٢٥٥

اللّه لا إله . . . . .

{اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } هذه الآية تسمى آية الكرسي لذكره فيها ، وثبت في { صحيح مسلم} من حديث أبيّ أنها أعظم آية ، وفي { صحيح البخاري} من حديث أبي هريرة : أن قارئها إذا آوى إلى فراشه لن يزال عليه من اللّه حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، وورد أنها تعدل ثلث القرآن ، وورد أنا ما قرئت في دار إلاَّ اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين يوماً ، وورد أن من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه اللّه على نفسه وجاره وجار جاره ، والأبيات حوله ، وورد : أن سيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي ، وفضلت هذا التفضيل لما اشتملت عليه من توحيد اللّه وتعظيمه ، وذكر صفاته العلا ، ولا مذكور أعظم من اللّه ، فذكره أفضل من كل ذكر .

قال الزمخشري : وبهذا يعلم : أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند اللّه علم العدل والتوحيد ، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه ف :

إن العرانين تلقاها محسدة

انتهى كلامه . وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة ، سموا أنفسهم بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات : إن أنصر التوحيد والعدل في

كل مقام باذلاً جهدي

وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به ، وإن لم يكن مكانه .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض ، وأن منهم من كلمه ، وفسر بموسى عليه السلام ، وأنه رفع بعضهم درجات ، وفسر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، ونص على عيسى عليه السلام ، وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعاً في أديانهم وعقائدهم ، ونسبوا اللّه تعالى إلى ما لا يجوز عليه ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث إلى الناس كافة ، فكان منهم العرب ، وكانوا قد اتخذوا من دون اللّه آلهة وأشركوا ، فصار جميع الناس المبعوث إليهم صلى اللّه عليه وسلم على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم ، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون ، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه ، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد اللّه بالوحدانية ، والمتضمنة صفاته العلا من : الحياة ، والاستبداد بالملك ، واستحالة كونه محلاً للحوادث ، وملكه لما في السموات والأرض ، وامتناع الشفاعة عنده إلاَّ باذنه ، وسعة علمه ، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلاَّ بارادته ، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع ، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة ، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد ، وعلى طرح ما سواها .

وتقدّم الكلام على لفظة : اللّه ، وعلى قوله : لا إله إلا هو ، فأغنى عن

إعادته .

الحي : وصف وفعله حي ، قيل : وأصله : حيو ، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، وأدغمت في الياء ،

وقيل : أصله فيعل ، فخفف كميت في ميت ، ولين في لين ، وهو وصف لمن قامت به الحياة ، وهو بالنسبة إلى اللّه تعالى من صفات الذات حي بحياة لم تزل ولا تزول ، وفسر هنا بالباقي ، قالوا : كما في قول لبيد : فاما تريني اليوم أصبحت سالما

فلست بأحيا من كلاب وجعفر

أي : فلست بأبقى ،

وحكى الطبري عن قوم أنه ، يقال : حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، وحكي أيضاً عن قوم : أنه حي لا بحياة ، وهو قول المعتزلة ، ولذلك

قال الزمخشري . الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه ، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر . انتهى كلامه ، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه ، والكلام على وصف اللّه بالحياة مذكور في كتب أصول الدين .

وقرأ الجمهور : القيوم ، على وزن فيعول ، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء

وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر ، وعلقمة ، والنخعي والأعمش : القيام

وقرأ علقمة أيضاً : القيم ، كما تقول : ديور وديّار وقال أمية : لم تخلقِ السماءُ والنجوم

والشمس معها قمر يعوم

قدرها المهيمن القيُّوم

والحشر والجنة والنعيم

إلاَّ لأمر شأنه عظيم

ومعناه : أنه قائم على كل شيء بما يجب له ، بهذا فسره مجاهد ، والربيع ، والضحاك . وقال ابن جبير : الدائم الوجود

وقال ابن عباس : الذي لا يزول ولا يحول ، وقال قتادة : القائم بتدبير خلقه . وقال الحسن : القائم على كل نفس بما كسبت .

وقيل : العالم بالأمور ، من قولهم : فلان يقوم بهذا الكتاب أي : يعلم ما فيه .

وقيل : هو مأخوذ من الاستقامة وقال أبو روق : الذي لا يبلى

وقال الزمخشري : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه . وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضاً .

وقالوا : فيعول ، من صيغ المبالغة ، وجوّزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو : اللّه ، أو على أنه خبر بعد خبر ، أو على أنه بدل من : هو ، أو من : اللّه تعالى ، أو : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ، أو : على أنه مبتدأ والخبر : لا تأخذه ، وأجودها الوصف ، ويدل عليه قراءة من قرأ : الحيَّ القيومَ بالنصب ، فقطع على إضمار : أمدح ، فلو لم يكن وصفاً ما جاز فيه القطع ، ولا يقال : في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر ، لأن ذلك جائز حسن ، تقول : زيد قائم العاقل .

{لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } يقال : وسن سنة ووسناً ، والمعنى : أنه تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل ، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها ، فأطلق اسم السبب على المسبب قال ابن جرير : معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات ، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ،

وهذا هو مفهوم الخطاب ، كما

قال تعالى : { وَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ }

وقيل : نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة ، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب والاستراحة .

وقيل : المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه ، وفي المثل : النوم سلطان

قال الزمخشري : وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز علمه ذلك استحال أن يكون قيوماً . ومنه حديث موسى أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية : أينام ربُّنا ؟ فأوحى اللّه إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا تتركوه ينام . ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوؤتين ، فأخذهما ، وألقى اللّه عليه ، النعاس ، فضرب إحداهما عن الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزلتا . انتهى . هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر ، وفيه أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك يعني السؤال من قومه ، كطلب الرؤية ، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل ، كما استحال النوم في حقه تعالى ، وهذا من عادته في نصرة مذهبه ، يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة .

وأورد غيره هذا الخبر عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر ، قال وقع في نفس موسى : هل ينام اللّه ؟ وساق الخبر قريباً من معنى ما ذكره الزمخشري .

قال بعض معاصرينا : هذا حديث وضعه الحشوية ، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه ، لأن المؤمن لا يشك في أن اللّه ينام أو لا ينام ، فكيف الرسل ؟ انتهى كلامه .

وفائدة تكرار : لا ، في قوله : ولا نوم ، انتفاؤهما على كل حال ، إذ لو أسقطت ، لا : لااحتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع ، تقول : ما قام زيد وعمرو ، بل أحدهما ، ولا يقال : ما قام زيد ولا عمرو ، بل أحدهما .

وتقدّم قول من جعل هذه الجملة خبراً لقوله : الحي ، على أن يكون : الحي ، مبتدأ ، ويجوز أن يكون خبراً عن اللّه ، فيكون قد أخبره بعده إخباراً ، على مذهب من يجيز ذلك ، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم ، أي : قيوم بأمر الخلق غير غافل .

{لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ } يصح أن يكون خبراً بعد خبر ، ويصح أن يكون استئناف خبر ، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها . و : ما ، للعموم تشمل كل موجود ، و : اللام ، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى ، وكرر : ما ، للتوكيد . وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف ، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير اللّه تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، لأن ما عبد من دون اللّه من الأجرام النيرة التي في السموات : كالشمس ، والقمر ، والشعرى ؛ والأشخاص الأرضية : كالأصنام ، وبعض بني آدم ، كل منهم ملك للّه تعالى ، مربوب مخلوق .

وتقدّم أنه تعالى خالق السموات والأرض ، فلم يذكرهما كونه مالكاً لهما استغناء بما تقدّم .

{مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند اللّه ، وكانوا يقولون : إنما نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى . وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت اللّه ، وعظم كبريائه ، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلاَّ باذن منه تعالى ، كما

قال تعالى :{ لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ } ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى ، والإذن هنا معناه الأمر ، كما ورد : إشفع تشفع ، أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر .

و : من ، رفع على الابتداء ، وهو استفهام في معنى النفي ، ولذلك دخلت : إلاَّ ، في قوله : إلا بإذنه ، وخبر المبتدأ قالوا : ذا ، ويكون الذي نعتاً لذا ، أو بدلاً منه ، وعلى هذا الذي قالوا يكون : ذا ، اسم إشارة ، وفي ذلك بعد ، لأن : ذا ، إذا كان اسم إشارة وكان خبراً عن : من ، استقلت بهما الجملة ، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها .

والذي يظهر أن : من ، الإستفهامية ركب معها : ذا ، وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن : ذا ، لغو ، فيكون : من ذا ، كله في موضع رفع بالابتداء ، والموصول بعدهما هو الخبر ، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية ، و : عنده ، معمول : ليشفع ،

وقيل : يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يشفع ، فيكون التقدير : يشفع مستقراً عنده ، وضعف بأن المعنى

على يشفع إليه .

وقيل : الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه ، فشفاعة غيره أبعد ، و : بإذنه ، متعلق : بيشفع ، والباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بالحال ، أي : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له .

{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } الضمير يعود على : ما وهم الخلق ، وغلب من يعقل ،

وقيل : الضميران في : أيديهم وخلفهم ، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله :{ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ } قاله ابن عطية ، وججّوز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه : من ذا ، من الملائكة والأنبياء .

وقيل : على الملائكة ، قاله مقاتل ، و : ما بين أيديهم ، أمر الآخرة ، و : ما خلفهم ، أمر الدنيا . قاله ابن عباس ، وقتادة ، أو العكس قاله مجاهد ، وابن جريح ، والحكم بن عتبة ، والسدّي وأشياخه .

و : ما بين أيديهم ، هو ما قبل خلقهم ، و : ما خلفهم ، هو ما بعد خلقهم ، أو : ما بين أيديهم ، ما أظهروه ، و : ما خلفهم ، ما كتموه . قاله الماوردي ، أو : ما بين أيديهم ، من السماء إلى الأرض ، و : ما خلفهم ، ما في السموات . أو : ما بين أيديهم ، الحاضر من أفعالهم وأحوالهم ، و : ما خلفهم ، ما سيكون . أو : عكسه ، ذكر هذين القولين تاج القرّاء في تفسيره .

أو : ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا أو بالعكس قاله مجاهد . أو ما فعلوه وما هم فاعلوه ، قاله مقاتل .

والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به ، كما تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، وأنت تعني بذلك جميع جسده ، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات ، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين . كما ذهبوا إليه .

{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ } الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته ، والاشتمال عليه ، والعلم هنا المعلوم لأن علم اللّه الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، كما جاء في حديث موسى والخضر : ما نقص علمي وعلمك من علمه إلاَّ كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات ، وقالوا : اللّهم اغفر علمك فينا ، أي معلومك ، والمعنى : لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم اللّه شيئاً إلاَّ ما شاء أن يُعلمهم ، قاله الكلبي . وقال الزجاج : إبلا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتاً لنبوتّهم .

و : بشيء وبما شاء ، متعلقان : بيحيطون ، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل ، نحو قولك : لا أمر بأحد إلاَّ بزيد ، والأولى أن تقدر مفعول شاء أن يحيطوا به ، لدلالة قوله : ولا يحيطون على ذلك .

{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } قرأ الجمهور وسع بكسر السين ، وقرىء شاذا بسكونها ، وقرىء أيضاً شاذا وسع بسكونها وضم العين ، والسموات والأرض بالرفع مبتدأ ، وخبراً ، والكرسي : جسم عظيم يسع السموات والأرض ، فقيل : هو نفس العرش ، قاله الحسن . وقال غيره : دون العرش وفوق السماء السابعة ،

وقيل : تحت الأرض كالعرش فوق السماء ، عن السدّي

وقيل : الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم ، أو : ملك آخر عظيم القدر .

وقيل : السلطان والقدرة ، والعرب تسمى أصل كل شيء الكرسي ، وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز . قال الشاعر : قد علم القدّوس مولى القدس

أن أبا العباس أولى نفس

في معدن الملك القديم الكرسي

وقيل : الكرسي العلم . لأن موضع العالم هو الكرسي ، سميت صفة الشيء باسم مكانه على سبيل المحاز ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، ومنه الكراسة ، وقال الشاعر : تحف بهم بيض الوجوه وعصبة

كراسي بالأحداث حين تنوب

أي : ترجع ،

وقيل : الكرسي السر قال الشاعر : مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه

ولا بكرسيّ علم اللّه مخلوق

وقيل : الكرسي : ملك من الملائكة يملأ السموات والأرض ،

وقيل : قدرة اللّه ،

وقيل : تدبير اللّه ، حكاهما الماوردي ، وقال : هو الأصل المعتمد عليه . قال المغربي : من تكرس الشيء تراكب بعضه على بعض ، وأكرسته أنا ، قال العجاج : يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا

قال نعم أعرفه وأكرسا

وقال آخر : نحن الكراسي لا تعدهوازن

أمثالنا في النائبات ولا الأشد

وقال الزمخشري :

وفي قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } أربعة أوجه :

أحدها : أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلاَّ تصوير لعظمته وتخييل فقط ، ولا كرسي ثم ، ولا قعود ، ولا قاعد ، لقوله :{ وَمَا قَدَرُواْ اللّه حَقَّ قَدْرِهِ وَالاْرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } من غير تصور قبضه وطىّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه ، وتمثيل حسيّ . ألا ترى إلى قوله :{ وَمَا قَدَرُواْ اللّه حَقَّ قَدْرِهِ } ؟ انتهى ما ذكره في هذا الوجه .

واختار القفال معناه قال : المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة اللّه تعالى وكبريائه وتعزيزه ، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم .

وقيل : كرسي لؤلؤ ، طول القائمة سبعمائة سنة ، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون . ذكره ابن عساكر في تاريخه ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قاله .

قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه ، وقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { ما السموات السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس} . وقال أبو ذرّ : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض} . وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات اللّه . إنتهى كلامه .

{وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قرأ الجمهور : يؤوده بالهمز ، وقرىء شاذاً بالحذف ، كما حذفت همزة أناس ، وقرىء أيضاً : يووده ، بواو منضمومة على البدل من الهمزة أي : لا يشقه ، ولا يثقل عليه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم . وقال ابان بن تغلب : لا يتعاظمه حفظهما ،

وقيل : لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين ، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات .

والهاء

تعود على اللّه تعالى ،

وقيل : تعود على يالكرسي ، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف ، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي .

{وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ } عليّ في جلاله ، عظيم في سلطانه .

وقال ابن عباس : الذي كمل في عظمته ،

وقيل : العظيم المعظّم ، كما يقال : العتيق في المعتق ، قال الأعشى : وكأنّ الخمر العتيق من الاس

فنط ممزوجة بماء زلال

وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ ، فلا يجوز هذا القول .

وقيل : والجواب أنها صفة فعل : كالخلق والرزق ، فلا يلزم ما قالوه .

وقيل : العلى الرفيع فوق خلقه ، المتعالي عن الأشباه والأنداد ،

وقيل : العالي من : علا يعلو : ارتفع ، أي : العالي على خلقه بقدرته ، والعظيم ذو العظمة الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه . قال الماوردي : وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان :

أحدهما : ان العالي هو الموجود في محل العلو ، والعلي هو مستحق للعلو .

الثاني : أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك ، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف اللّه بالعليّ لا بالعالي ، وعلى الأول يجوز أن يوصف بهما ،

وقيل : العلي : القاهر الغالب للأشياء ، تقول العرب : علا فلان فلاناً غلبه وقهره . قال الشاعر : فلما علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاْرْضِ }

وقال الزمخشري : العلي الشأن العظيم الملك والقدرة . إنتهى . وقال قوم : العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه .

قال ابن عطية : وهذا قول جهلة مجسمين ، وكان الوجه أن لا يحكى . وقال أيضاً : العلي يراد به علو القدر والمنزلة ، لا علو المكان ، لأن اللّه منزه عن التحيز . إنتهى .

قال الزمخشري :{ فَانٍ قُلْتَ } كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف ؟

{قُلْتَ } ما منها جملة إلاَّ وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه ، والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عطف لكان كما تقول اعرب : بين العصا ومحائها ، ف

الأولى : بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه ؛ والثانية : لكونه مالكاً لما يدبره . والثالثة : لكبرياء شأنه ، والرابعة : لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى . والخامسة : لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو : يجلاله وعظيم قدره . إنتهى كلامه .

وتضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات ، منها : الوحدانية ، بقوله : لا إله إلا هو ، والحياة ، الدالة على البقاء بقوله : الحي ، و : القدرة ، بقول ه : القيوم ، واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز ، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى من الغفلة والآفات ، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك ، واستطرد من القيومية الدالة على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السموات والأرض ، إذ الملك آثار القدرة ، إذ للمالك التصرف في المملوك . و : الارادة ، بقوله :{ مَن ذَا الَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } فهذا دال على الإختيار والإرادة ، و : العلم بقوله :{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ثم سلب عنهم العلم إلاَّ إن أعلمهم هو تعالى ، فلما تكملت صفات الذات العلا ، واندرج معها شيء من صفات الفعل وانتفى عنه تعالى أن يكون محلاً للحوادث ، ختم ذلك بكونه : العلي القدر العظيم الشأن .

﴿ ٢٥٥