٢٤٦

ألم تر إلى . . . . .

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِى إِسْرءيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِىّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِى } مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، وذلك أنه لما أمر المؤمنين بالقتال في سبيل اللّه ، وكان قد قدم قبل ذلك قصة الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت ، إما بالقتال أو بالطاعون ، على سبيل التشجيع والتثبيت للمؤمنين ، والإعلام بأنه : لا ينجي حذر من قدر ، أردف ذلك بأن القتال كان مطلوباً مشروعاً في الأمم السابقة ، فليس من الأحكام التي خصصتم بها ، لأن ما وقع فيه الاشتراك كانت النفس أميل لقبوله من التكليف الذي يكون يقع به الانفراد ، وتقدّم الكلام على قوله : ألم تر ، فأغنى عن إعادته ، والملأ هنا ،

قال ابن عطية : جميع القوم ، قال : لأن المعنى يقتضيه ، وهذا هو أصل وضع اللفظة . وتسمي الأشراف الملأ تشبيهاً . إنتهى . يعني : واللّه أعلم تشبيهاً بجميع القوم . وقد تقدّم تفسير الملأ في الكلام على المفرات .

{مِن بَنِى إِسْراءيلَ } في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف أي : كائنين من بني إسرائيل وعلى مذهب الكوفيين هو صلة للملأ ، لأن الاسم المعرف بالألف واللام يجوز عندهم أن يكون موصولاً ، كما زعموا ذلك في قوله :

لعمري لأنت البيت أكرم أهله

فأكرم عندهم صلة للبيت لا موضع له من الإعراب ، كذلك : من بني إسرائيل ، العامل فيه لا موضع له من الإعراب .

{مِن بَعْدِ مُوسَى } متعلق بما تعلق به :{ مِن بَنِى إِسْراءيلَ } هو كائنين ، وتعدّى إلى حرفي جر من لفظ واحد لإختلاف المعنى

فمن الأولى تبعيضية و : من ، الثانية لابتداء الغاية ، إذ العامل في هذا الظرف ، قالوا : تر ، وقالوا : هو بدل من : بعد ، لأنهما زمانان لبني إسرائيل ، ولا كلاهما لا يصح .

أما الأول : فإن ألم تر تقرير ، والمعنى : قد انتهى علمك إلى الملأ من بني إسرائيل ، وقد نظرت إلى بني إسرائيل إذ قالوا ، وليس انتهاء عليه إليهم ، ولا نظره إليهم كان في وقت قولهم لنبي لهم : { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا } وإذا لم يكن ظرفاً للإنتهاء ، ولا للنظر ، فكيف يكون معمولاً لهما ، أو لأحدهما ؟ هذا ما لا يصح .

وأما الثاني : فبعيد جداً ، لأنه لو كان بدلاً من : بعد ، لكان على تقدير العامل ، وهو لا يصح دخوله عليه ، أعنى : من ، الداخلة على : بعد ، لا تدخل على : إذ ، لا تقول : من إذ ، ولو كان من الظروف التي يدخل عليها : من ، كوقت وحين ، لم يصح المعنى أيضاً ، لأن : من ، بعد : موسى ، حال ، كما قرّرناه . إذا العامل فيه : كائنين ، ولو

قلت : كائنين من حين قالوا لنبي لهم إبعث لنا ملكاً ، لما صح هذا المعنى ، وإذا بطل هذان الوجهان ، فينظر ما يعمل فيه مما يصح به المعنى ، وقد وجدناه ، وهو : أن يكون ثَمَّ محذوف به يصح المعنى ، وهو العامل ، وذلك المحذوف تقديره : ألم تر إلى قصة الملأ ، أو : حديث الملأ ، وما في معناه . لأن الذوات لا يتعجب منها ، وانما يتعجب مما جرى لهم ، فصار المعنى : ألم تر إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل من بعد موسى ، إذ قالوا ؟ فالعامل في : إذ ، هو ذلك المحذوف ، والمعنى على تقديره ، وتعلق قوله : لنبي ، بقالوا ، واللام فيه كما تقدّم للتبليغ ، واسم هذا النبي : شمويل بن بالي ، قاله ابن عباس ووهب بن منبه ، أو : شمعون ، قاله السدي ، أو يوشع بن نون ، وقال المحاسبي اسمه عيسى ، وضعف قول من قال : إنه يوشع بأن يوشع هو فتى موسى عليه السلام ، وبينه وبين داود قرون كثيرة ، وقد طول المفسرون في هذه ونحن نلخصها فنقول :

لما مات موسى عليه السلام ، خلف من بعده في بني إسرائيل يوشع يقيم فيهم التوارة ، ثم قبض فخلف حزقيل ، ثم قبض ففشت فهم الأحداث ، حتى عبدوا الأوثان فبعث إليهم إلياس ، ثم من بعده اليسع ، ثم قبض ، فعظمت فيهم الأحداث ، وظهر لهم عدوهم العمالقة قوم جالوت ، كانوا سكان ساحل بحر الروم ، بين مصر وفلسطين ، وظهروا عليهم وغلبوا على كثير من بلادهم ، وأسروا من أبناء ملوكهم كثيراً ، وضربوا عليهم الجزية ، وأخذوا توراتهم ، ولم يكن لهم من يدبر أمرهم ، وسألوا اللّه أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه ، وكان سبط النبوّة هلكوا إلاَّ امرأة حبلى دعت اللّه أن يرزقها غلاماً ، فرزقها شمويل ، فتعلم التوراة في بيت المقدس ، وكفله شيخ من علمائهم ؛ وتبناه فلما بلغ النبوّة ، أتاه جبريل وهو نائم إلى جنب الشيخ ، وكان لا يأمن عليه ، فدعاه بلحن الشيخ : يا شمويل ، فقام فزعاً ، وقال : يا أبتِ دعوتني ، فكره أن يقول له : لا ، فيفزع ، فقال : يا بني نم ، فجرى بذلك له مرتين ، فقال له : إن دعوتك الثالثة فلا تجبني ، فظهر له جبريل ، فقال له إذهب فبلغ قومك رسالة ربك ، قد بعثك نبياً فأتاهم فكذبوه ، وقالوا إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه آية من نبوتك وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك ، وكان الملك يسير بالجموع ، والنبي يسدّده ويرشده وقال وهب : بعث شمويل نبياً فلبثوا أربعين سنة بأحسن حال ، وكان اللّه أسقط عنهم الجهاد إلاَّ من قاتلهم ، فلما كتب عليهم القتال تولوا ، ثم كان من أمر جالوت والعمالقة ما كان .

ومعنى : ابعث لنا ملكاً : انهض لنا من نصدّر عنه في تدبير بالحرب ، وننتهي إبلى أمره ، وانجزم : نقاتل ، على جواب الأمر .

وقرأ الجمهور بالنونن والجزم ، والضحاك ، وابن أبي عبلة بالياء ورفع اللام على الصفة للملك ؛ وقرىء بالنون ورفع اللام على بالحال من المجرور وقرىء بالياء والجزم على جواب الأمر .

{قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَن لا تُقَاتِلُواْ } لما طلبوا من نبيهم أن ينهض لهم ملكاً ، ورتبوا على بعثه أن يقاتلوا وكانوا قد ذلوا ، وسبي ملوكهم ، فأخذتهم الأنفة ، ورغبوا في الجهاد ، أراد أن يسثبت ما طلبوه من الجهاد ، وأن يتعرف ما انطوت عليه

بواطنهم ، فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم ، فأنكروا أن يكون لهم داع إلى ترك القتال ، فقالوا : { وَمَا لَنَا أَن لا نُقَاتِلَ فِى سَبِيلِ اللّه وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا } أي هذه حال من يبادر إلى القتال ، لأنه طالب ثأر ، ومترج أن يكون له الظفر من اللّه تعالى ، لأنهم علموا أن ما أصابهم إنما كان بذنوبهم ، فلم أقلعوا وتابوا ، ورجعوا لطوع الأنبياء ، قويت آمالهم بالنصر والظفر ، قيل : وكان النبي قد ظنّ منهم الجبن والفشل في القتال ، فلذلك استفهم ، وليبين أن ما ظنه وتوقعه من ذلك يكون منهم ، وكان كما توقع .

وقرأ نافع : عسيتم ، بكسر السين هنا وفي سورة القتال ،

وقرأ الباقون بفتحها .

وقد تقدّم الكلام على : عسى ، قال أبو علي : الأكثر فتح السين ، وهو المشهور ، ووجه الكسر قول العرب : هو عس بذلك ، مثل : حروشج ، فإن أسند الفعل إلى ظاهر فقياس عسيتم ، أن يقال : عسي زيد ، مثل : رضي ، فإن قيل : فهو القياس وإن لم يقل فسائغ أن تأخذ باللغتين وتستعمل إحداهما في موضع الأخرى ، كما فعل ذلك بغيره . إنتهى . والمحفوظ عن العرب أنه لا تكسر السين إلاَّ مع تاء المتكلم والمخاطب ونون الإناث ، نحو : عسيتُ ، وعسينَ ، وذلك على سبيل الجواز لا الوجوب ، ويفتح فيما سوى ذلك على سبيل الوجوب ، ولا يسوغ الكسر نحو : عسى زيد والزيدان عسيا ، والزيدون عسوا ، والهندان عسيا ، وعساك ، وعاساني ، وعساه . وقاله أبو بكر الأدفوي وغيره : إن أهل الحجاز يكسرون السين من عسى مع المضمر خاصة ، وإذا قيل : عسى زيد فليس إلاَّ الفتح ، وينبغي أن يقيد المضمر بما ذكرناه . وقال أبو عبيد : لو كان عسيتم بكسر السين لقرىء : عسي ربكم وهذا جهل من أبي عبيد بهذه اللغة ، ودخول : هل ، على : عسيتم ، دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي ، والمشهور أن عسى إنشاء لأنه ترج ، فهي نظيرة لعل ، ولذلك لا يجوز أن يقع صلة للموصول ، لا يجوز أمن تقول : جاءني الذي عسى أن يحسن إليّ وقد خالف في هذه المسألة هشام فأجاز وصل الموصول بها ، ووقوعها خبراً لأن ، دليل على أنها فعل خبري ، وهو جائز . قال الراجز :

لا تلحني إنى عسيت صائماً

إلاَّ إن قيل : إن ذلك على إضمار القول ، كما قيل في قوله : إن الذين قتلتم أمس سيدهم

لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما

لأن : إن وأخواتها لا يجوز أن تقع خبراً لها من الجمل ، إلاَّ الجمل الخبرية ، وهي التي تحتمل الصدق والكذب ، هذا على الصحيح ، وفي ذلك خلاف ضعيف .

وجواب الشرط الذي هو : إن كتب عليكم القتال ، محذوف للدلالة عليه ، وتوسط الشرط بين أجزاء الدليل على حذفه ، كما توسط في قوله :{ وَإِنَّا إِن شَاء اللّه لَمُهْتَدُونَ } وخبر عسيتم : أن لا تقاتلوا ، هذا على المشهور أنها تدخل على المبتدأ والخبر ، فيكون : أن ، زيدت في الخبر ، إذ : عسى للتراخي ، ومن ذهب إلى أن : عسى ، يتعدّى إلى مفعول ، جعل : أن لا تقاتلوا ، هو المفعول ، و : أن ، مصدرية ، والواو في : ومالنا ، لربط هذا الكلام بما قبله ، ولو حذف لجاز أن يكون منقطعاً عنه ، وهو استفهام في اللفظ ، وانكار في المعنى ، و : أن لا نقاتل ، أي : في ترك القتال ، حذف الجر المتعلق بما تعلق به : لنا ، الواقع خبراً لما الاستفهامية إذ هي مبتدأ ، و : أن لا نقاتل ، في موضع نصب ، أو : في موضع جر على الخلاف الذي بين سيبويه والخليل و : ذهب أو الحسن إلى أنَّ : أن ، زائدة ، وعملت النصب كما عمل باء الجر الزائد الجر ، والجملة

حال ، أي : ومالنا غير مقاتلين ، فيكون مثل قوله تعالى : { مَالِكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ }{ مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للّه وَقَاراً }{ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللّه } وكقول العرب : مالك قائماً ؟

وقال تعالى :{ فما لهم عن التذكرة معرضين } وذهب قوم منهم ابن جرير إلى حذف الواو من : أن لا نقاتل ، والتقدير : وما لنا ولأن لا نقاتل ؟ قال : كما تقول : إياك أن تتكلم ، بمعنى إياك وأن تتكلم ، وهذا ومذهب أبي الحسن ليسا بشيء ، لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل ، ولا نذهب إليهما إلاَّ لضرورة ، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف ،

وأما : اياك أن تتكلم ، فليس على حذف حرف العطف ، بل : إياك ، مضمن معنى إحذر . فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل : احذر التكلم ، وقد أخرجنا جملة حالية : أنكروا ترك القتال ، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم وأبنائهم ، والقائل هذا لم يخرج ، لكنه أخرج مثله ، فكان ذلك إخراجاً له ، ويمكن حمله على الظاهر ، لأن كثيراً منهم استُولي على بلادهم ، وأسر أبناؤهم ، فارتحلوا إلى غير بلادهم التي كان منشؤهم بها ، كما مر في قصتهم .

وقرأ عبيد بن عمير : وقد أخرجنا ، أي العدوّ ، والمعنى . في : وأبنائنا ، أي : من بين أبنائنا ،

وقيل : هو على القلب أي : وأخرج منا أبناؤنا ، ويحتمل أن يكون الفاعل : بأخرجنا ، على قراءة عبيد المذكور ضميراً يعود على اللّه ، أي : وقد أخرجنا اللّه بعصياننا وذنوبنا ، فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ، ويجمع بيننا وبين أبنائنا ، كما تقول : ما لي لا أطيع اللّه وقد عاقبني على مصعيته ؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني ، قال القشيري : أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذباً عن أموالهم ومنازلهم حيث { قالوا ما لنا ان لا نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } فلذلك لم يتم قصدهم ، لأنه لم يخلص لحق اللّه عزمهم ، ولو أنهم قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل اللّه ، لأنه قد أمرنا ، وأوجب علينا ، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا .

{فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مّنْهُمْ } هذا شأن المترف المنعم ، متى كان متلبساً بالنعمة قوي عزمه وأنف ، فإذا ابتلي بشيء من الخطوب .

وذل التولي : حقيقة هو عند المباشرة للحرب ، ومعناه هنا : صرف عزائمهم عن ما سألوه من القتال ، وانتصب : قليلاً ، على الاستثناء المتصل ، ولا يجوز أن يكون المستثنى منهما ، لو

قلت : ضربت القوم إلاَّ رجالاً ، لم يصح ، وصح هذا لاختصاصه بأنه في نفسه صفة لموصوف ، ولتقييده بقوله : منهم ، ولم يبين هنا عدة هذا القليل ، وبينته السنة ، صح أن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما سئل عن عدة من كان معه يوم بدر قال : { ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدّة قوم طالوت } ، وهؤلاء القليل ثبتوا على نياتهم السابقة ، واستمرت عزائمهم على قتال أعدائهم .

وقرأ أبيّ : تولوا إلا أن يكون قليل منهم ، وهو استثناء منقطع ، لأن الكون معنى من المعاني ، والمستثنى منهم جثث . وتقول العرب : قام القوم إلاَّ أن يكون زيد ، وزيداً ، بالرفع والنصب ، فالرفع على أن يكون تامة ، والنصب على أنها ناقصة ، واسمهما ضمير مستكن فيها يعود على البعض المفهوم مما قبله ، التقدير : إلاَّ أن يكون هو ، أي : بعضهم زيداً ، والمعنى قام القوم إلاَّ كون زيد في القائمين ، ويلزم من انتفاء كونه في القائمين أنه ليس قائماً ، فلا فرق من حيث المعنى بين قام القوم إلاَّ زيداً ، وبين قام القوم إلاَّ أن يكون زيدٌ أو زيداً .

{وَاللّه عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ } فيه وعيد وتهديد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤاله ورغبته ، وأن الإعراض عما أوجب اللّه على العبد ظلم ، إذا الظلم وضع الشيء في غير موضعه .

﴿ ٢٤٦