٢١٤

أم حسبتم أن . . . . .

{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصاب من الجهد وشدّة الخوف والبرد وأنواع الأذى ، كما

قال تعالى :{ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } قاله قتادة ، والسدي .

أو في حرب أحد ، قتل فيها جماعة من المسلمين ، وجرت شدائد حتى قال عبد اللّه بن أبي وأصحابه : إلى متى تقتلون أنفسكم ، وتهلكون أموالكم ؟ لو كان محمد نبياً لما سلط عليكم القتل والأسر ، فقالوا : لا جرم من قتل منا دخل الجنة . فقال : إلى متى تسألون أنفسكم بالباطل ؟

أو : في أوّل ما هاجروا إلى المدينة ، دخلوها بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، رضي اللّه تعالى عنهم ، فأظهرت اليهود العداوة ، وأسرّ قوم النفاق . قاله عطاء .

قيل : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال : يهدي من يشاء ، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة ، فبين أن ذلك لا يتم إلاَّ باحتمال الشدائد والتكليف ، أو : لما بين أنه هداهم ، بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق ، فكذا أنتم ، أصحاب محمد ، لا تستحقون الفضيلة في الدين إلاَّ بتحمل هذه المحن .

و : أم ، هنا منقطعة مقدرة بل والهمزة فتتضمن إضراباً ، وهو انتقال من كلام إلى كلام ، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير ، وهي التي عبر عنها أبو محمد بن عطية : بأن أم قد تجيء ابتداء كلام ، وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة ، ألف استفهام .

فقوله : قد تجيء ابتداء كلام ليس كما ذكر ، لأنها تتقدّر ، ببل والهمزة ، فكما أن : بل ، لا بد أن يتقدّمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل ، فكذلك ما تضمن معناه .

وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الإستفهام ، ويبتدأ بها ، فهذا يقتضي أن يكون التقدير : أحسبتم ؟ وقال الزجاج : بمعنى بل ، قال : بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى

وصورتها ، أم أنت في العين أملح ؟

ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة ، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة ، فتقدير الآية : فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق ، فصبروا على استهزاء قومهم بهم ، أفتسلكون سبيلهم ؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم ؟

فتلخص في أم هنا أربعة أقوال : الانقطاع على انها بمعنى بل والهمزة ، والاتصال : على إضمار جملة قبلها ، والاستفهام بمعنى الهمزة ، والإضراب بمعنى بل ؛ والصحيح هو القول الأوّل .

ومفعولاً : حسبتم ، سدّت أن مسدّهما على مذهب سيبويه ،

وأما أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأوّل ، والمفعول الثاني محذوف ، وقد تقدم هذا المعنى في قوله :{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُوا رَبّهِمْ}

{وَلَمَّا يَأْتِيَكُمُ مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } الجملة حال ، التقدير : غير آتيكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، أي : إن دخول الجنة لا بد أن يكون على ابتلاء شدائد ، وصبر على ما ينال من أذى الكفار ، والفقر والمجاهد في سبيل اللّه ، وليس ذلك على مجرد الإيمان فقط بل ، سبيلكم في ذلك سبيل من تقدمكم من اتباع الرسل . خاطب بذلك اللّه تعالى عباده المؤمنين ، ملتفعاً إليهم على سبيل التشجيع والثبيت لهم ، وإعلام لهم أنه لا يضركون أعدائكم لا يوافقون ، فقد اختلفت الأمم على أنبيائها ، وصبروا ، حتى آتاهم النصر .

و : لما ، أبلغ في النفي من : لم ، لأنها تدل على نفي الفعل متصلاً بزمان الحال ، فهي لنفي التوقع .

والمثل : الشبه ، إلاَّ أنه مستعار لحال غريبة ، أو قضية عجيبة لها شأن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : مثل محنة الذين خلوا من قبلكم وعلى حذف موصوف تقديره : المؤمنين .

والذين خلوا من قبلكم ، متعلق بخلوا ، وهو كأنه توكيد ، لأن الذين خلوا يقتضي التقدم .

{مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء } هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له ، فليس لها موضع من الإعراب ، وكأن قائلاً قال : ما ذلك المثل ؟ فقيل : مستهم البأساء والضراء .

والمسّ هنا معناه : الإصابة ، وهو حقيقة في المسّ باليد ، فهو هنا مجاز .

وأجاز أبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم : مستهم ، في موضع الحال على إضمار قد ، وفيه بعد ، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في : خلوا .

وتقدّم شرح : البأساء والضراء ، في قوله تعالى : { وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاء والضَّرَّاء }{ وَزُلْزِلُواْ } أي أزعجوا إعاجاً شديداً بالزلزلة ، وبني الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، أي : وزلزلهم أعداؤهم .

{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ } قرأ الأعمش : وزلوا ، و : يقول الرسول ، بالواو بدل : حتى ، وفي مصحف عبد اللّه : وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول .

وقرأ الجمهور : حتى ، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية ،

وأما على التعليل ، أي : وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ، أو : وزلزلوا كي يقول الرسول ، والمعنى الأول أظهر ، لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين .

وقرأ نافع برفع ، يقول : بعد حتى ، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالاً في حين الإخبار ، نحو : مرض حتى لا يرجونه ،

وإما أن يكون حالاً قد مضت ، فيحكيها على ما وقعت ، فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين ، والمراد به هنا المضي ، فيكون حالاً محكية ، إذ المعنى : وزلزلوا فقال الرسول ، وقد تكلمنا على مسائل : حتى ، في كتاب { التكميل} وأشبعنا الكلام عليها هناك ، وتقدّم الكلام عليها في هذا الكتاب .

{وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } يحتمل معه أن يكون منصوباً بيقول ، ويحتمل أن يكون منصوباً بآمنوا .

{مَتَى نَصْرُ اللّه أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّه قَرِيبٌ } متى : سؤال عن الوقت ، فقيل : ذلك على سبيل الدعاء للّه تعالى ، والاستعلام لوقت النصر ، فأجابهم اللّه تعالى فقال : ألا إن نصر اللّه قريب ،

وقيل : ذلك على سبيل الاستبطاء ، إذ ما حصل لهم من الشدّة والابتلاء والزلزال هو الغاية القصوى ، وتناهى ذلك وتمادى بالمؤمنين إلى أن نطقوا بهذا الكلام ، فقيل : ذلك لهم إجابة لهم إلى طلبهم من تعجيل النصر ، والذي يقتضيه النظر أن تكون الجملتان داخلتين تحت القول ، وأن الجملة الأولى من قول المؤمنين ، قالوا ذلك استبطاءً للنصر وضجراً مما نالهم من الشدّة ، والجملة الثانية من قول رسولهم إجابة لهم وإعلاماً بقرب النصر ، فتعود كل جملة لمن يناسبها ، وصح نسبة المجموع للمجموع لا نسبة المجموع لكل نوع من القائلين .

وتقدّم نظير هذا في بعض التخاريج لقوله تعالى :{ قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ } وإن قوله : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء من قول إبليس ، وإن قوله : ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك من قول الملائكة عن إبليس ، وكان الجواب ذلك لما انتظم إبليس في الخطاب مع الملائكة في قوله :{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِى الارْضِ خَلِيفَةً}

وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر اللّه ؟ فيقول الرسول : ألا إن نصر اللّه قريب ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان .

قال ابن عطية وهذا تحكم وحمل الكلام على وجهه غير متعذر . انتهى . وقوله حسن ، إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة .

وفي قوله : والذين آمنوا ، تفخيم لشأنهم حيث صرح بهم ظاهراً بهذا الوصف الشريف الذي هو الإيمان ، ولم يأت ، حتى يقول الرسول وهم ، وهذا يدل على حذف ذلك الموصوف الذي قدرناه قبل مثل محنة المؤمنين الذين خلوا .

قال ابن عطية : وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول ، والمؤمنين ، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر ، لا على شك ولا ارتياب ، والرسول اسم الجنس ، وذكره اللّه تعظيماً للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول . انتهى كلامه .

واللائق بأحوال الرسل هو القول الذي ذكرنا أنه يقتضيه النظر ، والرسول كما ذكر ابن عطية اسم الجنس لا واحد بعينه ،

وقيل : هو اليسع ،

وقيل : هو شعيب ، وعلى هذا يكون الذين خلوا قوماً بأعيانهم ، وهم أتباع هؤلاء الرسل .

وحكى بعض المفسرين أن الرسول هنا هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأنزلة ، هنا مضافة لأمته ، ولا يدل على ما ذكر سياق الكلام ، وعلى هذا القول قال بعضهم ، وفي هذا الكلام إجمال ، وتفصيله أن أتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم قالوا : متى نصر اللّه ؟ فقال الرسول : ألا إن نصر اللّه قريب .

فتلخص من هذه النقول أن مجموع الجملتين من كلام الرسول والمؤمنين على سبيل التفصيل ، أو على سبيل أن الرسول والمؤمنين قال كل منهما الجملتين ، فكأنهم قالوا : قد صبرنا ثقة بوعدك ، أو : على أن

الجملة الأولى من كلام الرسول والمؤمنين ، والثانية من كلام اللّه تعالى .

ولما كان السؤال بمتى يشير إلى استعلام القرب ، تضمن الجواب القرب ، وظاهر هذا الإخبار أن قرب النصر هو : ينصرون في الدنيا على أعدائهم ويظفرون بهم ، كقوله تعالى : { جَاءهُمْ نَصْرُنَا } و { إِذَا جَاء نَصْرُ اللّه وَالْفَتْحُ}

وقال ابن عباس : النصر في الآخرة لأن المؤمن لا ينفك عن الابتلاء ، ومتى انقضى حرب جاءه آخر ، فلا يزال في جهاد العدو ، والأمر بالمعروف ، وجهاد النفس إلى الموت .

وفي وصف أحوال هؤلاء الذين خلوا ما يدل على أنا يجري لنا ما جرى لهم ، فنتأسى بهم ، وننتظر الفرج من اللّه والنصر ، فإنهم أجيبوا لذلك قريباً .

﴿ ٢١٤