٢١٢

زين للذين كفروا . . . . .

{زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط اللّه لهم ، ويكذبون بالمعاد ، ويسخرون من المؤمنين الفقراء ، كعمار ، وصهيب ، وأبي عبيدة ، وسالم ، وعامر بن فهيرة ، وخباب ، وبلال ، ويقولون : لو كان نبينا لتبعه أشرافنا ، قاله ابن عباس ، في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه .

وقال مقاتل : في عبد اللّه بن أبي ، وأصحابه ، كانوا يتنعمون ويسخرون من ضعفاء المؤمنين ، ويقولون : أنظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم .

وقال عطاء : في علماء اليهود من بني قريظة ، والنضير ، وقينقاع ، سخروا من فقراء المهاجرين ، فوعدهم اللّه أن يعطيهم أموال بني قريظة والنضير بغير قتال ، أسهل شيء وأيسره .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن بني اسرائيل أتتهم آيات واضحة من اللّه تعالى ، وأنهم بدلوا ، أخبر أن سبب ذلك التبديل هو الركون إلى الدنيا ، والاستبشار بها ، وتزيينها لهم ، واستقامتهم للمؤمنين ، فلبني اسرائيل من هذه الآية أكبر حظ لأنهم كانوا يشترون بآيات اللّه ثمناً قليلاً ، ويكذبون على كتاب اللّه ، فيكتبون ما شاؤا لينالوا حظاً خسيساً من حظوظ الدنيا ، ويقولون : هذا من عند اللّه .

وقراءة الجمهور : زين ، على بناء الفعل للمفعول ، ولا يحتاج إلى إثبات علامة تأنيث للفصل ، ولكون المؤنث غير حقيقي التأنيث ،

وقرأ ابن أبي عبلة : زينت ، بالتاء وتوجيهها ظاهر ، لأن المسند إليه الفعل مؤنث ، وحذف الفاعل لفهم المعنى ، وهو : اللّه تعالى ، يؤيد ذلك قراءة مجاهد ، وحميد بن قيس ، وأبي حيوة : زين ، على البناء للفاعل ، وفاعله ضمير يعود على اللّه تعالى ، إذ قبله :{ فَإِنَّ اللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ}

وتزيينه تعالى إياها لهم بما وضع في طباعهم من المحبة لها ، فيصير في نفوسهم ميل ورغبة فيها ، أو بالشهوات التي خلقها فيهم ، وإليه أشار بقوله :{ زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ } الآية ، وإنما أحكمه من مصنوعاته وأتقنه وحسنه ، فأعجبهم بهجتها ، واستمالت قلوبهم فمالوا إليها كلية ، وأعطوها من الرغبة فوق ما تستحقه .

وقال أبو بكر الصدّيق ، رضي اللّه عنه ، حين قدم عليه بالمال ، قال : اللّهم إنا لا نستطيع إلى أن نفرج بما زينت لنا .

قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون اللّه قد زينها لهم بأن خذلهم حتى استحسنوها وأحبوها ، أو جعل إمهال المزين تزييناً ، ويدل عليه قراءة من قرأ :{ زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا } على البناء للفاعل . إنتهى كلامه . وهو جار على مذهب المعتزلة بأن اللّه تعالى لا يخلق الشر ، وإنما ذلك من خلق العبد ، فلذلك تأول التزيين على الخذلان ، أو على الإمهال ،

وقيل : الزين الشيطان ، وتزيينه بتحسين ما قبح شرعاً ، وتقبيح ما حسن شرعاً . والفرق بين التزيينين : أن تزيين اللّه بما ركبه ووضعه في الجبلة ، وتزيين الشيطان بإذ كار ما وقع غفاله ، وتحسينه بوساوسه إياها لهم ،

وقيل : المزين ، نفوسهم كقوله :{ إِنَّ النَّفْسَ لامَّارَةٌ بِالسُّوء }{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ }{ وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى }

وقيل : شركاؤهم من الجن والإنس ، قال تعالى { وَكَذالِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ الْمُشْرِكِينَ } الآية وقال :{ شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ}

وقيل : المزين هذه الحياة الدنيا قال :{ اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ}

وقيل : المزين المجموع وفي هذا الكلام تعريف المؤمنين بسخافة عقول الكفار حيث آثروا الفاني على الباقي .

{وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءامَنُواْ } الضمير عائد على الذين كفروا ، وتقدّم من هم ، وكلك تقدّم القول في : الذين آمنوا ، في سبب النزول ، ومعنى : يسخرون : يستهزئون

وذلك لفقرهم ، أو : ولا تباعهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،أو : لاتهامهم إياهم أنهم مصدّقون لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،أو لضعفهم وقلة عددهم ؛ أقوال أربعة .

وهذه الجملة الفعلية معطوفة على الجملة الفعلية من قوله : زين ، ولا يلحظ فيها عطف الفعل على الفعل ، لأنه كان يلزم اتحاد الزمان ، وإن لم يلزم اتحاد الصيغة ، وصدرت الأولى بالفعل الماضي لأنه أمر مفروغ منه ، وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا ، فليس أمراً متجدّداً ، وصدرت الثانية بالمضارع ، لأنها حالة تتجدّد كل وقت

وقيل : هو على الاستئناف أي : الفعل المضارع ، ومعنى الاستئناف أن يكون على إضمارهم التقدير : وهم يسخرون ، فيكون خبر مبتدأ محذوف ، ويصير من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية .

{وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فوق : ظرف مكان ، فقيل : هو على حاله من الظرفية المكانية حقيقة ، لأن المؤمنين في عليين في السماء ، والكفار في سجين في الأرض

وقيل : الفوقية ، مجاز إما بالنسبة إلى النعيمين : نعيم المؤمنين في الجنة ، ونعيم الكافرين في الدنيا ،

وإما بالنسبة إلى حجج المؤمنين ، وشبه الكفار لثبوت الحجج وتلاشى الشبه ،

وإما بالنسبة إلى ما زعم الكفار من قولهم إن كان لنا معاد فلنا فيه الحظ ،

وإما بالنسبة إلى سخرية المؤمنين بهم في الآخرة ، وسخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا ، فهم عالون عليهم ، متطاولون ، يضحكون منهم ، كما كان أولئك في الدنيا يتطاولون على المؤمنين ويضحكون منهم ،

وإما بالنسبة إلى علوّ حالهم ، لأنهم في كرامة ، والكفار في هوان .

وجاءت هذه الجملة مصدرة بقوله { وَالَّذِينَ اتَّقَواْ } ليظهر أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن المتقي ، ولتبعث المؤمن على التقوى ، وليزول قلق التكرار لو كان : والذين آمنوا ، لأن قبله : الذين أمنوا ، وانتصاب : يوم القيامة ، على الظرف ، والعامل فيه هو العامل في الظرف الواقع خبراً ، أي : كائنون هم يوم القيامة ، ولما فهموا من فوق أنها تقتضي التفضيل بين من يخبر بها عنه ، وبين من تضاف هي إليه ، كقولك : زيد فوق عمرو في المنزل ، حتى كأنه قيل : زيد أعلى من عمرو في المنزلة ، احتاجوا إلى تأويل عال وأعلى منه ،

قال ابن عطية : وهذا كله من التحميلات ، حفظ لمذهب سيبوية ، والخليل ، في أن التفضيل إنما يجيء فيما فيه شركة ، والكوفيون يجيزونه حيث لا اشتراك . إنتهى كلامه .

وهذا الذي حكاه عن سيبويه والخليل لا نعلمه ، وإنما الذي وقع فيه الخلاف هو أفعل التفضيل ، فالبصريون يمنعون : زيد أحسن إخوته ، والكوفيون يجيزونه ،

وأما أن ذلك في : فوق ، فلا نعلمه ، لكنه لما توهم أنها مرادفة لأعلى ، وأعلى أفعل تفضيل ، نقل الخلاف إليها ، والذي نقوله : إن فوق لا تقتضي التشريك في التفضيل ، وإنما تدل على مطلق العلوّ ، فإذا أضيفت فلا يلزم أن يكون ما أضيفت إليه فيه علوّ ، وكما أن تحت مقابلتها لا تدل على تشريك في السفلية ، وإنما هي تدل على مطلقها ، ولا نقول : إنها مرادفة لأسفل ، لأن أسفل أفعل تفضيل يدلك على ذلك استعمالها بمن ، كقوله : الركب أسفل منكم ، كما أن أعلى كذلك ، فإذا تقررّ هذا كان المعنى ، واللّه أعلم ، والذين اتقوا عالوهم يوم القيامة ، ولا يدل ذلك على أن الكفار في علوّ ، بل المعنى أن العلوّ يوم القيامة إنما هو للمتقين ، وغيرهم سافلون ، عكس حالهما في الدنيا حيث كانوا يسخرون منهم .

{وَاللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } اتصال هذه الجملة بما قبلها من تفضيل المتقين يوم القيامة يدل على تعلقها بهم ، فقيل : هذا الرزق في الآخرة ، وهو ما يعطى المؤمن فيها من الثواب ، ويكون معنى قوله : بغير حساب ، أي بغير نهاية ، لأن ما لا يتناهى خارج عن الحساب ، أو يكون المعنى : أن بعضها ثواب وبعضها تفضيل محض ، فهو بغير حساب ،

وقيل : هذا الرزق في الدنيا ، وهو إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزأ بهم أموال بني قريظة والنضير ، يصير إليهم بلا حساب ، بل ينالونها بأسهل شيء وأيسره ، قاله ابن عباس ، وقال نحوه القفال ، قال : قد فعل ذلك بهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ، ورؤساء اليهود ، وبما فتح بعد وفاته على أيدي أصحابه .

وقالوا ما معناه : إنها متصلة بالكفار ،

وقال الزمخشري يعني : أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه ، كما وسع على قارون وغيره ، فهذه

التوسعة عليكم من جهة اللّه لما فيها من الحكمة ، وهي استدارجكم بالنعمة ، ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم ، انتهى كلامه .

ولم يذكر غيره في معنى هذه الجمله .

و

قال ابن عطية : يحتمل أن يكون المعنى : واللّه يرزق هؤلاء الكفرة في الدنيا ، فلا تستعظموا ذلك ، ولا تقيسوا عليه الآخرة ، فإن الرزق ليس على قدر الكفر والإيمان ، بل يحسب لهذا عمله وهذا عمله ، فيرزقان بحساب ذلك ، بل الرزق بغير حساب الأعمال ، والأعمال مجازاتها محاسبة ومعادة ، إذ أجزاء الجزاء تقابل أجزاء الفعل المجازى عليه ،

فالمعنى : إن المؤمن وإن لم يرزق في الدنيا ، فهو فوق الكافر يوم القيامة . إنتهى كلامه . والذي يظهر عدم تخصيص الرزق بإحدى الطائفتين ، بل لما ذكر حاليهما من سخرية الكفار بهم في الدنيا ، بسبب ما رزقوا : من التمكن فيها ، والرياسة ، والبسط ، وتعالي المؤمنين عليهم في الآخرة . بسبب ما رزقوا من : الفوز ، والتفرد بالنعيم السرمدي ، بيَّن أن ما يفعله من ذلك ويرزقه إياه إنما هو راجع لمشيئته السابقة ، وأنه لا يحاسبه أحد ، ولا يحاسب نفسه على ما يعطي ، لأن ذلك لا يكون إلاَّ لمن يخاف نفاذ ما عنده .

وقالوا في الحديث الصحيح :  { يمين اللّه ملآى لا ينقصها شيء ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإن ذلك لم ينقص شيئاً مما عنده}.

ومفعول يشاء محذوف ، التقدير : من يشاء أن يرزقه ، دل عليه ما قبله ، وبغير حساب تقدمه ثلاثة أشياء يصلح تعلقه بها : الفعل ، والفاعل ، والمفعول الأول وهو : من فإن كان للفعل فهو من صفات المصدر ، وإن كان للفاعل فهو من صفاته ، أو للمفعول فهو من صفاته ، فإذا كان للفعل كان المعنى : يرزق من يشاء رزقاً غير حساب ، أي : غير ذى حساب ، ويعني بالحساب : العد ، فهو لا يحصي ولا يحصر من كثرته ، أو يعني به المحاسبة في الآخرة ، أي : رزقاً لا يقع عليه حساب في الآخرة ، وتكون على هذا الباء زائدة .

وإذا كان للفاعل كان في موضع الحال : المعنى يرزق اللّه غير محاسب عليه ، أي متفضلاٍ في إعطائه لا يحاسب عليه ، أو غير عادٍ عليه ما يعطيه ، ويكون ذلك مجازاً عن التقتير والتضييق ، فيكون : حساب مصدراً عبر به عن اسم الفاعل من : حاسب ، أو عن اسم الفاعل من : حسب ، وتكون الباء زائدة في الحال ، وقد قيل : إن الباء زيدت في الحال المنفية ، وهذه الحال لم يتقدمها نفي ، ومما قيل : إنها زيدت في الحال المنفية قول الشاعر : فما رجعت بخائبة ركاب

أي : فلما رجعت خائبة ، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون حساب مصدراً عبر به عن اسم المفعول ، أي : غير محاسب على ما يعطي تعالى ، أي : لا أحد يحاسب اللّه تعالى ما منح ، فعطاؤه غمراً لا نهاية له .

وإذا كان : لمن ، وهو المفعول الأول ليرزق ،

فالمعنى : إن المرزوق غير محاسب على ما يرزقه اللّه تعالى ، فيكون أيضاً حالاً منه ، ويقع الحساب الذي هو المصدر على المفعول الذي هو محاسب من حاسب ، أو المفعول من حسب ، أي : غير معدود عليه ما رزق ، أو على حذف مضاف أي : غير ذي حساب ، ويعني بالحساب : المحاسبة أو العد ، والباء زائدة في هذه الحال أيضاً . ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى : أنه يرزق من حيث لا يحتسب ، أي : من حيث لا يظن ، ولا يقدر أن يأتيه الرزق ، كما قال : { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } فيكون حالاً أيضاً أي : غير محتسب ، وهذه الأوجه كلها متكلفة ، وفيها زيادة الباء .

والأولى أن تكون الباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بباء الحال ، وعلى هذا يصلح أن تكون : للمصدر ، وللفاعل ، وللمفعول ، ويكون الحساب مراداً به المحاسبة ، أو العد ، أي : يرزق من يشاء ولا حساب على الرزق ، أو : ولا حساب للرازق ، أو ولا حساب على المرزوق .

وكون الباء لها معنى أَوْلى من كونها زائدة ، وكون المصدر باقياً على المصدرية أولى من كونه مجازاً عن اسم فاعل أو أسم مفعول وكونه مضافاً لغير أولى من جعله مضافاً لذي محذوفة ، ولا تعارض بين قوله :{ جَزَاء مّن رَّبّكَ عَطَاء حِسَاباً } أي : محسباً أي : كافياً من : أحسبني كذا ، إذا كفاك ، وبغير حساب معناه العد ، أو المحاسبة ، أو لاختلاف

متعلقيهما إن كانا بمعنى واحد ، فالاختلاف بالنسبة إلى صفتي الرزق والعطاء في الآخرة ، فبغير حساب في التفضل المحض ، وعطاءً حساباً في الجزاء المقابل للعمل ، أو بالنسبة إلى اختلاف طرفيهما : فبغير حساب في الدنيا إذ يرزق الكافر والمؤمن ولا يحاسب المرزوقين عليه ، وفي الآخره يحاسب ، أو بالنسبة إلى اختلاف من قاما به ، فبغير حساب اللّه تعالى وهو حال منه ، أي : يرزق ولا يحاسب عليه ، أو ولا يعد عليه ، وحساباً صفة للعطاء ، فقد اختلف من جهة من قاما به ، وزال بذلك التعارض .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة من أواخر أقوال الحج وأفعاله الأمر بذكر اللّه في أيام معدودات ، أي : قلائل ، ودل الذكر على الرمي وإن لم يصرح به ، لأن الذكر المأمور به في تلك الأيام هو عند الرمي ، ودل الأمر على مشروعية في أيام ، وهو : جمع ، ثم رخص في التعجيل عند انقضاء يومين منها ، فسقط الذكر المختص به اليوم الثالث ، وأخبر أن حال المتعجل والمتأخر سواء في عدم الإثم ، وإن كان حال من تأخر أفضل ، وكان بعض الجاهلية يعتقد أن من تعجل أثم ، وبعضهم يعتقد أن من تأخر أثم ، فلذلك أخبر أن اللّه رفع الإثم عنهما ، إذ كان التعجل والتأخر مما شرعه اللّه تعالى ، ثم أخبر أن ارتفاع الإثم لا يكون إلا لمن اتقى اللّه تعالى .

ثم أمر بالتقوى ، وتكرار الأمر بها في الحج ، ثم ذكر الحامل على التلبس بالتقوى ، وهو كونه تعالى شديد العقاب لمن لم يتقه ، ثم لما كانت التقوى تنقسم إلى من يظهرها بلسانه وقلبه منطو على خلافها ، وإلى من تساوى سريرته وعلانيته في التقوى ، قسم اللّه تعالى ذلك إلى قسمين ، فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } أي : يؤنقك ويروق لفظه ، يحسن ما يأتي به من الموافقة والطواعية ظاهراً ، ثم لا يكتفي بما زوّر ونمق من كلامه اللطيف حتى يشهد اللّه على ما في قلبه من ذلك ، فيحلف باللّه أن سريرته مثل علانيته ، وهو إذا خاصم كان شديد الخصومة ، وإذا خرج من عندك تقلب في نواحي الأرض ، ثم ذكر تعالى سبب سعيه وأنه للإفساد مطلقاً ، وليهلك الحرث والنسل اللذين هما قوام الوجود ، ثم أخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، فهذا المتولي الساعي في الأرض يفعل ما لا يحبه اللّه ولا يرضاه ، ثم ذكر أنه من شدّة الشكيمة في النفاق إذا أمر بتقوى اللّه تعالى استولت عليه الأنفة والغضب بالإثم . أي : مصحوباً بالإثم فليس غضبه للّه . إنما هو لغير اللّه ، فلذلك استصحبه الإثم .

ثم ذكر تعالى ما يؤول إليه حال هذا الآنف المغترّ بغير اللّه ، وهو جهنم ، فهي كافية له ، ومبدلته بعد عزه ذلاً ، ثم ذمّ تعالى ما مهد لنفسه من جهنم ، وبئس الغاية الذم ، ثم ذكر تعالى القسم المقابل لهذا القسم ، وهو : من باع نفسه في طلاب رضى اللّه تعالى ، واكتفى بهذا الوصف الشريف ، إذ دل على انطوائه على جميع الطاعات والانقيادات ، إذ صار عبد اللّه يوجد حيث رضي اللّه تعالى ، ثم ذكر تعالى أن من كان بهذه المثابة رأف اللّه به ورحمه ، ورأفة اللّه به تتضمن اللطف به والإحسان إليه بجميع أنواع الإحسان ، وذكر الرأفة التي هي ، قيل : أرق من الرحمة .

ثم نادى المؤمنين بقوله :{ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وأمرهم بالدخول في الإسلام ، وثنى بالنهي ، لأن الأمر أشق من النهي ، لأن الأمر فعل والنهي ترك ، ولمجاورته قوله :{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ } فصار نظير :{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ فِى وُجُوهِ } فأما الذين اسودّت وجوهم } ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : سلوك معاصي اللّه ، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها ، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس ، فاعلموا أن اللّه عزيز لا يغالب ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل ، فدل بعزته على القدرة ، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع : ولما نهاهم تعالى عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي : سلوك معاصي اللّه ، أخبر أنه إن زلوا من بعد ما أتتهم البينات الواضحة النيرة التي لا ينبغي أن يقع الزلل معها ، لأن في ايضاحها ما يزيل اللبس ، فاعلموا أن اللّه عزيز لا يغالب ، حكيم يضع الأشياء مواضعها ، فيجازي على الزلل بعد وضوح الآيات التي تقتضي الثبوت في الطاعة بما يناسب ذلك الزلل ، فدل بعزته على القدرة ، وبحكمته على جزاء العاصي والطائع :{ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى}

ثم أعرض تعالى عن خطابهم ، وأخبر عنهم إخبار الغائبين ، مسلياً لرسوله عن تباطئهم في الدخول في الإسلام ، فقال : ما ينتظرون إلاَّ قيام الساعة يوم فصل اللّه بين العباد ، وقضاء الأمر ، ورجوع جميع الأمور إليه ، فهناك تظهر ثمرة ما جنوا على أنفسهم ، كما جاء في الحديث : { إن يوم القيامة يأتيهم اللّه في صورة } كذا ، على ما يليق بتقديسه عن جميع ما يشبه المخلوقين ، وننزهه عما يستحيل عليه من سمات الحدوث وصفات النقص .

ثم قال تعالى : { سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ } منبهاً على أن من أرسل إليهم الأنبياء ، وظهرت لهم المعجزات الإعراض

عن ذلك ، وعدم قبول الإيمان ، وأنهم يرتبون على الشيء غير مقتضاه ، فيكذبون بالآيات التي جاءت دالة على الصدق .

ثم أخبر تعالى : أن من بدل نعمة اللّه عاقبه أشدّ العقاب ، قابل نعمة اللّه التي هي مظنة الشكر بالكفر ، ثم ذكر تعالى الحامل لهم على تبديل نعم اللّه ، وهو : تزيين الحياة الدنيا ، فرغبوا في الفاني وزهدو ا في الباقي إيثاراً للعاجل على الآجل ، ثم ذكر مع ذلك استهزاءهم بالمؤمنين ، حيث ما يتوهم في وصف الإيمان ، والرغبة فيما عند اللّه تعالى ، وذكر أنهم هم العالون يوم القيامة ، ودل بذلك على أن أولئك هم السافلون ، ثم ذكر أنه يرزق المؤمنين ، وهم الذين يحبهم ، بغير حساب ، إشارة إلى سعة الرزق وعدم التقتير ، والتقدير : وأعاد ذكرهم بلفظ : من يشاء ، تنبيهاً على إرادته لهم ، ومحبته إياهم ، واختصاصهم به ، إذ لو قال : واللّه يرزقهم بغير حساب ، لفات هذا المعنى ذكر المشيئة التي هي الإرادة .

﴿ ٢١٢