١٨٦وإذا سألك عبادي . . . . . {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّى فَإِنّي قَرِيبٌ } سبب النزول فيما قال الحسن : أن قوماً ، قيل : اليهود ، وقيل : المؤمنون ، قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه . وقال عطاء : لما نزل .{ وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } قال قوم : في أي ساعة ندعوا ؟ فنزل { وَإِذَا سَأَلَكَ } ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما تضمن قوله :{ وَلِتُكَبّرُواْ اللّه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } طلب تكبيره وشكره بيَّن أنه مطلع على ذكر من ذكره وشكر من شكره ، يسمع نداءه ويجيب دعاءه أو رغبة ، تنبيهاً على أن يكون ولا بد مسبوقاً بالثناء الجميل . والكاف في : سألك ، خطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فكأنه قيل :{ أنزل عليك فيه القرآن ، فجاء هذا الخطاب مناسباً لهذا المحذوف} . و : عبادي ، ظاهره العموم ، وقيل : أريد به الخصوص : إما اليهود وإما المؤمنون على الخلاف في السبب ، وأما عبادي . و : عني ، فالضمير فيه للّه تعالى ، وهو من باب الالتفات ، لأنه سبق و : التكبروا للّه ، فهو خروج من غائب إلى متكلم ، و : عني ، متعلق بسألك ، وليس المقصود هنا عن ذاته لأن الجواب وقع بقوله : فإني قريب ، والقرب المنسوب إلى اللّه تعالى يستحيل أن يكون قرباً بالمكان ، وإنما القرب هنا عبارة عن كونه تعالى سامعاً لدعائه ، مسرعاً في إنجاح طلبه من سأله ، فمثل حالة تسهيله ذلك بحالة من قرب مكانه ممن يدعوه ، فإنه لقرب المسافة يجيب دعاءه ونظير هذا القرب هنا قوله تعالى :{ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } وما روي من قوله عليه السلام : { هو بينكم وبين أعناق رواحلكم} . والفاء في قوله : فإني قريب ، جواب إذا ، وثم قول محذوف تقديره : فقل لهم إني قريب لإنه لا يترتب على الشرط القرب ، إنما يترتب الإخبار عن القرب . {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } أجيب : إما صفة لقريب ، أو خبر بعد خبر ، وروعي الضمير في : فإني ، فلذلك جاء أجيب ، ولم يراع الخبر فيجيء : يجيب ، على طريقة الإسناد للغائب طريقان للعرب : أشهرهما : مراعاة السابق من تكلم أو خطاب كهذا ، وكقولهم :{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ }{ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} وكقول الشاعر : وإنا لقوم ما نرى القتل سبة والطريق الثاني : مراعاة الخبر كقولك : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ يريد الخير ، والكلام على هذه المسألة متسع في علم العربية ، وقد تكلمنا عليها في كتابنا الموسوم ب } منهج السالك والعامل في إذا قوله أجيب} . وروي أنه نزل قوله :{ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } لما نزل :{ فَإِنّي قَرِيبٌ } وقال المشركون : كيف يكون قريباً من بيننا وبينه على قولك سبع سموات في غلظ ، سمك كل سماء خمسمائة عام ، وفي ما بين كل سماء وسماء مثل ذلك ، فبين بقوله :{ أُجِيبُ } : أن ذلك القرب هو الإجابة والقدرة ، وظاهر قوله :{ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ } عموم الدعوات ، إذ لا يريد دعوة واحدة ، والهاء في : دعوة ، هنّا ليست للمرة ، وإنما المصدر هنا بني على فعلة نحو . رحمة ، والظاهر عموم الداعي لأنه لا يدل على داعٍ مخصوص ، لأن الألف واللام فيه ليست للعهد ، وإنما هي للعموم . والظاهر تقييد الإجابة بوقت الدعاء ، والمعنى على هذا الظاهر أن اللّه تعالى يعطي من سأله ما سأله . وذكروا قيوداً في هذا الكلام ، وتخصيصات ، فقيدت الإجابة بمشيئة اللّه تعالى . التقدير : إن شئت ، ويدل عليه التصريح بهذا القيد في الآية الأخرى ، فيكشف ما تدعون إليه إن شاء ، وقيل : بوفق القضاء أي : أجيب إن وافق قضائي ، وهو راجع لمعنى المشيئة ، وقيل : يكون المسؤول خير السائل ، أي : إن كان خيراً . وقيل : يكون المسؤول غير محال ، وقد يثبت بصريح العقل وصحيح النقل أن بعض الدعاة لا يجيبه اللّه إلى ما سأل ، ولا يبلغه المقصود مما طلب ، فخصصوا الداعي بأن يكون : مطيعاً مجتنباً لمعاصيه . وقد صح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في الرجل يطيل السفر : { أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب ، ومطعمه حرام ، وملبسه حرام ، ومشربه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنَّي يستجاب له } ؟ . قالوا : ومن شرطه أن لا يمل ، ففي الصحيح : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل ، يقول : قد دعوت فلم يستجب لي . وخصص الدعاء بأن يدعوا بما ليس فيه إثم ، ولا قطيعة رحم ، ولا معصية ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { ما من مسلم يدعوه بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه اللّه تبارك وتعالى إحدى ثلاث : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له ، وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها} . وينبغي أن يكون الدعاء بالمأثور ، وأن لا يقصد فيه السجع ، سجع الجاهلية ، وأن يكون غير ملحون . وترتجى الإجابة من الأزمان عند السحر ، وفي الثلث الأخير من الليل ، ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ، وأوقات الاضطرار ، وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر ، والصف في سبيل اللّه ، والعيدين ، والساعة التي أخبر عنها النبي صلى اللّه عليه وسلم في يوم الجمعة : وهي من الإقامة إلى فراغ الصلاة : كذا ورد مفسراً في الحديث ، وقيل : بعد عصر الجمعة ، وعندما تزول الشمس . ومن الأماكن : في الكعبة ، وتحت ميزابها ، وفي الحرم ، وفي حجرة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والجامع الأقصى . وإذا كان الداعي بالأوصاف التي تقدمت غلب على الظن قبول دعائه ، وأما إن كان على غير تلك الأوصاف فلا ييأس من رحمة اللّه ، ولا يقطع رجاءه من فضله ، فإن اللّه تعالى قال :{ قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ اللّه } وقال سفيان بن عيينة : لا يمنعن أحد من الدعاء ما يعلم من نفسه ، فإن اللّه تعالى قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس :{ قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وقالت المعتزلة : الإجابة مختصة بالمؤمنين { الَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } لأن وصف الإنسان بأن اللّه أجاب دعوته صفة مدح وتعظيم ، والفاسق لا يستحق التعظيم ، بل الفاسق قد يطلب الشيء فيفعله اللّه ولا يسمى إجابة . قيل : والدعاء أعظم مقامات العبودية لأنه إظهار افتقار إلى اللّه تعالى ، والشرع قد ورد بالأمر به ، وقد دعت الأنبياء والرسل ، ونزلت بالأمر به الكتب الإلهية ، وفي هذا رد على من زعم من الجهال أن الدعاء لا فائدة فيه ، وذكر شبهاً له على ذلك ردها أهل العلم بالشريعة ، وقالوا : أَلاوْلى بالعبد التضرع والسؤال إلى اللّه تعالى ، وإظهار الحاجة إليه لما روي من النصوص الدالة على الترغيب في الدعاء ، والحث عليه ، وقال قوم ممن يقول فيهم بعض الناس ، إنهم علماء الحقيقة : يستحب الدعاء فيما يتعلق بأمور الآخرة ، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فاللّه متكفل ، فلا حاجة إليها . وقال قوم منهم . إن كان في حالة الدعاء أصلح ، وقلبه أطيب ، وسره أصفى ، ونفسه أزكى ، فليدع ؛ وإن كان في الترك أصلح فالإمساك عن الدعاء أولى به . وقال قوم منهم : ترك الدعاء في كل حال أصلح لما فيه من الثقة باللّه ، وعدم الاعتراض ، ولأنه اختيار والعارف ليس له اختيار . وقال قوم منهم : ترك الذنوب هو الدعاء لأنه إذا تركها تولى اللّه أمره وأصلح شأنه ، قال تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ} وقد تؤولت الإجابة والدعاء هنا على وجوه . أحدها : أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على اللّه ، لأنك دعوته ووجدته ، والإجابة عبارة عن القبول لما سمي التوحيد دعاءً سمي القبول إجابة ، لتجانس اللفظ . الوجه الثاني : أن الإجابة هو السماع فكأنه قال : أسمع . الوجه الثالث : أن الدعاء هو التوبة عن الذنوب لأن التائب يدعو اللّه عند التوبة ، والإجابة قبول التوبة . الوجه الرابع : أن يكون الدعاء هو العبادة ، وفي الحديث : { الدعاء العبادة } قال تعالى : { وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ثم قال :{ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } والإجابة عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب . الوجه الخامس : الإجابة أعم من أن يكون بإعطاء المسؤول وبمنعه ، فالمعنى : إني أختار له خير الأمرين من العطاء والرد . وكل هذه التفاسير خلاف الظاهر . {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } أي : فيطليوا ، أي : فليطلبوا إجابتي لهم إذا دعوني ، قاله ثعلب ، فيكون : استفعل ، قد جاءت بمعنى الطلب ، كاستغفر ، وهو الكثير فيها : أو فليجيبوا لي إذا دعوتهم إلى الإيمان والطاعة كما أني أجبيبهم إذا دعوني لحوائجهم ، قاله مجاهد ، وأبو عبيدة ، وغيرهما . ويكون : استفعل ، فيه بمعنى أفعل ، وهو كثير في القرآن { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ }{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى } إلا أن تعديته في القرآن باللام ، وقد جاء في كلام العرب معدى بنفسه قال : وداعٍ دعا يا من يجيب إلى النداء فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي : فلم يجبه ، ومثل ذلك ، أعني كون استفعل موافق أفعل ، قولهم : استبل بمعنى أبل ، واستحصد الزرع واحصد ، واستعجل الشيء وأعجل ، واستثاره وأثاره ، ويكون استفعل موافقة أفعل متعدياً ولازماً ، وهذا المعنى أحد المعاني التي ذكرناها لاستفعل في قوله :{ وإياك نستعين} . وقال أبو رجاء الخراساني : معناه فليدعوا لي ، وقال الأخفش : فليذعنوا الإجابة ، وقال مجاهد أيضاً ، والربيع : فليطيعوا ، وقيل : الإستجابة هنا التلبية ، وهو : لبيك اللّهم لبيك ، واللام لام الأمر ، وهي ساكنة ، ولا نعلم أحداً قرأها بالكسر . {وليؤمنوا بي } معطوف على : فليجيبوا لي ، ومعناه الأمر بالإيمان باللّه ، وحمله على الأمر بإنشاء الإيمان فيه بُعدٌ لأن صدر الآية يقتضى أنهم مؤمنون ، فلذلك يؤول على الديمومة ، أو على إخلاص الدين ، والدعوة ، والعمل ، أو في الثواب على الاستجابة لي بالطاعة أو بالإيمان وتوابعه ، أو بالإيمان في : أني أجيب دعاءهم ، خمسة أقوال آخرها لأبي رجاء الخراساني . {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } قراءة الجمهور بفتح الياء وضم الشين ، وقرأ قوم : يرشدون مبنياً للمفعول ، وروي عن أبي حيوة ، وإبراهيم بن أبي عبلة : يرشدون بفتح الياء وكسر الشين ، وذلك باختلاف عنهما ، وقرىء أيضاً يرشدون بفتحهما ، والمعنى : أنهم إذا استجابوا للّه وآمنوا به كانوا على رجاء من حصول الرشد لهم ، وهو الاهتداء لمصالح دينهم ودنياهم ، وختم الآية برجاء الرشد من أحسن الأشياء لأنه تعالى لما أمرهم بالاستجابة له ، وبالإيمان ، نبه على أن هذا التكليف ليس القصد منه إلاَّ وصولك بامتثاله إلى رشادك في نفسك ، لا يصل إليه تعالى منه شيء من منافعه ، وإنما ذلك مختص بك . ولما كان الإيمان شبه بالطريق المسلوك في القرآن ، ناسب ذكر الرشاد وهو : الهداية ، كما قال تعالى :{ اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ }{ وَهَدَيْنَاهُمَا الصّراطَ الْمُسْتَقِيمَ} |
﴿ ١٨٦ ﴾