١٨٧أحل لكم ليلة . . . . . {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } سبب نزول هذه الآية ما رواه البخاري ، عن اليراء : لما نزل صوم رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم ، فنزلت ، وقيل : كان الرجل إذا أمسى حل له الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة ، أو يرقد ، فإذا صلاها أو رقد ولم يفطر حرم عليه ما حل له قبل إلى القابلة ، وأن عمر ، وكعباً الأنصاري ، وجماعة من الصحابة واقعوا أهلهم بعد العشاء الآخرة ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري نام قبل أن يفطر وأصبح صائماً فغشي عليه عند انتصاف النهار ، فذكر ذلك للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فنزلت . وقال بعض العلماء : نزلت الآية في زلة ندرت ، فجعل ذلك سبب رخصة لجميع المسلمين إلى يوم القيامة ، هذا إحكام العناية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها من الآيات أنها من تمام الأحوال التي تعرض للصائم ، ولما كان افتتاح آيات الصوم بأنه : كتب علينا كما كتب على الذين من قبلنا ، اقتضى عموم التشبيه في الكتابة ، وفي العدد ، وفي الشرائط ، وسائر تكاليف الصوم . وكان أهل الكتاب قد أمروا بترك الأكل بالحل ، والشرب والجماع في صيامهم بعد أن يناموا ، وقيل : بعد العشاء ، وكان المسلمون كذلك ، فلما جرى لعمر وقيس ما ذكرناه في سبب النزول ، أباح اللّه لهم ذلك من أول الليل إلى طلوع الفجر ، لطفاً بهم . وناسب أيضاً قوله تعالى : في آخر آية الصوم : { يُرِيدُ اللّه بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وهذا من التيسير . وقوله : أحل ، يقتضي أنه كان حراماً قبل ذلك ، وقد تقدّم نقل ذلك في سبب النزول ، لكنه لم يكن حراماً في جميع الليلة ، ألا ترى أن ذلك كان حلالاً ، لهم إلى وقت النوم أو إلى بعد العشاء ؟ . وقرأ الجمهور : أحل ، مبنياً للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، وقرىء ، أحل مبنياً للفاعل ، ونصب : الرفث به ، فأما أن يكون من باب الإضمار لدلالة المعنى عليه ، إذ معلوم للمؤمنين أن الذي يحل ويحرم هو اللّه ، وأما أن يكون من باب الالتفات ، وهو الخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ، لأن قبله :{ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى } ولكم ، متعلق بأحل ، وهو التفات ، لأن قبله ضمير غائب ، وانتصاب : ليلة ، على الظرف ، ولا يراد بليلة الوحدة بل الجنس ، قالوا : والناصب لهذا الظرف : أحل ، وليس بشيء ، لأن : ليلة ، ليس بظرف لأحل ، إنما هو من حيث المعنى ظرف للرفث ، وإن كانت صناعة النحو تأبى أن تكون انتصاب ليلة بالرفث ، لأن الرفث مصدر وهو موصول هنا ، فلا يتقدّم معموله ، لكن يقدّر له ناصب ، وتقديره : الرفث ليلة الصيام ، فحذف ، وجعل المذكور مبنياً له كما قالوا في قوله : وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان أن تقديره : إذعان للذلة إذعان ، وكما خرّجوا قوله :{ إِنّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ }{ وَإِنّى لِعَمَلِكُمْ مّنَ الْقَالِينَ } أي ناصح لكما ، وقال : لعملكم ، فما كان من الموصول قدّم ما يتعلق به من حيث المعنى عليه أضمر له عامل يدل عليه ذلك الموصول ، وقد تقدّم أن من النحويين من يجيز تقدّم الظرف على نحو هذا المصدر ، وأضيفت : الليلة ، إلى الصيام على سبيل الاتساع ، لأن الإضافة تكون لأدنى ملابسة ، ولما كان الصيام ينوى في الليلة ولا يتحقق إلاَّ بصوم جزء منها صحت الإضافة . وقرأ الجمهور : الرفث ، وقرأ عبد اللّه : الرفث ، وكنى به هنا عن الجماع ، والرفث قالوا : هو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، كلفظ : النيك ، وعبر باللفظ القريب من لفظ النيك تهجيناً لما وجد منهم ، إذ كان ذلك حراماً عليهم ، فوقعوا فيه كما قال فيه :{ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } فجعل ذلك خيانة ، وعدى بإلى ، وإن كان أصله التعدية بالباء لتضمينه معنى الإفضاء ، وحسن اللفظ به هذا التضمين ، فصار ذلك قريباً من الكنايات التي جاءت في القرآن من قوله :{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا }{ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ }{ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ }{ فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ} والنساء جمع الجمع ، وهو نسوة ، أو جمع امرأة على غير اللفظ ، وأضاف : النساء إلى المخاطبين لأجل الاختصاص ، إذ لا يحل الإفضاء إلاَّ لمن اختصت بالمفضي : أما بتزويج أو ملك . {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } اللباس ، أصله في الثوب ، ثم يستعمل في المرأة . قال أبو عبيدة : يقال للمرأة هي لباسك ، وفراشك ، وإزارك لما بينهما من الممازجة . ولما كان يعتنقان ويشتمل كل منهما صاحبه في العناق ، شُبِّه كل منهما باللباس الذي يشتمل على الإنسان . قال الربيع : هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهنّ ، وقال مجاهد ، والسدي هن سكن لكم ، أي : يسكن بعضكم إلى بعض ، كقوله : { وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً } وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل هي مستأنفة كالبيان لسبب الإحلال ، وهو عدم الصبر عنهنّ لكونهنّ لكم في المخالطة كاللباس ، وقدّم : هنّ لباس لكم ، على قوله : وأنتم لباس لهنّ ، لظهور احتياج الرجل إلى المرأة وقلة صبره عنها ، والرجل هو البادىء بطلب ذلك الفعل ، ولا تكاذ المرأة تطلب ذلك الفعل ابتداء لغلبة الحياء عليهن حتى إن بعضهن تستر وجهها عند المواقعة حتى لا تنظر إلى زوجها حياء وقت ذلك الفعل . جمعت الآية ثلاثة أنواع من البيان : الطباق المعنوي ، بقوله :{ أُحِلَّ لَكُمُ } ، فإنه يقتضي تحريماً سابقاً ، فكأنه أحل لكم ما حرّم عليكم ، أو ما حرّم على من قبلكم ، والكناية بقوله : الرفث ، وهو كناية عن الجماع ، والاستعارة البديعة بقوله : هنّ لباس لكم ، وأفرد اللباس لأنه كالمصدر ، تقول : لابست ملابسةً ولباساً . {عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } : إن كانت : عَلِم ، معداة تعدية عرف ، فسدت أن مسد المفعول ، أو التعدية التي هي لها في الأصل ، فسدّت مسدّ المفعولين ، على مذهب سيبويه ، وقد تقدم لنا نظير هذا . وتختاتون : هو من الخيانة ، وافتعل هنا بمعنى فعل ، فاختان . بمعن : خان ، كاقتدر بمعنى : قدر . قيل وزيادة الحرف تدل على الزيادة في المعنى ، والاختيان هنا معبر به عما وقفوا فيه من المعصية بالجماع ، وبالأكل بعد النوم ، وكان ذلك خيانة لأنفسهم ، لأن وبال المعصية عائد على أنفسهم ، فكأنه قيل : تظلمون أنفسكم وتنقصون حقها من الخير ، وقيل : معناه ، تستأثرون أنفسكم فيما نهيتم عنه ، وقيل : معناه : تتعهدون أنفسكم بإتيان نسائكم . يقال : تخون ، وتخوّل ، بمعنى : تعهد ، فتكون النون بدلاً من اللام لأنه باللام أشهر . وقال أبو مسلم : هي عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليه من حق النفس ، ولذلك قال : أنفسكم ، ولم يقل : اللّه ، وظاهر الكلام وقوع الخيانة منهم لدلالة كان على ذلك ، وللنقل الصحيح في حديث الجماع وغيره ، وقيل : ذلك على تقدير ولم يقع بعد ، والمعنى : تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ، وهذا فيه ضعف لوجود : كان ، ولأنه إضمار لا يدل عليه دليل ، ولمنافاة ظاهر قوله :{ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} {فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أي : قَبِل توبتكم حين تبتم مما ارتكبتم من المحظور ، وقيل : معناه خفف عنكم بالرخصة والإباحة كقوله :{ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ }{ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مّنَ اللّه }{ لَقَدْ تَابَ اللّه عَلَى النَّبِىّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالاْنصَارِ } معناه كله التخفيف ، وقيل : معناه أسقط عنكم ما أفترضه من تحريم الأكل والشرب والجماع بعد العشاء ، أو بعد النوم على الخلاف ، وهذا القول راجع لمعنى القول . الثاني :{ وَعَفَا عَنكُمْ } أي : عن ذنوبكم فلا يؤاخذكم ، وقبول التوبة هو رفع الذنب كما قال صلى اللّه عليه وسلم : { التوبة تمحو الحوبة والعفو تعفية أثر الذنب } فهما راجعان إلى معنى واحد ، وعاقب بينهما للمبالغة ، وقيل : المعنى ، سهل عليكم أمر النساء فيما يؤتنف ، أي : ترك لكم التحريم ، كما تقول : هذا شيء معفو عنه ، أي : متروك ، ويقال : أعطاه عفواً أي سهلاً لم يكلفه إلى سؤال ، وجرى الفرس شأوين عفواً ، أي : من ذاته غير إزعاج واستدعاء بضرب بسوط ، أو نخس بمهماز . {فَالنَ بَاشِرُوهُنَّ } تقدم الكلام على ، الآن ، في قوله :{ قَالُواْ الئَانَ جِئْتَ بِالْحَقّ } أي : فهذا الزمان ، أي : ليلة الصيام باشروهن ، وهذا أمر يراد به الإباحة لكونه ورد بعد النهي ، ولأن الإجماع انعقد عليه ، والمباشرة في قول الجمهور : الجماع ، وقيل : الجماع فما دونه ، وهو مشتق من تلاصق البشرتين ، فيدخل فيه المعانقة والملامسة . وإن قلنا : المراد به هنا الجماع ، لقوله : الرفث ، ولسبب النزول ، فإباحته تتضمن إباحة ما دونه . {وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّه لَكُمْ } أي : اطلبوا ، وفي تفسير : ما كتب اللّه ، أقوال . أحدهما : أنه الولد ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، والحكم بن عتيبة : لما أبيحت لهم المباشرة أمروا بطلب ما قسم اللّه لهم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد ، وكأنه أبيح لهم ذلك لا لقضاء الشهوة فقط ، لكن لابتغاء ما شرع اللّه النكاح له من التناسل : { تناكحوا تناسلوا فإني مكاثرٌ بكم الآمم يوم القيامة} . الثاني : هو محل الوطء أي : ابتغوا المحل المباح الوطء فيه دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم لقوله :{ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّه} الثالث : هو ما أباحه بعد الحظر ، أي : ابتغوا الرخصة والإباحة ، قاله قتادة : وابن زيد . الرابع : وابتغوا ليلة القدر ، قاله معاذ بن جبل ، وروي عن ابن عباس . قال الزمخشري : وهو قريب من بدع التفاسير . الخامس : هو القرآن ، قاله ابن عباس ، والزجاج . أي : ابتغوا ما أبيح لكم وأمرتم به ، ويرجحه قراءة الحسن ، ومعاوية بن قرة : واتبعوا من الاتباع ، ورويت أيضاً عن ابن عباس . السادس : هو الأحوال والأوقات التي أبيح لكم المباشرة فيهنّ ، لأن المباشرة تمتنع في زمن الحيض والنفاس والعدة والردّة . السابع : هو الزوجة والمملوكة كما في قوله تعالى :{ إِلاَّ عَلَى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الثامن : إن ذاك نهي عن العزل لأنه في الحرائر . وكتب هنا بمعنى : جعل ، كقوله :{ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ } أو بمعنى : قضى ، أو : بمعنى : أثبت في اللوح المحفوظ ، أو : في القرآن . والظاهر أن هذه الجملة تأكيد لما قبلها ، والمعنى ، واللّه أعلم ابتغوا وافعلوا ما أذن اللّه لكم في فعله من غشيان النساء في جميع ليلة الصيام ، ويرجح هذا قراءة الأعم ٥ : وأتوا ما كتب اللّه لكم . وهي قراءة شاذة لمخالفتها سواد المصحف . {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ } أمر إباحة أيضاً أبيح لهم ثلاثة ، الأشياء التي كانت محرمة عليهم في بعض ليلة الصيام { حَتَّى يَتَبَيَّنَ } غاية الثلاثة الأشياء من : الجماع ، والأكل ، والشرب . وقد تقدم في سبب النزول قصة صرمة بنت قيس ، فإحلال الجماع بسبب عمر وغيره ، وإحلال الأكل بسبب صرمة أو غيره { لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ } ظاهره أنه الخيط المعهود ، ولذلك كان جماعة من الصحابة إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله خيطاً أبيض وخيطاً أسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبينا له ، إلى أن نزل قوله تعالى :{ مِنَ الْفَجْرِ } فعلموا أنما عنى بذلك من الليل والنهار . روي ذلك سهل بن سعد في نزول هذه الآية ، وروي أنه كان بين نزول :{ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الابْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاسْوَدِ } وبين نزول { مِنَ الْفَجْرِ } سنة من رمضان إلى رمضان . قال الزمخشري : ومن لا يجوز تأخير البيان وهم أكثر الفقهاء والمتكلمين وهو مذهب أبي علي وأبي هاشم ، فلم يصح عندهم هذا الحديث لمعنى حديث سهل بن سعد وأما من يجوّزه فيقول : ليس بعبث ، لأن المخاطب يستفيد منه وجوب الخطاب ، ويعزم على فعله إذا استوضح المراد به . انتهى كلامه . وليس هذا عندي من تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، بل هو من باب النسخ ، ألا ترى أن الصحابة عملت به ، أعنى بإجراء اللفظ على ظاهره إلى أن نزلت : من الفجر ، فنسخ حمل الخيط الأبيض والخيط الأسود على ظاهرهما ، وصارا ذلك مجازين ، شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق ، وبالأسود ما يمتد معه من غبش الليل ، شبهاً بخيطين أبيض وأسود ، وأخرجه من الاستعارة إلى التشبيه قوله : من الفجر ، كقولك : رأيت أسداً من زيد ، فلو لم يذكر من زيد كان استعارة ، وكان التشبيه هنا أبلغ من الاستعارة ، لأن الاستعارة لا تكون إلاَّ حيث يدل عليها الحال ، أو الكلام وهنا ، لو لم يأت : من الفجر ، لم يعلم الإستعارة ، ولذلك فهم الصحابة الحقيقة من الخيطين قبل نزول من الفجر ، حتى إن بعضهم ، وهو عدي بن حاتم . غفل عن هذا التشبيه وعن بيان قوله : من الفجر ، فحمل الخيطين على الحقيقة . وحكي ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فضحك وقال : { إن كان وسادك لعريضاً } وروي : { إنك لعريض القفاء} . إنما ذاك بياض النهار وسواد الليل ، والقفا العريض يستدل به على قلة فطنة الرجل ، وقال : عريض القفا ميزانه عن شماله قد أنحصَّ من حسب القراريط شاربه وكل ما دق واستطال وأشبه الخيط سمته العرب خيطاً . وقال الزجاج : هما فجران : أحدهما يبدو سواداً معترضاً ، وهو الخيط الأسود ؛ والأخر يطلع ساطعاً يملأ الأفق ، فعنده الخيطان : هما الفجران ، سميا بذلك لامتدادهما تشبيهاً بالخيطين . وقوله : من الفجر ، يدل على أنه أريد بالخيط الأبيض الصبح الصادق ، وهو البياض المستطير في الأفق ، لا الصبح الكاذب ، وهو البياض المستطيل ، لأن الفجر هو انفجار النور ، وهو بالثاني لا بالأوّل ، وشبه بالخيط وذلك بأول حاله ، لأنه يبدو دقيقاً ثم يرتفع مستطيراً ، فبطلوع أوله في الأفق يجب الإمساك . هذا مذهب الجمهور ، وبه أخذ الناس ومضت عليه الأعصار والأمصار ، وهو مقتضى حديث ابن مسعود ، وسمرة بن جندب . وقيل : يجب الإمساك بتبين الفجر في الطرق ، وعلى رؤوس الجبال ، وهاذ مروي عن عثمان ، وحذيفة وابن عباس ، وطلق بن علي ، وعطاء ، والأعمش ، وغيرهم . وروي عن علي أنه صلى الصبح بالناس ثم قال : الآن تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، ومما قادهم إلى هذا القول أنهم يرون أن الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس إلى غروبها ، وقد تقدم ذكر الخلاف في النهار ، وفي تعيينه إباحة المباشرة والأكل والشرب بتبين الفجر للصائم دلالة على أن من شك في التبين وفعل شيئاً من هذه ، ثم انكشف أنه كان الفجر قد طلع وصام ، أنه لا قضاء لأنه غياه بتبين الفجر للصائم لا بالطلوع . وروي عن ابن عباس أنه بعث رجلين ينظران له الفجر ، فقال أحدهما : طلع الفجر ، وقال الآخر : لم يطلع . فقال اختلفتما ، فأكل وبان لا قضاء عليه . قال الثوري ، وعبيد اللّه بن الحسن ، والشافعي ، وقال مالك : إن أكل شاكّاً في الفجر لزمه القضاء ، والقولان عن أبي حنيفة . وفي هذه التغيئة أيضاً دلالة على جواز المباشرة إلى التبين ، فلا يجب عليه الاغتسال قبل الفجر لأنه إذا كانت المباشرة مأذوناً فيها إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال إلا بعد الفجر ، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة . والحسن يرى : أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال إلا بعد الفجر ، وبهذا يبطل مذهب أبي هريرة . والحسن يرى : أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال بطل صومه ، وقد روت عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع وهو صائم ، وهذه التغيئة إنما هي حيث يمكن التبين من طريق المشاهدة ، فلو كانت مقمرة أو مغيمة ، أو كان في موضع لا يشاهد مطلع الفجر ، فإنه مأمور بالاحتياط في دخول الفجر ، إذ لا سبيل له إلى العلم بحال الطلوع ، فيجب عليه الإمساك إلى التيقن بدخول وقت الطلوع استبراءً لدينه . وذهب أبو مسلم أنه لا فطر إلا بهذه الثلاثة : المباشرة ، والأكل ، والشرب . وأما ما عداها من القيء ، والحقنة ، وغير ذلك ، فإنه كان على الإباحة ، فبقي عليهم . وأما الفقهاء فقالوا : خصت هذه الثلاثة بالذكر لميل النفس إليها ، وأما القيء ، والحقنة ، فالنفس تكرههما ، والسعوط نادر ، فلهذا لم يذكرها . ومن الأولى ، هي لابتداء الغاية ، قيل : وهي مع ما بعدها في موضع نصب ، لأن المعنى : حتى يباين الخيط الأبيض الخيط الأسود ، كما يقال : بانت اليد من زندها ، أي فارقته ، ومن ، الثانية للتبعيض ، لأن الخيط الأبيض هو بعض الفجر وأوله ، ويتعلق أيضاً يتبين ، وجاز تعلق الحرفين بفعل واحد ، وقد اتحد اللفظ لاختلاف المعنى ، فَمِنْ الأولى هي لابتداء الغاية ، ومِنْ الثانية هي للتبعيض . ويجوز أن يكون للتبعيض للخيطين معاً ، على قول الزجاج ، لأن الفجر عنده فجران ، فيكون الفجر هنا لا يراد به الإفراد ، بل يكون جنساً قيل : ويجوز أن يكون من الفجر حالاً من الضمير في الأبيض ، فعلى هذا يتعلق بمحذوف ، أي : كائناً من الفجر ، ومن أجاز أن تكون من للبيان أجاز ذلك هنا ، فكأنه قيل : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الذي هو الفجر ، من الخيط الأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض عن بيان الخيط الأسود ، لأن بيان أحديهما بيان للثاني ، وكان الاكتفاء به أولى ، لأن المقصود بالتبين ، والمنوط بتبيينه : الحكم من إباحة المباشرة ، والأكل ، والشرب . ولقلق اللفظ لو صرح به ، إذ كان : يكون حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر من الليل ، فيكون من الفجر بياناً للخيط الأبيض ، ومن الليل بياناً للخيط الأسود . ولكون : من الخيط الأسود ، جاء فضلة فناسب حذف بيانه . {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصّيَامَ إِلَى الَّيْلِ } : تقدم ذكر وجوب الصوم ، فلذلك ، لم يؤمر به هنا ، ولم يتقدّم ذكر غايته ، فذكرت هنا الغاية ، وهو قوله :{ أُحِلَّ لَكُمْ } والغاية تأتي إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها ، لم يدخل في حكم ما قبلها ، و : الليل ، ليس من جنس النهار ، فلا يدخل في حكمه ، لكن من ضرورة تحقق علم انقضاء النهار دخول جزء ما من الليل . قال ابن عباس : أهل الكتاب يفطرون من العشاء إلى العشاء ، فأمر اللّه تعالى بالخلاف لهم ، وبالإفطار عند غروب الشمس . والأمر بالإتمام هنا للوجوب ، لأن الصوم واجب ، فإتمامه واجب ، بخلاف : المباشرة ، والأكل ، والشرب ، فإن ذلك مباح في الأصل ، فكان الأمر بها الإباحة . وقال الراغب : فيه دليل على جواز النية بالنهار ، وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر ، وعلى نفي صوم الوصال . انتهى . أما كون الآية تدل على جواز النية بالنهار فليس بظاهر ، لأن المأمور به إتمام الصوم لا إنشاء الصوم ، بل في ذلك إشعار بصوم سابق أمرنا بإتمامه ، فلا تعرض في الآية للنية بالنهار . وأما جواز تأخير الغسل إلى الفجر فليس بظاهر من هذه الآية أيضاً ، بل من الكلام الذي قبلها . وأما الدلالة على نفي صوم الوصال ، فليس بظاهر ، لأنه غياً وجوب إتمام الصوم بدخول الليل فقط ، ولا منافاة بين هذا وبين الوصال ، وصح في الحديث النهي عن الوصال ، فحمل بعضهم النهي فيه على التحريم ، وبعضهم على الكراهة . وقد روي الوصال عن جماعة من الصحابة والتعابعين ، كعبد اللّه بن الزبير ، وإبراهيم التيمي ، وأبي الحوراء ، ورخص بعضهم فيه إلى السحر ، منهم : أحمد ، وإسحاق ، وابن وهب . وظاهر الآية وجوب الإتمام إلى الليل فلو ظن أن الشمس غربت فأفطر ثم طلعت الشمس فهذا ما أتم إلى الليل فيلزمه القضاء ولا كفارة عليه ، وهو قول الجمهور ، وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ؛ وقال إسحاق وأهل الظاهر : لا قضاء عليه كالناسي ؛ وروي ذلك عن عمر ، وقال مالك : من أفطر شاكاً في الغروب قضى وكفر ؛ وفي ثمانية أبي زيد : عليه القضاء فقط قياساً على الشاك في الفجر ، فلو قطع الإتمام متعمد الجماع ، فالإجماع على وجوب القضاء ، أو بأكل وشرب وما يجرى مجراهما فعليه القضاء عند الشافعي ، والقضاء والكفارة عند بقية العلماء ، أو ناسياً بجماع فكالمتعمد عند الجمهور وفي الكفارة خلاف عن الشافعي أو بأكل وشرب فهو على صومه عند أبي حنيفة والشافعي ، وعند مالك يلزمه القضاء ، ولو نوى الفطر بالنهار ولم يفعل ، بل رفع نية الصوم ، فهو على صومه عند الجمهور ، ولا يلزمه قضاء ، قال ابن حبيب ؛ وعند مالك في المدوّنة : أنه يفطر وعليه القضاء . وظاهر الآية يقتضي أن الإتمام لا يجب إلاَّ على من تقدّم له الصوم ، فلو أصبح مفطراً من غير عذر لم يجب عليه الإمساك ، لأنه لم يسبق له صوم فيتمه ، قالوا : لكن السنة أوجبت عليه الإمساك ، وظاهر الآية يقتضي وجوب إتمام الصوم النفل على ما ذهبت إليه الحنيفة لأندراجه تحت عموم : وأتموا الصيام . وقالت الشافعية : المراد منه صوم الفرض ، لأن ذلك إنما ورد لبيان أحكام الفرض . قال بعض أرباب الحقائق : لما علم تعالى أنه لا بد للعبد من الحظوظ ، قسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظك ، فقال في حقه { وَأَتِمُّواْ الصّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى} وحظك :{ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ} {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } لما أباح لهم المباشرة في ليلة الصيام ، كانوا إذا كانوا معتكفين ودعت ضرورة أحدهم إلى الجماع خرج إلى امرأته فقضى ما في نفسه ثم اغتسل وأتى المسجد ، فنهوا عن ذلك في حال اعتكافهم داخل المسجد وخارجه وظاهر الآية وسياق المباشرة المذكورة قبل . وسبب النزول أن المباشرة هي الجماع فقط ، وقال بذلك فرقة ، فالمنهي عنه الجماع ، وقال الجمهور : يقع هنا على الجماع وما يتلذذ به ، وانعقد الإجماع على أن هذا النهي نهي تحريم ، وأن الاعتكاف يبطل بالجماع . وأما دواعي النكاح : كالنظرة واللمس والقبلة بشهوة فيفسد به الاعتكاف عند مالك ، وقال أبو حنيفة : إن فعل فأنزل فسد ، وقال المزني عن الشافعي : إن فعل فسد ، وقال الشافعي ، أيضاً : لا يفسد من الوطء إلاَّ بما مثله من الأجنبية يوجب ، وصح في الحديث أن عائشة كانت ترجل رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ، ولا شك أنها كانت تمسه . قالوا : فدل على أن اللمس بغير شهوة غير محظور ، وإذا كانت المباشرة معنياً بها اللمس ، وكان قد نهى عنه فالجماع أحرى وأولى ، لأن فيه اللمس وزيادة ، وكانت المباشرة المعني بها اللمس مقيدة بالشهوة . والعكوف في الشرع عبارة عن حبس النفس في مكان للعبادة والتقرب إلى اللّه ، وهو من الشرائع القديمة . وقرأ قتادة : وأنتم عكفون ، بغير ألف ، والجملة في موضع الحال أي : لا تباشروهن في هذه الحالة ، وظاهر الآية يقتضي جواز الإعتكاف ، والإجماع على أنه ليس بواجب ، وثبت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اعتكف ، فهو سنة ، ولم تتعرض الآية لمطلوبيته ، فنذكر شرائطه ، وشرطه الصوم ، وهو مروي عن علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وعائشة ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، ومالك ، والثوري والحسن بن صالح ؛ وروي عن عائشة أن الصوم من سنة المعتكف . وقال جماعة من التابعين ، منهم سعيد ، وإبراهيم : ليس الصوم شرطاً . وروي طاووس عن ابن عباس مثله ، وبه قال الشافعي . وظاهر الآية أنه لا يشترط تحديد في الزمان ، بل كل ما يسمى لبثاً في زمن ما ، يسمى عكوفاً . وهو مذهب الشافعي . وقال مالك : لا يعتكف أقل من عشرة أيام ، هذا مشهور مذهبه ، وروي عنه : أن أقلّة يوم وليلة . وظاهر إطلاق العكوف أيضاً يقتضي جواز اعتكاف الليل والنهار ، وأحدهما ، فعلى هذا ، لو نذر اعتكاف ليلة فقط صَحَّ ، أو يوم فقط صَحَّ ، وهو مذهب الشافعي وقال سحنون : لو نذر اعتكاف ليلة لم يلزمه . وقال أبو حنيفة : لو نذر اعتكاف أيام لزمته بلياليها . وفي الخروج من المعتكف ، والاشتغال فيه بغير العبادة المقصودة ، والدخول إليه ، وفي مبطلاته أحكام كثيرة ذكرت في كتب الفقة . وظاهر قوله : عاكفون في المساجد ، أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد ، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال ، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطاً في وقوعها ، ونظير ذلك : لا تضرب زيداً وأنت راكب فرساً ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلاَّ فرساً ، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف ، فذكر : المساجد ، إنما هو لأن الاعتكاف غالباً لا يكون إلاَّ فيها ، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف . والظاهر من قوله : في المساجد ، أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد ، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف ، وبه قال أبو قلابة ، وابن عيينة ، والشافعي ، وداود الطبري ، وابن المنذر ، وهو أحد قولي مالك ، والقول الآخر : أنه لا اعتكاف إلاَّ في مسجد يجمع فيه ، وبه قال عبد اللّه ، وعائشة ، وإبراهيم ، وابن جبير ، وعروة وأبو جعفر . وقال قوم : إنه لا اعتكاف إلاَّ في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد اللّه وحذيفة . وقال قوم : لا اعتكاف إلاَّ في مسجد نبي ، وبه قال ابن المسيب ، وهو موافق لما قبله ، لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وروى الحارث عن عليّ : أنه لا اعتكاف إلاَّ في المسجد الحرام ، وفي مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال ، وأما النساء فسكوت عنهن . وقال أبو حنيفة : تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره ، وقال مالك : تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها . وقال الشافعي : حيث شاءت . وقرأ مجاهد ، والأعمش : في المسجد ، على الإفراد ، وقال الأعمش : هو المسجد الحرام ، والظاهر أنه للجنس . ويرجع هذا قراءة من جمع فقرأ في المساجد . وقال بعض الصوفية في قوله : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ } الآية . أخبر اللّه أن محل القربة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ . انتهى . {تِلْكَ حُدُودُ اللّه} تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف ، لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أوّلها إلى هنا . وكانت آية الصيام قد تضمنت عدّة أوامر ، والأمر بالشيء نهي عن ضده ، فبهذا الاعتبار كانت عدة مناهي ، ثم جاء أخرها النهي عن المباشرة في حالة الاعتكاف ، فأطلق على الكل : حدود ، تغليباً للمنطوق به ، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمنتها الأوامر . فقيل : حدود اللّه ، واحتيج إلى هذا التأويل ، لأن المأمور بفعله لا يقال فيه : فلا تقربوها ، وحدود اللّه : شروطه ، قاله السدّي . أو : فرائضه ، قاله شهر بن حوشب . أو : معاصيه ، قاله الضحاك . وقال معناه الزمخشري ، قال : محارمه ومناهيه ، أو الحواجز هي الإباحة والحظر قاله ابن عطية . وإضافة الحدود إلى اللّه تعالى هنا ، وحيث ذكرت ، تدل على المبالغة في عدم الالتباس بها ، ولم تأت منكرة ولا معرّفة بالالف واللام لهذا المعنى . {فَلاَ تَقْرَبُوهَا } النهي عن القربان للحدود أبلغ من النهي عن الالتباس بها ، وهذا كما قال صلى اللّه عليه وسلم : { إن لكل ملك حمى ، وحمى اللّه محارمه ، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه} . والرتع حول الحمى وقربانه واحد ، وجاء هنا : فلا تقربوها ، وفي مكان آخر :{ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللّه } وقوله :{ وَمَن يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } ، لأنه غلب هنا جهة النهي ، اذ هو المعقب بقوله : تلك حدود اللّه ، وما كان منهياً عن فعله كان النهي عن قربانه أبلغ ، وأما حيث جاء : فلا تعتدوها ، فجاء عقب بيان عدد الطلاق ، وذكر أحكام العدة والإيلاء والحيض ، فناسب أن ينهي عن التعدي فيها ، وهو مجاوزة الحد الذي حده اللّه فيها ، وكذلك قوله تعالى :{ وَمَن يَعْصِ اللّه وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ } جاء بعد أحكام المواريث ، وذكر أنصباء الوارث ، والنظر في أموال الأيتام ، وبيان عدد ما يحل من الزوجات ، فناسب أن يذكر عقيب هذا كله التعدي الذي هو مجاوزة ما شرعه اللّه من هذه الأحكام إلى ما لم يشرعه . وجاء قوله : تلك حدود اللّه ، عقيب قوله :{ وَصِيَّةً مّنَ اللّه } ثم وعد من أطاع بالجنة ، وأوعد من عصا وتعدى حدوده بالنار ، فكل نهي من القربان والتعدي واقع في مكان مناسبته . وقال أبو مسلم معنى : لا تقربوها : لا تتعرّضوا لها بالتغيير ، كقوله :{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ} {كَذالِكَ يُبَيّنُ اللّه آيَاتِهِ } أي : مثل ذلك البيان الذي سبق ذكره في ذكر أحكام الصوم وما يتعلق به في الألفاظ اليسيرة البليغة يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته ، وقال أبو مسلم : المراد بالآيات : الفرائض التي بينها ، كأنه قال كذلك يبين اللّه للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما أنزل . إنتهى كلامه . وهذا لا يتأتى إلاّ على اعتقاد أن تكون الكاف زائدة وأما إن كانت للتشبيه فلا بد من مشبه ومشبه به . {لِلنَّاسِ } : ظاهره العموم و قال ابن عطية : معناه خصوص فيمن يسره اللّهللّهدى ، بدلالة الآيات التي يتضمن { إِنَّ اللّه يُضِلُّ مَن يَشَاء } انتهى كلامه ولا حاجة إلى دعوى الخصوص ، بل اللّه تعالى يبين آياته للناس ويوضحها لهم ، ويكسيها لهم حتى تصير جلية واضحة ، ولا يلزم من تبينها تبين الناس لها ، لأنك تقول : بينت له فما بين ، كما تقول : علمته فما تعلم . ونظر ابن عطية إلى أن معنى يبين ، يجعل فيهم البيان ، فلذلك ادّعى أن المعنى على الخصوص ، لأن اللّه تعالى كما جعل في قوم الهدى ، جعل في قوم الضلال ، فعلى هذا المفهوم يلزم أن يرد الخصوص على ما قررناه يبقى على دلالته الوضعية من العموم ، وعلى تفسيرنا التبيين يكون ذلك إجماعاً منا ومن المعتزلة ، وعلى تفسيره ينازع فيه المعتزلين . {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } قد تقدم أنه حيث ذكر التقوى فإنه يكون عقب أمر فيه مشقة ، وكذلك جاء هنا لأن منع الإنسان من أمر مشتهى بالطبع اشتهاءً عظيماً بحيث هو ألذ ما للإنسان من الملاذ الجسمانية شاق عليه ذلك ولا يحجزه عن معاطاته إلاّ التقوى ، فلذلك ختمت هذه الآية بها أي : هم على رجاء من حصول التقوى لهم بالبيان الذي بين اللّه لهم . |
﴿ ١٨٧ ﴾