٢١٣

كان الناس أمة . . . . .

حسب : بكسر السين : يحسب ، بفتحها في المضارع وكسرها ، من أخوات : ظن ، في طلبها إسمين : هما في مشهور قول النحاة : مبتدأ وخبر ، ومعناها نسبة الخبر عن المتيقن إلى المسند إليه ، وقد يأتي في المتيقن قليلا ، نحو قوله : حسبت التقى والجود خير تجارة

رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلاً

ومصدرها : الحسبان ، ويأتي : حسب أيضاً بمعنى : احمرّ تقول : حسب الرجل يحسب ، وهو أحسب ، كما تقول : شقر فهو أشقر ، ولحسب أحكام ذكرت في النحو .

لما : الجازمة حرف ، زعموا أنه مركب من : لم وما ، ولها أحكام تخالف فيها : لم ، منها : أنه يجوز حذف الفعل بعدها إذا دل على حذفه المعنى ، وذلك في فصيح الكلام ، ومنها : أنه يجب اتصال نفيها بالحال ، ومنها : أنها لا تدخل على فعل شرط ولا فعل جزاء .

زلزل : قلقل وحرّك ، وهو رباعي عند البصريين : كدحرج ، هذا النوع من الرباعي فيه خلاف للكوفيين والزجاج مذكور في النحو .

ماذا : اذا أفردت كل واحدة منهما على حالها كانت : ما يراد بها الإستفهام ، وذا : للإشارة ، وإن دخل التجوّز فتكون : ذا ، موصولة ، لمعنى : الذي ، والتي ، وفروعها ، وتبقى ما على أصلها من الاستفهام ، فتفتقر : ذا ، إذ ذاك إلى صلة ، وتكون مركبة مع : ما ، الاستفهامية ، فيصير دلالة مجموعهما دلالة : ما ، الاستفهامية لو انفردت ، ولهذا قالت العرب : عن ماذا تسأل ؟ باثبات ألف : ما ، وقد دخل عليها حرف الجر وتكون مركبة مع : ما ، الموصولة ، أو : ما ، النكرة الموصوفة ، فتكون دلالة مجموعها دلالة : ما الموصولة ، أو الموصوفة ، لو انفردت دون : ذا ، والوجه الأخر هو عن الفارسي .

الكره : بضم الكاف وفتحها ، والكراهية والكراهة مصادر لكره ، قاله الزجاج ، بمعنى : أبغض ،

وقيل : الكُره بالضم ما كرهه الإنسان ، والكَره ، بالفتح ما أكره عليه ،

وقيل : الكُره بالضم اسم المفعول ، كالخبر ، والنقض ، بمعنى : المخبور والمنقوص ، والكَره بالفتح . المصدر .

عسى : من أفعال المقاربة ، وهي فعل ، خلافاً لمن قال : هي حرف ولا تتصرف ، ووزنها : فعل ، فإذا أسندت إلى ضمير متكلم أو مخاطب مرفوع ، أو نون أناث ، جاز كسر سينها ويضمر فيها للغيبة نحو : عسيا وعسوا ، خلافاً للرماني ، ذكر الخلاف عنه ابن زياد البغدادي ، ولا يخص حذف : إن ، من المضارع بالشعر خلافاً لزاعم ذلك ، ولها أحكام كثيرة ذكرت في علم النحو ، وهي : في الرجاء تقع كثيراً ، وفي الإشفاق قليلاً قال الراغب .

الصدّ : ناحية الشعب والوادي المانع السالك ، وصدّه عن كذا كأنما جعل بينه وبين ما يريده صدّاً يمنعه . إنتهى .

ويقال : صدّ يصدّ صدوداً : أعرض ، وكان قياسه للزومه : يصدّ بالكسر ، وقد سمع فيه ، وصدّه يصده صدّاً منعه ، وتصدّى للشيء تعرض له ، وأصله تصدّد ، نحو : تظنى بمعنى تظنن ، فوزنه تفعل ، ويجوز أن تكون تفعلى نحو : يعلني ، فتكون الألف واللام للإلحاق ، وتكون من مضاعف اللام .

زال : من أخوات كان ، وهي التي مضارعها : يزال ، وهي من ذوات الياء ، ووزنها فعل بكسر العين ، ويدل على أن عينها ياء ما حكاه الكسائي في مضارعها ، وهو : يزيل ، ولا تستعمل إلاَّ منفية بحرف نفي ، أو بليس ، أو بغير أو : لا ، لنهي أو دعاء .

الحبوط : أصله الفساد ، وحبوط العمل بطله ، وحبط بطنه انتفخ ، والحبطات قبيلة من بني تميم ، والحنبطي : المنتفخ البطن .

المهاجرة : انتقال من أرض إلى أرض ، مفاعلة من الهجر ، والمجاهد مفاعلة من جهد ، استخرج الجهد والإجتهاد ، والتجاهد بذل الوسع ، والمجهود والجهاد بالفتح : الأرض الصلبة .

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم هو حب الدنيا ، وأن ذلك ليس مختصاً بهذا الزمان الذي بعثت فيه ، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة ، إذ كانوا على حق ثم اختلفوا بغياً وحسداً وتنازعاً في طلب الدنيا .

والناس : القرون بين آدم ونوح وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا ، فبعث اللّه نوحاً فمن بعده ، قاله ابن عباس ، وقتادة . أو : قوم نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين ، أو : آدم وحده ، عن مجاهد ، أو : هو وحواء ، أو : بنو آدم حين أخرجهم من ظهره نسماً كانوا على الفطرة ، قاله أبي وابن زيد ، أو :

آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل ، أو : بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفاراً أمثال البهائم ، قاله عكرمة ، وقتادة . أو : قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن يحيى ؛ أو : أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام ، أو : قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفاراً قاله ابن عباس ، أو : الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهى . أو : صنفاً واحداً ، فكان المراد : أن الكل من جوهر واحد ، وأب واحد ، ثم خصّ صنفاً من الناس ببعث الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم تكريماً لهم ، قاله الماتريدي فهذه إثنا عشر قولاً في الناس .

وأما في التوحيد فخمسة أقوال : أما في الإيمان ،

وأما في الكفر ،

وأما في الخلقة على الفطرة ،

وأما في الخلو عن الشرائع ،

وأما في كونهم من جوهر واحد . وهو الأب .

وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله : { فَبَعَثَ اللّه } وإنما بعثوا حين الاختلاف ، ويؤكده قراءة عبد اللّه { أُمَّةً وَاحِدَةً } فاختلفوا ، وبقوله :{ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال ، وبدلالة العقول ، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق ، ويكون آدم بعث إلى أولاده ، وكانوا مسلمين ، وبالولادة على الفطرة ، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق ، وبإقرارهم في يوم الذر .

ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد اللّه وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى ، وهو قوله تعالى :{ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ } والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وتقدّم شرح : أمة في قوله :{ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}

وفي قراءة أبي : كان البشر ، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون ، ومن جعل الإتحاد في الإيمان قدر ، فاختلفوا فبعث اللّه ، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير ، إذ كانت بعثة النبيين إليهم ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة : نوح على نبينا وعليه السلام ، يقول الناس له : أنت أول الرسل ، المعني : إلى قوم كفار ، لأن آدم قبله ، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان .{ فَبَعَثَ اللّه النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي : أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع ، ومنذرين بعقاب من عصى ، وقدّم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقى النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه .{ فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } وانتصاب : مبشرين ومنذرين ، على الحال المقارنة .

{وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِ } معهم حال من الكتاب : وليس تعمل فيه أنزل ، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة أي : وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم ، لكنه انتهى إليهم .

والكتاب : إما أن تكون أل فيه للجنس ،

وإما أن تكون للعهد على تأويل : معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة . قاله الطبري ، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع ، وقد قيل به .

ويحتمل : بالحق ، أن يكون متعلقاً : بأنزل ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ، لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ، فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي مصحوباً بالحق ، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب اللّه المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله :{ فَبَعَثَ اللّه}

ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فلم قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه ؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي اللّه لنبيه دون أن يكون ذلك كتاباً يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين . فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب .

وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة اللّه تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه .

وما ذكر لا يظهر ، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجباً بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعاً ، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطعاً .

قال القاضي : وظاهر

الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دوّن أو لم يدوّن ، كان معجزاً أو لم يكن ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقضي شيئاً من ذلك . انتهى كلامه .

ويحتمل أن يكون التجّوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : { وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ} ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب ، فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيراً مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه .

{لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } الللام لام العلة ، ويتعلق بأنزل ، والضمير في : ليحكم ، عائد على اللّهفي قوله : فبعث اللّه ، وهو المضمر في : أنزل ، وهذا هو الظاهر ، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ،

وقيل : عائد على الكتاب أي : ليحكم الكتاب بين الناس ، ونسبة الحكم إليه مجاز ، كما أسند النطق إليه في قوله :{ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ } وكما قال : ضربت عليك العنكبوت نسيجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل

ولأن الكتاب هو أصل الحكم ، فأسند إليه رداً للأصل ، وهذا قول الجمهور ، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل : النبي ، قال : ليحكم اللّهأو الكتاب أو النبي المنزل عليه ، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أن يحتمل ما قاله ، فيعود على أفراد الجمع ، أي : ليحكم كل نبي بكتابة ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على اللّه تعالى ، ويبين عوده على اللّه تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم ، بالنون ، وهو متعين عوده على اللّه تعالى ، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في : أنزل ، إلى ضمير المتكلم ، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال : ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه ، وهي : ليحكم ، على بناء الفعل للمفعول ، ونقل مكي لنحكم بالنون .

وفي القراءة التي نقل الناس من قوله : وليحكم ، حذف الفاعل للعلم به ، والأولى أن يكون اللّه تعالى :

قالوا : ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون . وهي ظرف مكان ، وهو هنا مجاز ، وانتصابه بقوله : ليحكم ، وفيما ، متعلق به أيضاً ، و : فيه ، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق . .

قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد / صلى اللّه عليه وسلم ،أو دينه ، أو : هما ، أو : كتابه .

{وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ } الضمير من قوله : وما اختلف فيه ، يعود على ، ما عاد عليه في : فيه ، الأولى ، وقد تقدّم أنها عائدة على : ما ، وشرح ما المعنى : بما ، أهو الدين ، أو محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟ أم دينه ؟ أم هما ؟ أم كتابه ؟

والضمير في : أوتوه ، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في : فيه ،

وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على الكتاب ، وأتوه عائد أيضاً على الكتاب ، التقدير : وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب .

وقال الزجاج : الضمير في : فيه ، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى اللّه عليه وسلم ،أي : وما اختلف في النبي صلى اللّه عليه وسلم إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا علم نبوّته ، فعلوا ذلك للبغي ، وعلى هذا يكون الكتاب : التوراة ، والذين أوتوه اليهود .

وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما ،

وقيل : يعود الضمير في : فيه ، على عيسى صلى اللّه على نبينا وعليه .

وقال مقاتل : الضمير عائد على الدين ، أي : وما اختلف في الدين . انتهى .

والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في : أوتوه وفيه الأولى والثانية ، يعود على : ما ، الموصولة في قوله : فيما اختلفوا فيه ، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى اللّه ، بينه بما نزل في الكتاب ، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف ، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله :{ لِيَحْكُمَ}

والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه على شناعة فعلهم ،

وقبيح ما فعلوه من الاختلاف ، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر ، وأتى بلفظ : من ، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات ، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء ، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا ، لم يتخلل بينهما فترة .

والبينات : التوراة والإنجيل ، فالذين أوتوه هم اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ، فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة هم اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ، فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والذين أوتوه اليهود ، أو معجزات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والذين أوتوه جميع الأمم ، أو محمد صلى اللّه عليه وسلم والذين أوتوه من بعث إليهم .

والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف ، فجعلوا مجيء الآيات البينات سبباً لاختلافهم ، وذلك أشنع عليهم ، حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه .

ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجوب ولا داع إلاَّ مجرد البغي والظلم والتعدّي .

وانتصاب : بغياً ، على أنه مفعول من أجله ، و : بينهم ، في موضع الصفة له ، فتعلق بمحذوف ، أي : كائناً بينهم ، وأبعد من قال : إنه مصدر في موضع الحال ، أي : باغين ، والمعنى : أن الحامل على الاختلاف هو البغي ، وسبب هذا البغي حسدهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على النبوّة ، أو كتمهم صفته التي في التوراة ، أو طلبهم الدنيا والرئاسة فيها أقوال :

فالأولان : يختصان بمن يحضره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. من أهل الكتاب وغيرهم ، و

الثالث : يكون لسائر الأمم المختلفين ، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول ، ولذلك قال : { لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } والاختلاف الثاني المعنيّ به ازدياد الإختلاف ، أو ديمومة الاختلاف إذا فسرنا : أوتوه : بأوتوا الكتاب ، فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب ،

وقيل : بجحود ما فيه ،

وقيل : بتحريفه .

وفي قوله : بغياً ، إشارة إلى حصر العلة ، فيبطل قول من قال : إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزول به الاختلاف الذي كان قبله .

وفي قوله : البينات : دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة ، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا ، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا .

إلاَّ الذين أوتوه ، استثناء مفرغ ، وهو فاعل إختلف ، و : من بعد ما جاءهم ، متعلق باختلف ، وبغياً منصوب باختلف ، هذا قول بعضهم ، قال : ولا يمنع إلاَّ من ذلك ، كما تقول : ما قام زيد إلاَّ يوم الجمعة . انتهى كلامه . وهذا فيه نظر ، وذلك أن المعنى على الاستثناء ، والمفرغ في الفاعل ، وفي المجرور ، وفي المفعول من أجله ، إذ المعنى : وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينات إلاَّ بغياً بينهم . فكل واحد من الثلاثة محصور .

وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها ، شيئان دون الأول من غير عطف ، وهو لا يجوز ، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوى بعدها إلاَّ ، فصارت كالملفوظ بها ، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل ، ولذلك تأولوا قوله تعالى :{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ } على إضمار فعل التقدير : أرسلناهم بالبينات والزبر ، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله : وما أرسلنا ، لئلا يكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيئان : أحدهما رجالاً ، والأخر : بالبينات ، من غير عطف .

وقد منع أبو الحسن وأبو علي : ما أخذ أحد إلاَّ زيد درهماً ، وما : ضرب القوم إلاَّ بعضهم بعضاً . واختلفا في تصحيحها ، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها ، فيقول : ما أخذ أحد زيد إلاَّ درهماً ، فيكون : زيد ، بدلاً من أحد ، ويكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيء واحد ، وهو الدرهم . ويكون إلاَّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف ، ويصير المعنى : ما أخذ زيد شيئاً إلاَّ درهماً . وتصحيحها عند أبي علي بان يزيد فيها منصوباً قبل إلاَّ فيقول : ما أخذ أحد شيئاً إلاَّ زيد درهما . و : ما ضرب القوم أحداً إلاَّ بعضهم بعضاً ، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع ، والمنصوب بدلاً من المنصوب ، هكذا خرجبه بعضهم .

قال ابن السراح : أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً جائز ، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمر الدنانير ، لأن الحرف لا يستثنى به إلاَّ واحد ،

فإن قلت : ما أعطيت الناس درهماً إلاّ

عمراً دانقاً ، على الاستثناء ، لم يجز ، أو على البدل جاز ، فتبدل عمراً من الناس ، ودانقاً من درهم ، كأنك قلت ما أعطيت إلاَّ عمراً دانقاً . ويعني : أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين .

قال بعض أصحابنا : ما قاله ابن السراح فيه ضعف ، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلاَّ ، فأشبه المعطوف بحرف ، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلاَّ بدلان . انتهى كلامه .

وأجاز قوم أن يقع بعد إلاَّ مستثنيان دون عطف ، والصحيح أنه لا يجوز ، لأن إلاَّ هي من حيث المعنى معدية ، ولولا إلاَّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها ، فهي : كواو مع وكالهمزة : التي جعلت للتعدية في بنية الفعل ، فكما أنه لا تعدّى : واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلاَّ بحرف عطف ، فكذلك إلاَّ ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق : من بعد ما جاءهم البينات ، وينتصب : بغياً ، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله ، وتقديره : اختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات بغياً بينهم .

{فَهَدَى اللّه الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ } الذين آمنوا : هم من آمن بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، والضمير : فيما اختلفوا ، عائد على الذين أوتوه ، أي لما اختلف فيه من اختلف ، ومن الحق تبيين المختلف فيه ، و : من ، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من : ما ، فتكون للتبعيض ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك ، التقدير : لما اختلفوا فيه الذي هو الحق . والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام ، ويدل عليه قراءة عبد اللّه : لما اختلفوا فيه من الإسلام .

وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا ، وفي تعيينه خلاف : أهو الجمعة ؟ جعلها اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا ؟ وفي الصحيحين : { نحن الأوّلون والآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم} . فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا اللّه له قال يوم الجمعة ، فاليوم لنا وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى .

أو الصلاة ؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، فهدى اللّه تعالى المؤمنين إلى القبلة . قاله زيد بن أسلم .

أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام ؟ قالت النصارى : كان نصرانياً ، وقالت اليهود : كان يهودياً ، فهدى اللّه المؤمنين لدينه بقوله :{ مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا } أو عيسى ؟ على نبينا وعليه السلام ، جعلته اليهود لعنة ، وجعلته النصارى إلهاً فهدانا اللّه تعالى لقول الحق فيه ، قاله ابن زيد . أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ؟ أو الصيام ؟ اختلفوا فيه ، فهدانا اللّه لشهر رمضان .

فهذه ستة أقوال غير الأول .

وقال الفراء : في الكلام قلب ، وتقديره فهدى اللّه الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه ، واختاره الطبري .

قال ابن عطية : ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق ، فهدى اللّه المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه ، وعساه غير الحق في نفسه ، قال : وادّعاء القلب على لفظ كتاب اللّه دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله : فهدى ، يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله : فيه ، وتبين بقوله : من الحق ، جنس ما وقع الخلاف فيه .

قال المهدوي : وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف . انتهى كلام ابن عطية ، وهو حسن .

والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام اللّه عليه .

وبإذنه : معناه بعلمه ، قاله الزجاج أو : بأمره ، وتوفيقه ، أو بتمكينه ، أقوال مرت مشبعاً الكلام عليها ، في قوله :{ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّه } ويتعلق بإذنه بقوله : فهدى اللّه ، وأبعد من أضمر له فعلاً مطاوعاً تقديره : فاهتدوا بإذنه ، وهو قول أبي علي ، إذ لا حاجة لهذا الإضمار .

{وَاللّه يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من اللّه لمن يشاء له الهداية ، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه ، وتكرّر اسم اللّهفي قوله : واللّه ، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة ، وذلك أولى من أن يفتقر بإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر ، وقد تقدّم لذلك نظائر .

وفي قوله : من يشاء ، إشعار ، بل دلالة ، على أن هدايته تعالى منشأها الإرادة فقط ، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية ، بل ذلك مغدوق بإرادته تعالى فقط { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ}

﴿ ٢١٣