١٨٩

يسألونك عن الأهلة . . . . .

الاهِلَّةِ } : جمع هلال ، وهو مقيس في فعال المضعف ، نحو : عنان وأعنة ، وشذ فيه فعل قالوا : عنن في : عنان ، وحجج في حجاج .

والهلال ، ذكر صاحب { كتاب شجر الدر} في اللغة : أنه مشترك بين هلال السماء وحديدة كالهلال بيد الصائد يعرقب بها الحمار الوحشي ، وذؤابة النعل ، وقطعة من الغبار ، وما أطاق من اللحم بظفر الأصبع ، وقطعة من رحى ، وسلخ الحية ، ومقاولة الأجير على الشهور ، والمباراة في رقة النسج ، والمباراة في التهليل . وجمع هلة وهي المفرجة ، والثعبان ، وبقية الماء في الحوض . انتهى ما ذكره ملخصاً .

ويسمي الذي في السماء هلالاً لليلتين ،

وقيل : لثلاث . وقال أبو الهيثم : لليلتين من أوله وليلتين من آخره . وما بين ذلك يسمى قمراً . وقال الأصمعي : يسمي هلال إلى أن يحجر ، وتحجيره أن يستدير له كالخيط الرقيق ،

وقيل : يسمى بذلك إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل ، وذلك إنما يكون في سبع . قالوا : وسمي هلالاً لارتفاع الأصوات عند رؤيته من قولهم : استهل الصبي ، والإهلال بالحج ، وهو رفع الصوت بالتلبية ، أو من رفع الصوت بالتهليل عند رؤيته .

وقد يطلق الهلال على الشهر كما يطلق الشهر على الهلال ،

ويقال : أهل الهلال ، واستهل وأهللنا واستهللناه ، هذا قول عامة أهل اللغة . وقال شمر : يقال استهل الهلال أيضاً يعني مبنياً للفاعل وهو الهلال ، وشهر مستهل وأنشد : وشهر مستهل بعد شهر

وحول بعده حول جديد

ويقال أيضاً : استهل : بمعنى تبين ، ولا يقال أهلّ ، ويقال أهللنا عن ليلة كذا ، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : يقال أهل الهلال واستهل ، وأهللنا الهلال واستهللناه ، انتهى . وقد تقدّم لنا الكلام في مادة هلل ، ولكن أعدنا ذلك بخصوصية لفظ الهلال بالأشياء التي ذكرناها هنا .

{مَوَاقِيتُ } : جمع ميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ،

وقال بعضهم : الميقات منتهى الوقت ،

قال تعالى :{ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}

ثقف الشيء : إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة ، ومنه : رجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه ، ومنه : فأما تثقفهم في الحرب وقول الشاعر : فأما تثقفوني فاقتلوني

فمن أثقف فليس إلى خلود

و

قال ابن عطية : { ثَقِفْتُمُوهُمْ } أحكمتم غلبتهم ، يقال : رجل ثقف لقف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور . انتهى .

ويقال : ثقف الشيء ثقافة إذا حذقه ، ومنه أخذت الثقافة بالسيف ، والثقافة أيضاً حديدة تكون للقوَّاس والرمَّاح يقوم بها المعوج ، وثقف الشيء : لزمه ، وهو ثقف إذا كان سريع العلم ، وثقفته : قوّمته ، ومنه الرماح المثقفة ، أي : المقومة وقال الشاعر : ذكرتك والخطِّيُّ يخطر بيننا

وقد نهلت منا المثقَّفَةُ السمرُ

يعنى الرماح المقومة .

{التَّهْلُكَةِ} على وزن تفعلة ، مصدر لهلك ، وتفعلة مصدراً قليلٌ ، حكى سيبويه منه : التضرة والتسرة ، ومثله من الأعيان : التنصبة ، والنفلة ، يقال : هلك هلكاً وهلاكاً وتهلكةً وهلكاءً على وزن فعلاء ، ومفعل من هلك جاء بالضم والفتح والكسر ، وكذلك بالتاء ، هو مثلث حركات العين ، والضم في مهلك نادر ، والهلاك في ذي الروح : الموت ، وفي غيره : الفناء والنفاد .

وكون التهلكة مصدراً حكاه أبو علي عن أبي عبيدة ، وقلة غيره من النحويين

قال الزمخشري : ويجوز أن يقال : أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما على أنها مصدر من هلك ، يعني المشدّد اللام ، فأبدلت من الكسرة ضمة ، كما جاء الجوار . انتهى كلامه .

وما ذهب إليه ليس بجيد ، لأن فيها حملاً على شاذ ، ودعوى إبدال لا دليل عليه ، أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصل تفعله ذات الضم ، على تفعله ذات الكسر ، وجعل تهلكة مصدراً لهلك المشدّد اللام ، وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل ، نحو : كسر تكسيراً ، ولا يأتي على تفعله ، إلا شاذاً ، فأَلاوْلى جعل تهلكة مصدراً ، إذ قد جاء ذلك نحو : التضرة .

وأما تهلكة فالأحسن أيضاً أن يكون مصدراً لهلك المخفف اللام ، لأن بمعنى تهلكة بضم الللام ، وقد جاء في مصادر فعل : تفعلة قالوا : جل الرجل تجله ، أي جلالاً ، فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدراً لهلك المشدّد اللام ،

وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ ،

وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعى فيه الإبدال ، بل يبني المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذاً .

وزعم ثعلب أن التهلكة مصدر لا نظير له ، إذ ليس في المصادر غيره ، وليس قوله بصحيح ، إذ قد حكينا عن سيبويه أنه حكى التضرة والتسرّة مصدرين .

وقيل : التهلكة ما أمكن التحرز منه ، والهلاك ما لا يمكن التحرز منه ،

وقيل التهلكة : الشيء المهلك ، والهلاك حدوث التلف ،

وقيل : التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك .

{أُحْصِرْتُمْ } قال يونس بن حبيب : أحصر الرجل رد عن وجه يريده ، قيل : حصر وأحصر لمعنى واح ، قاله الشيباني ، والزجاج ، وقاله ابن عطية عن الفراء ، وقال ابن ميادة : وما هجر ليلى أن يكون تباعدت

عليك ولا أن أحصرتك شغول

وقيل : أحصر بالمرض ، وحصره العدوّ ، قاله يعقوب . وقال الزجاج أيضاً : الرواية عن أهل العلم في العلم الذي يمنعه الخوف والمرض : أحصر ، والمحبوس : حصر ، وقال أبو عبيدة والفراء أيضاً أحصر فهو محصَر ، فإن حبس في سجن أو دار قيل حُصِر فهو : محصور ، وقال ثعلب : أصل الحصر والإحصار : الحبس ، وحصر في الحبس أقوى من أحصر ، وقال ابن فارس في { المجمل} : حصر بالمرض ، وأحصر بالعدوّ .

ويقال : حصره صدره أي : ضاق ، ورجل حصر : وهو الذي لا يبوح بسره ، قال جرير : ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا

حَصِراً بسرِّك يا تميم ضنينا

والحصر : احتباس الغائط ، والحصير : الملك ، لأنه كالمحبوس بالحجاب . قال لبيد :

حتى لدى باب الحصير قيام

والحصير معروف : وهو سقيف من بردى سمي بذلك لانضمام بعضه إلى بعض ، كحبس الشيء مع غيره .

{الْهَدْىِ } الهدي ما يهدي إلى بيت اللّه تعالى تقرباً إليه ، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره . يقال : أهديت إلى البيت الحرام هدياً وهديّاً بالتشديد ، والتخفيف ، فالتشديد جمع هديَّة ، كمطية ومطيّ ، والتخفيف جمع هديَة كجذية السرج ، وجذي . قال الفراء : لا واحد للّهدي ،

وقيل : التشديد لغة تميم ، ومنه قول زهير : فلم أر معشراً أسروا هديّا

ولم أر جار بيت يستباء

وقيل : الهديّ ، بالتشديد فعيل بمعنى مفعول ،

وقيل : الهدي بالتخفيف مصدر في الأصل ، وهو بمعنى الهدي كالرهن ونحوه ، فيقع للأفراد والجمع . وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نعم أو غير ذلك يسمى هدياً ، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم .

وقد وقع الخلاف فيما يسمى من النعم هدياً على ما سيأتي ذكره إن شاء اللّه .

الحلق : مصدر حلق يحلق إذا أزال الشعر بموسى أو غيره من محدّد ونورة ، والحلق مجرى الطعام بعد الفم .

الأذى : مصدر ، وهو بمعنى الألم ، تقول : آذاني زيد إيذاءً آلمني .

الصدقة : ما أعطى من مال بلا عوض تقرباً إلى اللّه تعالى .

النسك : قال ابن الأعرابي : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، ثم قيل للمتعبد : ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها ، كالنسيكة المخلصة من الدنس ، ثم قيل للذبيحة : نسك ، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى اللّه تعالى ،

وقيل : النسك مصدر نسك ينسك نَسكاً ونُسكاً ، كما تقول حلم الرجل ، حُلماً وحِلماً .

الأمن : زوال ما يحذر ، يقال : أمن يأمن أمناً وأمنة .

الثلاثة : عدد معروف ، ويقال منه : ثلثت القوم أثلثهم ، أي صيرتهم ثلاثة بي .

والثلاثون عدد معروف ، والثلث بضم اللام وتسكينها أحد أجزاء المنقسم إلى ثلاثة ، وثلث ممنوعاً من الصرف ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللّه .

العقاب : مصدر عاقب أي جازى المسيء على

إساءته ، وهو مشتق من العاقبة ، كأنه يراد عاقبة فعله المسيء .

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجّ } نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الهلال ، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قاله ابن عباس ، وقتادة ، والربيع ، وغيرهم . وروي أن من سأل هو معاذ بن جبل ، وثعلبة بن غنم الأنصاري ، قالا : يا رسول اللّه . ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة ؟ فنزلت .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وهو أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام ، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال ، وكذلك الإفطار في شهر شوال ، ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم : { صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} .

أيضاً قد تقدّم كلام في شيء من أعمال الحج ، وهو : الطواف ، والحج أحد الأركان التي بني الإسلام عليها .

وكان قد مضى الكلام في توحيد اللّه تعالى ، وفي الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو : الحج ، ليكون قد كملت الأركان التي بني الإسلام عليها . وروي عن ابن عباس أنه قال : ما كان أمة أقل سؤالاً من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا منها في سورة البقرة أولها { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ }

والثاني : هذا ، وستة بعدها ، وفي غيرها :{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ }{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفَالِ }{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ }{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ }{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ }{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةَ } قيل : اثنان من هذه الأسئلة في الأول في شرح المبدأ ، واثنان في الآخر في شرح المعاد ، ونظيره أنه افتتحت سورتان ب { يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ } الأولى وهي الرابعة من السور في النصف الأول ، تشتمل على شرح المبدأ ، والثانية وهي الرابعة أيضاً من السور في النصف الآخر تشتمل على شرح المعاد .

والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة ، وإن كان من سأل اثنين ، كما روي ، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلاَّ من واحد منهم أو اثنين ، وهذا كثير في كلامهم ، قيل :أو لكون الإثنين جمعاً على سبيل الاتساع والمجاز .

والكاف : خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، و : يسألونك ، خبر ، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الاخبار بالمغيب : وإن كانت نزلت بعد السؤال ، وهو المنقول في أسباب النزول ، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت .

و : عن ، متعلقة بقوله : يسألونك ، يقال : سأل به وعنه ، بمعنى واحد ، ولا يراد بذلك السؤال عن ذات الأهلة ، بل عن حكمة اختلاف أحوالها ، وفائدة ذلك ، ولذلك أجاب بقوله :{ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } فلو كانت على حالة واحدة ما حصل التوقيت بها .

والهلال هو مفرد وجمع باختلاف أزمانه ، قالوا : من حيث كونه هلالاً في شهر ، غير كونه هلالاً في آخر .

وقرأ الجمهور : عن الأهلة ، بكسر النون وإسكان لام الأهلة بعدها همزة ، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة ،

وقرأ شاذاً بادغام نون : عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف .

{قُلْ هِى } أي : الأهلة { مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } هذه : الحكمة في زيادة القمر ونقصانه إذ هي كونها مواقيت في الآجال ، والمعاملات ، والإيمان ، والعدد ، والصوم ، والفطر ، ومدة الحمل والرضاع ، والنذور المعلقة بالأوقات ، وفضائل الصوم في الأيام التي لا تعرف إلاَّ بالأهلة . وقد ذكر تعالى هذا المعنى في قوله :{ وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ }

وفي قوله :{ فَمَحَوْنَا ءايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَا ءايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}

وقال الراغب : الوقت الزمان المفروض للعمل ، ومعنى : مواقيت للناس أي ما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم . انتهى .

وقال الرماني : الوقت مقدار من الزمان محدّد في ذاته ، والتوقيت تقدير حدّه ، وكلما قدّرت له غاية فهو موقت ، والميقات منتهى الوقت ، والآخرة منتهى الخلق ، والإهلال ميقات الشهر ، ومواضع

الإحرام مواقيت الحج ، لأنها مقادير ينتهي إليها ، والميقات مقدار جعل علماً لما يقدّر من العمل . انتهى كلامه .

وفي تغيير الهلال بالنقص والنماء ردّ على الفلاسفة في قولهم : إن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فأظهر تعالى الاختلاف في القمر ولم يظهره في الشمس ليعلم أن ذلك بقدرة منه تعالى .

والحج : معطوف على قوله : للناس ، قالوا : التقدير ومواقيت للحج ، فحذف الثاني اكتفاءً بالأوّل ، والمعنى : لتعرفوا بها أشهر الحج ومواقيته . ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة ، أفرد بالذكر ، وكأنه تخصيص بعد تعمم ، إذ قوله : مواقيت للناس ، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس ، وإنما المعنى : مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت ديناً ودنيا . فجاء قوله : والحج ، بعد ذلك تخصيصاً بعد تعميم . ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس ، بل على المضاف المحذوف الذي ناب الناس منابه في الإعراب . ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعدادها إلى الإطناب ، اقتصر على قوله : مواقيت للناس .

وقال القفال : إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها اللّه تعالى لفرض الحج ، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر لأشهر أخر ، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء . انتهى كلامه .

وقرأ الجمهور : والحج ، بفتح الحاء .

وقرأ الحسن وابن أبي الحاق : والحِج بكسرها في جميع القرآن في قوله : { حَجَّ الْبَيْتَ } فقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم . وقال سيبويه : الحَج ، كالردّ والسدّ ، والحِج ، كالذِكر ، فهما مصدران . والظاهر من قوله : مواقيت للناس ، والحِج ، ما ذهب إليه أبو حنيفة ، ومالك من جواز الإحرام بالحج في جميع السنة لعموم الأهلة ، خلافاً لمن قال : لا يصح إلاَّ في أشهر الحج . قيل : وفيها دليل على أن من وجب عليها عدتان من رجل واحد اكتفت بمضي عدة واحدة للعدتين ، ولا تستأنف لكل واحدة منهما حيضاً ، ولا شهوراً ، لعموم قوله : مواقيت للناس . ودليل على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال ، وكانت بالشهور ، وجب استيفاؤها بالأهلة لا بعدد الأيام ، ودليل على أن من آلى من امرأته من أول الشهر إلى أن مضى الأربعة الأشهر معتبر في اتباع الطلاق بالأهلة دون اعتبار الثلاثين ، وكذلك فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً ، وكذلك الإجارات ، والأيمان ، والديون ، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك ، وسقط اعتبار العدد ، وبذلك حكم النبي صلى اللّه عليه وسلم في الصوم ، وفيها ردّ على أهل الظاهر . ومن قال بقولهم : إن المساقات تجوز على الأجل المجهول سنين غير معلومة ، ودليل على من أجاز البيع إلى الحصاد أو الدراس أو للغطاس وشبهه وهو : مالك ، وأبو ثور ، وأحمد ؛ وكذلك إلى قدوم الغزاة وروي عن ابن عباس منعه ، وبه قال الشافعي ، ودليل على عدم اعتبار وصف الهلال بالكبر أو الصغر لأنه يقال : ما فصل ، فسواء رئي كبيراً أو صغيراً ، فإنه لليلة التي رئي فيها .

{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} قال البراء بن عازب ، والزهري ، وقتادة ، سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسمون ظهور بيوتهم على الجدران ،

وقيل : كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة لم يأت حائطاً ، ولا بيتاً ، ولا داراً من بابه ، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقباً يدخل منه ويخرج ، أو ينصب سلماً ، يصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل إحرامه ، ويرون ذلك براً إلاَّ أن يكون ذلك من الحمس ، وهم : قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وثقيف ، وخثعم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر بن معاوية .

فدخل النبي صلى اللّه عليه وسلم ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل وقال : إني أحمس ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم { وأنا أحمس} . فنزلت . ذكر هذا مختصراً السدي .

وروى الربيع أن النبي صلى اللّه عليه وسلم دخل وخلفه رجل من الأنصار ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : { لم دخلت وأنت قد أحرمت } ؟ قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك . فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم { إني أحمس ، إني من قوم لا يدينون بذلك} . فقال الرجل : وأنا ديني دينك فنزلت .

وقال إبراهيم : كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز ،

وقيل : كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة ، ويبقى كذلك حولاً كاملاً .

وملخص هذه الأسباب أن اللّه تعالى أنزل هذه الآية راداً على من جعل إتيان البيوت من ظهورها براً ، آمراً بإتيان البيوت من أبوابها ، وهذه أسباب تظافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة ، وأن الإتيان هو المجيء إليها ، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تظافرت من هذه الآسباب .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر ، فبين لهم أن ذلك ليس من البر ، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه ، في الحج ، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة ، وما حكمة ذلك ، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم ، فأفعاله جارية على الحكمة ، ردّ عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها ، إذا أحرموا ، ليس من الحكمة في شيء ، ولا من البر ، ولما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معاً ، ووصل إحداهما بالأخرى .

وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال .

أحدهما : أن ذلك ضرب ، مثل : المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ، ولكن اتقوا واسألوا العلماء . فهذا كما يقال : أتيت الأمر من بابه ، قاله أبو عبيدة .

الثاني : أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج ، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء ، فانهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه اللّه تعالى ، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام ، فضرب مثلاً للمخالفة ،

وقيل : واتقوا اللّه تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم . قاله أبو مسلم .

الثالث : أن أتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح ، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلاَّ الصواب ، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله ، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة ، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول . أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم ،

فالمعنى : أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف العمر ، صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم ما تظنونه براً ، إنما البرّ أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم ، وهو حكمة الخالق على المجهول ، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمون ، قاله في { ريّ الظمآن} وهو قول ملفق من كلام الزمخشري .

قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره ، والمعنى

ليس البرّ ، وما ينبغي أن يكونوا عليه ، بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ، ولم يجسر على مثله .

ثم قال : { وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا } أي : وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها ، ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطيء النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال اللّه حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك ، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} انتهى كلامه .

وحكى هذا القول مختصراً ابن عطية ، فقال : وقال غير أبي عبيدة : ليس البرّ أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها ، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع ، أنه كنى بالبيوت عن النساء الإيواء اليهنّ كالإيواء إلى البيوت ، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهنّ ، وآتوهنّ من حيث يحل من قَبُلهنّ . قاله ابن زيد ، وحكاه مكي ، والمهدوي عن ابن الأنباري .

و

قال ابن عطية : كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام ، انتهى .

والباء في : بان تأتوا زائدة في خبر ليس ، وبأن تأتوا ، خبر ليس ، ويتقدّر بمصدر ، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى ، وبالأعرف عما دونه في التعريف ، لأن : أن وصلتها ، عندهم بمنزلة الضمير .

وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وقالون ، وعباس ، عن أبي عمرو ؛ والعجلي عن حمزة ؛ والشموني عن الأعشى ، عن أبي بكر : البيوتِ ، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء ، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول ، وبه قرأ باقي السبعة و : مِنْ ، متعلقة : بتأتوا ، وهي لابتداء الغاية ، والضمير في : أبوابها ، عائد على البيوت . وعاد كضمير المؤنث الواحدة ، لأن البيوت جمع كثرة ، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره ، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير ، والأفصح في كثيره أن يفرد . كهو في ضمير المؤنث الواحدة ، ويجوز العكس .

وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره ، والأفصح أن يجمع الضمير . ولذلك جاء في القرآن :{ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } ونحوه ، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح .

{وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } التأويلات التي في قوله :{ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ ءامَنَ } سائغة هنا ، من أنه أطلق البر ، وهو المصدر ، على من وقع منه على سبيل المبالغة ، أو فيه حذف من الأوّل ، أي : ذا البرّ ، ومن الثاني أي : بر من آمن . وتقدّم الترجيح في ذلك .

وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عدّ أوصافاً كثيرة من الإيمان باللّه إلى سائر تلك الأوصاف ، وقال في آخرها :{ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } وقال هنا :{ وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } والتقوى لا تحصل إلاَّ بحصول تلك الأوصاف ، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمناً إذ جاء معها : هو المتقي .

وقرأ نافع ، وابن عامر بتخفيف : ولكنّ ، ورفع : البرّ ، والباقون بالتشديد والنصب .

{وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِهَا } تفسيرها : يتفرّغ على الأقوال التي تقدّمت في قوله :{ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا}

{وَاتَّقُواْ اللّه } : أمر باتقاء اللّه ، وتقدمت جملتان خبريتان وهما { وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى } فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأول ، والثانية راجعة للثانية ، وهذا من بديع الكلام .

ولما كان ظاهر قوله : من اتقى ، محذوف المفعول ، نص في قوله : واتقوا اللّه ، على من يتقى ، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى اللّه .

{لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة ، وهي قوله { وَاتَّقُواْ اللّه } لأن تقوى اللّه هو إجماع الخير من امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي ، فعلق التقوى برجاء الفلاح ، وهو الظفر بالبغية .

﴿ ١٨٩