٢٧١

إن تبدوا الصدقات . . . . .

{إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ } أي : إن تظهروا إعطاء الصدقات . قال الكلبي : لما نزلت :{ وَمَا أَنفَقْتُم مّن نَّفَقَةٍ } الآية قالوا : يا رسول االلّه أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية ؟ فنزلت :{ إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ } وقال يزيد بن أبي حبيب : نزلت في الصدقه على اليهود والنصارى ، وكان يأمر بقسم الزكاة في السر ، والصدقات ظاهر العموم ، فيشمل المفروضة والمتطوّع بها .

وقيل الألف واللام للعهد ، فتصرف إلى المفروضة ، فإن الزكاة نسخت كل الصدقات ، وبه قال الحسن ، وقتادة ، ويزيد بن أبي حبيب .

وقيل : المراد هنا صدقات التطوّع دون الفرض ، وعليه جمهور المفسرين ، وقاله سفيان الثوري .

وقد اختلفوا : هل الأفضل إظهار المفروضة أم إخفاؤها ؟ فذهب ابن عباس وآخرون إلى أن إظهارها أفضل من إخفائها .

وحكى الطبري الإجماع عليه واختاره ، القاضي أبو يعلى ، وقال أيضاً ابن عباس : إخفاء صدقة التطوّع أفضل من إظهارها ، وروي عنه : صدقات السر في التطوّع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً ، وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً .

قال القرطبي : ومثل هذا لا يقال بالرأي ، وانما هو توقيف ، وقال قتادة : كلاهما إخفاؤه أفضل . وقال الزجاج : كان إخفاء الزكاة على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أحسن ، فأما اليوم فالناس مسيئون الظن فاظهارها أفضل . وقال ابن العربي : ليس في تفضيل صدقة السرّ على العلانية ، ولا صدقة العلانية على صدقة السر ، حديث صحيح / .

{فَنِعِمَّا هِىَ } الفاء جواب الشرط ، و : نعم ، فعل لا يتصرف ، فاحتيج في الجواب إلى الفاء والفاعل بنعم مضمر مفسر بنكرة لا تكون مفردة في الوجود نحو : شمس وقمر . و : لا ، متوغلة في الإبهام نحو غير . ولا أفعل التفضيل نحو أفضل منك ، وذلك نحو : نعم رجلاً كزيد ، والمضمر مفرد واإن كان تمييزه مثنى أو مجموعاً ، وقد أعربوا : ما ، هنا تمييزاً لذلك المضمر الذي في نعم ، وقدروه بشيئاً : فما ، نكرة تامة ليست موصوفة ولا موصولة ، وقد تقدّم الكلام على : ما ، اللاحقة لهذين الفعلين ، أعنى : نعم وبئس ، عند قوله تعالى :{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ } وقد ذكرنا مذاهب الناس فيها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا ، وهي : ضمير عائد على الصدقات ، وهو على حذف مضاف أي : فنعما ، ابداؤها ، ويجوز أن لا يكون على حذف مضاف ، بل يعود على الصدقات بقيد وصف الإبداء ، والتقدير في : فنعما هي ، فنعما الصدقات المبدأة وهي مبتدأ على أحسن الوجوه ، وجملة المدح خبر عنه ، والرابط هو العموم الذي في المضمر المستكن في : نعم .

وقرأ ابن كثير ، وورش ، وحفص : فنعما ، بكسر النون والعين هنا وفي النساء ، ووجه هذه القراءة أنه على لغة من يحرك العين ، فيقول : نعم ، ويتبع حركة النون بحركة العين ، وتحريك العين هو الأصل ، وهي لغة هذيل ، ولا يكون ذلك على لغة من أسكن العين ، لأنه يصير مثل : جسم مالك ، وهو لا يجوز إدغامه على ما ذكروا .

وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي : فنعما ، فيهما بفتح النون وكسر العين . وهو الأصل ، لأن وزنه على فعل . وقال قوم : يحتمل قراءة كسر العين أن يكون على لغة من أسكن ، فلما دخلت ما وأدغمت حركت العين لالتقاء الساكنين .

وقرأ أبو عمرو ، وقالون ، وأبو بكر : بكسر النون وإخفاء حركة العين ، وقد روي عنهم الإسكان ، والأول أقيس وأشهر ، ووجه الإخفاء طلب الخفة ،

وأما الإسكان فاختاره أبو عبيد ، وقال : الإسكان ، فيما يروي ، لغة النبي صلى اللّه عليه وسلم في هذا اللفظ ، قال لعمرو ابن العاص :  { نعما المال الصالح للرجل الصالح} . وانكر الإسكان أبو العباس ، وأبو إسحاق ، وأبو علي لأن فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدّه .

وقال أبو العباس لا يقدر أحد أن ينطق به ، وإنما يروم الجمع بين ساكنين ويحرك ولا يأتيه . وقال أبو إسحاق : لم تضبط الرواة اللفظ في الحديث ، وقال أبو علي : لعل أبا عمرو أخفى ، فظنه السامع إسكاناً وقد أتى عن أكثر القراء ما أنكر ، فمن ذلك الإسكان في هذا الموضع ، وفي بعض تاءات البزي ، وفي : اسطاعوا وفي : يخصمون . إنتهى ما لخص من كلامهم .

وإنكار هؤلاء فيه نظر ، لأن أئمة القراءة لم يقرؤوا إلاَّ بنقل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ومتى تطرق إليهم الغلط فيما نقلوه من مثل هذا ، تطرق إليهم فيما سواه ، والذي نختاره ونقوله : إن نقل القراءات السبع متواتر لا يمكن وقوع الغلط فيه .

{وَإِن تُخْفُوهَا } الضمير المنصوب في : تخفوها ، عائد على الصدقات ، لفظاً ومعنى ، بأي تفسير فسرت الصدقات ،

وقيل : الصدقات المبداة هي الفريضة ، والمخفاة هي التطوّع ، فيكون الضمير قد عاد على الصدقات لفظاً لا معنى ، فيصير نظير : عندي درهم ونصفه ، أي : نصف درهم آخر ، كذلك : وان تخفوها ، تقديره : وان تخفوا الصدقات غير الأولى ، وهي صدقة التطوّع ، وهذا خلاف الظاهر ، والأكثر في لسان العرب ، وإنما احتجنا في : عندى درِهم ونصفه ، إلى أن نقول : إن الضمير عائد على الدرهم لفظاً لا معنى لأضطرار المعنى إلى ذلك ، لأن قائل ذلك لا يريد أن عنده درهماً ونصف هذا الدرهم الذي عنده . وكذل قول الشاعر : كأن ثياب راكبه بريح

خريق وهي ساكنة الهبوب

يريد : ريحاً أخرى ساكنة الهبوب .

{أَنتُمُ الْفُقَرَاء } فيه تنبيه على تطلب مصارفها وتحقق ذلك وهم الفقراء .

{فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } الفاء جواب الشرط ، وهو ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله :{ وَإِن تُخْفُوهَا } التقدير : فالإخفاء خير لكم ، ويحتمل أن يكون : خير ، هنا أريد به خير من الخيور ، و : لكم ، في موضع الصفة ، فيتعلق بمحذوف .

والظاهر انه أفعل التفضيل ، والمفضل عليه محذوف لدلالة المعنى عليه وهو الإبداء ، والتقدير : فهو خير لكم من إبدائها .

وظاهر الآية : أن إخفاء الصدقات على الإطلاق أفضل ، سواء كانت فرضاً أو نقلاً ، وإنما كان ذلك أفضل لبعد المتصدّق فيها عن الرياء والمنّ والأذى ، ولو لم يعلم الفقير بنفسه ، وأخفى عنه الصدقة أن يعرف ، كان أحسن وأجمل بخلوص النية في ذلك .

قال بعض الحكماء : إذا اصطنعت المعروف فاستره ، وإذا اصطنع إليك فانشره . وقال العباس بن عبد المطلب : لا يتم المعروف إلاَّ بثلاث خصال : تعجيله ، وتصغيره في نفسك ، وستره . فإذا عجلته هنيته ، وإذا صغرته عظمته ، وإذا استرته أتممته . وقال سهل بن هارون : يخفي صنائِعَه واللّه يظهرها

إن الجميل اذا أخفيته ظهرا

وفي الإبداء والإخفاء طباق لفظي ،

وفي قوله : وتؤتوها الفقراء طباق معنوى ، لأنه لا يؤتى الصدقات إلاَّ الأغنياء ، فكأنه قيل : إن يبد الصدقاتِ الأغنياءُ وفي هذه الآية دلالة على أن الصدقة حق للفقير ، وفيها دلالة على أنه يجوز لرب المال أن يفرق الصدق بنفسه .

{وَيُكَفّرُ عَنكُم مّن } قرأ بالواو الجمهور في : ويكفر ، وباسقاطها وبالياء والتاء والنون ، وبكسر الفاء وفتحها ، وبرفع الراء وجزمها ونصبها ، فاسقاط الواو رواه أبو حاتم عن الأعمش ، ونقل عنه أنه قرأ بالياء وجزم الراء ، ووجه أن بدل على الموضع من قوله : فهو خير لكم لأنه في جزم ، وكأن المعنى : يكن لكم الإخفاء خيراً من الإبداء ، أو على إضمار حرف العطف : أي ويكفر .

وقرأ ابن عامر بالياء ورفع الراء .

وقرأ الحسن بالياء وجزم الراء ، وروي عن الأعمش بالياء ونصب الراء .

وقرأ ابن عباس بالتاء وجزم الراء ،

وكذلك قرأ عكرمة إلاَّ أنه فتح الفاء وبنى الفعل للمفعول الذي لم يسم فاعله .

وقرأ ابن هرمز ، فيما حكى عنه المهدوي بالتاء ورفع الراء ، وحكي عن عكرمة ، وشهر بن حوشب : بالتاء ونصب الراء .

وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالنون ورفع الراء .

وقرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي : بالنون والجزم ، وروي الخفض عن الأعمش بالنون ونصب الراء فيمن قرأ بالياء .

فالأظهر أن الفعل مسند إلى اللّه تعالى ، كقراءة من قرأ : ونكفر ، بالنون فإنه ضمير للّه تعالى بلا شك ،

وقيل : يعود على الصرف ، أي صرف الصدقات ، ويحتمل أن يعول على الإخفاء أي : ويكفر إخفاء الصدقات ونسب التكفير إليه على سبيل المجاز لأنه سبب التكفير ، ومن قرأ بالتاء فالضمير في الفعل للصدقات ، ومن رفع الراء فيحتمل أن يكون الفعل خبر مبتدأ محذوف ، أي : ونحن نكفر ، أي : وهو يكفر ، أي : اللّه . أو الإخفاء أي : وهي تكفر أي : الصدقة .

ويحتمل أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب ، وتكون الواو عطفت جملة كلام على جملة كلام ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على محل ما بعد الفاء ، إذ لو وقع مضارع بعدها لكان مرفوعاً ، كقوله : { سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللّه مِنْهُ } ومن جزم الراء فعلى مراعاة الجملة التي وقعت جزاء ، إذ هي في موضع جزم ، كقوله :{ وَمَن يُضْلِلِ اللّه فَلاَ هَادِيَ}

ونذرهم ، في قراءة من جزم ، ونذرهم ، ومن نصب الراء فبإضمار : أن ، وهو عطف على مصدر متوهم ، ونظيره قراءة من قرأ { يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّه فَيَغْفِرُ } بنصب الراء ، إلاَّ أنه هنا يعسر تقدير ذلك المصدر المتوهم من قوله : فهو خير لكم ، فيحتاج إلى تكلف بخلاف قوله : يحاسبكم ، فإنه يقدر تقع محاسبة فغفران .

وقال الزمخشري : ومعناه : وإن تخفوها يكن خيراً لكم ، وأن نكفر عنكم . إنتهى .

وظاهر كلامه هذا أن تقديره ؛ وأن نكفر ، يكون مقدّراً بمصدر ، ويكون معطوفاً على : خيراً ، خبر يكن التي قدرها كأنه قال : يكن الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً ، فيكون : أن يكفر في موضع نصب .

والذي تقرر عند البصريين أن هذا المصدر المنسبك من أن المضمرة مع الفعل المنصوب بها هو مرفوع معطوف على مصدر متوهم مرفوع ، تقديره من المعنى ، فإذا

قلت : ما تأتينا فتحدّثنا ، فالتقدير : ما يكون منك إتيان فحديث ، وكذلك إن تجيء وتحسن إلى أحسن إليك ، التقدير إن يكن منك مجيء وإحسان أحسن إليك . وكذلك ما جاء بعد جواب الشرط . كالتقدير الذي قدّرناه في : يحاسبكم به اللّه ، في قراءة من نصب ، فيغفر ، فعلى هذا يكون التقدير : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء يكن زيادة خير للإخفاء على خير للإبداء وتكفير .

وقال المهدوي : في نصب الراء : هو مشبه بالنصب في جواب الإستفام ، إذ الجزاء يجب به الشيء لوجوب غيره كالاستفهام .

و

قال ابن عطية : بالجزم في الراء أفصح هذه القراءات لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء ، وكونه مشروطاً إن وقع الإخفاء ،

وأما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى . إنتهى .

ونقول : إن الرفغ أبلغ وأعم ، لأن الجزم يكون على أنه معطوف على جواب الشرط الثاني ، والرفع بدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات ، أبديت أو أخفيت ، لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله ، ولايختص التكفير بالإخفاء فقط ، والجزم يخصصه به ، ولا يمكن أن يقال : إن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيئآته ، فقد صار التكفير شاملاً للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها ، وإن كان الإخفاء خيراً من الإبداء .

و : من ، في قوله : من سيئاتكم ، للتبغيض ، لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات .

وحكى الطبري عن فرقة قالت : من ، زائدة في هذا الموضع . قال ابن عطية وذلك منهم خطأ ، وقول من جعلها سببية وقدر : من أجل ذنوبكم ضعيف .

{وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ختم اللّه بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بما لطف من الاشياء وخفي ، فناسب الإخفاء ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي ، واللّه أعلم .

﴿ ٢٧١