١٦٤

إن في خلق . . . . .

{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } : روي أنه لما نزل { وَإِلَاهُكُمْ } الآية ، قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فنزل :{ إِنَّ فِي خَلْقِ} ولما تقدم وصفه تعالى بالوحدانية واختصاصه بالإلهية ، استدل بهذا الخلق الغريب والبناء العجيب استدلالاً بالأثر على المؤثر ، وبالصنعة على الصانع ، وعرفهم طريق النظر ، وفيم ينظرون . فبدأ أولاً بذكر العالم العلوي فقال :{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ} وخلقها : إيجادها واختراعها ، أو خلقها وتركيب أجرامها وائتلاف أجزائها من قولهم : خلق فلان حسن : أي خلقته وشكله .

وقيل : خلق هنا زائدة والتقدير : إن في السموات والأرض ، لأن الخلق إرادة تكوين الشيء . والآيات في المشاهد من السموات والأرض ، لا في الإرادة ، وهذا ضعيف ، لأن زيادة الأسماء لم تثبت في اللسان ، ولأن الخلق ليس هو الإرادة ، بل الخلق ناشىء عن الإرادة . قالوا : وجمع السموات لأنها أجناس ، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ، ووحد الأرض لأنها كلها من تراب . وبدأ بذكر السماء لشرفها وعظم ما احتوت عليه من الأفلاك والأملاك والعرش والكرسي وغير ذلك ، وآياتها : ارتفاعها من غير عمد تحتها ، ولا علائق من فوقها ، ثم ما فيها من النيرين ، الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة ، شارقة وغاربة ، نيرة وممحوّة ، وعظم أجرامها وارتفاعها ، حتى قال أرباب الهيئة : إن الشمس قدر الأرض مائة وأربع وستين مرّة ، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض سبع مرّات ، وإن الأفلاك عظيمة الأجرام ، قد ذكر أرباب علم الهيئة مقاديرها ، وإنها سبعة أفلاك ، يجمعها الفلك المحيط . وقد صح عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { أطت السماء وحق لها أن تئط ، ليس فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد} . وصح أيضاً .

{ أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً ، لا يعودون إليه إلى يوم القيامة } . وآية الأرض : بسطها ، لا دعامة من تحتها ولا علائق من فوقها ، وأنهارها ومياهها وجبالها ورواسيها وشجرها وسهلها ووعرها ومعادنها ، واختصاص كل موضع منها بما هيىء له ، ومنافع نباتها ومضارها . وذكر أرباب الهيئة أن الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة ، وأن البحار محيطة بها ، والهواء محيط بالماء ، والنار محيطة بالهواء ، والأفلاك وراء ذلك . وقد ذكر القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني في كتابه المعروف { بالدقائق} خلافاً عن الناس المتقدمين : هل الأرض واقفة أم متحركة ؟ وفي كل قول من

هذين مذاهب كثيرة في السبب الموجب لوقوفها ، أو لتحركها . وكذلك تكلموا على جرم السموات ولونها وعظمها وأبراجها ، وذكر مذاهب للمنجمين والمانوية ، وتخاليط كثيرة . والذي تكلم عليه أهل الهيئة هو شيء استدلوا عليه بعقولهم ، وليس في الشرع شيء من ذلك . والمعتمد عليه أن هذه الأشياء لا يعلم حقيقة خلقها إلا اللّه تعالى ، ومن أطلعه اللّه على شيء منها بالوحي { أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا } ،{ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْء عَدَداً}

{وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ } : اختلافهما بإقبال هذا وإدبار هذا ، أو اختلافهما بالأوصاف في النور والظلمة ، والطول والقصر ، أو تساويهما ، قاله ابن كيسان . وقدم الليل على النهار لسبقه في الخلق ،

قال تعالى :{ وَءايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} وقال قوم : إن النور سابق على الظلمة ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم . فعلى القول

الأول : تكون ليلة اليوم هي التي قبله ، وهو قول الجمهور ؛ وعلى القول

الثاني : ليلة اليوم هي الليلة التي تليه ، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار ، اختلافهم في مسألة : لو حلف لا يكلم زيداً نهاراً .

{وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ } : أول من عمل الفلك نوح ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، وقال له جبريل عليه السلام : ضعها على جؤجؤ الطائر . فالسفينة طائر مقلوب ، والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله أبو بكر بن العربي . وآيتها تسخير اللّه إياها حتى تجري على وجه الماء ، ووقوفها فوقه مع ثقلها وتبليغها المقاصد . ولو رميت في البحر حصاة لغرقت . ووصفها بهذه الصفة من الجريان ، لأنها آيتها العظمى ، وجعل الصفة موصولاً ، صلته تجري : فعل مضارع يدل على تجدد ذلك الوصف لها في كل وقت يراد منها . وذكر مكان تلك الصفة على سبيل التوكيد ، إذ من المعلوم أنها لا تجري إلا في البحر . والألف واللام فيه للجنس ، وأسند الجريان للفلك على سبيل التوسع ، وكان لها من ذاتها صفة مقتضية للجري .{ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ } : يحتمل أن تكون ما موصولة ، أي تجري مصحوبة بالأعيان التي تنفع الناس من أنواع المتاجر والبضائع المنقولة من بلد إلى بلد ، فتكون الباء للحال . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي ينفع الناس في تجاراتهم وأسفارهم للغزو والحج وغيرهما ، فتكون الباء للسبب . واقتصر على ذكر النفع ، وإن كانت تجري بما يضر ، لأنه ذكرها في معرض الامتنان . .

{وَمَا أَنزَلَ اللّه مِنَ السَّمَاء مِن مَّاء } : أي من جهة السماء . من الأولى لابتداء الغاية تتعلق ب أنزل ، وفي أنزل ضمير نصب عائد على ما ، أي والذي أنزله اللّه من السماء . ومن الثانية مع ما بعدها بدل من قوله :{ مّنَ السَّمَاء } ، بدل اشتمال ، فهو على نية تكرار العامل ، أو لبيان الجنس عند من يثبت لها هذا المعنى ، أو للتبعيض ، وتتعلق ب إنزل . ولا يقال : كيف تتعلق ب إنزل من الأولى والثانية ، لأن معنييهما مختلفان .{ فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } : عطف على صلة ما ، الذي هو أنزل بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات ، وبه عائد على الموصول . وكنى بالإحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات ، وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره . وهما كنايتان غريبتان ، لأن ما برز منها بالمطر جعل تعالى فيه القوة الغاذبة والنامية والمحركة ، وما لم يظهر فهو كامن فيها ، كأنه دفين فيها ، وله له قبر .

{وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } : إن قدرت هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من الصلتين ، احتاجت إلى ضمير يعود على الموصول ، لأن الضمير في فيها عائد على الأرض وتقديره : وبث فيها من كل دابة . لكن حذف هذا الضمير ، إذا كان مجروراً بالحرف ، له شرط ، وهو أن يدخل على الموصول ، أو الموصوف بالموصول ، أو المضاف إلى الموصول حرف جر ، مثل ما دخل على الضمير لفظاً ومعنى ، وأن يتحد ما تعلق به الحرفان لفظاً ومعنى ، وأن لا يكون ذلك المجرور العائد على الموصول وجاره في موضع رفع ، وأن لا يكون محصوراً ، ولا في معنى المحصور ، وأن يكون متعيناً للربط . وهذا الشرط مفقود هنا .

قال الزمخشري : فإن قلت قوله :{ وَبَثَّ فِيهَا } ، عطف على أنزل أم أحيا ؟

قلت : الظاهر أنه عطف على أنزل

داخل تحت حكم الصلة ، لأن قوله : { فَأَحْيَا بِهِ الاْرْضَ } عطف على أنزل ، فاتصل به وصارا جميعاً كالشيء الواحد ، وكأنه قيل : وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة . ويجوز عطفه على أحيا على معنى فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة ، لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة . انتهى كلامه ، ولا طائل تحته . وكيفما قدّرت من تقدير يلزم أن يكون في قوله :{ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ } ضمير يعود على الموصول ، سواءأعطفته على أنزل ، أو على فأحيا ، لأن كلتا الجملتين في صلة الموصول . والذي يتخرّج على الآية ، أنها على حذف موصول لفهم المعنى معطوف على ما من قوله :{ وَمَا أَنَزلَ } ، التقدير : وما بث فيها من كل دابة ، فيكون ذلك أعظم في الآيات ، لأن ما بث تعالى في الأرض من كل دابة فيه آيات عظيمة في أشكالها وصفاتها وأحوالها وانتقالاتها ومضارها ومنافعها وعجائبها ، وما أودع في كل شكل ، شكل منها من الأسرار العجيبة ولطائف الصنعة الغريبة ، وذلك من الفيل إلى الذرة ، وما وأجد تعالى في البحر من عجائب المخلوقات المباينة لأشكال البر . فمثل هذا ينبغي إفراده بالذكر ، لا أنه يجعل منسوقاً في ضمن شيء آخر وحذف الموصول الاسمي ، غير أن أل عند من يذهب إلى اسميتها لفهم المعنى جائز شائع في كلام العرب ، وإن كان البصريون لا يقيسونه ، فقد قاسه غيرهم ، قال بعض طي : ما الذي دأبه احتياط وحزم

وهواه أطاع مستويان

أي : والذي أطاع ، وقال حسان : أمن يهجو رسول اللّه منكم

ويمدحه وينصره سواء

أي : ومن يمدحه ، وقال آخر : فواللّه ما نلتم وما نيل منكم

بمعتدل وفق ولا متقارب

يريد : ما الذي نلتم وما نيل منكم ، وقد حمل على حذف الموصول قوله تعالى :{ وَقُولُواْ ءامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } ،أي والذي أنزل إليكم ليطابق قوله تعالى :{ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى أَنَزلَ مِن قَبْلُ} وقد يتمشى التقدير الأول على ارتكاب حذف الضمير لفهم المعنى ، وإن لم يوجد شرط جواز حذفه ، وقد جاء ذلك في أشعارهم ، قال : وإن لساني شهدة يشتفى بها

وهو على من صبه اللّه علقم

يريد : من صبه اللّه عليه ، وقال : لعلّ الذي أصعدتني أن تردني

إلى الأرض إن لم يقدر الخير قادر

يريد : أصعدتني به . فعلى هذا القول يكون { مِن كُلّ دَابَّةٍ } في موضع المفعول ، ومن تبعيضية . وعلى مذهب الأخفش ، يجوز أن تكون زائدة ، وكل دابة هو نفس المفعول ، وعلى حذف الموصول يكون مفعول بث محذوفاً ، أي : وبثه ، وتكون من حالية ، أي : كائناً من كل دابة ، فهي تبعيضية ، أو لبيان الجنس عند من يرى ذلك .{ وَتَصْرِيفِ الرّيَاحِ } في هبوبها قبولاً ودبوراً وجنوباً وشمالاً ، وفي أوصافها حارة وباردة ولينة وعاصفة وعقيماً ولواقح ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين .

وقيل : تارة بالرحمة ، وتارة بالعذاب .

وقيل : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما يحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنها ما يضر بها ، ولا اعتبار بكبر القلوع ولا صغرها ، فإنها لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلوع وأغرقت .

وقد تكلموا في أنواع الريح واشتقاق أسمائها وفي طبائعها ، وفيما جاء فيها من الآثار ، وفيما قيل فيها من الشعر ، وليس ذلك من غرضنا . والريح جسم لطيف شفاف غير مرئي ، ومن آياته ما جعل اللّه فيه من القوة التي تقلع الأشجار وتعفي الآثار وتهدم الدياروتهلك الكفار ، وتربية الزرع وتنميته واشتداده بها ، وسوق السحاب إلى البلد الماحل . واختلف القراء في إفراد الرّيح وجمعه في أحد عشر موضعاً . هذا ، وفي الشريعة وفي الأعراف :{ يُرْسِلُ الرّيَاحَ } ، و { اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ } ، و { أَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ } ، و { تَذْرُوهُ الرّياحُ } ، وفي الفرقان :{ أَرْسَلَ الرّيَاحَ } ،{ وَمَن يُرْسِلُ الرّيَاحَ } ، وفي الروم :{ اللّه الَّذِى يُرْسِلُ الرّيَاحَ } ، وفي فاطر :{ أَرْسَلَ الرّيَاحَ } ، وفي الشورى :{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرّيَاحِ} فأفرد حمزة إلا في الفرقان ، والكسائي إلا في الحجر ، وجمع نافع الجميع والعربيان إلافي إبراهيم والشورى ، وابن كثير في البقرة والحجر والكهف والشريعة فقط . وفي مصحف حفصة هنا وتصريف الأرواح . ولم يختلفوا في توحيد ما ليس فيه ألف ولام . وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله :{ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ} وفي الحديث : { اللّهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً} .

قال ابن عطية : لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة منقطعة ، فلذلك هي رياح ، وهو معنى ينشر ، وأفردت مع الفلك ، لأن ريح أجزاء السفن إنما هي واحدة متصلة . ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب ، انتهى . ومن قرأ بالتوحيد ، فإنه يريد الجنس ، فهو كقراءة الجمع . والرياح في موضع رفع ، فيكون تصريف مصدراً مضافاً للفاعل ، أي وتصريف الرياح ، السحاب أو غيره مما لها فيه تأثير بإذن اللّه . ويحتمل أن يكون في موضع نصب ، فيكون المصدر في المعنى مضافاً إلى الفاعل ، وفي اللفظ مضافاً إلى المفعول ، أي وتصريف اللّه الرياح .

{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ } ، تسخيره : بعثه من مكان إلى مكان .

وقيل : تسخيره : ثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة تمسكه . ووصف السحاب هنا بالمسخر ، وهو مفرد لأنه اسم جنس ، وفيه لغتان : التذكير : كهذا وكقوله :{ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } ، والتأنيث على معنى تأنيث الجمع ، فتارة يوصف بما يوصف به الواحدة المؤنثة ، وتارة يوصف بما يوصف به الجمع كقوله تعالى :{ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً} قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، ولولا السحاب لأفسد المطر ما يقع عليه من الأرض . فقيل : السحاب يأخذ المطر من السماء ،

وقيل : يغترفه من بحار الأرض ،

وقيل : يخلقه اللّه فيه ، وللفلاسفة فيه أقوال . وجعل مسخراً باعتبار إمساكه الماء ، إذ الماء ثقيل ، فبقاؤه في جوّ الهواء هو على خلاف ما طبع عليه ، وتقديره بالمقدار المعلوم الذي فيه المصلحة ، يأتي به اللّه في وقت الحاجة ،

ويرده عند زوال الحاجة ، أو سوقه بواسطة تحريك الريح إلى حيث أراد اللّه تعالى . وفي كل واحد من هذه الأوجه استدلال على الوحدانية .

{بَيْنَ السَّمَاء وَالارْضِ } : انتصاب بين على الظرف ، والعامل فيه المسخر ، أي سخر بين كذا وكذا ، أو محذوف تقديره كائناً بين ، فيكون حالاً من الضمير المستكن في المسخر .{ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } : دخلت اللام على اسم إن لحيلولة الخبر بينه وبينها ، إذ لو كان يليها ، ما جاز دخولها ، وهي لام التوكيد ، فصار في الجملة حرفا تأكيد : إن واللام . ولقوم : في موضع الصفة ، أي كائنة لقوم . والجملة صفة لقوم ، لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا من كان عاقلاً ، فإنه يشاهد من هذه الآية ما يستدل به على وحدانية اللّه تعالى ، وانفراده بالإلهية ، وعظيم قدرته ، وباهر حكمته . وقد أثر في الأثر : ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها ، أي لم يتفكر فيها ولم يعتبر بها .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد ، وأنه منفرد بالإلهية ، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار . ثم مع كونها دلائل ، بل هي نعم من اللّه على عباده ، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل ، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر . لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكناً من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب ، وهذه الأشياء التي ذكرها اللّه ثمانية ، وإن جعلنا : وبث فيها ، على حذف موصول ، كما قدرناه في أحد التخريجين ، كانت تسعة ، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق ، واختلاف ، وإنزال ماء ، وتصريف .

فبدأ أولاً بالخلق ، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية ، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف .{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } ؟{ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} ودليل الخلق على جميع الصفات الذاتية ، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة ، وقدّم السموات على الأرض لعظم خلقها ، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك .

ثم أعقب ذكر خلق السموات والأرض باختلاف الليل والنهار ، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السموات . ثم أعقب ذلك بذكر الفلك ، وهو معطوف على الليل والنهار ، كأنه قال واختلاف الفلك ، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض .

ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو إنزال الماء من السماء ، ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالأحياء . وجاء هذا المشترك مقدماً فيه السبب على المسبب ، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم .

ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به ، وهو تصريف الرياح والسحاب . وقدم الرياح على السحاب ، لتقدم ذكر الفلك ، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك .

فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر ، حيث بدأ أولاً باختراع السموات والأرض ، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي ، ثم أتى ثالثاً بذكر ما نشأ عن العالم السفلي ، ثم أتى بالمشترك . ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به ، وهو التصريف المشروح .

وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين : قسم مدرك بالبصائر ، وقسم مدرك بالأبصار . فخلق السموات والأرض مدرك بالعقول ، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار . والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود ، مستدل عليه بالعقول ، فلذلك

قال تعالى :{ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، ولم يقل : لآيات لقوم يبصرون ، تغليباً لحكم العقل ، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى اللّه تعالى .

﴿ ١٦٤