٢٢٥

لا يؤاخذكم اللّه . . . . .

{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّه بِالَّلغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ } مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تعالى لما نهى عن جعل اللّه معرضاً للأيمان ، كان ذلك حتماً لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك ، لأن العادة جرت لهم بالأيمان ، فذكر أن ما كان منها لغواً فهو لا يؤاخذ به ، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين ، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد ، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو ، لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد .

واختلفت أقوال المفسرين في تفسير لغو اليمين ، فقال أبو هريرة ، وابن عباس ، والحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، ومقاتل ، والسدي عن أشياخه ، ومالك في أشهر قوليه ، وأبو حنيفة : هو الحلف على غلبة الظن ، فيكشف الغيب خلاف ذلك ؛ وقالت عائشة ، وابن عباس أيضاً ، وطاووس ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو صالح ، والشافعي : هو ما يجرى على اللسان في درج الكلام والاستعجال : لا واللّه ، وبلى واللّه ، من غير قصد لليمين ؛ وهو أحد قولي مالك . وقال سعيد بن جبير ، وابن المسيب ، وأبو بكر بن عبد الرحمن ، وابنا الزبير عبد اللّه وعروة : هو الحلف على فعل المعصية ، إلاَّ أن ابن جبير قال : لا يفعل ويكفر ، وباقيهم قالوا : لا يفعل ولا كفارة عليه ،

وقال ابن عباس أيضاً . وعلي ، وطاووس : هو الحلف في حال الغضب . وقال النخعي : هو الحلف على شيء ينساه ،

وقال ابن عباس أيضاً ، والضحاك : هو ما تجب فيه الكفارة إذا كفرت سقطت ، ولا يؤاخذ اللّه بتكفيرها ، والرجوع إلى الذي هو خير ؛ وقال مكحول ، وابن جبير أيضاً ، وجماعة : هو أن يحرم على نفسه ما أحل اللّه ، كقوله : مالي عليّ حرام إن فعلت كذا ، والحلال عليّ حرام ، وقال بهذا القول مالك إلاَّ في الزوجة ، فألزم فيها التحريم ألاَّ أن يخرجها الحالف بقلبه ، وقال زيد ابن أسلم وابنه : هو دعاء الرجل على نفسه أعمى اللّه بصره ، أذهب اللّه ماله ، هو يهودي ، هو مشرك ، هو لغية ، إن فعل كذا ، وقال مجاهد : هو حلف المتبايعين ، يقول

أحدهما : واللّه لا أبيعك بكذا ، ويقول الآخر : واللّه ما أشتريه إلاَّ بكذا ، وقال مسروق : هو ما لا يلزمه الوقاية ، وروي عنه ، وعن الشعبي : أنه الحلف على المعصية ؛

وقيل : هو يمين المكره ، حكاه ابن عبد البر .

وهذه الأقوال يحتملها لفظ اللغو ، إلاَّ أن الأظهر هو ما فسرناه أولاً ، لأنه قابله كسب القلب ، وهو تعمده للشيء ، فجميع الأقوال غيره ينطبق عليها أنها كسب القلب ، لأن للقلب قصداً إليها : ونفي الوحدة يدل على أنه لا إثم ولا كفارة ، فيضعف قول من قال : إنها تختص بالإثم ، ويفسر اللغو باليمين المكفرة ، وسئل الحسن عن اللغو ، والمسبية ذات الزوج ، فوثب الفرزدق وقال : أما سمعت ما

قلت : ولست بمأخوذ بشيء تقوله

إذا لم تعمد عاقدات العزائم

وما

قلت : وذات حليل أنكحتنا رماحنا

حلالاً ، ولولا سبيها لم تطلق

فقال الحسن : ما اذكاك لولا حنثك .

باللغو : متعلق : بيؤاخذكم ، والباء سببية ، مثلها في { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّه النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ }{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } : وفي إيمانكم ، متعلق بالفعل ، أو بالمصدر ، أو بمحذوف ، أي : كائناً في أيمانكم ، فيكون حالاً ، ويقر به أنك لو جعلته في صلة : الذي ، ووصفت به اللغو لاستقام .

{وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } أي باليمين التي للقلب فيها كسب ، فكل يمين عقدها القلب فهي

كسب له ؛ وكذلك فسر مجاهد الكسب بالعقد ، كآية المائدة { بِمَا عَقَّدتُّمُ الاْيْمَانَ } ،

وقال ابن عباس ، والنخعي : هو أن يحلف كاذباً أو على باطل ، وهي الغموس ؛ وقال زيد بن أسلم : هو أن يعقد الإشراك بقلبه إذا قال : هو مشرك ، إن فعل كذا ، وقال قتادة : بما تعمد القلب من المآثم . وهذا الذي ذكره تعالى : من المؤاخذة ، هو العقوبة في الآخرة إن كانت اليمين غموساً ، أو غير غموس وترك تكفيرها ، والعقوبة في الدنيا بإلزام الكفارة إن كانت مما تكفر .

واختلفوا في اليمين الغموس ، فقال مالك ، وجماعة : لا تكفر ، وهي أعظم ذنباً من ذلك . وقال عطاء ، وقتادة ، والربيع ، . والشافعي : تكفر ، والكفارة مؤاخذة .

والغموس ما قصد الرجل في الحلف به الكذب ، وهي المصبورة ، سميت غموساً لأنها تغمس صاحبها في الإثم ، ومصبورة لأن صبرها مغالبة وقوة عليها ، كما يصبر الحيوان للقتل والرمي .

وقسمت الأيمان إلى : لغو ومنعقدة ، وغموس ، والمنعقدة : هي على المستقبل التي يصح فيها الحنث والبر ، وبينا اللغو والغموس ، وقسمت أيضاً إلى : حلف على ما من محرم وهي : الكاذبة ، ومباح : وهي الصادقة ، وعلى مستقبل عقدها طاعة والمقام عليها طاعة ، وحلها معصية أو مكروه ، ومقابلها أو ما هو مباح عقدها والمقام عليها وحلها ، ولكن دخلت هنا بين نقيضين باعتبار وجود اليمين لأنها لا تخلو من أن لا يقصدها القلب ، ولكن جرت على اللسان وهي : اللغو ، أو تقصدها وهي : المنعقدة ، وهما ضدان باعتبار أن لا توجد اليمين ، إذ الإنسان قد يخلو من اليمين ، وهذان النوعان من النقيضين والضد أحسن ما يقع فيه : لكن ،

وأما الخلافان ففي جواز وقوعها بينهما خلاف ، وقد تقدّم طرف من هذا ، وإبدال الهمزة واواً في مثل : يؤاخذ ، مقيس ، ونحوه : يؤذن ، ويؤلف ،

وفي قوله :{ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } محذوف تقديره : ولكن يؤاخذكم في أيمانكم بما كسبت قلوبكم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه ، و : ما ، في قوله : بما ، موصولة ، والعائد محذوف ، ويحتمل أن تكون مصدرية ، ويحسنه مقابلته بالمصدر ، وهو قوله : باللغو ، وجوّز أن تكون نكرة موصوفة .

{وَاللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ } جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة اللّه على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الإيمان ، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران ، والحلم عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة ، وإطماع في سعة رحمته ، لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه ، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة ، كسائر وعيده تعالى .

﴿ ٢٢٥