٢١٩

يسألونك عن الخمر . . . . .

الخمر : هي المعتصر من العنب إذا غلى واشتدّ وقذف بالزبد ، سمى بذلك من خمر إذا ستر ، ومنه خِمار المرأة ، وتخمرت واختمرت ، وهي حسنة الخمرة ، والخمر ما واراك من الشجر وغيره ، ودخل في خمار الناس وغمارهم أي : في مكان خاف . وخمر فتاتكم ، وخامري أم عامر ، مثل الأحمق ، وخامري حضاجر أتاك ما تحاذر ، وحضاجر اسم للذكر والأنثى من السباع ، ومعناه : ادخلي الخمر واستتري .

فلما كانت تستر العقل سميت بذلك ،

وقيل : لأنها تخمر : أي تغطي حتى تدرك وتشتدّ .

وقال ابن الأنباري : سميت بذلك لأنها تخامر العقل أي : تخالطه ، يقال : خامر الداء خالط ،

وقيل : سميت بذلك لأنها تترك حين تدرك ، يقال : اختمر العجين بلغ إدراكه ، وخمر الرأي تركه حتى يبين فيه الوجه ، فعلى هذه الاشتقاقات تكون مصدراً في الأصل وأريد بها اسم الفاعل أو اسم المفعول .

الميسر : القمار ، وهو مفعل من : يسر ، كالموعد من وعد ، يقال يسرت الميسر أي قامرته ، قال الشاعر : لو تيسرون بخيل قد يسرت بها

وكل ما يسر الأقوام مغروم

واشتقاقه من اليسر وهو السهولة ، أو من اليسار لأنه يسلب يساره ، أو من يسر الشيء إذا وجب ، أو من يسر إذا جزر والياسر الجازر ، وهو الذي يجزىء الجزور أجزاء ، قال الشاعر : أقول لهم بالشعب إذ تيسرونني

ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم ؟

وسميت الجزور التي يسهم عليها ميسراً لأنها موضع اليسر ، ثم قيل للسهام : ميسر للمجاورة ، واليسر ، الذي

يدخل في الضرب بالقداح وجمعه ، أيسار ،

وقيل : يسر جمع ياسر كحارس وحرس وأحراس .

وصفة الميسر أنه عشرة أقداح ،

وقيل : أحد عشر على ما ذكر فيه ، وهي : الأزلام ، والأقلام ، والسهام . لسبعة منها حظوظ ، وفيها فروض على عدة الحظوظ : القد ، وله سهم واحد ؛ والتوأم ، وله سهمان ، والرقيب ، وله ثلاثة ؛ والجلس ، وله أربعة ؛ والنافس ، وله خمسة ؛ والمسبل وله ستة ؛ والمعلى وله سبعة ؛ وثلاثة أغفال لا حظوظ لها ، وهي : المنيح ، والسفيح ، والوغد ،

وقيل : أربعة وهي : المصدر ، والمضعف ، والمنيح ، والسفيح . تزاد هذه الثلاثة أو الأربعة على الخلاف لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهو الضارب بالقداح ، فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلاً ، ويسمى أيضاً : المجيل ، والمغيض ، والضارب ، والضريب . ويجمع ضرباء ، وهو رجل عدل عندهم .

وقيل يجعل رقيب لئلا يحابي أحداً ، ثم يجثو الضارب على ركبتيه ، ويلتحف بثوب ، ويخرج رأسه يجعل تلك القداح في الربابة ، وهي خريطة يوضع فيها ، ثم يجلجها ، ويدخل يده ويخرج باسم رجل رجل قدحاً منها ، فمن خرج له قدح من ذوات الانصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئاً ، وغرم الجزور كله .

وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء ، فيشترون الجزور وتضمن الأيسار ثمنها ، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام ، في قول أبي عمرو ، وثمانية وعشرين على قدر حظوظ السهام في قول الأصمعي .

قال ابن عطية : وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور على ثمانية وعشرين ، وأيهم خرج له نصيب واسى به الفقراء ، ولا يأكل منه شيئاً ، ويفتخرون بذلك ، ويسمون من لم يدخل فيه : البرم ويذمونه بذلك ، ومن الافتخار بذلك قول الأعشى : المطمعو الضيف إذا ماشتا

والجاعلو القوت على الياسر

وقال زهير في البرم : حتى تأوى إلى لا فاحشٍ برم

ولا شحيح إذا أصحابه غنموا

وربما قاموا لأنفسهم .

التفكر : في الشيء إجالة الفكر فيه وتردده ، والفكر : هو الذهن .

الخلط : مزج الشيء بالشيء ، وخالط فاعل منه ، والخلط الشيء المخلوط : كالرغي .

الإِخوان : جمع أخ ، والأخ معروف ، وهو من ولده أبوك وأمك ، أو أحدهما ، وجمع فعل على فعلان لا ينقاس .

العنت : المشقة ، ومنه عنت الغربة ، وعقبة عنوت شاقة المصعد ، وعنت البعير انكسر بعد جبر .

النكاح : الوطء وهو المجامعة ، قال التبريزي : وأصله عند العرب لزوم الشيء الشيء وإكبابه عليه ، ومنه قولهم : نكح المطر الأرض . حكاه ثعلب في { الأمالي} عن أبي زيد وابن الإِعرابي ،

وحكى الفراء عن العرب : نكح المرأة ، بضم النون ، بضعة هي بين القبل والدبر ، فإذا قالوا نكحها ، فمعناه أصاب نكحها ، أي ذلك الموضع منها ، وقلما يقال ناكحها كما يقال باضعها ، قيل : وقد جاء النكاح في أشعار العرب يراد به العقد خاصة ، ومن ذلك قول الشاعر :

فلا تقربن جارة إن سرها

عليك حرام ، فانكحنْ أو تأبدا

أي فاعقد وتزّوج ، وإلاَّ فاجتنب النساء وتوحش ، لأنه قال : لاتقربن جارة على الوجه الذي يحرم . وجاء بمعنى المجامعة ، كما قال : الباركين على ظهور نسوتهم

والناكحين بشاطى دجلة البقرا

وقال أبو علي : فرّقت العرب بين العقد والوطء بفرق لطيف ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا به العقد لا غير ، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته فلا يريدون غير المجامعة .

الأمة : المملوكة من النساء ، وهي ما حذف لامه ، وهو واو يدل على ذلك ظهورها في الجمع قال الكلابي . أما الإماء فلا يدعونني ولدا

إذا تداعى بنو الأموات بالعار

وفي المصدر : يقال أمة بينة الأمّوة ، وأقرّت بالأموّة ، أي بالعبودية . وجمعت أيضاً على : إماء ، وأآم ، نحو أكمة وآكام وأكم ، وأصله أأمو ، وجرى فيه ما يقتضيه التصريف ، وفي الحديث :  { لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه} . وقال الشاعر : يمشى بها ريد النعا

م تماشى الآم الدوافر

ووزنها أموة ، فحذفت لامها على غير قياس ، إذ كان قياسها أن تنقلب ألفاً لتحركها ، وانفتاح ما قبلها كقناة ، وزعم أبو الهيثم : أن جمع الأمة أمو ، وأن وزنها فعلة بسكون العين ، فتكون مثل : نخلة ونخل ، وبقلة وبقل ، فأصلها : أموة فحذفوا لامها إذ كانت حرف لين ، فلما جمعوها على مثال نخلة ونخل لزمهم أن يقولوا : أمة وأم ، فكرهوا أن يجعلوها حرفين ، وكرهوا أن يردوا الواو المحذوفة لما كانت آخر الاسم ، فقدموا الواو ، وجعلوه ألفاً ما بين الألف والميم ، وما زعمه أبو الهيثم ليس بشيء ، إذ لو كان على ما زعم لكان الإعراب على الميم كما كان على لام نخل ، ولكنه على الياء المحذوفة التي هي لام ، إذ أصله ألامو ، ثم عمل فيه ما عمل في قولهم : الأدلو ، والأجرو ، جمع : دلو ، وجرو ، وأبدلت الهمزة الثانية ألفاً كما أبدلت في : آدم ، ولذلك تقول : جاءت الآمي ، ولو كان على ما زعم أبو الهيثم لكان : جاءت الآم ، برفع الميم .

المحيض : مفعل من الحيض يصلح للمصدر والمكان والزمان ، تقول . حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحيضاً بنوه على : مفعل ، بكسر العين وفتحها ، وفيما كان على هذا النوع من الفعل الذي هو يائي العين على : فعل يفعل ، فيه ثلاثة مذاهب .

أحدها : أنه قياسه مفعل . بفتح العين في المراد به المصدر ، وبكسرها في المراد به المكان أو الزمان ، فيصير : كالمضرب في المصدر ، والمضرب بالكسر ، أي : بكسر الراء في الزمان والمكان ، فيكون على هذا المحيض ، إذا أريد به المصدر ، شاذاً ، وإذا أريد به الزمان والمكان كان على القياس .

المذهب الثاني : أنك مخير بين أن تفتح عينه أو تكسره ، كما جاء في هذا المحيض والمحاض ، وحجة هذا القول أنه كثر في ذلك الوجهان فاقتاسا .

المذهب الثالث : القصر على السماع ، فما قالت فيه العرب : مفعل ، بالسكر أو مفعل بالفتح لا نتعدّاه ، وهذا هو أولى المذاهب .

وأصل الحيض في اللغة السيلان ، يقال : حاض السيل وفاض ، وقال الفراء : حاضت الشجرة إذا سال صمغها ، وقال الأزهري : ومن هذا قيل للحوض حوض ، لأن الماء يحيض إليه أي يسيل ، والعرب تدخل الواو على الياء ، والياء على الواو ، ولأنها من حيز واحد وهو

الهواء .

الاعتزال : ضد الاجتماع ، وهو التيأس من الشيء والتباعد منه ، وتارة يكون بالبدن ، وتارة بالقلب ، وهو افتعال من العزل ، وهو تنجية الشيء من الشيء .

أنَّى : اسم ويستعمل شرطاً ظرف مكان ، ويأتي ظرف زمان بمعنى : متى واستفهاماً بمعنى : كيف ، وهي مبنية لتضمن معنى حرف الشرط ، وحرف الاستفهام ، وهو في موضع نصب لا يتصرف فيه بغير ذلك البتة .

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ } سبب نزولها سؤال عمر ومعاذ ، قالا : يا رسول اللّه ، أفتنا في الخمر والميسر ، فإنه مذهبة للعقل ، مسلبة للمال . فنزلت .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنهم لما سألوا عن ماذا ينفقون ؟ فبين لهم مصرف ذلك في الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ، ثم ذكر تعالى فرض القتال والجهاد في سبيل اللّه ، ناسب ذكر سؤالهم عن الخمر والميسر ، إذ هما أيضاً من مصارف المال ، ومع مداومتهما قل أن يبقى مال فتتصدق به ، أو تجاهد به ، فلذلك وقع السؤال عنهما .

وقال بعض من ألف في الناسخ والمنسوخ : أكثر العلماء على أنها ناسخة لما كان مباحاً من شرب الخمر ، وسورة الأنعام مكية ، فلا يعتبر بما فيها من قوله :{ الظَّالِمِينَ قُل لا أَجِدُ } وقال ابن جبير : لما نزل { قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } كره الخمر قوم للإثم ، وشربتها قوم للمنافع ، حتى نزل :{ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } فاجتنبوها في أوقات الصلاة ، حتى نزل :{ فَاجْتَنِبُوهُ } فحرمت . قال مكي : فهذا يدل على أن هذه منسوخة بآية المائدة ، ولا شك في أن نزول المائدة بعد البقرة ، وقال قتادة : ذم اللّه الخمر بهذه الآية ولم يحرمها ، وقال بعض الناس : لا يقال إن هذه الآية ناسخة لما كان مباحاً من شرب الخمر ، لأنه يلزم منه أن اللّه أنزل إباحتها ، ثم نسخ ، ولم يكن ذلك ، وإنما كان مسكوتاً عن شربها ، فكانوا جارين في شربها على عادتهم ، ثم نزل التحريم . كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم .

وجاء :{ وَيَسْئَلُونَكَ } بواو الجمع وإن كان من سأل اثنين : وهمنا عمرو ومعاذ ، على ما روي في سبب النزول ، لأن العرب تنسب الفعل الصادر من الواحد إلى الجماعة في كلامها ، وقد تبين ذلك .

والسؤال هنا ليس عن الذات ، وإنما هو عن حكم هذين من حل وحرمة وانتفاع ، ولذلك جاء الجواب مناسباً لذلك ، لا جواباً عن ذات .

وتقدم تفسير الخمر في اللغة ،

وأما في الشريعة ، فقال الجمهور : كل ما خامر العقل وأفسده مما يشرب يسمى خمراً ، وقال الرازي ، عن أبي حنيفة : الخمر اسم ما يتخذ من العنب خاصة ، ونقل عنه السمرقندي : أن الخمر عنده هو اسم ما اتخذ من العنب والزبيب والتمر ، وقال : إن المتخذ من الذرة والحنطة ليس من الأشربة ، وإنما هو من الأغذية المشوّشة للعقل : كالبنج والسيكران ،

وقيل : الصحيح ، عن أبي حنيفة ، أن القطرة من هذه الأشربة من الخمر .

وتقدم تفسير الميسر وهو : قمار أهل الجاهلية ،

وأما في الشريعة فاسم الميسر يطلق على سائر ضروب القمار ، والإجماع منعقد على تحريمه ، قال علي ، وابن عباس ، وعطاء وابن سيرين ، والحسن ، وابن المسيب ، وقتادة ، وطاووس ، ومجاهد ، ومعاوية بن صالح : كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج وغيره فهو ميسر ، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز إلا ما أبيح من الرهان في الخيل ، والفرعة في إبراز الحقوق . وقال مالك : الميسر ميسران : ميسر اللّهو فمنه : النرد والشطرنج والملاهي كلها ، وميسر القمار : وهو ما يتخاطر الناس عليه ، وقال على الشطرنك : ميسر العجم ، وقال القاسم ، كل شيء ألهى عن ذكر اللّه وعن الصلاة فهو ميسر .

{قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أنزل في الخمر أربع آيات .{ وَمِن ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالاْعْنَابِ } بمكة ثم هذه الآية ، ثم { لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى } ثم { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } قال القفال : ووقع التحريم على هذا الترتيب ، لأنه تعالى علم أن القوم كانوا ألفوا شربها والانتفاع بها كثيراً ، فجاء

التحريم بهذا التدريج ، رفقاً منه تعالى . انتهى ملخصاً .

وقال الربيع : نزلت هذه الآية بعد تحريم الخمر ، واختلف المفسرون : هل تدل هذه الآية على تحريم الخمر والميسر أم لا تدل ؟ والظاهر أنها تدل على ذلك ، والمعنى : قل في تعاطيهما إثم كبير ، أي : حصول إثم كبير ، فقد صار تعاطيهما من الكبائر ، وقد

قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ } فما كان إثماً ، أو اشتمل على الإِثم ، فهو حرام ، والإِثم هو الذنب ، وإذا كان الذنب كثيراً أو كبيراً في ارتكاب شيء لم يجز ارتكابه ، وكيف يقدم على ذلك مع التصريح بالخسران إذا كان الإِثم أكبر من النفع ؟ وقال الحسن : ما فيه الإِثم محرم ، ولما كان في شربها الإِثم سميت إثماً في قول الشاعر : شربت الإِثم حتى زل عقلي

كذاك الإِثم يذهب بالعقول

ومن قال : لا تدل على التحريم ، استدل بقوله : ومنافع للناس ، والمحرم لا يكون فيه منفعة ، ولأنها لو دلت على التحريم لقن الصحابة بها ، وهم لم يقنعوا حتى نزلت آية المائدة ، وآية التحريم في الصلاة ، وأجيب بأن المحرم قد يكون فيه منفعة عاجلة في الدنيا ، وبأن بعض الحصابة سأل أن ينزل التحريم بالأمر الواضح الذي لا يلتبس على أحد ، فيكون آكد في التحريم .

وظاهر الآية الإخبار بأن فيهما إثماً كبيراً . ومنافع حالة الجواب وزمانه ،

وقال ابن عباس ، والربيع : الإِثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبل التحريم ، فعلى هذا يكون الإثم في وقت ، والمنفعة في وقت ، والظاهر أنه إخبار عن الحال ، والإثم الذي فيهما هو الذنب الذي يترتب عليه العقاب ، وقالت طائفة : الإثم الذي في الخمر : ذهاب العقل ، والسباب ، والافتراء ، والتعدّي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة التي في الخمر ، قال الأكثرون : ما يحصل منها من الأرباح والأكساب ، وهو معنى قول مجاهد :

وقيل ما ذكر الأطباء في منافعها من ذهاب الهم ، وحصول الفرح ، وهضم الطعام ، وتقوية الضعيف ، والإعانة على الباءة ، وتسخية البخيل ، وتصفية اللون ، وتشجيع الجبان ، وغير ذلك من منافعها . وقد صنفوا في ذلك مقالات وكتباً ، ويسمونها : الشراب الريحاني ، وقد ذكروا أيضاً لها مضار كثيرة من جهة الطب .

والمنفعة التي في الميسر إيسار القامر بغير كدّ ولا تعب ،

وقيل : التوسعة على المحاويج ، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور ، ويفرقه على الفقراء . وذكر المفسرون هنا حكم ما أسكر كثيرُه من غير الخمر العنبية ، وحدّ الشارب ، وكيفية الضرب ، وما يتوقى من المضروب فلا يضرب عليه ، ولم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وهو مذكور في علم الفقه .

وقرأ حمزة ، والكسائي : إثم كثير ، بالثاء ، ووصف الإثم بالكثرة إما باعتبار الآثمين ، فكأنه قيل : فيه للناس آثام ، أي لكل واحد من متعاطيها إثم ، أو باعتبار ما يترتب على شربها من توالي العقاب وتضعيفه ، فناسب أن ينعت بالكثرة ، أو باعتبار ما يترتب على شربها مما يصدر من شاربها من الأفعال والأقوال المحرمة ، أو باعتبار من زوالها من لدن كانت إلى أن بيعت وشربت ، فقد لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الخمر ، ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، ومعتصرها ، والمعصورة له وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة له ، وآكل ثمنها . فناسب وصف الإثم بالكثرة بهذا الاعتبار .

وقرأ الباقون : كبير ، بالباء ، وذلك ظاهر ، لأن شرب الخمر والقمار ذنبهما من الكبائر ، وقد ذكر بعض الناس ترجيحاً لكل قراءة من هاتين القراءتين على الأخرى ، وهذا خطأ ، لأن كلاً من القراءتين كلام اللّه تعالى ، فلا يجوز تفضيل شيء منه على شيء من قبل أنفنسا ، إذ كله كلام اللّه تعالى .

{وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } في مصحف عبد اللّه وقراءته : أكثر ، بالثاء كما في مصحفه : كثير ، بالثاء المثلثة فيهما .

قال الزمخشري : وعقاب الإثم في تعاطيهما أكبر من

نفعهما ، وهو الالتذاذ بشرب الخمر ، والقمار ، والطرب فيهما ، والتوصل بهما إلى مصادقات الفتيان ومعاشراتهم ، والنيل من مطاعمهم ومشاربهم وأعطياتهم ، وسلب الأموال بالقمار ، والافتخار على الأبرام ؛ وفي قراءة أبي : وإثمهما أقرب ، ومعنى الكثرة أن : أصحاب الشرب والقمار يقترفون فيهما الآثام من وجوه كثيرة . انتهى كلام الزمخشري .

وقال ابن عباس ، وسعد بن جبير ، والضحاك ، ومقاتل : إثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم ،

وقيل : أكبر ، لأن عقابه باق مستمر والمنافع زائلة ، والباقي أكبر من الفاني .

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ } تقدّم هذا السؤال وأجيبوا هنا بذكر الكمية والمقدار ، والسائل في هذه الآية ، قيل : هو عمرو بن الجموح ،

وقيل : المؤمنون وهو الظاهر من واو الجمع .

والنفقة هنا قيل : في الجهاد ،

وقيل : في الصدقات ، والقائلون في الصدقات ، قيل : في التطوع وهو قول الجمهور ،

وقيل : في الواجب ، والقائلون في الواجب ، قيل : هي الزكاة المفروضة ، وجاء ذكرها هنا مجملاً ، وفصلتها السنة .

وقيل كان واجباً عليهم قبل فرض الزكاة أن ينفقوا ما فضل من مكاسبهم عن ما يكفيهم في عامهم ، ثم نسخ ذلك بآية الزكاة .

والعفو : ما فضل الذي لا سرف فيه ولا تقصير ، قاله الحسن ، أو : الطيب الأفضل ، قاله الربيع ، أو : الكثير ، من قوله { حَتَّى عَفَواْ } أي : كثروا ، قال الشاعر : ولكنا يعض السيف منها

بأسوق عافيات اللحم كوم

أو : الصفو ، يقال ؛ أتاك عفواً ، أي : صفواً بلا كدر ، قال الشاعر : خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

أو : ما فضل عن ألف درهم ، أو : قيمة ذلك من الذهب ، وكان ذلك فرض عليهم قبل فرض الزكاة ، قاله ، قتادة . أو : ما فضل عن الثلث ، أو : عن ما يقوتهم حولاً لذوي الزراعة ، وشهراً لذوي الفلاحة ، أو : عن ما يقوته يومه للعامل بهذه ، وكانوا مأمورين بذلك ، فشق عليهم ، ففرضت الزكاة ، أو : الصدقة المفروضة ، قاله مجاهد ، و : ما لا يستنفد المال ويبقى صاحبه يسأل الناس ، قاله الحسن أيضاً .

وقد روي في حديث الذي جاء يتصدّق ببيضة من ذهب ، حدف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إياه بها ، وقوله : { يجيء أحدكم بماله كله يتصدّق به ويقعد يتكفف الناس ، إنما الصدقة على ظهر غنى} . وفي حديث سعد : { لأن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} .

وقال الزمخشري : العفو نقيض الجهد ، وهو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد ، واستفراغ الوسع ؛ و

قال ابن عطية : المعنى : أنفقوا ما فضل عن حوائجكم ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة ؛ وقال الراغب : العفو متناول لما هو واجب ولما هو تبرع ، وهو الفضل عن الغنى ، وقال الماتريدي : الفضل عن القوت .

وقرأ الجمهور : العفو ، بالنصب وهو منصوب بفعل مضمر تقديره : قل ينفقون العفو ، وعلى هذا الأولىفي قوله : ماذا ينفقون ؟ أن يكون ماذا في موضع نصب ينفقون ، ويكون كلها استفهامية ، التقدير : أي شيء ينفقون ؟ فاجيبوا بالنصب ليطابق الجواب السؤال .

ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، وذا موصولة بمعنى الذي ، وهي خبره ، ولا يكون ولا يكون إذ ذاك الجواب مطابقاً للسؤال من حيث اللفظ ، بل من حيث المعنى ، ويكون العائد على الموصول محذوفاً لوجود شرط الحذف فيه ، تقديره : ما الذي ينفقونه ؟ .

وقرأ أبو عمر ، و : قل العفو ، بالرفع ، والأولى إذ ذاك أن تكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : قل المنفق العفو ، وأن يكون : ما ، في موضع رفع بالإبتداء ، و : ذا ، موصول ، كما

قررناه ليطابق الجواب السؤال ، ويجوز أن يكون ماذا كله استفهاماً منصوباً بينفقون ، وتكون المطابقة من حيث المعنى لا من جهة اللفظ ، واختلف عن ابن كثير في العفو ، فروي عنه النصب كالجمهور ، والرفع كأبي عمرو .

وقال ابن عطية ، وقد ذكر القراءتين في العفو ما نصبه : وهذا متركب على : ما ، فمن جعل ما ابتداء ، وذا خبره بمعنى الذي ، وقدّر الضمير في ينفقونه عائداً قرأ العفو بالرفع لتصح مناسبة الحمل ، ورفعه على الابتداء تقديره : العفو إنفاقكم ، أو الذي ينفقون العفو ، ومن جعل ماذا إسماً واحداً مفعولاً : ينفقون ، قرأ العفو بالنصب بإضمار فعل ، وصح له التناسب ، ورفع العفو مع نصب : ما ، جائز ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها . انتهى كلامه . وتقديره : العفو إنفاقكم ، ليس بجيد ، لأنه أتى بالمصدر ، وليس السؤال عن المصدر ، وقوله : جائز ، ضعيف ، وكذلك نصبه مع رفعها ليس كما ذكر ، بل هو جائز ، وليس بضعيف .

{كَذالِكَ يُبيّنُ اللّه لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدُّنُيَا وَالاْخِرَةِ } الكاف للتشبيه وهي في موضع نعت لمصدر محذوف ، أو في موضع الحال على مذهب سيبويه ، أي : تبيينا مثل ذلك يبين ، أو في حال كونه منها ذلك التبيين يبينه ، أي : يبين التبيين مماثلاً لذلك التبيين ، واسم الاشارة الأقرب أن يعود إلى الأقرب من تبينه حال المنفق ، قاله ابن الأنبارى ،

وقال الزمخشري : ما يؤول إليه وهو تبيين أن العفو أصلح من الجهد في النفقة . أو حكم الخمر والميسر ، والإنفاق القريب أي : مثل ما يبين في هذا يبين في المستقبل ، والمعنى : أنه يوضح الآيات مثل ما أوضح هذا ، ويجوز أن يشار به إلى بيان ما سألوا عنه ، فبين لهم كتبيين مصرف ما ينفقون ، وتبيين ما ترتب عليه من الجزاء الدال عليه علم اللّهفي قوله :{ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ } وتبيين حكم القتال ، وتبيين حاله في الشهر الشهر الحرام ، وما تضمنته الآية التي ذكر في القتال في الشهر الحرام ، وتبيين حال الخمر والميسر ، وتبيين مقدار ما ينفقون .

وأبعَدَ من خص اسم الإشارة ببيان حكم الخمر والميسر فقط ، وأبعد من ذلك من جعله إشارة إلى بيان ما سبق في السورة من الأحكام .

وكاف الخطاب إما أن تكون للنبي صلى اللّه عليه وسلم ،أو للسامع أو للقبيل ، فلذلك أفرد أو للجماعة المؤمنين فيكون بمعنى : كذلكم ، وهي لغة العرب يخاطبون الجمع بخطاب الواحد ، وذلك في إسم الإشارة ، ويؤيد هذا هنا قوله :{ يُبَيّنُ لَكُمْ } فأتى بضمير الجمع فدل على أن الخطاب للجمع .

{لَكُمْ } متعلق : بيبين ، واللام فيها للتبليغ ، كقولك : قلت لك ، ويبعد فيها التعليل ، والآيات ، العلامات ، والدلائل لعلكم تتفكرون ، ترجئة للتفكر تحصل عند تبيين الآيات . لأنه متى كانت الآية مبينة وواضحة لا لبس فيها ، ترتب عليها التفكر والتدبر فيما جاءت له تلك الآية الواضحة من أمر الدنيا وأمر الآخرة .

﴿ ٢١٩