٢١٥

يسألونك ماذا ينفقون . . . . .

{يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } نزلت في عمرو بن الجموح ، كان شيخاً كبيراً ذا مال كثير ، سأل بماذا أتصدق ؟ وعلى من أنفق ؟ قاله أبو صالح عن ابن عباس .

وفي رواية عطاء نزلت في رجل قال ؛ إن لي ديناراً . قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { أنفقه على نفسك ، فقال إن لي دينارين : فقال :  { أنفقهما على أهلك } فقال : إن لي ثلاثة . فقال :  { أنفقهما على خادمك } فقال : إن لي أربعة . فقال :  { أنفقهما على والديك} . فقال إن لي خمسة . فقال : { انفقهما على قرابتك} . فقال : إن لي ستة . فقال : { انفقهما في سبيل اللّه ، وهو أحسنها} .

وينبغي أن يفهم من هذا الترقي على معنى أن ما أخبر به فاضل عما قبله ، وقال الحسن : هي في التطوع ، وقال السدي : هي منسوخة بفرض الزكاة .

قال ابن عطية : وَهَمَ المهدوي على السدي في هذا ، فنسب إليه أنه قال : إن الآية في الزكاة المفروضة . ثم نسخ منها الوالدان انتهى ؛ وقد قال : قدم بهذا القول ، وهي أنها في الزكاة المفروضة ، وعلى هذا نسخ منها الوالدن ومن جرى مجراهما من الأقربين ، وقال ابن جريج : هي ندب ، والزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فيها .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن ، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة ، حتى لقد ورد : الصدقة تطفىء غضب الرب .

والضمير المرفوع في : يسألونك ، للمؤمنين ، والكاف لخطاب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، و : ماذا ، يحتمل هنا النصب والرفع ، فالنصب على أن : ماذا ، كلها استفهام ، كأنه قال : أي شيء ينفقون ؟ فماذا منصوب بينفقون ، والرفع على أن : ما . وحدها هي الاستفهام ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وينفقون صلة لذا ، والعائد محذوف ، التقدير : ما الذي ينفقون به ؟ فتكون : ما ، مرفوعة بالابتداء ، وذا بمعنى الذي خبره ، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق ، فهو عامل في المعنى دون اللفظ ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك ، ونظيره ما تقدم من قوله :{ سَلْ بَنِى إِسْراءيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيْنَهُ } على ما شرحناه هناك .

و : ماذا ، سؤال عن المنفق ، لا عن المصرف وكأن في الكلام حذفاً تقديره : ولمن يعطونه ؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق . قول الشاعر :

ألا تسألان المرء ماذا يحاول

إلاَّ أن : ماذا ، هنا مبتدأ ، وخبر ، ولا يجوز أن يكون مفعولاً بيحاول ، لأن بعده :

أنحبُ فيُقضى ، أم ضلال وباطل

ويضعف أن يكون : ماذا كله مبتدأ ، و : يحاول ، الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة ، فإن حذفه منها فصيح ، وذكر ابن عطية : أن : ماذا ، إذا كانت اسماً مركباً فهي في موضع نصب ، إلاَّ ما جاء من قول الشاعر : وماذا عسى الواشون أن يتحدَّثوا

سوى أن يقولوا : إنني لك عاشق

فإن عسى لا تعمل في : ماذا ، في موضع رفع ، وهو مركب إذ لا صلة لذا . انتهى .

وإنما لم يكن : لذا ، في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الإسمي ، فلا يجوز لذا أن تكون بمعنى الذي ، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسماً مركبة فهي في موضع نصب ، إلاَّ ، في ذلك البيت لا نعرفه ، بل يجوز أن نقول : ماذا محبوب لك ؟ و : من ذا ، قائم ؟ على تقدير التركيب ، فكأنك

قلت : ما محبوب ؟ ومن قائم ؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه ؟ على تقديره : من تضربه ؟ وجعل : من ، مبتدأ .

{قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالاْقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنِ السَّبِيلِ } هذا بيان لمصرف ما ينفقونه ، وقد تضمن المسؤول عنه ، وهو المنفق بقوله : من خير ، ويحتمل أن يكون ماذا سؤالاً عن المصرف على حذف مضاف ، التقدير مصرف ماذا ينفقون ؟ أي : يجعلون إنفاقهم فيكون الجواب إذ ذاك مطابقاً ، ويحتمل أن يكون حذف من الأول الذي هو السؤال المصرف ، ومن الثاني الذي هو الجواب ذكر المنفق ، وكلاهما مراد ، وإن كان محذوفاً ، وهو نوع من البلاغة تقدّم نظيره في قوله :{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ}

وقال الزمخشري : قد تضمن قوله تعالى :{ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ } بيان ما ينفقونه ، وهو كل خير ، وبني الكلام على هواهم ، وهو بيان المصرف ، لأن النفقة لا يعتدّ بها إلاَّ أن تقع موقعها ، كقول الشاعر :

ان الصنيعة لا تكون صنيعة

حتى يصاب بها طريق المصنع

انتهى كلامه ، وهو لا بأس به و { مّنْ خَيْرٍ } يتناول القليل والكثير .

وبدأ في المصرف بالأقرب فالأقرب ، ثم بالأحوج فالأحوج ، وقد مرّ الكلام في شيء من هذا الترتيب وشبهه ، وقد استدل بهذه الآية على وجوب نفقة الوالدين والأقربين على الواجد ، وحمل بعضهم الآية على أنها في الوالدين إذا كانا فقيرين ، وهو غني .

{وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ } ما : في الموضعين شرطية منصوبة بالفعل بعدها ، ويجوز أن تكون : ما ، من قوله :{ قُلْ مَا أَنفَقْتُم } موصولاً ، وأنفقتم ، صلة ، و : للوالدين ، خبر ، فالجار والمجرور في موضع المفرد ، أو في موضع الجملة على الخلاف الذي في الجار والمجرور الواقع خبراً ، أو هو معمول لمفرد ، أو الجملة .

وإذا كانت : ما ، في : ما أنفقتم ، شرطية ، فهذا الجار والمجرور في موضع خبر لمبتدأ محذوف ، التقدير : فهو أو فمصرفه للوالدين .

وقرأ عليّ بن أبي طالب : وما يفعلوا ، بالياء ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، أو من باب ما أضمر لدلالة المعنى عليه ، أي : وما يفعل الناس ، فيكون أعم من المخاطبين قبل إذ يشملهم وغيرهم ،

وفي قوله : من خير ، في الإنفاق يدل على طيب المنفق ، وكونه حلالاً ، لأن الخبيث منهي عنه بقوله :{ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ } وما ورد من أن اللّه طيب لا يقبل إلاَّ الطيب ، ولأن الحرام لا يقال فيه خير . وقوله : من خير في قوله : وما تفعلوا ، هو أعم : من ، خير ، المراد به المال ، لأنه ما يتعلق به هو الفعل ، والفعل أعم من الإنفاق ، فيدخل الإنفاق في الفعل ، فخير ، هنا هو الذي يقابل الشر ، والمعنى : وما تفعلوا من شيء من وجوه البر والطاعات وجعل بعضهم هنا : وما تفعلوا ، راجعاً إلى معنى الإنفاق ، أي : وما تفعلوا من إنفاق خير ، فيكون الأول بياناً للمصرف ، وهذا بيان للمجازاة ، والأوْلى العموم ، لأنه يشمل إنفاق المال وغيره ، ويترجح بحمل اللفظ على ظاهره من العموم .

ولما كان أولاً السؤال عن خاص ، أجيبوا بخاص ، ثم أتى بعد ذلك الخاص التعميم في أفعال الخير ، وذكر المجازاة على فعلها ،

وفي قوله :{ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ } دلالة على المجازاة ، لأنه إذا كان عالماً به جازى عليه ، فهي جملة خبرية ، وتتضمن الوعد بالمجازاة .

﴿ ٢١٥