١٧٨

يا أيها الذين . . . . .

{الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } : روى البخاري عن ابن عباس قال : كان في اسرائيل القصاص ، ولم يكن فيهم الدية . فقال اللّه تعالى هذه الآية .

وقال قتادة والشعبي : نزلت في قوم من العرب أعزة أقوياء لا يقتلون بالعبد منهم إلاَّ سيداً ، ولا بالمرأة إلاَّ رجلاً .

وقال السدي ، وأبو مالك : نزلت في فريقين أحدهما مسلم ، والآخر كافر معاهد ، كان بينهما على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قتال ، فقُتِل من كلا الفريقين جماعة من رجال ونساء وعبيد ، فنزلت ، فجعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دية الرجل قصاصاً بدية الرجل ، ودية المرأة قصاصاً بدية المرأة ، ودية العبد قصاصاً بدية العبد . ثم أصلح بينهما .

وقيل : نزلت في حيين من العرب اقتلوا قبل الإسلام ، وكان بينهما قتلى وجراحات لم يأخذ بعضهم من بعض . قال ابن جبير : هما الأوس والخزرج . وقال مقاتل بن حيان : هما قريظة والنضير ، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الاخرى في الكثرة والشرف ، وكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور ، وأقسموا ليقتلن بالعبد الحر ، وجعلوا جراحاتهم ضعفي جراحات أولئك ، وكذلك كانوا يعاملونهم في الجاهلية ، فرفعوا أمرهم إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت ، وأمرهم بالمساواة فرضوا ، وفي ذلك قال قائلهم : هم قتلوا فيكم مظنة واحد

ثمانية ثم استمروا فأربعوا

وروي أن بعض غني قتل شأس بن زهير ، فجمع عليهم أبوه زهير بن خزيمة فقالوا له ، وقال له بعض من يذب عنهم : سل في قتل شاس ، فقال : إحدى ثلاث لا يرضيني غيرهنّ ، فقالوا : ما هنّ ؟ فقال : تحيون شاساً ، أو تملؤون داري من نجوم السماء ، أو تدفعون لي غنياً بأسرها فأقتلها ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها إنه لما حلل ما حلل قبل ، وحرّم ما حرّم ، ثم اتبع بذكر من أخذ مالاً من غير وجهه ، وأنه ما يأكل في بطنه إلاَّ النار ، واقتضى ذلك انتظام جميع المحرمات من الأموال ، ثم أعقب ذلك بذكر من اتصف بالبر ، وأثنى عليهم بالصفات الحميدة التي انطووا عليها ، أخذ يذكر تحريم الدماء ، ويستدعي حفظها وصونها ، فنبه بمشروعية القصاص على تحريمها ، ونبه على جواز أخذ مال بسببها ، وأنه ليس من المال الذي يؤخذ من غير وجهه ، وكان تقديم تبيين ما أحل اللّه وما حرم من المأكول على تبيين مشروعية القصاص لعموم البلوى بالمأكول ، لأن به قوام البنية ، وحفظ صورة الإنسان .

ثم ذكر حكم متلف تلك الصورة ، لأن من كان مؤمناً يندر منه وقوع القتل ، فهو بالنسبة لمن اتصف بالأوصاف السابقة بعيد منه وقوع ذلك ، وكان ذكر تقديم ما تعم به البلوى أعم ، ونبه أيضاً على أنه ، وإن عرض مثل هذا الأمر الفظيع لمن اتصف بالبر ، فليس ذلك مخرجاً له عن البر ، ولا عن الإيمان ، ولذلك ناداهم بوصف الإيمان فقال :{ الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}

وأصل الكتابة : الخط الذي

يقرأ ، وعبر به هنا عن معنى الإلزام والإثبات ، أي : فرض وأثبت ، لأن ما كتب جدير بثبوته وبقائه .

وقيل : هو على حقيقته ، وهو إخبار عن ما كتب في اللوح المحفوظ ، وسبق به القضاء .

وقيل : معنى كتب : أمر ، كقوله : { ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللّه لَكُمْ } أي : التي أمرتم بدخولها .

وقيل : يأتي كتب بمعنى جعل ، ومنه { أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ }{ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } وتعدي كتب هنا بعلى يشعر بالفرض والوجوب ، { وَفِى الْقَتْلَى } في هنا للسببية ، أي : بسبب القتلى ، مثل : { دخلت امرأة النار في هرة} . والمعنى : أنكم أيها المؤمنون وجب عليكم استيفاء القصاص من القاتل بسبب قتل القتلى بغير موجب ، ويكون الوجوب متعلق الإمام أو من يجري مجراه في استيفاء الحقوق إذا أراد ولي الدم استيفاءه ، أو يكون ذلك خطاباً مع القاتل ، والتقدير ، يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص ، وذلك أنه يجب على القاتل ، إذا أراد الولي قتله ، أن يستسلم لأمر اللّه وينقاد لقصاصه المشروع ، وليس له أن يمتنع بخلاف الزاني والسارق ، فإن لهما الهرب من الحدّ ، ولهما أن يستترا بستر اللّه ، ولهما أن لا يعترفا ويجب على الولي الوقوف عند قاتل وليه ، وأن لا يتعدى على غيره ، كما كانت العرب تفعل بأن تقتل غير قاتل قتيلها من قومه ، وهذا الكتب في القصاص مخصوص بأن لا يرضي الولي بدية أو عفو ، وإنما القصاص هو الغاية عند التشاحن ،

وأمّا إذا رضي بدون القصاص من دية أو عفو فلا قصاص .

قال الراغب : فان قيل : على من يتوجه هذا الوجوب ؟ قيل على الناس كافة ، فمنهم من يلزمه تسليم النفس ، وهو القاتل ، ومنهم من يلزمه استيفاؤه ، وهو الإمام إذا طلبه الولي ، ومنهم من يلزمه المعاونة والرضى ، ومنهم من يلزمه أن لا يتعدّى ، بل يقتص أو يأخذ الدية ، والقصد بالآية منع التعدّي ، فإن أهل الجاهلية كانوا يتعدّون في القتل ، وربما لا يرضى أحدهم إذا قتل عبدهم إلاَّ بقتل حر . اه كلامه .

وتلخص في قوله :{ الْمُتَّقُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ثلاثة أقوال .

أحدها : أنهم الأئمة ومن يقوم مقامهم .

الثاني : أنهم القاتلون .

الثالث : أنهم جميع المؤمنين على ما أوضحناه .

وقد اختلف في هذه الآية ، أهي ناسخة أو منسوخة ؟ فقال الحسن : نزلت في نسخ التراجع الذي كانوا يفعلونه ، إذا قتل الرجل امرأة كان وليها بالخيار بين قتله مع تأدية نصف الدية ، وبين أخذ نصف دية الرجل وتركه ، . وإن كان قاتل الرجل امرأة ، كان أولياء المقتول بالخيار بين قتل المرأة وأخذ نصف دية الرجل ، وإن شاؤوا أخذوا الدية كاملة ولم يقتلوها . قال : فنسخت هذه الآية ما كانوا يفعلونه . اه . ولا يكون هذا نسخاً ، لأن فعلهم ذلك ليس حكماً من أحكام اللّه فينسخ بهذه الآية .

وقال ابن عباس : هي منسوخة بآية المائدة ، وسيأتي الكلام في هذا .

ولما ذكر تعالى كتابة القصاص في القتل بين من يقع بينهم القصاص فقال :{ الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالاْنثَى بِالاْنْثَى } ، واختلفوا في دلالة هذه الجمل ، فقيل : يدل على مراعاة المماثلة في الحرية والعبودية والأنوثة ، فلا يكون مشروعاً إلاَّ بين الحرين ، وبين العبدين ، وبين الأنثيين ، فالالف واللام تدل على الحصر ، كأنه

قيل : لا يؤخذ الحرّ إلاَّ بالحر ، ولا يؤخذ العبد إلاَّ بالعبد ، ولا تؤخذ الأنثى إلاَّ بالأنثى .

روي معنى هذا عن ابن عباس ، وأن ذلك نسخ بآية المائدة ، وروي عنه أيضاً أن الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة .

وممن ذهب إلى أنها منسوخة . ابن المسيب ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والثوري .

وقيل : لا تدل على الحصر ، بل تدل على مشروعية القصاص بين المذكورين ، ألا ترى أن عموم : { وَالاْنثَى بِالاْنْثَى } تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة فلو كان قوله :{ الْحُرُّ بِالْحُرّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } مانعاً من ذلك لتصادم العمومان .

وقوله :{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } جملة مستقلة بنفسها ، وقوله :{ الْحُرُّ بِالْحُرّ } ذكر لبعض جزئياتها فلا يمنع ثبوت الحكم في سائر الجزئيات .

وقال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد به الجنس الذكر والأنثى سواء فيه ، وأعيد ذكر الأنثى توكيداً وتهمماً بإذهاب أمر الجاهلية .

وروي عن علي والحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبداً أو عبد حراً ، وذكرٌ أنثى ، أو أنثى ذكراً . وقالا : إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا بها صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية ، وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة . وإذا قتلت المرأة رجلاً فإن أراد أولياؤه قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإلاَّ أخذوا دية صاحبهم واستحيوها ، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلاَّ قيمة العبد ، وإن شاء استحيي وأخذ قيمة العبد .

وقد أُنكر هذا عن علي والحسن ، والإجماع على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء ، وفرقة ترى الإتباع بفضل الديات ، والإجماع على قتل المسلم الحر إذا قتل مسلمٌ حراً بمحدد ، وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه ، وهو قول عثمان البتي ، قال : إذا قتل ابنه عمداً قتل به .

وقال مالك : إذا قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه ، وغير ذلك من أنواع القتل التي لا شبهة له فيها في ادعاء الخطأ قتل به ، وإن قتله يرمي بشيء أو يضرب ، ففي مذهب مالك قولان :

أحدهما : يقتل ، والآخر : لا يقتل .

وقال عامة العلماء : لا يقتل الوالد بولده ، وعليه الدية فيما له ، قال بذلك : أبو حنيفة ، والأوزاعي ، والشافعي ، وسووا بين الأب والجد ، ورُوي ذلك عن عطاء ومجاهد .

وقال الحسن بن صالح : يقُاد الجدّ بابن الابن ، وكان يجيز شهادة الجد لابن ابنه ، ولا يجيز شهادة الاب لابنه ، وظاهر قوله :{ الْحُرُّ بِالْحُرّ } قتل الابن بابيه ، والظاهر أيضاً قتل الجماعة بالواحد ، وصح ذلك عن عمر وعلي ، وهو قول أكثر أهل العلم .

وقال أحمد : لا تقتل الجماعة بالواحد ، والظاهر أيضاً قتل من يجب عليه القتل لو انفرد إذا شارك من لا يجب عليه القتل كالمخطىء والصبيّ والمجنون والأب عند من يقول لا يقتل بابنه .

وقال أبو حنيفة : لا قصاص على واحد منهما وعلى الأب القاتل نصف الدية في ماله والصبي والمخطىء والمجنون على عاقلته ، وهو قول الحسن بن صالح .

وقال الأوزاعي : على عاقلة المشتركين ممن ذكر الدية .

وقال الشافعي : على الصبي القاتل المشارك نصف الدية في ماله ، وكذلك دية الحر والعبد إذا قتلاً عبداً ، والمسلم والنصراني إذا قتلا نصرانياً ، وإن

شاركه قاتل خطاً فعلى العامد نصف الدية ، وجناية المخطىء على عاقلته .

وقال ابن المسيب ، وقتادة ، والنخعي ، والشعبي ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد يقتل الحر بالعبد .

وقال مالك ، والليث ، والشافعي ؛ لا يقتل به ، واتفقوا على أن المسلم لا يقتل بالكافر الحربى . وقال أبو حنيفة : يقتل المسلم بالذمي وقال ابن شبرمة ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي : لا يقتل به . قال مالك والليث : إن قتله غيلة قتل به وإلاَّ لم يقتل به وكلهم اتفقوا على قتل العبد بالحر .

والظاهر من الآية الكريمة مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء وقع القتل ، من مثقل حجر ، أو خشبة ، أو عصا ، أو شبه ذلك مما يقتل غالباً ، وهو مذهب مالك . والشافعي ، والجمهور .

وقال أبو حنيفة : لا يقتل إذا قتل بمثقل .

والظاهر من الأئمة عدم تعيين الآلة التي يقتل بها من يستحق القتل وقال : أبو حنيفة ، ومحمد ، وأبو يوسف ، وزفر : لا يقتل إلاَّ بالسيف . وقال ابن الغنيم ، عن مالك : إن قتل بحجر ، أو عصا ، أو نار أو تغريق قبل به ، فإن لم يمت بمثله فلا يزال يكرر عليه من جنس ما قتل به حتى يموت ، وإن زاد على فعل القاتل .

وروي ابن منصور عن أحمد أنه : يقتل بمثل الذي قتل به ، ونقل عن الشافعي : أنه إذا قتل بخشب ، أو بخنق قتل بالسيف ، وروي عنه أيضاً أنه : إن ضربه بحجر حتى مات فُعل به مثل ذلك ، وإن حبسه بلا طعام ولا شراب حتى مات فإن لم يمت في مثل تلك المدة .

وقال ابن شبرمة : يضرب مثل ضربه ولا يضرب أكثر من ذلك وقد كانوا يكرهون المثلة ويقولون : يجزي عن ذلك كله السيف . قال : فإن غمسه في الماء حتى مات ، فلا يزال يغمس في الماء حتى يموت .

والظاهر من الآية مشروعية القصاص في الأنفس فقط لقوله : { فِي الْقَتْلَى } وبه قال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر . وهو : أنه لا قصاص بين الأحرار والعبيد إلا في الأنفس وقال ابن المسيب ، والنخعي ، وقتادة ، والحكم وابن أبي ليلى : القصاص واجب بينهم في جميع الجراحات ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، وقال الليث : يقتص للحر من العبد ، ولا يقتص من الحر للعبد في الجنايات . وقال الشافعي : من جرى عليه ، القصاص في النفس جرى عليه في الجراح ، ولا يقتص للحر من العبد فيما دون النفس .

{وَالاْنثَى بِالاْنْثَى} واتفقوا على ترك ظاهرها ، وأجمعوا ، كما تقدم ذكره ، على قتل الرجل بالمرأة ، والمرأة بالرجل ، إلاَّ خلافاً شاذاً عن الحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وعمر بن عبد العزيز ، أنه لا يقتل الرجل بالمرأة .

وروي أن عمر قتل نفراً من صنعاء بامرأة ، والمرأة بالرجل وبالعبد ، والعبد بالحر ، وقد وهم الزمخشري في نسبته إلى مذهب مالك والشافعي أن الذكر لا يقتل بالأنثى ، ولا خلاف عنهما في أنه يقتل بها .

وقال عثمان البتي : إذا قتلت امرأة رجلاً قتلت به وأخذ من مالها نصف الدية ، وإن قتلها هو فعليه القود ولا يرد عليه شيء .

واختلفوا في القصاص في الجراحات بين الرجال والنساء ، فذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، وابن شبرمة ، إلى أنه لا قصاص بين الرجال والنساء إلاَّ في الأنفس ، وذهب مالك ،

والأوزاعي ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، والليث ، والشافعي ، وابن شبرمة في رواية إلى أن القصاص واقع فيما بين الرجال والنساء في النفس وما دونها ، إلاَّ أن الليث قال : إذا جنى الرجل على امرأته عقلها ولا يقتص منه .

وإعرب هذه الجمل مبتدأ وخبر ، وهي ذوات ابتدىء بها ، والجار والمجرور أخبار عنها ، ويمتنع أن يكون الباء ظرفية ، فليس ذلك على حدّ قولهم : زيد بالبصرة ، وإنما هي للسبب ، ويتعلق بكون خاص لا بكون مطلق ، وقام الجار مقام الكون الخاص لدلالة المعنى عليه ، إذا لكون الخاص لا يجوز حذفه إلاَّ في مثل هذا ، إذ الدليل على حذفه قوي إذ تقدّم القصاص في القتلى ، فالتقدير : الحر مقتول بالحر ، أي : بقتله الحر ، فالباء للسبب على هذا التقدير ، ولا يصح تقدير العامل كوناً مطلقاً ، ولو

قلت : الحر كائن بالحر ، لم يكن كلاماً إلاّ إن كان المبتدأ مضافاً قد حذف وأقيم المضاف إليه مقامه ، فيجوز ، والتقدير : قتل الحر كائن بالحر ، أي : بقتله الحر ، ويجوز أن يكون الحر مرفوعاً على إضمار فعل يفسره ما قبله ، التقدير : يقتل الحر بقتله الحر ، إذ في قوله : { الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } دلالة على هذا الفعل .

{فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال علماء التفسير : معنى ذلك أن أهل التوراة كان لهم القتل ولم يكن لهم غير ذلك ، وأهل الإنجيل كان لهم العفو ولم يكن لهم قود ، وجعل اللّه لهذه الأمة لمن شاء القتل ، ولمن شاء أخذ الدية ، ولمن شاء العفو .

وقال قتادة : لم تحل الدية لأحد غير هذه الأمة ، وروي أيضاً عن قتادة : أن الحُكم عند أهل التوراة كان القصاص أو العفو . ولا أرش بينهم ، وعند أهل الإنجيل الدية والعفو لا أرش بينهم ، فخير اللّه هذه الأمة بين الخصال الثلاث .

وارتفاع : مَنْ ، على الابتداء وهي شرطية أو موصولة ، والظاهر أن : من ، هو القاتل والضمير في { لَهُ } و { مِنْ أَخِيهِ } عائد عليه ، { وَشَىْء } : هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو بمعنى المصدر ، وبني { عُفِىَ } ، للمفعول ، وإن كان لازماً ، لأن اللازم يتعدى إلى المصدر كقوله :{ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ } والأخ هو المقتول ، أي : من دم أخيه أو ولي الدم ، وسماه أخاً للقاتل اعتباراً بأخوة الإسلام ، أو استعطافاً له عليه ، أو لكونه ملابساً له من قبل أنه ولي للدم ومطالب به كما تقول : قل لصاحبك كذا ، لمن بينك وبينه أدنى ملابسة ، وهذا لذي أقيم مقام الفاعل وإن كان مصدراً فهو يراد به الدم المعفو عنه ، والمعنى : أن القاتل إذا عفي عنه رجع إلى أخذ الدية . وهو قول ابن عباس وجماعة من أهل العلم ، واستدل بهذا على أن موجب العهد أحد الأمرين ، إما القصاص ،

وإما الدية . لأن الدية تضمنت عافياً ومعفواً عنه ، وليس إلاَّ وليّ الدم والقاتل ، والعفو لا يتأتي إلاَّ من الولي ، فصار تقدير الآية : فاذا عفا وليّ الأمر عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف . وعفا يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الجناية ، تقول : عفوت عن زيد ، وعفوت عن ذنب زيد ، فإذا عديت إليهما معاً تعدت إلى الجاني باللام ، وإلى الذنب بعن ، تقول : عفوت لزيد عن ذنبه ، وقوله :{ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ } من هذا الباب أي : فمن عفي له عن جنايته ، وحذف عن جنايته لفهم المعنى ، ولا يفسر عفي بمعنى ترك ، لأنه لم يثبت ذلك معدّى إلاَّ بالهمزة ، ومنه : { أعفوا اللحى } ولا يجوز أن تضمن عف معنى ترك وإن كان العافي عن الذنب تاركاً له لا يؤاخذ به ، لأن التضمين لا ينقاش .

قال الزمخشري .

فإن قلت : فقد ثبت قولهم عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه : فمن محى له من أخيه شيء ؟

قلت : عبارة قيلت في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نائية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء إذا عضل عليه تخريج المشكل من كلام اللّه على اختراع لغة . وادّعاء على العرب ما لا تعرف ، وهذه جرأة يستعاذ باللّه منها . انتهى كلامه .

وإذا ثبت أن عفا يكون بمعنى محافلاً يبعد حمل الآية عليه ، ويكون إسناد عفي لمرفوعه إسناداً حقيقاً لأنه إذ ذاك مفعول به صريح ، وإذا كان لا يتعدّى كان إسناده إليه مجازاً وتشبيهاً للمصدر بالمفعول به ، فقد يتعادل الوجهان أعني : كون عفا اللازم لشهرته في الجنايات ، وعفا المتعدي لمعنى محا

لتعلقه بمرفوعه تعلقاً حقيقياً .

وقول الزمخشري : وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم إلى آخره ، هذا الذي ذكره هو فعل غير المأمونين على دين اللّه ، ولا الموثوق بهم في نقل الشريعة ، والكذب من أقبح المعاصي وأذهبها الخاصة الإنسان ، وخصوصاً على اللّه ، وعلى رسوله .

وقال أبو محمد بن حزم ما معناه : إنه قد يصحب الإنسان وإن كان على حالة تكره ، إلاَّ ما كان من الكاذب ، فإنه يكون أول مفارق له ، لكن لا يناسب قول الزمخرشي هنا : وترى كثيراً إلى آخر ، كلامه اثر قوله : فإن قلت إلى آخره ، لأن مثل هذا القول هو حمل العفو على معنى المحو ، وهو حمل صحيح واستعمال في اللغة ، فليس من باب الجرأة ، واختراع اللغة .

وبنى الفعل هنا للمفعول ليعم العافي كان واحداً أو أكثر ، هدا أن أريد بأخيه المقتول . أي : من دم أخيه ،

وقيل : شيء لأن معناه : شيء من العفو فسواء في ذلك أن يعفو عن بعض الدم أو عن كله ، أو أن يعفو بعض الورثة أوكلهم ، فإنه يتم العفو ويسقط القصاص ، ولا يجب إلاَّ الدية ،

وقيل : من عفي له هو وليّ الدم ، وعفي هنا بمعنى ، يسَّر لا على بابها في العفو ، ومن أخيه : هو القاتل ، وشيء : هو الدية ، والاخوة هي : اخوة الإسلام ، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل : المقتول ، أي : من قبل أخيه المقتول ، وهذا القول قول مالك ، فسر المعفوّ له بوليّ الدم ، والأخ : بالقاتل ، والعفو بالتيسير ، وعلى هذا قال مالك : إذا جنح الوليّ إلى العفو على أخذ الدّية خير القاتل بين أن يعطيها أو يسلم نفسه .

وغير مالك يقول : إذا رضي الوليّ بالدية فلا خيار للقاتل ، ويلزم الدية ، وقد روي هذا عن مالك ، ورجحه كثير من أصحابه ، ويضعف هذا القول أن عفي بمعنى : يسر لم يثبت .

وقيل : هذه ألفاظ في المعنيين الذين نزلت فيهم هذه الآية كلها ، وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة ، فمعنى الآية : فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات ، وتكون : عفا بمعنى : فضل ، من قولهم : عفا الشيء إذا كثر ، أي : أفضلت الحالة له ، أو الحساب ، أو القدر ،

وقيل : هي على قول علي والحسن في الفضل من دية الرجل والمرأة والحر والعبد ، أي : من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف ، وعفي هنا بمعنى : أفضل ، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ، ثم بينت الحكم إذا تداخلت ، والقول الأول أظهر كما قلناه ، وقد جوز ابن عطية أن يكون عفي بمعنى : ترك ، فيرتفع شيء على أنه مفعول به قام مقام الفاعل ، قال : والأول أجود بمعنى أن يكون عفي لا يتعدى إلى مفعول به ، وإن ارتفاع شيء ، هو لكونه مصدراً أقيم مقام الفاعل ، وتقدم قول الزمخشري : إن عفي بمعنى : ترك لم يثبت .

{فَاتِبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ارتفاع اتباع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالحكم ، أو الواجب كذا قدره ابن عطية ، وقدره الزمخشري : فالأمر اتباع ، وجوز أيضاً رفعه بإضمار فعل تقديره : فليكن اتباع ، وجوّزوا أيضاً أن يكون مبتدأً محذوف الخبر وتقديره ، فعلى الولي اتباع القاتل بالدية ، وقدروه أيضاً متأخراً تقديره ، فاتباع بالمعروف عليه .

قال ابن عطية بعد تقديره : فالحكم أو الواجب اتباع ، وهذا سبيل الواجبات ، كقوله { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ }

وأما المندوب إليه فيأتي منصوباً كقوله :{ فَضَرْبَ الرّقَابِ } انتهى .

ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلاَّ ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله :{ قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ } فيمكن أن يكون هذا الذي لحظه ابن عطية من هذا .

وأما إضمار الفعل الذي قدره الزمخشري : فليكن ، فهو ضعيف إذ : كان ، لا تضمر غالباً إلاَّ بعد إن الشرطية ، أو : حيث يدل على إضمارها الدليل ، و { بِالْمَعْرُوفِ } متعلق بقوله : فاتباع ، وارتفاع :{ وَأَدَاء } لكونه معطوفاً على اتباع ، فيكون فيه من الإعراب ما قدروا في : فاتباع ، ويكون بإحسان متعلقاً بقوله : وأداء ، وجوزوا أن يكون : وأداء ، مبتدأ ، وبإحسان ، هو

الخبر ، وفيه بعد والفاء في قوله : فاتباع ، جواب الشرط إن كانت مَن شرطاً ، والداخلة في خبر المبتدأ إن كانت مَن موصولة ، فإن كانت مَن : كناية عن القاتل وأخوه : كناية عن الولي ، وهو الظاهر ، فتكون الجملة توصية للمعفو عنه والعافي بحسن القضاء من المؤدي ، وحسن التقاضي من الطالب ، وإن كان الأخ كناية عن المقتول كانت الهاء في قوله : وآداء إليه ، عائدة على ما يفهم من يصاحب بوجه مّا ، لأن في قوله : عفي دلالة على العافي فيكون نظير قوله : { حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ } إذ في العشي دلالة على مغيب الشمس ، وقول الشاعر : لك الرجل الحادي وقد منع الضحى

وطير المنايا فوقهن أواقع

أي : فوق الإبل ، لأن في قوله : الحادي ، دلالة عليهن ، وإن كانت مَن كناية عن القاتل فيكون أيضاً توصية له وللولي بحسن القضاء والتقاضي ، أي : فاتباع مِنَ الولي بالمعروف ، وأداء من القاتل إليه بإحسان ، والاتباع بالمعروف أن لا يعنف عليه ولا يطالبه إلاَّ مطالبة جميلة ، ولا يستعجله إلى ثلا ث سنين يجعل انتهاء الإستيفاء والأداء بالإحسان ، أن لا يمطله ولا يبخسه شيئاً . وهذا مروي عن ابن عباس في تفسير الإتباع والأداء .

وقيل : اتباع الولي بالمعروف أن لا يطلب من القاتل زيادة على حقه ، وقد روي في الحديث : { من زاد بعيراً في أبل الدية وفرائضها فمن أمر الجاهلية} .

وقيل الاتباع والأداء معاً من القاتل ، والاتباع بالمعروف أن لا ينقصه ، والأداء بالإحسان أن لا يؤخره .

وقيل : المعروف حفظ الجانب ولين القول ، والإحسان تطييب القول ،

وقيل : المعروف ما أوجبه تعالى ،

وقيل : المعروف ما يتعاهد العرب بينها من دية القتلى .

وظاهر قوله :{ فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } الآية . أنه يمتنع إجابة القاتل إلى القود منه إذا اختار ذلك واختار المستحق الدية ويلزم القاتل الدية إذا اختارها الولي ، وإليه ذهب سعيد ، وعطاء ، والحسن ، والليث ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، ورواه أشهب عن مالك .

وقال أبو حنيفة وأصحابه ، وأحمد ، ومالك في إحدى الروايتين عنه ، والثوري ، وابن شبرمة : ليس للولي إلاَّ القصاص ، ولا يأخذ إلاَّ برضى القاتل ، فعلى قول هؤلاء يقدر بمحذوف ، أي : فمن عفي له من أخيه شيء ورضي المعفو ودفع الدية فاتباع بالمعروف ، وقد تقدّمت لنا الإشارة إلى هذا الخلاف عند تفسيرنا :{ فَمَنْ عُفِىَ } واختلاف الناس فيه .

{ذالِكَ تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } أشار بذلك إلى ما شرعه تعالى من العفو والدية إذ أهل التوراة كان مشروعهم القصاص فقط ، وأهل الإنجيل مشروعهم العفو فقط ،

وقيل : لم يكن العفو في أمة قبل هذه الأمة ، وقد تقدّم طرق من هذا النقل ، وهذه الأمة خيرت بين القصاص وبين العفو والدية ، وكان العفو والدية تخفيفاً من اللّه إذ فيه انتفاع الولي بالدّية ، وحصول الأجر بالعفو استبقاء مهجة القاتل ، وبذل ما سوى النفس هين في استبقائها ، وأضاف هذا التخفيف إلى الرب لأنه المصلح لأحوال عبيده ، الناظر لهم في تحصيل ما فيه سعادتهم الدينية والدنيوية ، وعطف { وَرَحْمَةً } على { تَخْفِيفٌ } لأن من استبقى مهجتك بعد استحقاق إتلافها فقد رحمك . وأي رحمة أعظم من ذلك ؟ ولعل القاتل المعفو عنه يستقل من الأعمال الصالحة في المدة التي عاشها بعد استحقاق قتله ما يمحو به هذه الفعلة الشنعاء ، فمن الرحمة إمهاله لعله يصلح أعماله .

{فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ } أي : من تجاوز شرع اللّه بعد القود وأخذ الدية بقتل القاتل بعد سقوط الدم ، أو بقتل غير القاتل ، وكانوا في الجاهلية يفعلون ذلك ، ويقتلون بالواحد الاثنين والثلاثة والعشرة ،

وقيل : المعنى : من قتل بعد أخذ الدية ،

وقيل : بعد العفو ،

وقيل : من أخذ الدية بعد العفو عنها . والأظهر القول الأول لتقدم العفو ،

وأخذ المال ، والاعتداء ، وتجاوز الحد يشمل ذلك كله .

وقال الزمخشري : بعد ذلك التخفيف ، فجعل ذلك إشارة إلى التخفيف ، وليس يظهر أن ذلك إشارة إلى التخفيف ، وإنما الظاهر ما شرحناه به من العفو وأخذ الدية ، وكون ذلك تخفيفاً هو كالعلة لمشروعية العفو وأخذ الدية ، ويحتمل : مَنْ في قوله : { فَمَنِ اعْتَدَى } أن تكون شرطية ، وأن تكون موصولة .

{فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } جواب الشرط ، أو خبر عن الموصول ، وظاهر هذا العذاب أنه في الأخرة ، لأن معظم ما ورد من هذه التوعدات إنما هي في الآخرة .

وقيل : العذاب الأليم هو في الدنيا ، وهو قتله قصاصاً ، قاله عكرمة ، وابن جبير ، والضحاك :

وقيل : هو قتله البتة حداً ، ولا يمكن الحاكم الوليّ من العفو قاله عكرمة أيضاً ، وقتادة ، والسدي .

وقيل : عذابه أن يرد الدية ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة ، قاله الحسن .

وقيل : عذابه تمكين الإمام منه يصنع فيه ما يرى ، قاله عمر بن عبد العزيز . ومذهب جماعة من العلماء أنه إذا قتل بعد سقوط الدم هو كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله ، وإن شاء عفا عنه .

﴿ ١٧٨