٢٣٥

ولا جناح عليكم . . . . .

{وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } نفى اللّه الحرج في التعريض بالخطبة ، وهو : إنك لجميلة ، وإنك لصالحة ، وإن من عزمي أن أتزوج ؛ وإنى فيك لراغب ، وما أشبه ذلك ، أو : أريد النكاح

وأحب امرأة كذا وكذا يعد أوصافها ، قاله ابن عباس . أو : إنك لنافقة ، وإن قضي شيء سيكون ، قاله الشعبي . أو : يصف لها نفسه ، وفخره ، وحسبه ، ونسبه ، كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة ، أو يقول لوليها : لا تسبقني بها ، كما قال صلى اللّه عليه وسلم لفاطمة بنت قيس :  { كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك} . وقد أوّل هذا على أنه منه صلى اللّه عليه وسلم لفاطمة على سبيل الرأي فيمن يتزوجها ، لا أنه أرادها لنفسه ، ولذلك كره مجاهد أن يقول : لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سراً ، أو يقول : ما عليك تأيم ، ولعل اللّه يسوق إليك خيراً ، أو رب رجل يرغب فيك ، أو : يهدي لها ويقوم بشغلها إذا كانت له رغبة في تزويجها .

قال إبراهيم : أو يقول كل ما سوى التصريح ، قاله ابن زيد ، والإجماع على أنه لا يجوز التصريح بالتزويج ، ولا التنبيه عليه ، ولا الرفث ، وذكر الجماع ، والتحريض عليه . وقد استدلت الشافعية بنفي الحرج في التعريض بالخطبة على أن التعريض بالندب لا يوجب الحد ، فكما خالف نهيُ حكمَيْ التعريض والتصريح في الخطبة ، فكذلك في القذف .

{أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ } أي : أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر ، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه ، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم ، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفي عنهما ،

وقيل : المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة ، فأباح اللّه التعريض ، وحرم التصريح في الحال ، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل .

ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة ، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات ، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من ميل القلب .

{عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } هذا عذر في التعريض ، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه ، فأسقط اللّه الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ، كقوله :{ عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ } وجاء الفعل بالسين التي تبدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن .

وقال الحسن ، معنى : ستذكرونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا . إنتهى .

وقوله : ستذكرونهن ، شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض ، وهو كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب .

{وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } هذا الاستدراك من الجملة التي قبله ، وهو قوله : ستذكرونهن ، والذكر يقع على أنحاء وأوجه ، فاستدرك منه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص ، ولو لم يستدرك لكان مأذوناً فيه لا لدراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر اللّه بوقوعه ، وهو نظير قولك : زيد سيلقى خالداً ولكن لا يواجهه بشر ، فاستدرك هذه الحالة مما يحتمله اللقاء ، وإن من أحواله المواجهة بالشر ، ولا يحتاج لكن إلى جملة محذوفة قبلها ، لكن يحتاج ما بعد : لكن ، إلى وقوع ما قبله من حيث المعنى لا من حيث اللفظ ، لأن نفي المواجهة بالشر يستدعي وقوع اللقاء .

قال الزمخشري ، فإن قلت ، أين المستدرك بقوله :{ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ} قلت ، هو محذوف لدلالة :{ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } عليه { عَلِمَ اللّه أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } فاذكروهن { وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } إنتهى كلامه .

وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن ، بل الاستدراك جاء من قبل قوله : ستذكرونهن ، ولم يأمر اللّه تعالى بذكر النساء ، لا على طريق الوجوب ، ولا الندب ، فيحتاج إلى تقدير : فاذكروهن ، على ما قررناه قبل قولك : سألقاك ولكن لا تخف مني ، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقى استدرك فقال : ولكن لا تخف مني .

والسر ضد الجهر ، ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه ، لكنه في سر ، وقد يعبر به عن العقد ، لأنه سبب فيه ، وقد فسر : السر ، هنا : بالزنا الحسن ،

وجابر بن زيد ، وأبو مجلز ، والضحاك ، والنخعي . ومما جاء : السر ، في الوطء الحرام ، قوله الحطيئة : ويحرم سر جارتهم عليهم

ويأكل جارهم أنف القصاع

وقال الأعشى : ولا تقربن جارة إنَّ سرها

عليك حرام فانكحن أو تأبدا

وقال ابن جبير : السر ، هنا النكاح . وقال ابن زيد معنى ، ذلك : لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، فسمى العقد عليهم مواعدة ، وهذا ينبو عنه لفظ المواعدة .

قال بعضهم : جماعاً وهو أن يقول لها : إن نكحتك كان كيت وكيت ، يريد ما يجري بينهما تحت اللحاف .

وقال ابن عباس ، وابن جبير أيضاً ، والشعبي ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، ومالك ، وأصحابه ، والجمهور : المعنى : لا توافقوهن المواعدة والتوثق وأخذ العهود في استسرار منكم وخفية .

فعلى هذا القول ، والقول الذي قبله ، ينتصب ، سراً ، على الحال ، أي : مستسرين . وعلى القولين الأولين ينتصب على المفعول ، وإذا انتصب على الحال كان مفعول : فواعدوهن محذوفاً ، تقديره : النكاح ،

وقيل : انتصب على أنه نعت مصدر محذوف ، تقديره : مواعدة سراً .

وقيل التقدير في : وانتصب انتصاب الظرف ، على أن المواعدة في السر عبارة عن المواعدة بما يستهجن لأن مسارتهن في الغالب بما يستحي من المجاهرة به ، والذي تدل عليه الآية أنهم : نهوا أن يواعد الرجل المرأة في العدة ، أن يطأها بعد العدة بوجه التزويج ،

وأما تفسير السر هنا بالزنا فبعيد ، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها ،

وأما إطلاق المواعدة سراً على النقد فبعيد أيضاً ، وأيد قول الجمهور فبعيد أيضاً ، لأنهم نهوا عن المواعدة بالنكاح سراً وجهراً ، فلا فائدة في تقييد المواعدة بالسر .

{إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} هذا الاستثناء منقطع لأنه لا يندرج تحت : سراً ، من قوله :{ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } على أي تفسير فسرته ، والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض ، وقال الضحاك : من القول المعروف أن تقول للمعتدة : احبسى عليّ نفسك فإن لي بك رغبة فتقول هي : وأنا مثل ذلك .

قال ابن عطية : وهذا عندي مواعدة .

وإنما لتعريض قول الرجل إنكن لإماء كرام ، وما قدر كان ، وإنك المعجبة ونحو هذا .

وقال الزمخشري :{ إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا .

فإن قلت : بم يتعلق حرف الاستثناء ؟

قلت : بلا تواعدوهنّ ، أي : لا تواعدوهنّ مواعدة قط

إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة ، أو : لا تواعدوهنّ إلاَّ بأن تقولوا ، أي : لا تواعدوهنّ إلاَّ بالتعريض ، ولا يجوز أن يكون استثناءً من سراً ، لادائه إلى قولك : لا تواعدوهن إلاَّ التعريض إنتهى كلام الزمخشري . ويحتاج إلى توضيح ، وذلك أنه جعله استثناءً متصلاً باعتبار أنه استثناء مفرغ ، وجعل ذلك على وجهين .

أحدهما : أن يكون استثناء من المصدر المحذوف ، وهو الوجه الأول الذي ذكره ، وقدّره : لا تواعدوهنّ مواعدة قط إلاَّ مواعدة معروفة غير منكرة ، فكأن المعنى : لا تقولوا لهن قولاً تعدونهن به إلاَّ قولاً معروفاً ، فصار هذا نظير : لا تضرب زيداً ضرباً شديداً .

والثاني : أن يكون استثناء مفرغاً من مجرور محذوف ، وهو الوجه الثاني الذي ذكره ، وقدره : إلاَّ بأن تقولوا ، ثم أوضحه بقوله : إلاَّ بالتعريض ، فكان المعنى : لا تواعدوهنّ سراً ، أي نكاحاً بقول من الأقوال ، إلاَّ بقول معروف ، وهو التعريض . فحذف : من أن ، حرف الجر ، فيبقى منصوباً أو مجروراً على الخلاف الذي تقدم في نظائره .

والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر ، وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو : الباء ، التي للسبب .

قوله ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعاً من سراً لأدائه إلى قوله : لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض ، والتعريض ليس مواعد ، فلا يصح عنده أن ينصب عليها العامل ، وهذا عنده على أن يكون منقطعاً نظير : ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً . لكن هذا يصح فيه : ما رأيت إلاَّ حماراً ، وذلك لا يصح فيه ، لا تواعدوهنّ إلاَّ التعريض ، لأن التعريض لا يكون مواعداً بل مواعداً به النكاح ، فانتصاب : سراً ، على أنه مفعول ، فكذلك ينبغي أن يكون : أن تقولوا ، مفعولاً ، ولا يصح ذلك فيه ، فلا يصح أن يكون استثناء منقطعاً . هذا توجيه منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعاً .

وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر ، وهو أن يمكن تلك العامل السابق عليه ، وذلك أن الاستثناء المنقطع على قسمين .

أحدهما : ما ذكره الزمخشري ، وهو : أن يتسلط العامل على ما بعد ؛ إلاَّ ، كما مثلنا به في قولك : ما رأيت أحداً إلاَّ حماراً . و : ما في الدار أحد إلاَّ حماراً .

وهذا النوع فيه خلاف عن العرب ، فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى ، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الإعراب ، ويصلح في هذا النوع أن تحذف الأول وتسلط ما قبله على ما بعد إلاَّ ، فتقول : ما رأيت إلاَّ حماراً ، وما في الدار إلاَّ حمار . ويصح في الكلام : ما لهم به إلاَّ اتباع الظن .

والقسم

الثاني : من قسمي الاستثناء المنقطع هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلاَّ ، وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة ، ومن ذلك : ما زاد إلاَّ ما نقص ، وما نفع إلاَّ ما ضر . فما بعد إلاَّ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص ، بل يقدّر المعنى : ما زاد ، لكن النقص حصل له ، وما نفع لكن الضرر حصل ، فاشترك هذا القسم مع الأوّل في تقدير إلاَّ بلكن ، لكن الأوّل يمكن تسليط ما قبله عليه ، وهذا لا يمكن .

وإذا تقرر هذا فيكون قوله : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ } استثناء منقطعاً من هذا القسم الثاني ، وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل ، والتقدير : لكنّ التعريض سائغ لكم ، وكأن الزمخشري ما علم أن الاستثناء المنقطع يأتي على هذا النوع من عدم توجيه العامل على ما بعد إلاَّ ، فلذلك منعه ، واللّه أعلم .

وظاهر النهي في قوله { لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } التحريم حتى قال مالك في رواية ابن وهب عنه ، فيمن واعد في العدّة ثم تزّوجها بعد العدّة ، قال : فراقها أحب إليّ دخل بها أو لم يدخل ، وتكون تطليقة واحدة ، فإذا حلت خطبها مع الخطاب وروي أشهب عن مالك وجوب التفرقة بينهما . وقال ابن القاسم :

وحكى مثل هذا ابن حارث عن ابن الماجشون ، وزاد ما تقتضي تأبيد التحريم . وقال الشافعي : لو صرح بالخطبة وصرحت بالإجابة ولم يعقد عليها إلاَّ بعد انقضاء العدّة صح النكاح ، والتصريح بهما مكروه . و

قال ابن عطية : أجمعت الأمّة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة .

{وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } نهوا عن العزم على عقدة النكاح ، وإذا كان العزم منهياً عنه فأحرى أن ينهي عن العقدة .

وانتصاب : عقدة ، على المفعول به لتضمين : تعزموا ، معنى ما يتعدّى بنفسه ، فضمن معنى : تنووا ، أو معنى : تصمموا ، أو معنى : توجبوا ، أو معنى : تباشروا ، أو معنى : تقطعوا ، أي : تبتوا .

وقيل : انتصب عقدة على المصدر ، ومعنى تعزموا تعقدوا .

وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو على هذا التقدير : ولا تعزموا على عقدة النكاح .

وحكى سيبويه أن العرب تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر : ولقد أبيت على الطوى وأظله

حتى أنال به كريمَ المأكلِ

الأصل وأظل عليه ، فحذف : على ، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه ، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى ، قال الشاعر : عزمت على إقامة ذي صباح

لأمر ما يسوّد من يسود

وقد تقدّم الكلام على نظير هذا في قوله : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلَاقَ } وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح على اختلاف العلماء في ذلك ، ولذلك

قال ابن عطية : عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وبلوغ الكتاب أجله هو انقضاء العدّة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والشعبي ، وقتادة ، والسدّي . ولم ينقل عن أحد خلافه ، بل هو من المحكم المجمع على تأويله بانقضاء العدّة .

والكتاب هنا هو المكتوب أي : حتى يبلغ ما كتب ، وأوجب من العدّة أجله أي : وقت انقضائه وقال الزجاج الكتاب هو القرآن ، وهو على حذف مضاف ، التقدير : حتى يبلغ فرض الكتاب أجله ، وهو ما فرض بالكتاب من العدّة ، فإذا انقضت العدّة جاز الإقدام على التزّوج ، وهذا النهي معناه التحريم ، فلو عقد عليها في العدّة فسخ الحاكم النكاح ، فإن كان ذلك قبل الدخول بها ، فقال عمر ، والجمهور : لا يتأبد التحريم . وقال مالك ، وابن القاسم ، في المدّونة : ويكون خاطباً من الخطاب

وحكى ابن الجلاب عن مالك : أنه يتأبد ، وإن عقد عليها في العدّة ودخل بعد انقضائها فقولان عن العلماء ، قال قوم : يتأبد ، وقال قوم : لا يتأبد ، والقولان عن مالك ، ولو عقد عليها في العدّة ، ودخل بها في العدّة ، فقال عمر ، ومالك ، وأصحابه ، والأوزاعي ، والليث ، وأحمد وغيرهم : يتأبد التحريم .

وقال مالك ، والليث : ولا تحل له بملك اليمين ، وقال علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم ، وأبو حنيفة ، والشافعي : وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وجماعة : لا يتأبد ، بل يفسخ بينهما ، ثم تعتدّ منه ويكون خاطباً من الخطاب .

قال الحسن ، وأبو حنيفة ، والليث ، وأحمد ، وإسحاق ، والمدنيون غير مالك : تعتدّ من الأوّل ، فإذا انقضت العدّة فلا بأس أن يتزوّجها الآخر .

وقال مالك ، وأصحاب الرأي ، والأوزاعي والثوري : عدّة واحدة تكفيهما جميعاً ، سواء كانت بالحمل ، أم بالإقراء ، أم بالأشهر .

{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّه يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ } قيل : المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ ،

وقيل : من الوفاء والإخلاف ، قاله ابن عباس : فاحذروه ، الهاء تعود على اللّه تعالى ، أي : فاحذروا عقابه .

وقال الزمخشري : يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه . انتهى . فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم ، أي فاحذروا ما لا يجوز ولا تعزموا عليه ، فتكون الهاء في : فاحذروه ولا تعزموا عليه ، عائدة على شيء واحد ، ويحتمل في كلامه أن تعود على اللّه ، والهاء في : عليه ، على ما لا يجوز ، فيختلف ما تعود عليه الهاءان ، ولما هدّدهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم ، وحذرهم منه ، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل

عنهم بعض روع التهديد والوعيد ، والتحذير من عقابه ، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف ، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم ، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان اللّه تعالى ، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفاً ، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة ، وكرر اسم اللّه تعالى للتفخيم ، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم ، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع ، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به ، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه ، وجاء خبر أن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف ، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات ، وإن كان من صفات الفعل .

قيل : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البديع .

منها : معدول الخطاب ، وهو أن الخطاب بقوله : { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ } الآية عام والمعنى على الخصوص . ومنها : النسخ ، إذ هي ناسخة للحول على قول الأكثرين . ومنها : الاختصاص ، وهو أن يخص عدداً فلا يكون ذلك إلاَّ لمعنى ، وذلك في قوله :{ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } ومنها : الكناية ، في قوله :{ وَلَاكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا } كنى بالسر عن النكاح ، وهي من أبلغ الكنايات . ومنها : التعريض ، في قوله :{ يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ } ومنها : التهديد ، بقوله { فَاحْذَرُوهُ } ومنها : الزيادة في الوصف ، بقوله :{ غَفُورٌ حَلِيمٌ}

﴿ ٢٣٥