١٧٩

ولكم في القصاص . . . . .

{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ يأُولِي أُوْلِى الالْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } الحياة التي في القصاص هي : أن الإنسان إذا علم أنه إذا قَتَلَ قُتِلَ ، أمسك عن القتل ، فكان ذلك حياة له ، للذي امتنع من قتله ، فمشروعية القصاص مصلحة عامة ، وإبقاء القاتل والعفو عنه مصلحة خاصة به ، فتقدّم المصلحة العامة لتعذر الجمع بينهما . أو المعنى : ولكم في شرع القصاص حياة ، وكانت العرب إذا قتل الرجل حمى قبيلة أن تقتص منه ، فيقتتلون ، ويقضي ذلك إلى قتل عدد كثير ، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود ، وصالحوا على الدية وتركوا القتال ، فكان لهم في ذلك حياة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل .

وقيل : حياة لغير القاتل ، لأنه لا يقتل خلاف ما كان يفعله أهل الجاهلية .

وقيل : حياة للقاتل .

وقيل : حياة لارتداع من يهم به في الآخرة إذ استوفى منه القصاص في الدنيا فإنه في الآخرة لا يقتص منه ، وإن لم يقتص اقتص منه في الآخرة . فلا تحصل له تلك الحياة التي حصلت لمن اقتص منه .

وقرأ أبو الجوزاء ، أوس بن عبد اللّه الربعي : ولكم في القصص ، أي : فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص ،

وقيل : القصص : القرآن ، أي : لكم في القرآن حياة القلوب ، كقوله :{ رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } وكقوله :{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ}

و

قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون مصدراً كالقصاص ، أي : أنه إذا قص أثر القاتل قصصاً قتل كما قتل .

وقال الزمخشري :{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ } كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أن القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة مخز البلاغة بتعريف ، القصاص ، وتنكير : الحياة ، لأن المعنى : ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، أو نوع من الحياة ، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل . لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، انتهى كلامه .

وقالت العرب فيما يقرب من هذا المعنى : القتل أوقى للقتل ، وقالوا : أنفي للقتل ، وقالوا : أكف للقتل .

وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه .

أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سبباً لانتفاء نفسه ، وهو محال .

الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة .

الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفي للقتل .

الرابع : أن القتل ظلماً هو قتل ، ولا يكون نافياً للقتل . وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك .

أما في الوجه

الأول : ففيه أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة ، لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص ، اتضح كون شرع القصاص سبباً للحياة .

وأما في الوجه

الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف ، لأن في

كلام العرب كما قلناه تكرار اللفظ ، والحذف إذ أنفي ، أو أكف ، أو أوقى ، هو أفعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفي للقتل من ترك القتل .

وأما في الوجه

الثالث : فالقصاص أعم من القتل ، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس ، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة .

وأما في الوجة

الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق ، فترتب على مشروعيته وجود الحياة .

ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى الطباق ، وهو شبه قوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ } وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم ، وهو في موضع الخبر ، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة ، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة ، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة ، وهي مشروعية القصاص ، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب القائلون لامتثال أوامر اللّه واجتناب نواهيه ، وهم الذين خصهم اللّه بالخطاب ، { يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الاْلْبَابِ }{ لآيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }{ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ }{ لاَيَاتٍ لاِوْلِى }{ ذالِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } وذوو الالباب هم الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، إذ من لا عقل له لا يحصل له الخوف ، فلهذا خص به ذوي الألباب .

{لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي : القصاص ، فتكفون عن القتل وتتقون القتل حذراً من القصاص أو الانهماك في القتل ، أو تتقون اللّه باجتناب معاصيه ، أو تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به ، وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة أقوال خمسة ، أولاها ما سيقت له الآية من مشروعية القصاص .

﴿ ١٧٩