١٩٨

ليس عليكم جناح . . . . .

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } سبب نزولها أن العرب تحرجت لما جاء الإسلام أن يحضروا أسواق الجاهلية . كعكاظ ، وذي المجاز ، ومجنة ، فأباح اللّه لهم ذلك ، قاله ابن عمر ، وابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ؛ وقال مجاهد أيضاً : كان بعض العرب لا ينحرون مذ يحرون ، فنزلت في إباحة ذلك ، وروي عن ابن عمر أنها نزلت فيمن يكري في الحج ، وأن حجة تام .

وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن الزبير : فضلاً من ربكم في مواسم الحج ، والأَوْلى جعل هذا تفسيراً ، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمعت عليه الأمة .

والجناح معناه : الدرك ، وهو أعم من الإِثم ، لأنه فيما يقتضي العقاب ، وفيما يقتضي الزجر والعقاب ، وعنى بالفضل هنا الأرباح التي تكون سبب التجارة ، وكذلك ما تحصل عن الأجر بالكراء في الحج ، وقد انعقد الإجماع على جواز التجارة والاكتساب بالكل ، والإتجار إذا أتى بالحج على وجهه إلاَّ ما نقل شاذاً عن سعيد بن جبير ، وأنه سأله أعرابي أن أكري إبلي ، وأنا أريد الحج أفيجزيني ؟ قال : { لا ، ولا كرامة} . وهذا مخالف لظاهر الكتاب والإجماع فلا يعول عليه .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما نهى عن الجدال ، والتجارة قد تفضي إلى المنازعة ، ناسب أن يتوقف فيها لأن ما أفضى إلى المنهي عنه منهي عنه ، أو لأن التجارة كانت محرمة عند أهل الجاهلية وقت الحج ، إذ من يشتغل بالعبادة يناسبه أن لا يشغل نفسه بالأكساب الدنيوية ، أو لأنا لمسلمين لما صار كثير من المباحات محرماً عليهم في الحج ، كانوا بصدد أن تكون التجارة من هذا القبيل عندهم ، فأباح اللّه ذلك ، وأخبرهم أنه لا درك عليهم فيه في أيام الحج . ويؤيد ذلك قراءة من قرأ : في مواسم الحج .

وحمل أبو مسلم الآية على أنه : فيما بعد الحج ، ونظيره :{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللّه } فقاس : الحج ، على : الصلاة ، وضعف قوله بدخول الفاء في : فإذا قضيتم ، وهذا فصل بعد ابتغاء الفضل ، فدل على أن ما قبل الإِفاضة ، وقع في زمان الحج . ولأن محل شبهة الامتناع هو التجارة في زمان الحج ، لا بعد الفراغ منه ، لأن كل أحد يعلم جلّ التجارة إذ ذاك ، فحمْله على محل الشبهة أولى ،

ولأن قياس الحج على الصلاة ، قياس فاسد ، لاتصال أعمال الصلاة بعضها ببعض ، وافتراق أعمال الحج بعضها من بعض ، ففي خلالها يبقى الحج على الحكم الأول ، حيث لم يكن حاجاً ، لا يقال : حكم الحج مستحب عليه في تلك الأوقات ، بدليل حرمة الطيب واللبس ونحوهما ، لأنه قياس في مقابلة النص ، فهو ساقط . ونسب للياه فزان .

الفضل هنا هو ما يعمل الإنسان مما يرجو به فضل اللّه ورحمته ، من إعانة ضعيف ، وإغاثة ملهوف ، وإطعام جائع ؛ واعترضه القاضي بأن هذه الأشياء واجبة أو مندوب إليها ، فلا يقال فيها : لا جناح عليكم ، إنما يقال : في المباحات والتجارة إن أوقعت نقصاً في الطاعة : لم تكن مباحة ، وإن لم توقع نقصاً فالأولى تركها ، فهي إذاً جارية مجرى الرخص .

وتقدم إعراب مثل : أن تبتغوا ، في قوله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ فِيهِمَا } و : من وبكم ، متعلق : بتبتغوا ، و : من ، لابتداء الغاية ، أو بمحذوف ، وتكون صفة لفضل . فتكون : من ، لابتداء الغاية أيضاً ، أو للتبعيض ، فيحتاج إلى تقدير مضاف محذوف أي : من فضول .

{فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عَرَفَاتٍ } قيل : فيه دليل على وجوب الوقوف بعرفة ، لأن الإفاضة لا تكون إلاَّ بعده . انتهى هذا القول ، ولا يظهر من هذا الشرط الوجوب ، إنما يعلم منه الحصول في عرفة ، والوقوف بها ، فهل ذلك على سبيل الوجوب أوا لندب ؟ لا دليل في الآية على ذلك ، لكن السنة الثابتة والإجماع يدلان على ذلك .

وقال في { المنتخب} : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، وما لا يتم الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب ، فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، فإذا لم يأت به لم يكن إيتاء بالحج المأمور به ، فوجب أن لا يخرج عن العهدة ، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً . انتهى كلامه .

فقوله : الإِفاضة من عرفات مشروطة بالحصول في عرفات ، كلام مبهم ، فإن عنى مشروط وجودها ، أي : وجود الإِفاضة بالحصول في عرفات ، فصحيح ، والوجود لا يدل على الوجوب ، وإن عنى مشروط وجوبها بالحصول في عرفات فلا نسلم ذلك ، بل نقول : لو وقف بعرف واتخذها مسكناً إلى أن مات لم تجب عليه الإِفاضة منها ، ولم يكن مفرطاً في واجب إذا مات بها ، وحجة تام إذا كان قد أتى بالأركان كلها .

وقوله : وما لا يتم الواجب ، إلى آخر الجملة ، مرتبة على أن الإِفاضة واجبة ، وقد منعنا ذلك وقوله : فثبت أن الآية دالة على أن الحصول في عرفات واجب في الحج ، مبني على ما قبله ، وقد بينا أنه لا يلزم ذلك ، و : إذا ، لا تدل على تعين زمان ، بل تدل على تيقن الوجود أو رجحانه ، فظاهره يقتضي أنه : متى أفاض من عرفات جاز له ذلك ، واقتضى ذلك أن الوقوف بعرفة الذي تعتقبه الإِفاضة كان مجزياً .

ووقت الوقوف من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر بلا خلاف ، وأجمعوا على أن من وقف بالليل فحجه تام ، ولو أفاض قبل الغروب ، وكان وقف بعد الزوال ، فأجمعوا على أن حجة تام ، إلاَّ مالكاً فقال : يبطل حجه .

وروي نحوه عن الزبير ، وقال مالك : ويحج من قابل وعليه هدي ينحره في حجه القابل .

ومن قال : حجه تام ، فقال الحسن : عليه هدي ، وقال ابن جريج : بدنة ، وقال عطاء ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : عليه دم .

ولو أفاضل قبل الغروب ثم عاد إلى عرفة ، فدفع بعد الغروب ، فذهب أبو حنيفة ، والثوري ، وأبو ثور ، إلى أنه لا يسقط الدم . وذهب الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وداود الطبري إلى أنه لا شيء عليه . وحديث عروة بن مضرس : وأفاض من عرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه ، وقضى تفثه ، موافق لظاهر الآية في عدم اشتراط جزء منالليل إلاَّ ما صدّ عنه الإجماع من أن الوقوف قبل الزوال لا يجزىء ، وأن من أفاض نهاراً لا شيء عليه .

ومن ، في قوله : من عرفات ، لابتداء الغاية ، وهي تتعلق : بأفضتم ، وظاهر هذا اللفظ يقتضي عموم عرفات ، فمن أي نواحيها أفاض أجزأه ، ويقتضي ذلك جواز الوقوف ، بأي نواحيها وقف ، والجمهور على أن عرنة من عرفات .

وحكى الباجي ، عن ابن حبيب : أن عرنة في الحل ، وعرنة في الحرم ،

وقيل : الجدار الغربي من مسجد عرنة لو سقط سقط في بطن عرنة ، ومن قال : بطن عرنة من عرفات ، فلو

وقف بها فروي عن ابن عباس ، والقاسم ، وسالم أنه : من أفاض من عرنة لا حج له ، وذكره ابن المنذر عن الشافعي ، وأبو المصعب عن مالك ، وروى خالد بن نوار عن مالك أن حجه تام . ويهريق دماً ، وذكره ابن المنذر عن مالك أيضاً .

وروي : عرفة كلها موقف ، وارتفعوا عن بطن عرنة ؛ وأكثر الآثار ليس فيها هذا الاستثناء ، فهي كظاهر الآية .

وكيفية الإفاضة أن يسيروا سيراً جميلاً ، ولا يطؤا ضعيفاً ، ولا يؤذوا ماشياً ، إذ كان صلى اللّه عليه وسلم إذا دفع من عرفات أعنق ، وإذا وجد فرجة نص . والعنق : سير سريع مع رفق ، والنص : سير شديد فوق العتق ، قاله الأصمعي ، والنضر بن شميل . ولو تأخر الإمام من غير عذر دفع الناس .

والتعريف الذي يصنعه الناس في المساجد ، تشبيهاً بأهل عرفة ، غير مشروع ، فقال بعض أهل العلم : هو ليس بشيء ، وأول من عرّف ابن عباس بالبصر ، وعرف أيضاً عمرو بن حريث ، وقال أحمد : أرجو أن لا يكون به بأس ، وقد فعله غير واحد : الحسن ، وبكر ، وثابت ، ومحمد بن واسع كانوا يشهدون المسجد يوم عرفة .

وأما الصوم يوم عرفة للواقفين بها ، فقال يحيى بن سعيد الأنصاري : يجب ليهم الفطر ، وأجازه بعضهم ، وصامه عثمان بن القاضي ، وابن الزبير ، وعائشة . وقال عطاء : أصومه في الشتاء ولا أصومه في الصيف ، والجمهور على أن ترك الصوم أولى ، اتباعاً لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.

{فَاذْكُرُواْ اللّه عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } الفاء جواب إذا ، والذكر هنا الدعاء والتضرع والثناء ، أو صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، أو الدعاء . وهذه الصلاة أقوال ثلاثة يبني عليها أهل الأمر : أمر ندب ، أم أمر وجوب ؟ وإذا كان الذكر هو الصلاة فلا دلالة فيه على الجمع بين الصلاتين ، فيصير الأمر بالذكر بالنسبة إلى الجمع بين الصلاتين مجملاً ببينة فعله صلى اللّه عليه وسلم ، وهو سنّة بالمزدلفة . ولو صلى المغرب قبل أن يأتي المزدلفة ، فقال أبو حنيفة ، ومحمد : لا يجزئه ، وقال عطاء ، وعروة ، والقاسم ، وابن جبير ، ومالك ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور : ليس الجمع شرطاً للصحة .

ومن له عذر عن الإِفاضة ممن وقف مع الإِمام صلى كل صلاة لوقتها ، قاله ابن المواز .

وقال مالك : يجمع بينهما إذا غاب الشفق ، وقال ابن القاسم : إن رجا أن يأتي المزدلفة ثلث الليل ، فليؤخر الصلاتين حتى يأتيها ، وإلاَّ صلى كل صلاة لوقتها .

وهل يصليهما بإقامتين دون أذان ؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين ؟ أو بأذانين وإقامتين ؟ أو بأذان وإقامة للأولى ، وبلا أذان ولا إقامة للثانية ؟ أقوال أربعة .

الأول : قول سالم ، والقاسم ، والشافعي ، وإسحاق ، وأحمد في أحد قوليه .

والثاني : قول زفر ، والطحاوي ، وابن حزم ، وروي عن أبي حنيفة .

والثالث : قول مالك .

والرابع : قول أبي حنيفة ، والسنّة أن لا يتطوع الجامع بينهما .

والمشعر مفعل من شعر ، أي : المعلم : والحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام . وهذا المشعر يسمى : جمعاً ، وهو ما بين جبلي المزدلفة من حد مفضى عرفة إلى بطن محسر ، قاله ابن عباس ، وابن عمر ، وابن جبير ، ومجاهد ؛ وتسمي العرب وادي محسر : وادي النار ، وليس المأزمان ولا وادي محسر من المشعر الحرام ، والمأزم . المضيق ، وهو مضيق واحد بين جبلين ، ثنوه لمكان الجبلين .

وقيل : المشعر الحرام هو قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، وعليه الميقدة . قيل : وهو الصحيح لحديث جابر : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لما صلى الفجر ، يعني بالمزدلفة ، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ، فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفاً حتى أسفر ، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكور للذكر بالمزدلفة ، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها ، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل ، وهو قزح الذي ركب إليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فدعا عنده وكبر وهلل ، ووقف بعد صلاته الصبح بالمزدلفة بغلس حتى أسفر ، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير : فإذا أفضتم من عرفات ، ونمتم بالمزدلفة ، فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام . ومعنى العندية هنا القرب منه ، وكونه يليه

ومزدلفة كلها موقف ، إلاّ وادي محسر ، وجعلت كلها موقفاً لكونها في حكم المشعر ، ومتصلة به ،

وقيل : سميت المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعراً ، ووحد لاستوائه في الحكم ، فكان كالمكان الواحد .

وقال في { المنتخب} : هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور كما في عرفة ، فأما الوقوف هناك فمسنون . انتهى كلامه .

وكون الوقوف مسنوناً هو قول جمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة : هو واجب ، فمن تركه من غير عذر فعليه دم ، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل . ولا شيء عليه .

وقال ابن الزبير ، والحسن ، وعلقمة ، والشعبي ، والنخعي ، والأوزاعي . الوقوف بمزدلفة فرض ، ومن فاته فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة .

والآية لا تدل إلاّ على مطلوبية الذكر عند المشعر الحرام ، لا على الوقوف ، ولا على المبيت بمزدلفة ، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن . وقال مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه ، لأن المبيت بها سنة مؤكدة ، عند مالك . وهو مذهب عطاء ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور .

وقال الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، أو قبله افتدى ، والفدية شاة .

ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص . قال بعضهم : وأولى الذكر أن يقول : اللّهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق { فَإِذَا أَفَضْتُم } ويتلو إلى قوله :{ إِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة .

والذي يظهر أن ذكر اللّه هنا هو الثناء عليه ، والحمد له ، ولا يراد بذكر اللّه هنا ذكر لفظة اللّه ، وإنما المعنى : اذكروا اللّه بالألفاظ الدالة على تعظيمه ، والثناء عليه ، والمحمدة له . وعند منصوب باذكروا ، وهذا مما يدل على أن جواب : إذا ، لا يكون عاملاً فيها ، لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر ، لأن ذلك عرفات ، وهذا المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند المشعر الحرام واقعاً وقت إنشاء الإفاضة .

{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ } هذا الأمر الثاني هو الأول ، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر ، لأن الذكر من أفضل العبادات ، أو غير الأول ، فيراد به تعلقه بتوحيد اللّه ، أي : واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته ، أو اتصال الذكر لمعنى : اذكروه ذكراً بعد ذكر ، قال هذا القول محمد بن قاسم النحوي : أو الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع ، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء بالمزدلفة ، حكاه القاضي أبو يعلى .

والكاف في : كما ، للتشبيه ، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف ،

وإما على الحال . وقد تقدّم هذا البحث في غير موضع .

والمعنى : أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية اللّه لكم ، هذه هدايته إياكم أحسن ما أسدي إليكم من النعم ، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية ، ولهذا المعنى

قال الزمخشري : أذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هدية حسنة . انتهى .

ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف ، فيكون التقدير : كما هداكم ، أي : أذكروه وعظموه للّهداية السابقة منه تعالى لكم ،

وحكى سيبويه : كما أنه لا يعلم ، فتجاوز اللّه عنه ، أي : لأنه لا يعلم ، وثبت لها هذا المعنى الأخفش، وابن برهان . وما ، في : كما ، مصدرية أي : كهدايته إياكم ، وجوّز الزمخشري ، وابن عطية أن تكون : ما ، كافة للكاف عن العمل ، والفرق بينهما أن : ما ، المصدرية تكون هي وما بعدها في موضع جر ، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر ، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة ، والأوْلى حملها على أن : ما ، مصدرية لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر ، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد ، وعلي بن مسعود بن الفرُّ خالٍ صاحب { المستوفي} واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر :

لعمرك إنني وأبا حميد

كما النشوان والرجل الحليم

أريد هجاءه وأخاف ربي

وأعلم أنه عبد لئيم

والهداية هنا خاصة ، أي : بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى اللّه على نبينا وعليه ، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة اللّه ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه .

{وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالّينَ } إن هنا عند البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة ، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية واللام في : لمن ، وما أشبهه فيها خلاف : أهي لام الابتداء لزمت للفرق ؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق ؟ ومذهب الفراء . في نحو هذا هي النافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلاّ ، وذهب الكسائي إلى أنّ : بمعنى : قد ، إذ دخل على الجملة الفعلية ، وتكون اللام زائدة ، وبمعنى : ما ، النافية إذا دخل على الجملة الإسمية ، واللام بمعنى إلاّ ، ودلال هذه المسألة تذكر في علم النحو .

فعلى قول البصريين : تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها ، وعلى مذهب الفراء : مثبتة إثباتاً محصوراً ، وعلى مذهب الكسائي : مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول البصريين .

ومن قبله ، يتعلق بمحذوف ، ويبينه قوله : لمن الضالن ، التقدير : وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين ، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام ، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله : من الضالين ، وقد تقدّم نظير هذا .

والهاء في قبله ، عائدة على الهدى المفهوم من قوله : هداكم ، أي : وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين ، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى ، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام ،

وقيل : تعود الهاء على القرآن ،

وقيل : على النبي صلى اللّه عليه وسلم.

والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر ، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان ،

وقيل : من الضالين عن مناسك الحج ، أو عن تفصيل شعائره .

﴿ ١٩٨