقد ذكر أن هو بدل من إله على المحل ، قال : ولا يجوز فيه النصب هاهنا ، لأن الرفع يدل على الاعتماد على الثاني ، والمعنى في الآية على ذلك ، والنصب على أن الاعتماد على الأول . انتهى كلامه . ولا فرق في المعنى بين : ما قام القوم إلا زيد ، وإلا زيداً ، من حيث أن زيداً مستثنى من جهة المعنى . إلا أنهم فرقوا من حيث الإعراب ، فأعربوا ما كان تابعاً لما قبله بدلاً ، وأعربوا هذا منصوباً على الاستثناء ، غير أن الإتباع أولى للمشاكلة اللفظية ، والنصب جائز ، ولا نعلم في ذلك خلافاً .

وقال في المنتخب : لما

قال تعالى :{ وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ } ، أمكن أن يخطر ببال أحد أن يقول : هب أن إلهنا واحد ، فلعل إله غيرنا مغاير لإلهنا ، فلا جرم . أزال ذلك الوهم ببيان التوحيد المطلق فقال : لا إلاه إلا هو . فقوله : لا إلاه يقتضي النفي العام الشامل ، فإذا قال بعده : إلا اللّه ، أفاد التوحيد التامّ المطلق المحقق . ولا يجوز أن يكون في الكلام حذف ، كما يقوله النحويون ، والتقدير : لا إلاه لنا ، أو في الوجود ، إلا اللّه ، لأن هذا غير مطابق للتوحيد الحق ، لأنه إن كان المحذوف لنا ، كان توحيداً لإلهنا لا توحيداً للإله المطلق ، فحينئذ لا يبقى بين قوله :{ وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ } ، وبين قوله :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فِرْقٍ } ، فيكون ذلك تكراراً محضاً ، وأنه غير جائز .

وأما إن كان المحذوف في الوجود ، كان هذا نفياً لوجود الإله الثاني . أما لو لم يضمر ، كان نفياً لماهية الإله الثاني ، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود ، فكان إجراء الكلام على ظاهره ، والإعراض عن هذا الإضمار أولى ، وإنما قدم النفي على الإثبات ، لغرض إثبات التوحيد ، ونفي الشركاء والأنداد . انتهى الكلام .

قال أبو عبد اللّه محمد بن أبي الفضل المرسي في { ريّ الظمآن} : هذا كلام من لا يعرف لسان العرب . فإن لا إله في موضع المبتدأ ، على قول سيبويه ، وعند غيره اسم لا ، وعلى التقديرين ، لا بد من خبر للمبتدأ ، أو للا ، فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد .

وأما قوله : إذا لم يضمر كان نفياً للماهية ، قلنا : نفي الماهية هو نفي الوجود ، لأن نفي الماهية لا يتصوّر عندنا إلا مع الوجود ، فلا فرق عنده بين لا ماهية ولا وجود ، وهذا مذهب أهل السنة ، خلافاً للمعتزلة ، فإنهم يثبتون الماهية عرية عن الوجود ، والدليل يأبى ذلك . انتهى كلامه ، وما قاله من تقدير خبر لا بد منه ، لأن قوله : لا إله ، كلام ، فمن حيث هو كلام ، لا بد فيه من مسنده ومسند إله . فالمسند إليه هو إله ، والمسند هو الكون

المطلق ، ولذلك ساغ حذفه ، كما ساغ بعد قولهم : لولا زيد لأكرمتك ، إذ تقديره : لولا زيد موجود ، لأنها جملة تعليقية ، أو شرطية عند من يطلق عليها ذلك ، فلا بد فيها من مسند ومسند إليه ، ولذلك نقلوا أن الخبر بعد لا ، إذا علم ، كثر حذفه عند الحجازيين ، ووجب حذفه عند التميميين . وإذا كان الخبر . كوناً مطلقاً ، كان معلوماً ، لأنه إذا دخل النفي المراد به نفي العموم ، فالمتبادر إلى الذهن هو نفي الوجود ، لأنه لا تنتفي الماهية إلا بانتفاء وجودها ، بخلاف الكون المقيد ، فإنه لا يتبادر الذهن إلى تعيينه ، فلذلك لا يجوز حذفه نحو : لا رجل يأمر بالمعروف إلا زيد ، إلا أن دل على ذلك قرينة من خارج فيعلم ، فيجوز حذفه .

{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } : ذكر هاتين الصفتين منبهاً بهما على استحقاق العبادة له ، لأن من ابتدأك بالرحمة إنشاء بشراً سوياً عاقلاً وتربية في دار الدنيا موعوداً الوعد الصدق بحسن العاقبة في الآخرة ، جدير بعبادتك له والوقوف عند أمره ونهيه ، وأطمعك بهاتين الصفتين في سعة رحمته . وجاءت هذه الآية عقيب آية مختومة باللعنة والعذاب لمن مات غير موحد له تعالى ، إذ غالب القرآن أنه إذا ذكرت آية عذاب ، ذكرت آية رحمة ، وإذا ذكرت آية رحمة ، ذكرت آية عذاب . وتقدم شرح هاتين الصفتين ، فأغنى عن إعادته . ويجوز ارتفاع الرحمن على البدل من هو ، وعلى إضمار مبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الرحيم ، وعلى أن يكون خبراً بعد خبر لقوله : وإلهكم ، فيكون قد قضى هذا المبتدأ ثلاثة أخبار : إله واحد خبر ، ولا إله إلا هو خبر ثان ، والرحمن الرحيم خبر ثالث . ولا يجوز أن يكون خبراً لهو هذه المذكورة لأن المستثنى هنا ليس بجملة ، بخلاف قولك : ما مررت برجل إلا هو أفضل من زيد . قالوا : ولا يجوز أن يرتفع على الصفة لهو ، لأن المضمر لا يوصف . انتهى . وهو جائز على مذهب الكسائي ، إذا كانت الصفة للمدح ، وكان الضمير الغائب . وأهمل ابن مالك القيد الأول ، فأطلق عن الكسائي أنه يجيز وصف الضمير الغائب . روي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { إن هاتين الآيتين اسم اللّه الأعظم ، وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} .

﴿ ١٦٣