١٩٧

الحج أشهر معلومات . . . . .

{الجدال } : فعال مصدر : جادل ، وهي المخاصمة الشديدة ، مشتق ذلك من الجدالة ، وهي الأرض . كان كل واحد من الخصمين يقاوم صاحبه حتى يغلبه ، فيكون كمن ضرب منه الجدالة ، ومنه قول الشاعر :

قد أنزل الآلة بعد الآلة

وأنزل العاجز بالجدالة

أي : بالأرض ،

وقيل : اشتق ذلك من الجدل وهو القتل ، ومنه قيل : زمام مجدول ،

وقيل : له جديل ، لقتله

وقيل : للصقر : الأجدل لشدّته واجتماع حلقه ، كأن بعضه قتل في بعض فقوي .

{خَيْرَ الزَّادِ } : معروف ، وهو ما يستصحبه الإنسان للسفر من مأكول ، ومشروب ، ومركوب ، وملبوس ، إن احتاج إلى ذلك ، وألفه منقلبة عن واو ، يدل على ذلك قولهم : تزوّد ، تفعَّل من الزاد .

{الإفاضة } : الانخراط والاندفاع والخروج من المكان بكثرة شبه بفيض الماء والدمع ، فأفاض من الفيض لا من فوض ، وهو اختلاط الناس بلا سايس يسوسهم ، وأفعل هذا بمعنى المجرد ، وليست الهمزة للتعدية ، لأنه لا يحفظ : أفضت زيد ، بهذا المعنى الذي شرحناه ، وإن كان يجوز في فاض الدمع أن يعدي بالهمزة ، فتقول : أفاض الحزن ، أي : جعله يفيض .

وزعم الزجاج ، وتبعه الزمخشري ، وصاحب { المنتخب} أن الهمزة في أفاض الناس للتعدية ، قال : وأصله : أفضتم أنفسكم ، وشرحه صاحب { المنتخب} بالاندفاع في السير بكثرة ، وكان ينبغي أن يشرحه بلفظ متعدد .

قال معناه : دفع بعضكم بعضاً ، قال : لأن الناس إذا انصرفوا مزدحمين دفع بعضهم بعضاً ،

وقيل : الإفاضة الرجوع من حيث بدأتم ،

وقيل : السير السريع ،

وقيل : التفرق بكثرة ،

وقيل : الدفع بكثرة ،

ويقال : رجل فياض أي مندفق بالعطاء ،

وقيل : الانصراف ، من قولهم : أفاض بالقداح ، وعلى القداح ، وهي سهام الميسر ، وأفاض البعير بجرانه .

{مّنْ عَرَفَاتٍ } علم على الجبل الذي يقفون عليه في الحج ، فقيل : ليس بمشتق ،

وقيل : هو مشتق من المعرفة ، وذلك سبب تسميته بهذا الاسم .

وفي تعيين المعرفة أقاويل : فقيل : لمعرفة إبراهيم بهذه البقعة إذ كانت قد نعتت له قبل ذلك

وقيل : لمعرفته بهاجر وإسماعيل بهذه البقعة ، وكانت سارة قد أخرجت إسماعيل في غيبة إبراهيم ، فانطلق في طلبه حين فقده ، فوجده وأمّه بعرفات ،

وقيل : لمعرفته في ليلة عرفة أن الرؤيا التي رآها ليلة يوم التروية بذبح ولده كانت من اللّه ،

وقيل : لما أتى جبريل على آخر المشاعر في توقيفه لابراهيم عليها ، قال له : أعرفت ؟ قال : عرفت ، فسميت عرفة ،

وقيل : لأن الناس يتعارفون بها ،

وقيل : لتعارف آدم وحوّاء بها ، لأن هبوطه كان بوادي سرنديب ، وهبوطها كان بجدّة ، وأمره اللّه ببناء الكعبة ، فجاء ممتثلاً ، فتعارفا بهذه البقعة .

وقيل : من العرف ، وهو الرائحة الطيبة ،

وقيل : من العرف ، وهو : الصبر ،

وقيل : العرب تسمي ما علا عرفات وعرفة ، ومنه : عرف الديك لعلوه ، وعرفات مرتفع على جميع جبال الحجاز ، وعرفات وإن كان اسم جبل فهو مؤنث ، حكى سيبويه : هذه عرفات مباركاً فيها ، وهي مرادفة لعرفة ،

وقيل : إنها جمع ، فإن عنى في الأصل فصحيح وإن عنى حالة كونها علماً فليس بصحيح ، لأن الجمعية تنافي العلمية .

وقال قوم : عرفه اسم اليوم ، وعرفات اسم البقعة .

والتنوين في عرفات ونحوه تنوين مقابلة ،

وقيل : تنوين صرف ، واعتذر عن كونه

منصرفاً مع التأنيث والعلمية ، بأن التأنيث إنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، وإن كان بالتقدير : كسعاد ، فلا يصح تقديرها في عرفات ، لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما تقدر تاء التأنيث في بنت ، لأن التاء التي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث ، فأنث تقديرها . انتهى هذا التعليل وأكثره للزمخشري ، وأجراه في القرآن مجرى ما لم يسم فاعله من إبقاء التنوين في الجر ، ويجوز حذفه حالة التسمية ،

وحكى الكوفيون ، والأخفش إجراء ذلك وما أشبهه مجرى فاطمة ، وأنشدوا بيت امرىء القيس : تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي

بالفتح .

{النصيب } : الحظ وجمعه على أفعلا شاذ ، لأنه اسم ، قالوا : نصباء ، وقياسه : فعل نحو : كثيب وكثب .

{وَاللّه سَرِيعُ } : اسم فاعل من : سرع يسرع سرعة فهو سريع ،

ويقال : أسرع وكلاهما لازم .

{الْحِسَابِ } : مصدر حاسب ، وقال أحمد بن يحيى : حسبت الحساب أحسبه حسباً وحسباناً ، والحساب الاسم ،

وقيل : الحساب مصدر حسب الشيء ، والحساب في اللغة هو العدوّ ؛ وقال الليث بن المظفر ، ويعقوب : حسب يحسب حسباناً وحسابة وحسبة وحسباً } ، وأنشد :

وأسرعت حسبة في ذلك العدد

ومنه : حسب الرجل ، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره ، والأحساب : الاعتداد بالشيء . وقال الزجاج : الحساب : في اللغة مأخوذ من قولك : حسبك كذا ، أي : كفاك ، فسمي الحساب من المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة ولا نقصان .

، وأنشد :

وأسرعت حسبة في ذلك العدد

ومنه : حسب الرجل ، وهو ما عدّه من مآثره ومفاخره ، والأحساب : الاعتداد بالشيء . وقال الزجاج : الحساب : في اللغة مأخوذ من قولك : حسبك كذا ، أي : كفاك ، فسمي الحساب من المعاملات حساباً لأنه يعلم ما فيه كفاية ، وليس فيه زيادة ولا نقصان .

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } لما أمر اللّه تعالى بإتمام الحج والعمرة ، وكانت العمرة لا وقت لها معلوماً . بين أن الحج له وقت معلوم ، فهذه مناسبة هذه الآية لما قبلها .

والحج أشهر ، مبتدأ وخبر ولا بد من حذف ، إذ الأشهر ليست الحج ، وذلك الحذف أما في المبتدأ ، فالتقدير : أشهر الحج ، أو وقت الحج ، أو : في الخبر ، أي : الحج حج أشهر ، أو يكون : الأصل في أشهر ، فاتسع فيه ، وأخبر بالظرف عن الحج لما كان يقع فيه ، وجعل إياه على سبيل التوسع والمجاز ، وعلى هذا التقدير كان يجوز النصب ، ولا يمتنع في العربية .

قال ابن عطية : ومن قدر الكلام : في أشهر ، فيلزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ، ولم يقرأ بنصبها أحد . انتهى كلامه . ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر ، كما ذكر ابن عطية : لأنا قد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع ، وهذا لا خلاف فيه عند البصريين ، أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبراً عن المصادر ، فإنه يجوز عندهم في ذلك تفصيل ، وهو : أن الحدث إما أن يكون مستغرقاً للزمان ، فيرفع ، ولا يجوز فيه النصب ، أو غير مستغرق فذهب

هشام أنه يجب في الرفع ، فيقول : ميعادك يوم ، وثلاثة أيام ، وذهب الفرآء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين ، ونقل عن الفرآء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر ، لأن : أشهراً ، نكرة غير محصورة .

وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه ، فيمكن أن يكون له القولان ، قول البصريين ، وقول هشام ، وجمع شهر على أفعل لأنه جمع قلة بخلاف قوله { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ } فإنه جاء على : فعول ، وهو جمع الكثرة .

وظاهر لفظا أشهر الجمع ، وهو : شوّال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، كله ، وبه قال ابن مسعود ، وابن عمر ، وعطآء ، وطاووس ، ومجاهد ، والزهري ، والربيع ، ومالك .

وقال ابن عباس ، وابن الزبير ، وابن سيرين ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وطاووس ، والنخعي ، وقتادة ، ومكحول ، والسدي ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وابن حبيب ، عن مالك ، هي : شوال ، وذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة .

وروي هذا عن ابن مسعود ، وابن عمر ،

وحكى الزمخشري ، وصاحب { المنتخب} عن الشافعي : أن الثالث التسعة من ذي الحجة مع ليلة النحر ، لأن الحج يفوت بطلوع الفجر .

وهذان القولان فيهما مجاز ، إذ أطلق على بعض الشهر ، شهر .

وقال الفراء : تقول العرب : له اليوم يومان لم أره ، وإنما هو وبعض يوم آخر ، وإنما قالوا ذلك تغليباً لا كثر الزمان على أقله ، وهو كما نقل في الحديث : أيام منى ثلاثة أيام وإنما هي يومان وبعض الثالث ، وهو من باب إطلاق بعض على كل ، وكما . قال الشاعر :

ثلاثون شهراً في ثلاثة أحوال

على أحد التأويلين ، قيل : ولأن العرب توقع الجمع على التثنية إذا كانت التثنية أقل الجمع ،

وقال الزمخشري .

فإن قلت : فكيف كان الشهران . وبعض الشهر أشهراً ؟

قلت : اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، بدليل قوله تعالى { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فلا سؤال فيه إذن ، وإنما يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات . انتهى كلامه .

وما ذكره الدعوى فيه عامة ، وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد ، وهذا فيه النزاع . والدليل الذي ذكره خاص ، وهو :{ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } وهذا لا خلاف فيه ، ولإطلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو و : أشهر ، ليس من باب { فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } فلا يمكن أن يستدل به عليه .

وقوله : فلا سؤال فيه ، إذن ليس بجيد ، لأنه فرض السؤال بقوله : فإن قلت ؟ وقوله فإنما كان يكون موضعاً للسؤال لو قيل : ثلاثة أشهر معلومات ، ولا فرق عندنا بين شهر وبين قوله ثلاثة أشهر ، لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر ، كذلك قد يدخل المجاز في العدد ، ألا ترى إلى ما حكاه الفراء : له اليوم يومان لم أره ؟ قال : وإنما هو يوم وبعض يوم آخر ، وإلى قول امرىءالقيس :

ثلاثين شهراً في ثلاثة أحوال

على ما قدّمنا ذكره ، وإلى ما حكي عن العرب ، ما رأيته مذ خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول والخامس فلم يشمل الإنتفاء خمسة أيام جميعها بل تجعل ما رأيته في بعضه ، وانتفت الرؤية في بعضه ، كان يوم كامل لم تره فيه ، فإذا كان هذا موجوداً في كلامهم فلا فرق بين أشهر ، وبين ثلاثة أشهر ، لكن مجاز الجمع أقرب من مجاز العدد .

قالوا : وثمرة

الخلاف بين قول من جعل الأشهر هي الثلاثة بكمالها ، وبين من جعلها شهرين وبعض الثالث ، يظهر في تعلق الدم فيما يقع من الأعمال يوم النحر ، فعلى القول الأول لا يلزمه دم لأنها وقعت في أشهر الحج ، وعلى الثاني يلزمه ، لأنه قد انقضى الحج بيوم النحر ، وأخرَّ عمل ذلك عن وقته .

وفائدة التوقيت بالأشهر أن شيئاً من أفعال الحج لا يصح إلاَّ فيها ، ويكره الإحرام بالحج في غيرها عند أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد ، وبه قال النخعي . قال : ولا يحل حتى يقضي حجه .

وقال عطآء ، ومجاهد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأبو الثور : لا يصح ، وينقلب عمرة ويحل لها .

وقال ابن عباس : من سنة الحج الإحرام به .

وسبب الخلاف اختلافهم في المحذوف في قوله : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } هل التقدير : الإحرام بالحج أو أفعال الحج ؟ وذكر الحج في هذه الأشهر لا يدل على أن العمرة لا تقع ، وما روي عن عمر وابنه عبد اللّه أن العمرة لا تستحب فيها ، فكأن هذه الإشهر مخلصة للحج .

وروي أن عمر كان يخفق الناس بالدرّة ، وينهاهم عن الاعتمار فيهن ، وعن ابن عمر أنه قال لرجل : إن أطلقني انتظرت ، حتى إذا أهللت المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة .

ومعنى : معلومات ، معروفات عند الناس ، وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقرراً عندهم .

{فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } أي : من ألزم نفسه الحج فيهن ، وأصل الفرض الحز الذي يكون في السهام والقسي وغيرها ، ومنه فرضة النهر والجبل ، والمراد بهذا الفرض ما يصير به المحرم محرماً ، قال ابن مسعود : وهو الإهلال بالحج والإحرام ، وقال عطآء ، وطاووس : هو أن يلبي ، وبه قال جماعة من الصحابة والتابعين رحمهم اللّه ، وهي رواية شريك عن ابن عباس : إن فرض الحج بالتلبية .

وروي عن عائشة : لا إحرام إلاَّ لمن أهلَّ ولبىَّ ، وأخذ به أبو حنيفة وأصحابه ، وابن حبيب ، وقالوا ، هم وأهل الظاهر : إنها ركن من أركان الحج .

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قلد بدنته وساقها يريد الإحرام . فقد أحرم ، قول هذا على أن مذهبه وجوب التلبية ، أو ما قام مقامها من الدم ، وروي عن ابن عمر : إذا قلد بدنته وساقها فقد أحرم ، وروي عن علي ، وقيس بن سعد ، وابن عباس ، وطاووس ، وعطاء ، ومجاهد ، والشعبي ، وابن سيرين ، وجابر بن زيد ، وابن جبير : أنه لا يكون محرماً بذلك ،

وقال ابن عباس ، وقتادة ، والحسن : فرض الحج الإحرام به ، وبه قال الشافعي .

وهذه الأقوال كلها مع اشتراط النية . وملخص ذلك أنه يكون محرماً بالنية ، والإحرام عند مالك ، والشافعي ، وبالنية والتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة ، أو النية وإشعار الهدي أو تقليده عند جماعة من العلماء .

و : مَنْ ، شرطية أو موصولة ، و : فيهن ، متعلق بفرض ، والضمير عائد على : أشهر ، ولم يقل : فيها ، لأن أشهراً جمع قلة ، وهو جار على الكثير المستعمل من أن جمع القلة لما لا يعقل يجرى مجرى الجمع مطلقاً للعاقلات على الكثير المستعمل أيضاً ، وقال قوم : هما سواء في الاستعمال .

{فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجّ } الرفث هنا قال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، والزهري ، والسدي : هو الجماع ؛ وقال ابن عمر ، وطاووس ، وعطاء ، وغيرهم : هو الإفحاش للمرأة بالكلام ، كقوله : إذا أحللنا فعلنا بك كذا ، الايكني ، وقال قوم : الإفحاش بذكر النساء ، كان ذلك بحضرتهن أم لا ؛ وقال قوم : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من أهله ، وقال أبو عبيدة : هو اللغو من الكلام ، وقال ابن الزبير : هو التعرض بمعانقة ومواعدة أو مداعبة أو غمز .

وملخص هذه الأقوال أنها دائرة بين شيء يفسده وهو الجماع ، أو شيء لا يليق لمن كان ملتبساً بالحج لحرمة الحج .

والفسوق : فسر هذا بفعل ما نهى عنه في الإحرام من قتل صيد ، وحلق شعر ، والمعاصي كلها لا يختص منها شيء

دون شيء قاله ابن عباس ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وطاووس . أو الذبح للأصنام ومنه : {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّه بِهِ } قاله ابن زيد ، ومالك ، أو التنابذ بالألقاب قال :{ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ } قاله الضحاك ، أو السباب منه : { سباب المسلم فسوق} . قاله ابن عمر أيضاً ، ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم ، والسدي ، ورجح محمد بن جرير أنه ما نهي عنه الحاج في إحرامه لقوله :{ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}

وقد علم أن جميع المعاصي محرم على كل أحد من محرم وغيره ، وكذلك التنابذ ، ورجح ابن عطية ، والقرطبي المفسر وغيرهما قول من قال : إنه جميع المعاصي لعمومه جميع الأقوال والأفعال ، ولأنه قول الأكثر من الصحابة والتابعين ، ولأنه روي : { والذي نفسي بيده ، ما بين السماء والأرض عمل أفضل من الجهاد في سبيل اللّه ، أو حجة مبرورة لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال} .

وقال العلماء : الحج المبرور هو الذي لم يعص اللّه في أثناء أدائه ؛ وقال الفراء : هو الذي لم يعص اللّه بعده .

والجدال : هنا مماراة المسلم حتى يغضب ، فأما في مذاكرة العلم فلا نهي عنها ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد . أو السباب ، قاله ابن عمر ، وقتادة . أو : الاختلاف : أيهم صادف موقف أبيهم ؟ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، تقف قريش في غير موقف العرب ، ثم يتجادلون بعد ذلك ، قاله ابن زيد ، ومالك . أو يقول قوم : الحج اليوم ، وقوم الحج غداً ، قاله القاسم . أو المماراة في الشهور حسبما كانت العرب عليه من الذي كانوا ربما جعلوا الحج في غير ذي الحجة ، ويقف بعضهم بجمع ، وبعضهم بعرفة ، ويتمارون في الصواب من ذلك ، قاله مجاهد .

قال ابن عطية : وهذا أصح الأقوال ، وأظهرها قرر الشرع وقت الحج وإحرامه حتم لا جدال فيه .

أو قول طائفة : حجنا أبر من حجكم ، وتقول الأخرى مثل ذلك ، قاله محمد بن كعب القرطبي ، أو الفخر بالآباء ، قاله بعضهم ، أو قول الصحابة للنبي صلى اللّه عليه وسلم إنا أهللنا بالحج ، حين قال في حجة الوداع : { من لم يكن معه هدي فليحلل من إحرامه وليجعلها عمرة } قاله مقاتل . أو المراء مع الرفقاء والخدام والمكارين ، قاله الزمخشري . أو كلَّ ما يسمى جدالاً لا للتغالب ، وحظ النفس ، فتدخل فيه الأقوال التسعة السابقة .

و : الفاء ، في : فلا رفث ، هي الداخلة في جواب الشرط ، إن قدر : من ، شرطاً ، وهو الأظهر ، أو في الخبر إن قدر : من ، موصولاً .

وقرأ ابن مسعود والأعمش : رفوث ، وقد تقدّم أن الرفث والرفوث مصدران .

وقرأ أبو جعفر بالرفع والتنوين في الثلاثة ، ورويت عن عاصم في بعض الطرق ، وهو طريق المفضل عن عاصم ،

وقرأ أبو رجاء العطاردي بالنصب والتنوين في الثلاثة .

وقرأ الكوفيون ، ونافع بفتح الثلاثة من غير تنوين ؛

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر برفع : فلا رفث ولا فسوق ، والتنوين ، وفتح : ولا جدال ، من غير تنوين .

فأمّا من رفع الثلاثة فإنه جعل : لا ، غير عاملة ورفع ما بعدها بالابتداء ، والخبر عن الجميع هو قوله : في الحج ، ويجوز أن يكون خبراً عن المبتدأ الأول ، وحذف خبر الثاني . والثالث للدّلالة ، ويجوز أن يكون خبراً عن الثالث وحذف خبر الأول والثاني لدّلالة ، ولا يجوز أن يكون خبراً عن الثاني ويكون قد حذف خبر الأول والثالث لقبح هذا التركيب والفصل .

قيل : ويجوز أن تكون : لا ، عاملة عمل ليس فيكون : في الحج ، في موضع نصب ، وهذا الوجه جزم به ابن عطية ، فقال : و : لا ، في معنى ليس في قراءة الرفع ، وهذا الذي جوّزه وجزم به ابن عطية ضعيف ، لأن إعمال : لا ، إعمال : ليس ، قليل جداً ، لم يجىء منه في لسان العرب إلاَّ ما لا بال له ، والذي يحفظ من ذلك قوله : تعزّ فلا شيء على الأرض باقيا

ولا وزرٌ مما قضى اللّه واقياً

أنشده ابن مالك ، ولا أعرف هذا البيت إلاَّ من جهته ، وقال النابغة الجعدي :

وحلت سواد القلب لا أنا باغيا

سواها ولا في حبها متراخياً

وقال آخر : أنكرتها بعد أعوام مضين لها

لا الدار دار ولا الجيرانُ جيرانا

وخرج على ذلك سيبويه قول الشاعر : من صدّ عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح

وهذا كله يحتمل التأويل ، وعلى أن يحمل على ظاهره لا ينتهى من الكثرة بحيث تبنى عليه القواعد ، فلا ينبغي أن يحمل عليه كتاب اللّه الذي هو أفصح الكلام وأجله ، ويعدل عن الوجه الكثير الفصيح .

وأما قراءة النصب والتنوين فإنها منصوبة على المصادر ، والعامل فيها أفعال من لفظها ، التقدير : فلا يرفث رفثاً ، ولا يفسق فسوقاً ، ولا يجادل جدالاً . و : في الحج ، متعلق بما شئت من هذه الأفعال على طريقة الإعمال والتنازع .

وأما قراءة الفتح في الثلاثة من غير تنوين ، فالخلاف في الحركة ، أهي حركة إعراب أو حركة بناء ؟ الثاني قول الجمهور ، والدلائل مذكورة في النحو ، وإذا بنى معها على الفتح فهل المجموع من لا والمبنى معها في موضع رفع على الابتداء ؟ وإن كانت : لا ، عاملة في الاسم النصب على الموضع ، ولا خبر لها ، أو ليس المجموع في موضع مبتدأ ؟ بل . لا ، عاملة في ذلك الاسم النصب على الموضع ، وما بعدها خبر : لا ، إذا أجريت مجرى . إن ، في نصب الاسم ورفع الخبر ، قولان للنحويين ،

الأول : قول سيبويه ،

والثاني : الأخفش ، فعلى هذين القولين يتفرّع إعراب : في الحج ، فيكون في موضع خبر المبتدأ على مذهب سيبويه ، وفي موضع خبر : لا ، على مذهب الأخفش .

وأما قراءة من رفع ونون : فلا رفث ولا فسوق ، وفتح من غير تنوين : ولا جدال ، فعلى ما اخترناه من الرفع على الابتداء ، وعلى مذهب سيبويه : إن المفتوح مع : لا ، في موضع رفع على الابتداء ، يكون : في الحج ، خبراً عن الجميع ، لأنه ليس فيه ، إلاَّ العطف ، عطف مبتدأ على مبتدأ .

وأمّا قول الأخفش فلا يصح أن يكون : في الحج ، إلاَّ خبراً للمبتدأين ، أو : لا ، أو خبر للا ، لاختلاف المعرب في الحج ، يطلبه المبتدأ أو تطلبه فقد اختلف المعرب فلا يجوز أن يكون خبراً عنهما .

وقال ابن عطية في هذه القراءة ما نصه : و : لا ، بمعنى ليس في قراءة الرفع ، وخبرها

محذوف على قراءة أبي عمرو ، و : في الحج ، خبر : لا جدال ، وحذف الخبر هنا هو على مذهب أبي علي ، وقد خولف في ذلك بل : في الحج ، هو خبر الكل ، إذ هو في موضع رفع في الوجهين ، لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما يليها ، وخبرها مرفوع بأن على حاله من خبر الابتداء ، وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر ، وليس كذلك ، بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر انتهى كلامه . وفيه مناقشات .

الأولى : قوله و : لا ، بمعنى : ليس ، وقد قدّمنا أن كون : لا ، بمعنى ليس هو من القلة في كلامهم بحيث لا تبنى عليه القواعد ، وبينا أن ارتفاع مثل هذا إنما هو على الإبتداء .

الثانية : قوله : وخبرها محذوف على قراءة أبي عمرو ، وقد نص الناس على أن خبر كان وأخواتها ومنها : ليس ، لا يجوز حذفه لا اختصاراً ، ولا اقتصاراً ، ثم ذكروا أنه قد حذف خبر ليس في الشعر في قوله :

يرجو جوارك حين ليس مجير

على طريق الضرورة أو الندور ، وما كان هكذا فلا يحمل القرآن عليه .

الثالثة : قوله بل : في الحج ، هو خبر الكل إذ هو في موضع رفع على الوجهين ، يعني بالوجهين : كونها بمعنى : ليس ، وكونها مبنية مع : لا ، وهذا لا يصح ، لأنها إذا كانت بمعنى ليس احتاجت إلى خبر منصوب ، وإذا كانت مبنية مع لا احتاجت إلى أن يرتفع الخبر إما لكونها هي العاملة فيه الرفع على مذهب الأخفش ،

وإما لكونها مع معمولها في موضع رفع على الإبتداء فيقتضي أن يكون خبراً للمبتدأ على مذهب سيبويه ، على ما قدمناه من الخلاف ، وإذا تقرر هذا امتنع أن يكون : في الحج ، في موضع رفع على ما ذكر ابن عطية من الوجهين .

الرابعة : قوله : لأن : لا ، إنما تعمل على بابها فيما تليها ، وخبرها مرفوع باق على حاله من خبر الابتداء هذا تعليل لكون : في الحج ، خبراً للكل ، إذ هي في موضع رفع في الوجهين على ما ذهب وقد بينا أن ذلك لا يجوز ، لأنها إذا كانت بمعنى : ليس ، كان خبرها في موضع نصب ، ولا يناسب هذا التعليل إلاَّ كونها تعمل عمل إن فقط ، على مذهب سيبويه لا على مذهب الأخف ٥ ، لأنه على مذهب الأخفش يكون : في الحج ، في موضع رفع بلا ، و : لا ، هي العاملة الرفع ، فاختلف المعرب على مذهبه ، لأن قراءة الرفع هي على الابتداء ، وقراءة الفتح في : ولا جدال ، هي على عمل : لا ، عمل إن .

الخامسة : قوله : وظنّ أبو علي أنها بمنزلة : ليس ، في نصب الخبر وليس كذلك ، هذا الظنّ صحيح ، وهو كما ظنّ ، ويدل عليه أن العرب حين صرحت بالخبر على أن : لا ، بمعنى ليس أتت به منصوباً في شعرها ، فدل على أن ما ظنه أبو علي من نصب الخبر صحيح ، لكنه من الندور بحيث لا تبنى عليه القواعد كما ذكرنا ، فأجازه أبو علي ، مثل هذا في القرآن لا ينبغي .

السادسة : قوله : بل هي والاسم في موضع الابتداء يطلبان الخبر ، و : في الحج ، هو الخبر ، هذا الذي ذكره توكيد لما تقرر قبل من أنها إذا كانت بمعنى : ليس ، إنما تعمل في الاسم الرفع فقط ، وهي والاسم في موضع رفع بالابتداء ، وأن الخبر يكون مرفوعاً لذلك المبتدأ ، وقد بينا أن ذلك ليس بصحيح لنصب العرب الخبر إذا كانت بمعنى : ليس ، وعلى تقدير ما قاله لا يمكننا العلم بأنها تعمل عمل ليس في الاسم فقط إذا كان الخبر مرفوعاً ، لأنه ليس لنا إلاَّ صورة : لا رجل قائم ، ولا امرأة . فرجل هنا مبتدأ ، وقائم خبر عنه ، وهي غير عاملة ، وإنما يمتاز كونها بمعنى ليس ، وارتفاع الأسم بها من كونه مبتدأ بنصب الخبر إذا كانت بمعنى ليس ، ورفع الخبر إذا كان ما بعدها مرفوعاً بالابتداء ، وإلاَّ فلا يمكن العلم بذلك أصلاً لرجحان أن يكون ذلك الاسم مبتدأ ، والمرفوع بعده خبره .

وقال الزمخشري :

وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير الأولين بالرفع والآخر بالنصب لأنهما حملا الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكونن رفث ولا فسوق ، والثالث على معنى الإخبار بانتفاء الجدال ، كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ؛ وذلك أن قريشاً كانت تخالف سائر العرب ، فتقف بالمشعر الحرام وسائر العرب يقفون بعرفة ، وكانوا يقدمون الحج سنة ويؤخرونه سنة ، وهو النسيء ، فرد إلى وقت واحد ، ورد الوقوف إلى عرفة ، فأخبر اللّه تعالى أنه قد ارتفع الخلاف في الحج .

واستدل على أن المنهي

عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال ، بقوله عليه السلام{ من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج كهيئة يوم ولدته أمّه } ، وأنه لم يذكر الجدال . انتهى كلامه . وفيه تعقبات .

الأول : تأويله على أبي عمرو ، وابن كثير أنهما حملا الأولين على معنى النهي بسبب الرفع والثالث على الإخبار بسبب البناء ، والرفع والبناء لا يقتضيان شيئاً من ذلك ، بل لا فرق بين الرفع والبناء في أن ما كانا فيه كان مبنياً ،

وأما أن الرفع يقتضي النهي ، والبناء يقتضي الخبر فلا ، ثم قراءة الثلاثة بالرفع وقراءتها كلها بالبناء يدل على ذلك ، غاية ما فرق بينهما أن قراءة البناء نص على العموم ، وقراءة الرفع مرجحة له ، فقراءتهما الأوّلين بالرفع والثالث بالبناء على الفتح إنما ذلك سنة متبعة إذا لم يتأد ذلك إليهما إلاَّ على هذا الوجه من الوجوه الجائزة في العربية في مثل هذا التركيب .

الثاني : قوله : كأنه قيل : ولا شك ولا خلاف في الحج ، وترشيح ذلك بالتاريخ الذي ذكره بهذا التفسير مناقض لما شرح هو به الجدال ، لأنه قال قبل : ولا جدال ولا مراء مع الرفقاء والخدم والمكارين . وهذا التفسير في الجدال مخالف لذلك التفسير .

الثالث : أن التاريخ الذي ذكره هو قولان في تفسير : ولا جدال ، للمتقدمين اختلافهم : في الموقف : لابن زيد ، ومالك ، والنسيء : لمجاهد ، فجعلهما هو شيئاً واحداً سبباً للإخبار أن لا جدال في الحج .

الرابع : قوله واستدل على أن المنهي عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال إلى آخر كلامه ، ولا دليل في ذلك ، لأن الجدال إن كان من باب المحظور فقد اندرج في قوله : { وَلاَ فُسُوقَ } لعمومه ، وإن كان من باب المكروه وترك الأولى ، فلا يجعل ذلك شرطاً في غفران الذنوب ، فلذلك رتب صلى اللّه عليه وسلم غفران الذنوب على النهي عن ما يفسد الحج من المحظور فيه ، الجائز في غير الحج ، وهو الجماع المكني عنه بالرفث ؛ ومن المحظور الممنوع منه مطلقاً في الحج وفي غيره ، وهو معصية اللّه المعبر عنها بالفسوق ، وجاء قوله : ولا جدال ، من باب التتميم لما ينبغي أن يكون عليه الحاج ، من : إفراغ أعماله للحج ، وعدم المخاصمة والمجادلة . فمقصد الآية غير مقصد الحديث ، فلذلك جمع في الآية بين الثلاثة ، وفي الحديث اقتصر على الاثنين .

وقد بقي الكلام على هذه الجملة : أهي مراد بها النفي حقيقة فيكون إخباراً ؟ أو صورتها صورة النفي ؟ والمراد به النهي ؟ اختلفوا في ذلك فقال في { المنتخب} قال ، أهل المعاني : ظاهر الآية نفي ، ومعناها نهي . أي : فلا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا ، كقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي : لا ترتابوا فيه ، وذكر القاضي أن ظاهره الخبر ، ويحتمل النهي ، فإذا حمل على الخبر فمعناه : أن حجه لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال ، بل يفسد ، فهو كالضد لها وهي مانعة من صحته ، ولا يستقيم هذا المعنى ، إلاَّ إن أريد بالرفث : الجماع ، والفسوق : الزنا ، وبالجدال : الشك في الحج وفي وجوبه ، لأن الشك في ذلك كفر ولا يصح معه الحج ، وحملت هذه الألفاظ على هذه المعاني حتى يصح خبر اللّه ، لأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، وإذا حمل على النهي ، وهو خلاف الظاهر ، صلح أن يراد بالرفث : الجماع ، ومقدماته ، وقول الفحش والفسوق والجدال جميع أنواعها لإطلاق اللفظ ، فيتناول جميع أقسامه ، لأن النهي عن الشيء نهي عن جميع أقسامه .

وتكون الآية جلية على الأخلاق الجميلة ، ومشيرة إلى قهر القوة الشهوانية ، بقوله :{ فَلاَ رَفَثَ } وإلى قهر القوة النفسانية بقوله :{ وَلاَ فُسُوقَ } وإلى قهر القوة الوهمية بقول :{ وَلاَ جِدَالَ } فذكر هذه الثلاثة لأن منشأ الشر محصور فيها ، وحيث نهى عن الجدال حمل الجدال على تقرير الباطل وطلب المال والجاه ، لا على تقرير الحق ودعاء الخلق إلى اللّه والذب عن دينه . انتهى ما لخصناه من كلامه .

والذي نختاره أنها جملة ، صورتها صورة الخبر ، والمعنى على النهي ، لأنه لو أريد حقيقة الخبر لكان المؤدّي لهذا المعنى تركيب غير هذا التركيب ، ألا ترى أنه لو قال : إنسان مثلاً : من دخل في الصلاة فلا جماع لامرأته ، ولا زنا بغيرها ، ولا كفر في الصلاة ، يريد الخبر ، وأن هذه الأشياء مفسدة لها لم يكن هذا الكلام من الفصاحة في رتبة قوله : من دخل في الصلاة فلا صلاة له مع جماع امرأته وزناه وكفره ؟ فالذي يناسب المعنى الخبري نفي صحة الحج مع وجود الرفث والفسوق والجدال لا نفيهنّ فيه ، هكذا الترتيب

العربي الفصيح ، وإنما أتى في النهي بصورة النفي إيذانا بأن المنهي عنه يستبعد الوقوع في الحج ، حتى كأنه مما لا يوجد ، ومما لا يصح الإخبار عنه بأنه لا يوجد .

وقال في { المنتخب} أيضاً : إن كان المراد بالرفث الجماع فيكون نهياً عن ما يقتضى فساد الحج ، والإجماع منعقد على ذلك ، ويكون نفياً للصحة مع وجوده ، وإن كان المراد به التحدث مع النساء في أمر الجماع ، أو الفحش من الكلام ، فيكون نهياً لكمال الفضيلة .

وقال ابن العربي ليس نفياً لوجود الرفث ، بل نفي لمشروعيته ، فإن الرفث يوجد من بعض الناس فيه ، وإخبار اللّه تعالى لا يجوز أن تقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً ، لا إلى وجوده محسوساً ، كقوله : { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوء } ومعناه مشروعاً لا محسوساً ، فإنا نجد المطلقات لا يتربصنّ ، فعاد النفي إلى الحكم الشرعي لا إلى الوجود الحسي ، وهذا كقوله :{ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } إذا قلنا إنه وارد في الآدميين ، وهو الصحيح ، لأن معناه لا يمسه أحد منهم شرعاً ، فإن وجد المس فعلى خلاف حكم الشرع ، وهذه الدقيقة التي فاتت العلماء ، فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النهي ، وما وجد ذلك قط ، ولا يصح أن يوجد ، فإنهما يختلفان حقيقة ، ويتباينان وصفاً انتهى كلام ابن العربي .

وتلخص في هذه الجملة أربعة أقوال :

أحدهما : أنها إخبار بنفي أشياء مخصوصة وهي : الجماع ، والزنا ، والكفر .

الثاني : أنها إخبار بنفي المشروعية لا بنفي الوجود .

الثالث : أنها إخبار صورة ، والمراد بها النهي .

الرابع : التفرقة في قراءة ابن كثير ، وابن عمر ، وبأن الأوّلين في معنى النهي ، والثالث خبر ، وهذه الجملة في موضع جواب الشرط إن كانت : مَنْ ، شرطية ، وفي موضع الخبر ، إن كانت : مَنْ ، موصولة . وعلى كلا التقديرين لا بد فيها من رابط يربط جملة الجزآء بالشرط ، إذا كان الشرط بالإسم ، والجملة الخبرية بالمبتدأ الموصول إذا لم يكن إياه في المعنى ، ولا رابط هنا ملفوظ به ، فوجب أن يكون مقدراً . ويحتمل وجهين .

أحدهما : أن يقدر منه بعد : ولا جدال ، ويكون منه في موضع الصفة ، ويحصل به الربط كما حصل في قولهم : السمن منوان بدرهم أي : منوان منه ، ومنه صفة للمنوين .

والثاني : أن يقدر بعد الحج ، وتقديره : في الحج منه أوله ، أو ما أشبهه مما يحصل به الربط .

وللكوفيين تخريج في مثل هذا ، وهو أن تكون الألف واللام عوضاً من الضمير ، فعلى مذهبهم يكون التقدير في قوله : في الحج ، في حجه ، فنابت الألف واللام عن الضمير ، وحصل بها الربط .

قال بعضهم : وكرر في الحج ، فقال : في الحج ، ولم يقل : فيه ، جرياً على عادة العرب في التأكيد في إقامة المظهر مقام المضمر ، كقول الشاعر :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

انتهى كلامه ، وهو في الآية أحسن لبعده من الأول ، ولمجيئه في جمله غير الجمله الأولى ، ولإزالة توهم أن يكون الضمير عائداً على : من ، لا على : الحج ، أي : في فارض الحج .

وعلى ما اخترناه من أن المراد بهذه الإخبار النهي ، يكون هذه الأشياء الثلاثة منهياً عنها في الحج . أما الرفث فأكثر أهل العلم ، خلفاً وسلفاً ، أنه يراد به هنا الجماع ، وأنه منهي عنه بالآية ، وأجمع العلماء على أن الجماع يفسد الحج ، وأن مقدماته توجب الدم ، إلاَّ ما رواه بعض المجهولين عن أبي هريره ، أنه سمع يقول : { للمحرم من إمرأته كل شيء إلاَّ الجماع} . وقد اتفقت الأمة على خلافه ، وعلى أن من قبّل إمرأته بشهوة فعليه دم ، وروي ذلك عن علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء ، وعكرمة ، وابراهيم ، وابن المسيب ، وابن جبير ، وهو قول فقهاء الأمصار .

وذهب أبو محمد بن حزم إلى حل تقبيل إمرأته ومباشرتها ، ويتجنب الوطىء .

وأما الفسوق والجدال ، وإن كان منهياً عنهما في غير الحج ، فإنما خص بالذكر في الحج تعظيماً لحرمة الحج ، ولأن التلبس بالمعاصي في مثل هذه الحال من التشهير ، لفعل هذه العبادة ، أفحش وأعظم منه في غيرها ألا ترى إلى قوله صلى اللّه عليه وسلم في حق الصائم : { فلا يرفث ولا يجهل ، فإن جهل عليه فليقل إني صائم ؟ } وإلى قوله وقد صرف وجه الفضل بن العباس عن ملاحظة النساء في الحج :  { إن هذا يوم ، من ملك فيه سمعه وبصره غفر له ؟ }

ومعلوم خطر ذلك في غير ذلك اليوم ، ولكنه خصه بالذكر تعظيماً لحرمته .

وفي قوله : ولا فسوق ، إشارة إلى أنه يحدث للحج توبة من المعاصي حتى يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه .

{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه} هذه جملة شرطية ، وتقدّم الكلام على إعراب نظيرها في قوله :{ وَمَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } وخص الخير ، وإن كان تعالى عالماً بالخير والشر ، حثاً على فعل الخير ، ولأن ما سبق من ذكر فرض الحج ، وهو خير ، ولأن نستبدل بتلك المنهيات أضدادها ، فنستبدل بالرفث الكلام الحسن والفعل الجميل ، والفسوق الطاعة ، والجدال الوفاق ، ولأن يكثر رجاء وجه اللّه تعالى ، ولأن يكون وعداً بالثواب .

وجواب الشرط وهو : يعلمه اللّه ، فإما أن يكون عبّر عن المجازاة عن فعل الخير بالعلم ، كأنه قيل : يجازكم اللّه به ، أو يكون ذكر المجازاة بعد ذكر العلم ، أي : يعلمه اللّه فيثيب عليه ،

وفي قوله : وما تفعلوا ، التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، وحمل على معنى : مِنْ ، إذ هو خروج من إفراد إلى جمع ، وعبر بقوله : تفعلوا ، عن ما يصدر عن الإنسان من فعل وقول ونية ، إما تغليباً للفعل ،

وإما إطلاقاً على القول ، والإعتقاد لفظ الفعل ، فإنه يقال : أفعال الجوارح ، وأفعال اللسان ، وأفعال القلب ، والضمير في : يعلمه ، عائد على : ما ، من قوله : وما تفعلوا ، و : من ، في موضع نصب ، ويتعلق بمحذوف .

وقد خبط بعض المعربين فقال : إن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره : وما تفعلوه فعلاً من خير يعلمه اللّه ، جزم بجواب الشرط ، والهاء في : يعلمه اللّه ، يعود إلى خير انتهى قوله .

ولولا أنه مسطر في التفسير لما حكيته ، وجهة التخبيط فيه أنه زعم أن : من خير ، متعلق : بتفعلوا ، ثم قال : وهو في موضع نصب نعتاً لمصدر . فإذا كان كذلك كان العامل فيه محذوفاً ، فيناقض هذا القول كون : من ، يتعلق : بتفعلوا ، لأن : من ، حيث تعلقت بتفعلوا كان العامل غير محذوف وقوله والهاء تعود إلى خير خطأ فاحش لأن الجملة جواب لجملة شرطية بالاسم ، فالهاء عائدة على الاسم ، أعني : اسم الشرط ، واذا جعلتها عائدة على الخير عري الجواب عن ضمير يعود على أسم الشرط ، وذلك لا يجوز ، لو

قلت : من يأتني يخرج خالد ، ولا يقدر ضميراً يعود على أسم الشرط ، لم يجز بخلاف الشرط إذا كان بالحرف ، فإنه يجوز خلوّ الجملة من الضمير نحو : إن تأتني يخرج خالد .

{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } روي عن ابن عباس أنها نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ، ويقولون : نحن متوكلون بحج بيت اللّه أفلا يطعمنا ؟ فيتوصلون بالناس ، وربما ظلموا وغصبوا ، فأمروا بالتزود ، وأن لا يظلموا أو يكونوا كُلاًّ على الناس . وروي عن ابن عمر قال : إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها ، واستأنفوا زاداً آخر ، فنهوا عن ذلك ، وأمر بالتحفظ بالزاد والتزود .

فعلى ما روي من سبب نزول هذه الآية يكون أمراً بالتزود في الأسفار الدنيوية ، والذي يدل عليه سياق ما قبل هذا الأمر ، وما بعده أن يكون الأمر بالتزود هنا بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفره للآخرة ، ألا ترى أن قبله :{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّه } ومعناه الحث والتحريض على فعل الخير الذي يترتب عليه الجزآء في الآخرة ؟ وبعده { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن ما يتقى به النار ؟ ويكون مفعول : تزودوا ، محذوفاً تقديره ، وتزودوا التقوى ، أو : من التقوى ، ولما حذف المفعول أتى بخبر إن ظاهراً ليدل على أن المحذوف هو هذا الظاهر ، ولو لم يحذف المفعول لأتي به مضمراً عائداً على المفعول ، أو كان يأتي ظاهراً تفخيماً لذكر التقوى ، وتعظيماً لشأنها . وقد قال بعضهم في التزود للاخرة :

إذا أنت لم ترحل بزادٍ من التقى

ولاقيت بعد الموت من قد تزودا

ندمت على أن لا تكون كمثله

وأنك لم ترصد كما كان أرصدا

وقال بعض عرب الجاهلية : فلو كان حمد يخلد الناس لم يمت

ولكن حمد الناس ليس بمخلد

ولكن منه باقيات وراثة

فأورث بنيك بعضها وتزود

تزود إلى يوم الممات فإنه

وإن كرهته النفس آخر موعد

وصعد سعدون المجنون تلاَّفي مقبرة ، وقد انصرف ناس من جنازة فناداهم :

ألاَ يا عسكر الأحياء

هذا عسكر الموتى

أجابوا الدعوة الصغرى

وهم منتظروا الكبرى

يحثون على الزاد

ولا زاد سوى التقوى

يقولون لكم جدوا

فهذا غاية الدنيا

وقيل : أمر بالتزود لسفر العبادة والمعاش ، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال ، وبالتزود لسفر المعاد ، وزاده تقوى اللّه تعالى ؛ وهذا الزاد خير من الزاد الأول لقوله : { فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}

فتلخص من هذا كله ثلاثة أقوال :

أحدها : أنه أمر بالتزود في أسفار الدنيا ، فيكون مفعول : تزودوا ، ما ينتفعون به ، فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم من السؤال ، وأنفسكم من الظلم ، وقال البغوي :

قال المفسرون : التقوى هنا : الكعك والزيت والسويق والتمر والزبيب وما يشاكل ذلك من المطعومات .

والثاني : أنه أمر بالتزود لسفر الأخرة ، وهو الذي نختاره .

والثالث : أنه أمر بالتزود في السفرين ، كأن التقدير : وتزودوا ما تنتفعون به لعاجل سفركم وآجله .

وأبعد من ذهب إلى أن المعنى : وتزودوا الرفيق الصالح ، إلاّ أن عنى به العمل الصالح ، فلا يبعد ، لأنه هو القول الثاني الذي اخترناه .

وقال أبو بكر الرازي : احتمل قوله : وتزودوا ، الأمرين من زاد الطعام وزاد التقوى ، فوجب الحمل عليهما ، إذ لم تقم دلالة على تخصيص أحد الأمرين ، وذكر التزود من الأعمال الصالحة في الحج ، لأنه أحق شيء بالإستكثار من أعمال البر فيه لمضاعفة الثواب عليه ، كما نص على خطر الفسوق ، وإن كان محظوراً في غيره ، تعظيماً لحرمة الإحرام ، وإخباراً أنه فيه أعظم مأثماً .

ثم أخبر أن زاد التقوى خيرهما لبقاء نفعه ، ودوام ثوابه ، وهذا يدل على بطلان مذهب أهل التصوف ، والذين يسافرون بغير زاد ولا راحلة ، لأنه تعالى خاطب بذلك من خاطبه بالحج ، وعلى هذا قال النبي صلى اللّه عليه وسلم ، حين سئل عن الاستطاعة ، فقال : { هي الزاد والراحلة} . انتهى كلامه .

ورد عليه بأن الكاملين في باب التوكل لا يطعن عليهم إن سافروا بغير زاد ، لأنه صح : لو توكلتم على اللّه حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدوا خِماصاً ، وتروح بطاناً .

وقال تعالى :{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه فَهُوَ حَسْبُهُ } وقد طوى قوم الأيام بلا غذاء ، وبعضهم اكتفى باليسير من القوت في الأيام ذوات الأعداد ، وبعضهم بالجرع من الماء .

وصح من حديث أبي ذر اكتفاؤه بماء زمزم شهراً ، وخرج منها وله عكن ، وأن جماعة من الصحابة اكتفوا أياماً كثيرة ، كل واحد منهم بتمرة في اليوم .

فأما خرق العادات من دوران الرحى بالطحين ، وامتلاء الفرن بالعجين ، وإن لم يكن هناك طعام ، ونحو ذلك ، فحكوا وقوع ذلك . وقد شرب سفيان بن عيينة فضلة سفيان الثوري من ماء زمزم فوجدها سويقاً ، وقد صح وثبت خرق العوائد لغير الأنبياء عليهم السلام ، فلا يتكرر ذلك إلاَّ مِنْ مدَّعِ ذلك ، وليس هو على طريق الاستقامة ككثير ممن شاهدناهم يدعون ، ويدعى ذلك لهم .

{وَاتَّقُونِ } هذا أمر بخوف اللّه تعالى ، ولما تقدم ما يدل على اجتناب أشياء في الحج ، وأمروا بالتزود للمعاد ، وأخبر بالتقوى عن خير الزاد ، ناسب ذلك كله الأمر بالتقوى ، والتحذير من ارتكاب ما تحل به عقوبته ، ثم قال { وَاتَّقُونِ يأُوْلِي الالْبَابِ } تحريكاً لامتثال الأمر بالتقوى ، لأنه لا يحذر العواقب ، إلاَّ مَن كان ذا لبٍّ ، فهو الذي تقوم عليه حجة اللّه ، وهو القابل للأمر والنهي ، وإذا كان ذو اللب لا يتقي اللّه ، فكأنه لا لب له ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا النداء في قوله :{ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ يأُولِي أُوْلِى الالْبَابِ } فأغنى عن إعادته .

والظاهر من اللب أنه لب مناط التكليف ، فيكون عاماً ، لا اللب الذي هو مكتسب بالتجارب ، فيكون خاصاً ، لأن المأمور باتقاء اللّه هم جميع المكلفين .

﴿ ١٩٧