١٧٣

إنما حرم عليكم . . . . .

{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّه} : تقدم الكلام على إنما في قوله :{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}

وقرأ الجمهور : حرم مسنداً إلى ضمير اسم اللّه ، وما بعده نصب ، فتكون ما مهيئة في إنما هيأت إن لولايتها الجملة الفعلية .

وقرأ ابن أبي عبلة : برفع الميتة وما بعدها ، فتكون ما موصولة اسم إن ، والعائد عليها محذوف ، أي إن الذي حرمه اللّه الميتة ، وما بعدها خبران .

وقرأ أبو جعفر : حرم ، مشدداً مبنياً للمفعول ، فاحتملت ما وجهين :

أحدهما : أن تكون موصولة اسم إن ، والعائد الضمير المستكن في حرم والميتة خبران . والوجه

الثاني : أن تكون ما مهيئة والميتة مرفوع بحرم .

وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي : إنما حرم ، بفتح الحاء وضم الراء مخففة جعله لازماً ، والميتة وما بعدها مرفوع . ويحتمل ما الوجهين من التهيئة والوصل ، والميتة فاعل يحرم ، إن كانت ما مهيئة ، وخبر إن ، إن كانت ما موصولة .

وقرأ أبو جعفر : الميتة ، بتشديد الياء في جميع القرآن ، وهو أصل للتخفيف . وقد تقدم الكلام على هذا التخفيف في قوله :{أَوْ كَصَيّبٍ } ، وهما لغتان جيدتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله : ليس من مات فاستراح بميت

إنما الميت ميت الأحياء

قيل :

وحكى أبو معاذ عن النحويين الأولين ، أن الميت بالتخفيف : الذي فارقته الروح ، والميت بالتشديد : الذي لم يمت ، بل عاين أسباب الموت . وقد تقدم الكلام في الموت . ولما أمر تعالى : بأكل الحلال في الآية السابقة ، فصل هنا أنواع الحرام ، وأسند التحريم إلى الميتة . والظاهر أن المحذوف هو الأكل ، لأن التحريم لا يتعلق بالعين ، ولأن السابق المباح هو الأكل في قوله :{ كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} فالممنوع هنا هو الأكل ، وهكذا حذف المضاف يقدر بما يناسب . فقوله :{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } ، المحذوف : وطء ، كأنه قيل : وطء أمهاتكم

{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } ،أي وطء ما وراء ذلكم . فسائر وجوه الانتفاعات محرم من هذه الأعيان المذكورة ، إما بالقياس على الأكل عند منيقول بالقياس ،

وإما بدليل سمعني عند من لا يقول به .

وقال بعض الناس ما معناه : أنه تعالى لما أسند التحريم إلى الميتة ، وما نسق عليها وعلقه بعينها ، كان ذلك دليلاً على تأكيد حكم التحريم وتناول سائر وجوه المنافع ، فلا يخص شيء منها إلا بدليل يقتضي جواز الانتفاع به ، فاستنبط هذا القول تحريم سائر الانتفاعات من اللفظ . والأظهر ما ذكرناه من تخصص المضاف المحذوف بأنه الأكل . وظاهر لفظ الميتة يتناول العموم ، ولا يخص شيء منها إلا بدليل . قال قوم : خص هذا العموم بقوله تعالى :{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } ، وبما روي من قوله صلى اللّه عليه وسلم : { أحلت لنا ميتتان} . و

قال ابن عطية : الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم . انتهى . فإن عنى لم يدخل في دلالة اللفظ ، فلا نسلم له ذلك . وإن عنى لم يدخل ففي الإرادة ، فهو كما قال ، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به .

قال الزمخشري : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد .

قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة . ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد ؟ كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال . ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة . وقال اللّه تعالى :{ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيّا } ، وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة ، فركب كافراً ، لم يحنث وإن سماه اللّه دابة في قوله :{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابّ عِندَ اللّه الَّذِينَ كَفَرُواْ} انتهى كلامه .

وملخص ما يقوله : إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة ، وليس كما قال . وكيف يكون ذلك ، وقد روي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { أحلت لنا ميتتان } ؟ فلو لم يندرج في الدلالة ، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله ، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله : { كُلُواْ مِمَّا فِى الاْرْضِ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة ، كما

قال الزمخشري ، بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة ، ولا علم ببعض أفراد العام ، وعلق الحكم على العام ، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به . مثال ذلك ما جاء في الحديث : { نهى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع} . فهذا علق الحكم فبه بكل ذي ناب . والمخاطب ، الذين هم العرب ، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب ، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي ، كما في بلادنا ، بلاد الأندلس ، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع ، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله ، ولا يشبه الأسد ، ولا الذئب ، ولا النمر ، ولا شيئاً مما يعرفه العرب ، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس . فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب ، بل شمله النهي ، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه ، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به ، فهو معلق بكل فرد من أفراده ، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب ، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب ، فيندرج فيه ، ويحكم بالنهي عنه . وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان ، فللإيمان أحكام منوطة بها ، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه .

والميتة : ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة . واختلف في السمك الطافي ، وهو ما مات في الماء فطفا . فذهب مالك وغيره أنه حلال . ومذهب العراقيين أنه ممنوع من أكله . وفي كلام بعض الحنفيين عن أبي حنيفة أنه مكروه .

وأما ما مات من الجراد بغير تسبب ، فهو عند مالك وجمهور أصحابه أنه حرام ، وعند ابن

عبد الحكم وابن نافع حلال ، وعند ابن القاسم وابن وهب وأشهب وسحنون تقييدات في الجراد ذكرت في كتب المالكية . هذا حكم الميتة بالنسبة إلى الأكل .

وأما الانتفاع بشيء منها ، نحو : الجلد ، والشعر ، والريش ، واللبن ، والبيض ، والأنفخة ، والجنين ، والدهن ، والعظم ، والقرن ، والناب ، والغصب ، فذلك مذكور في كتب الفقه ، ولهم في ذلك اختلاف وتقييد كثير يوقف على ذلك في تصانيفهم .

والدم : ظاهره العموم ، ويتخصص بالمسفوح لآية الأنعام . فإذا كان مسفوحاً ، فلا خلاف في نجاسته وتحريمه . وفي دم السمك المزايل له في مذهب مالك قولان :

أحدهما : أنه طاهر ، ويقتضي ذلك أنه غير محرم . وأجمعوا على جواز أكل الدم المتحلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه ، وكذلك الكبد والطحال . وذكر المفسرون في يسير الدم المسفوح الخلاف في العفو عنه ، وفي مقدار اليسير ، والخلاف في دم البراغيث والبق والذباب ، وهذا كله من علم الفقه ، فيطالع في كتب الفقه . ولم يذكراللّه تعالى حكمة في تحريم أكل الميتة والدم ، ولا جاء نص عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في ذلك . ولو تعبدنا تعالى بجواز أكل الميتة والدم ، لكان ذلك شرعاً يجب اتباعه . وقد ذكروا أن الحكمة في تحريم الميتة جمود الدم فيها بالموت ، وأنه يحدث أذى للآكل . وفي تحريم الدم أنه بعد خروجه يجمد ، فهو في الأذى كالجامد في الميتة ، وهذا ليس بشيء ، لأن الحس يكذب ذلك . وجدنا من يأكل الميتة ، ويشرب الدم من الأمم ، صورهم وسحنهم من أحسن ما يرى وأجمله ، ولا يحدث لهم أذى بذلك .

ولحم الخنزير : ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط . وقد ذهب إلى ذلك داود ، رأس الظاهرية ، فقال : المحرم اللحم دون الشحم . وقال غيره من سائر العلماء : المحرم لحمه وسائر أجزائه . وإنما خص اللحم بالذكر ، والمراد جميع أجزائه ، لكون اللحم هو معظم ما ينتفع به . كما نص على قتل الصيد على المحرم ، والمراد حظر جميع أفعاله في الصيد . وكما نص على ترك البيع { ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ } ، لأنه كان أعظم ما كانوا يبتغون به منافعهم ، فهو أشغل لهم من غيره ، والمراد جميع الأمور الشاغلة عن الصلاة .

وقال الزمخشري :

فإن قلت : فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه ؟

قلت : لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قوله : لحم سمين ، يريدون أنه شحيم . انتهى . وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم ، لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر ، لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء ، ألا ترى أنك تقول مثلاً رجل لابن ، أو رجل عالم ؟ لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل ، ولا أن ذكر الرجل . مجرداً عن الوصفين يدل عليهما . و

قال ابن عطية : وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ، ذكي أو لم يذك ، وليعم الشحم وما هناك من الغضاريف وغيرها . وأجمعت الأمة على تحريم شحمه . انتهى كلامه . وليس كما ذكر ، لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هناك من الغضاريف ، لأن

كلاًّ من اللحم والشحم وما هناك من غضروف وغيره ، وليس له اسم يخصه . إذ أطلق ذلك الاسم ، لم يدخل فيه الآخر ، ولا يدل عليه ، لا بمطابقه ، ولا تضمن . فإذن ، تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم ، إذ لو أريد المجموع ، لدل بلفظ يدل على المجموع . وقوله : أجمعت الأمة على تحريم شحمه ، ليس كما ذكر . ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره اللّه تعالى ، وهو اللحم دون الشحم ؟ إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني ، من أنه لا يعتد في الإجماع ، بخلاف داود ، فيكون ذلك عنده إجماعاً . وقد اعتد أهل العلم الذين لهم الفهم التام والاجتهاد ، قبل أن يخلق الجويني بأزمان ، بخلاف داود ، ونقلوا أقاويله في كتبهم ، كما نقلوا أقاويل الأئمة ، كالأوزاعي ، وأبي حنيفة ، ومالك ، والثوري ، والشافعي ، وأحمد . ودان بمذهبه وقوله وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ، ولكنه في عصرنا هذا قد حمل هذا المذهب . ولما كان اللحم يتضمن عند مالك الشحم ، ذهب إلى أنه لو حلف حالف أن لا يأكل لحماً ، فأكل شحماً ، أنه يحنث . وخالفه أبو حنيفة والشافعي فقالا : لا يحنث ، كما لو حلف أنه لا يأكل شحماً ، فأكل لحماً .

وقال تعالى : { حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} والإجماع ، أن اللحم ليس بمحرم على اليهود ، فالحق أن كلاًّ منهما لا يندرج تحت لفظ الآخر .

واختلفوا في الانتفاع بشعره ، في خرز وغيره ، فأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة والأوزاعي ، ولم يجز ذلك الشافعي . وقال أبو يوسف : أكره الخرز به . وروي عنه الإباحة أيضاً . وهل يتناول لفظ الخنزير خنزير البحر ؟ ذهب إلى ذلك أبو حنيفة وأصحابه ؟ فمنعوا من أكله ؟ وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي : لا بأس بأكله . وقال الليث : لا يؤكل خنزير الماء ، ولا إنسانه ، ولا كلبه . وسئل مالك عن خنزير الماء ، فتوقف وقال : أنتم تسمونه خنزيراً . وقال ابن القاسم : أنا أتقيه ولا أحرمه . وعلة تحريم لحم الخنزير قالوا : تفرد النصارى بأكله ، فنهى المسلمون عن أكله ، ليكون ذلك ذريعة إلى أن تقاطعوهم ، إذ كان الخنزير من أنفس طعامهم .

وقيل : لكونه ممسوخاً ، فغلط تحريم أكله لخبث أصله .

وقيل : لأنه يقع الغيرة ويذهب بالأنفة ، فيتساهل الناس في هتك المحرم وإباحة الزنا ، ولم تشر الآية الكريمة إلى شيء من هذه التعليلات التي ذكروها .

وما أهلّ به لغير اللّه : أي ما ذبح للأصنام والطواغيت ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ، أو ما ذكر عليه اسم غير اللّه ، قاله الربيع بن أنس وغيره ، أو ما ذكر اسم المسيح عليه ، قاله الزهري ، أو ما قصد به غير وجه اللّه تعالى للتفاخر والتباهي ، قاله عليّ والحسن . وروي أن علياً قال في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق : إنها مما أهلّ بها لغير اللّه ، فتركها الناس ، راعى عليٌّ النية في ذلك . ومنع الحسن من أكل جزور ذبحتها امرأة للعبها وقال : إنها نحرت لصنم . وسئلت عائشة عن أكل ما يذبحه الأعاجم لأعيادهم ويهدون للمسلمين فقالت : لا تأكلوه ، وكلوا من أشجارهم . والذي يظهر من الآية تحريم ما ذبح لغير اللّه ، فيندرج في لفظ غير اللّه الصنم والمسيح والفخر واللعب ، وسمي ذلك إهلالاً ، لأنهم يرفعون أصواتهم باسم المذبوح له عند الذبيحة ، ثم توسع فيه وكثر حتى صار اسماً لكل ذبيحة جهر عليها أو لم يجهر ، كالإهلال بالتلبية صار علماً لكل محرم رفع صوته أو لم يرفعه . ومن حمل ذلك على ما ذبح على النصب ، وهي الأوثان ، أجاز ذبيحة النصراني ، إذا سمى عليها باسم المسيح . وإلى هذا ذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والليث . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك

والشافعي : لا تؤكل ذبائحهم إذا سموا عليها اسم المسيح ، وهو ظاهر قوله : { لِغَيْرِ اللّه } كما ذكرناه ، لأن الإهلال لغير اللّه ، هو إظهار غير اسم اللّه ، ولم يفرق بين اسم المسيح واسم غيره . وروي عن علي أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير اللّه فلا تأكلوا . وأهلّ : مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله . والمفعول الذي لم يسم فاعله هو الجار والمجرور في قوله : به ، والضمير في به عائد على ما ، إذ هي موصولة بمعنى الذي . ومعنى أهل بكذا ، أي صالح .

فالمعنى : وما صيح به ، أي فيه ، أي في ذبحه لغير اللّه ، ثم صار ذلك كناية عن كل ما ذبح لغير اللّه ، صيح في ذبحه أو لم يصح ، كما ذكرناه قبل . وفي ذبيحتة المجوسي خلاف . وكذلك فيما حرم على اليهودي والنصراني بالكتاب . أما ما حرموه باجتهادهم ، فذلك لنا حلال . ونقل ابن عطية عن مالك : الكراهة فيما سمي عليه الكتابي اسم المسيح ، أو ذبحه لكنيسة ، ولا يبلغ به التحريم .

{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } ، وقال :{ فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} وقال :{ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ، فلم يقيد في هذه الآية الاضطرار ، وقيده فيما قبل . فإن المضطر يكون غير متجانف لإثم . وفي الأولى بقوله :{ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} قال مجاهد وابن جبير وغيرهما : غير باغ على المسلمين وعاد عليهم . فيدخل في الباغي والعادي : قطاع السبيل ، والخارج على السلطان ، والمسافر في قطع الرحم ، والغارة على المسلمين وما شاكله ، ولغير هؤلاء هي الرخصة . وإلى هذا ذهب الشافعي ، وهو أنه إذا لم يخرج باغياً على إمام المسلمين ، ولم يكن سفره في معصية ، فله أن يأكل من هذه المحرّمات إذا اضطر إليها . وإن كان سفره في معصية ، أو كان باغياً على الإمام ، لم يجز له أن يأكل . وقال عكرمة وقتادة والربيع وابن زيد وغيرهم : غير قاصد فساد وتعدّ ، بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة .

وقال ابن عباس والحسن : غير باغ في الميتة في الأكل ، ولا عاد بأكلها ، وهو يجد غيرها ، وهو يرجع لمعنى القول قبله . وبه قال أبو حنيفة ومالك : وأباح هؤلاء للبغاة الخارجين على المسلمين الأكل من هذه المحرّمات عند الاضطرار ، كما أباحوا لأهل العدل . وقال السدي : غير باغ ، أي متزيد على إمساك رمقه وإبقاء قوّته ، فيجيء أكله شهوة ، ولا عاد ، أي متزوّد .

وقيل : غير باغ ، أي مستحل لها ، ولا عاد ، أي متزوّد منها . وقال شهر بن حوشب : غير باغ ، أي مجاوز القدر الذي يحل له ، ولا عاد ، أي لا يقصده فيما لا يحل له .

والظاهر من هذه الأقوال ، على ما يفهم من ظاهر الآية ، أنه لا إثم في تناول شيء من هذه المحرمات للمضطر الذي ليس بباغ ولا عاد . وإن قوله :{ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } ، لا بد فيه من التقييد المذكور هنا ،

وفي قوله :{ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } ، لأن آية الأنعام فيها حوالة على هاتين الآيتين ، لأنه قال :{ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وتفصيل المحرّم هو في هاتين الآيتين ، والاضطرار فيهما مقيد ، فتعين أن يكون مقيداً في الآية التي أحيلت على غيرها . والظاهر في البغي والعدوان ، أن ذلك من قبل المعاصي ، لأنهما متى أطلقتا ، تبادر الذهن إلى ذلك . وفي جواز مقدار ما يأكل من الميتة ، وفي التزوّد منها ، وفي شرب الخمر عند الضرورة قياساً على هذه المحرمات . وفي أكل ابن آدم خلاف مذكور في كتب الفقه ، قالوا : وإن وجد ميتة وخنزيراً ، أكل الميتة ، قالوا : لأنها أبيحت له في حال الاضطرار ، والخنزير لا يحل بحال ، وليس كما قالوا ، لأن قوله :{ فَمَنِ اضْطُرَّ } جاء بعد ذكر تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير .

فالمعنى : فمن اضطر إلى أكل شيء من هذه المحرمات ، فرتبتها في الإباحة للأكل منها متساوية ، فليس شيء منها أولى من الآخر بالإباحة ، والمضطر مخير فيما يأكل منها . فقولهم : إن الخنزير لا يحل بحال ليس بصحيح .

وذكر بعض المفسرين أنهم أجمعوا على أن من سافر لغزو ، أو حج ، أو تجارة ، وكان مع ذلك باغياً في أخذ مال ، أو عادياً في ترك صلاة أو زكاة ، لم يكن ما هو عليه من البغي والعدوان مانعاً من استباحة الميتة للضرورة . وأنهم أجمعوا أيضاً على جواز الترخيص للباغي ، أو العادي الحاضر ، وفي نقل هذين الإجماعين نظر .

واختلف القراء في حركة النون من قوله :{ فَمَنِ اضْطُرَّ وَأَنِ احْكُم } ،{ وَلَاكِنِ انْظُرْ } ، وشبهه وحركة الدال من :{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىء } ، والتاء من :{ وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ } ، وحركة التنوين من :{ فَتِيلاً أَنظُرْ } ، ونحوه ، وحركة اللام من نحو :{ قُلِ ادْعُواْ اللّه } ، والواو من نحو :{أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ } ، فكسر ذلك عاصم وحمزة ، وحركها أبو عمرو ، إلا في اللام والواو ؛ وعباس ويعقوب ، إلا في الواو ؛ وضم باقي السبعة ، إلا ابن ذكوان ، فإنه كسر التنوين . وعنه في :{ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ } ، و { خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ } خلاف ، وضابط هذا أنه يكون ضمة هذه الأفعال لازمة ، فإن كانت عارضة ، فالكسر نحو :{ أَنِ امْشُواْ } ، وتوجيه الكسر أنه حركة التقاء الساكنين ، والضم أنه اتباع . ولم يعتدوا بالساكن ، لأنه حاجز غير حصين ، أو ليدلوا على أن حركة همزة الوصل المحذوفة كانت ضمة .

وقرأ أبو جعفر وأبو السمال : فمن اضطر ، بكسر الطاء ، وأصله اضطرر ، فلما أدرغم نقلت حركة الراء إلى الطاء .

وقرأ ابن محيصن : فمن اطر ، بإدغام الضاد في الطاء ، وذلك حيث وقع . ومعنى الاضطرار : الالجاء بعدم ، وغرث هذا قول الجمهور .

وقيل معناه : أكره وغلب على أكل هذه امحرمات . وانتصاب غير باغ على الحال من الضمير المستكن في اضطر ، وجعله بعضهم حالاً من الضمير المستكن في الفعل المحذوف المعطوف على قوله : اضطر ، وقدره : فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد . قدره كذلك القاضي وأبو بكر الرازي ليجعلا ذلك قيداً في الأكل ، لا في الاضطرار . ولا يتعين ما لاقاه ، إذ يحتمل أن يكون هذا المقدر بعد قوله : غير باغ ولا عاد ، بل هو الظاهر والأولى ، لأن في تقدير قبل غير باغ ولا عاد فصلاً بين ما ظاهره الاتصال بما بعده ، وليس ذلك في تقديره بعد قوله غير باغ ولا عاد . وعاد : اسم فاعل من عدا ، وليس اسم فاعل من عاد ، فيكون مقلوباً ، أو محذوفاً من باب شاك ولاث ، كما ذهب إليه بعضهم ، لأن القلب لا ينقاس ، ولا نصير إليه إلا لموجب ، ولا موجب هنا لادعاء القلب . وأصل البغي ، كما تقدم ، هو طلب الفساد ، وإن كان قد ورد لمطلق الطلب ، فاستعمل في طلب الخير ، كما قال الشاعر : أألخير الذي أنا أبتغيه

أم الشر الذي هو يبتغيني

ويقال :

لا يمنعك من بغاء الخير تعقاد التمائم فلا إثم عليه ، الإثم : تحمل الذنب ، نفى بذلك عنه الحرج . والمحذوف الذي قدرناه من قولنا : فأكل ، لا بد منه ، لأنه لا ينف الإثم عمن لم يوجد منه الاضطرار ، ولا يترتب ذلك على الاضطرار وحده ، بل على الأكل المترتب على الاضطرار ، في حال كون المضطر لا باغياً ولا عادياً . وظاهر هذا التركيب أنه متى كان عاصياً بسفره فأكل ، أنه يكون عله الإثم ، لأنه يطلق أنه باغ ، خلافاً لأبي حنيفة ومن وافقه ، فإنه يبيح له الأكل عند الضرورة . وظاهر بناء اضطر حصول مطلق الضرورة بشغب ، أو إكراه ، سواء حصل الاضطرار في سفر أو حضر . وظاهر قوله :{ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ } نفي كل فرد من الإثم عنه إذا أكل ، لا وجوب الأكل . وقال الطبري : ليس الأكل عند الضرورة رخصة ، بل ذلك عزيمة واجبة ، ولو امتنع من الأكل كان عاصياً . وقال مسروق : بلغني أنه من اضطر إلى الميتة فلم يأكل حتى مات ، دخل النار ، كأنه أشار إلى أنه قاتل نفسه بتركه ما أباح اللّه له .

{إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } : لما ذكر أشياء محرمة اقتضى المنع منها ، ثم ذكر إباحتها للمضطر في تلك الحال المقيدة له ، أتبع ذلك بالإخبار عن نفسه بأنه تعالى غفور رحيم ، لأن المخاطب بصدد أن يخالف ، فيقع في شيء من أكل هذه المحرمات ، فأخبر بأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بها . أو لأن المخاطب ، إذا اضطر فأكل ما يزيد على قدر الحاجة ، فهو تعالى غفورله ذلك ، رحيم بأن أباح له قدر الحاجة . أو لأن مقتضى الحرمة قائم في هذه المحرمات ، ثم رخص في تناولها مع قيام المانع ، فعبر عن هذا الترخيص والإباحة بالمغفرة ، ثم ذكر بعد الغفران صفة الرحمة ، أي لأجل رحمتي بكم أبحت لكم ذلك . .

﴿ ١٧٣