١٩٥

وأنفقوا في سبيل . . . . .

{وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ اللّه} هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام ، فلكل ما كان سبيلاً للّه وشرعا له كان مأموراً بالاتفاق فيه ؛

وقيل : معناه الأمر بالانفاق في أثمان آلة الحرب ،

وقيل : على المقلين من المجاهدين ، قاله ابن عباس ، قال : نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقالوا : بماذا نتجهز ؟ فواللّه ما لنا زاد

وقيل : في الجهاد على نفسه وعلى غيره ،

وقيل : المعنى : إبذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل اللّه .

وسمي بذل النفس في سبيل اللّه إنفاقاً مجازاً وأتساعاً كقول الشاعر : وأنفقت عمري في البطالة والصبا

فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر

والأظهر القول الأول ، وهو : الأمر بصرف المال في وجوه البرّ من حج ، أو عمرة ، أو جهاد بالنفس ، أو بتجهيز غيره ، أو صلة رحم ، أو صدقة ، أو على عيال ، أو في زكاة ، أو كفارة ، أو عمارة سبيل ، أو غير ذلك . ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به ، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة .

{وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } قال عكرمة : نزلت في الأنصار ، أمسكوا عن النفقة في سبيل اللّه ، وقال النعمان بن بشير : كان الرجل يذنب الذنب فيقول : لا يغفر اللّه لي ، فنزلت .

وفي حديث طويل تضمن أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم ، ودخل فيهم وخرج ، فقال الناس : ألقى بنفسه إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب الانصاري : تأوّلتم الآية على غير تأويلها ، وما أنزلت هذه الآية إلاَّ فينا معشر الأنصار ، لما أعز اللّه دينه قلنا : لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا ، فنزلت .

وفي تفسير التهلكة أقوال .

أحدها : ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال ، قاله أبو أيوب .

الثاني : ترك النفقة في سبيل اللّه خوف العيلة ، قاله حذيفة ، وأبن عباس ، والحسن ، وعطاء ، وعكرمة ، وابن جبير .

الثالث : التقحم في العدّو بلا نكاية ، قاله أبو القاسم البلخي .

الرابع : التصدّق بالخبيث ، قاله عكرمة .

الخامس : الإسراف بإنفاق كل المال ، قال تعالى { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ }{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ } قاله أبو علي .

السادس : الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته ، قاله البراء ، وعبيدة السلماني .

السابع : القنوط من التوبة ، قاله قوم .

الثامن : السفر للجهاد بغير زاد ، قاله زيد بن أسلم ، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم إلى الإنقطاع في الطريق ، أو إلى كونهم عالة على الناس .

التاسع : إحباط الثواب أمّا بالمنّ أو الرياء والسمعة ، كقوله :{ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ}

وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية . والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة اللّه تعالى ، فإن الجهاد في سبيل اللّه مفض إلى الهلاك ، وهو القتل ، ولم ينه عنه ، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة ، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى اللّه تعالى ، وقد ردّ ذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو : أن يقتل في سبيل اللّه ثم يحيا ، فيقاتل فيقتل ، أو كما جاء في الحديث ؛

ويقال : ألقى بيده في كذا ، وإلى كذا ، إذا استسلم ، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه ، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان ، ومنه قول عبد المطلب : واللّه إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز .

وألقى يتعدى بنفسه ، كما

قال تعالى :{ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ } وقال الشاعر : حتى إذا ألقت يداً في كافر

وأجنّ عورات الثغور ظلامُها وجاء مستعملاً بالباء لهذه الآية ، وكقول الشاعر :

وألقى بكفيه الفتى إستكانة من الجوع

وهناً ما يمرّ وما يحلى

وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين ، فقال أبو عبيدة وقوم : الباء زائدة ، التقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة ، ويكون عبّر باليد عن النفس ، كأنه قيل : ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة . وقد زيدت الباء في المفعول كقوله .

سود المحاجر لا يقرأن بالسور

أي : لا يقرأن السور ، إلاَّ أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس ،

وقيل : مفعول ألقى محذوف ، التقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، وتتعلق الباء بتلقوا ، أو تكون الباء لسبب ، كما تقول : لا تفسد حالك برأيك .

والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو : بأيديكم ، لكنه ضمن : ألقى ، معنى ما يتعدى بالباء ، فعداه بها ، كأنه قيل : ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة . كقوله : أفضيت بجنبي إلى الأرض أي : طرحت جنبي على الأرض ، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي ، لأن بها الحركة والبطش والامتناع ، فكأنه يقول : إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك ، ولا يهمل ما وضع له ، ويفضي به إلى الهلاك . وتقدّمت معاني : أفعل ، في أول البقرة ، وهي أربعة وعشرون معنى ، وعرضتها على لفظ : ألقى ، فوجدت أقرب ما يقال فيه : أن : أفعل ، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام .

القسم

الأول : أن تجعله كقولك : أخرجته ، أي : جعلته يخرج ، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية .

القسم

الثاني : أن تجعله على صفة ، كقوله : أطردته ، فالهمزة فيه ليست للتعدية ، لأن الفعل كان متعدّياً دونها ، وإنما المعنى : جعلته طريداً .

والقسم

الثالث : أن تجعله صاحب شيء بوجه مّا ، فمن ذلك : أشفيت فلاناً ، جعلت له دواء يستشفى به ، وأسقيته : جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي . ومن هذا النوع : أقبرته ، وأنعلته ، وأركبته ، وأخدمته ، وأعبدته : جعلت له قبراً ، ونعلاً ، ومركوباً ، وخادماً ، وعبداً .

فأما : ألقى ، فإنها من القسم الثاني ، فمعنى : ألقيت الشيء : جعلته لقي ، واللقي فعل بمعنى مفعول ، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول ، فكأنه قيل : لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك .

وقد حام الزمخشري

نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه ، فقال : الباء في : بأيديكم ، مثلها في أعطى بيده للمنقاد ، والمعنى : ولا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي : لا تجعلوها آخذة بأيديكم ، مالكة لكم ، انتهى كلامه . وفي كلامه أن الباء مزيدة ، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس .

{وَأَحْسِنُواْ } هذا أمر بالإحسان ، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين .

وقال عكرمة : المعنى : وأحسنوا الظنّ باللّه ، وقال زيد بن أسلم : وأحسنوا بالإنفاق في سبيل اللّه ، وفي الصدقات .

وقيل : وأحسنوا والمجاهد محسن .

{إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاماً بأن اللّه يحب من الإحسان صفة له ، ومن أحبه اللّه لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائماً بحيث لا يخلو منه محبة اللّه دائماً .

﴿ ١٩٥