سورة ءالَ عِمْرَانَ{بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ١انظر تسفير الآية:٢ ٢الم التوراة : اسم عبراني ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ، وأنها لا توزن ، يعنون اشتقاقاً عربياً . فأمّا اشتقاق : التوراة ، ففيه قولان : أحدهما : إنها من : ورى الزند يري ، إذا قدح وظهر منه النار ، فكأن التوراة ضياء من الظلال ، وهذا الاشتقاق قول الجمهور . وذهب أبو فيد مؤرج السدوسي إلى أنها مشتقة من : ورَّى ، كما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورى بغيره ، لأن أكثر التوراة تلويح وأما وزنها فذهب الخليل ، وسيبويه ، وسائر البصريين إلى أن وزنها : فوعلة ، والتاء بدل من الواو ، كما أبدلت في : تولج ، فالأصل فيها ووزنه : وولج ، لأنهما من ورى ، ومن ولج . فهي : كحوقلة ، وذهب الفراء إلى أن وزنها : تفعلة ، كتوصية . ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا . كما قالوا في : ناصية ، وجارية : ناصاه وجاراه . وقال الزجاج : كأنه يجيز في توصية توصاه ، وهذا غير مسموع وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها : تفعلة ، بفتح العين من : وريت بك زنادي ، وتجوز إمالة التوراة . وقد قرىء بذلك على ما سيأتي ان شاء اللّه تعالى . الإنجيل : اسم عبراني أيضاً ، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق ، وأنه لا يوزن ، وقد قالوا : وزنه فعيل . كإجفيل ، وهو مشتق من النجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض . قال الخليل : استنجلت الأرض نجالاً ، وبها نجال ، إذا خرج منها الماء . والنجل أيضاً : الولد والنسل ، قاله الخليل ، وغيره . ونجله أبوه أي : ولده . وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الولد يقال له : نجل ، وأن اللفظة من الأضداد ، والنجل أيضاً : الرمي بالشيء . وقال الزجاج : الإنجيل مأخوذ من النجل ، وهو الأصل ، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاجي . قال أبو الفتح : فهو من نجل إذا ظهر والده ، أو من ظهور الماء من الأرض ، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ، وإما من التوراة . وقيل : هو مشتق من التناجل ، وهو التنازع ، سمي بذلك لتنازع الناس فيه . وقال الزمخشري : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، وتكلف أشتقاقهما من الوري والنجل ، ووزنهما متفعلة وإفعيل : إنما يصحح بعد كونهما عربيين . إنتهى . وكلامه صحيح ، إلاَّ أن في كلامه إستدراكاً في قوله : متفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها : فوعلة ، ولم ينبه في : تفعلة ، على أنها مكسورة العين ، أو مفتوحتها . وقيل : هو مشتق من نجل العين ، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة . الإنتقام : افتعال من النقمة ، وهو السطوة والأنتصار . وقيل : هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك ، ويقال : نقم ونقم إذا أنكر ، وانتقم عاقب . صور : جعل له صورة . قيل : وهو بناء للمبالغة من صار يصور ، إذا أمال ، وثنى إلى حال ، ولما كان التصوير إمالة إبلى حال وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة . والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف . وقال المروزي : التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله . الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس { لاِوْلِى الاْبْصَارِ} وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال وما يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلاَّ فيما كان من حق إلى باطل . التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب . وقال غيره : التأويل المرد والمرجع . قال : أؤول الحكم على وجهه ليس قضاى بالهوى الجائر الرسوخ : الثبوت . قال : لقد رسخت في القلب منيّ مودة لليلى أبت أيامها أن تغيّرا الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعِل ، بكسر يالعين . ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلاَّ أن هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع . ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني اللّه فداك ، أي : جعلني اللّه فداك . وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل الماضي خاصة . لدن : ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون ، فمن بناها قيل : فلشبها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدي . فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ }{ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ } وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها . بخلاف : عند ، فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلاً على القرب . ومثله : ثم ، و : هنا . لأنهما بُنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة . من أعربها ، وهم قيس ، فتشبيهاً : بعند ، لكون موضعها صالحاً لعند ، وفيها تسع لغات غير الأولى : لَدُن ، ولُدْنُ ، ولَدْنٌ ، ولَدِنٌ ، ولَدُنِ ، ولَدٌ ولُدْ ، ولَدٌ ولَتْ . بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً ، وإلى الجملة قليلاً . فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر : صريع غوانٍ راقهن ورُقنَه لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ قوال الآخر : لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم فلا يك منكم للخلاف جنوحُ ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر : تذكر نعماه لدن أنت يافع إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال : وليت فلم يقطع لدن أن وليتناقرابة ذي قربى ولا حق مسلم وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو . الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع . الدأب : العادة . دأب على كذا : واظب عليه وأدمن . قال زهير : لأرتحلنْ بالفجر ثم لأدأبن إلى الليل إلاَّ أن يعرجني طفل الذنب : التلو ، لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب . {بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } هذه السورة ، سورة آل عمران ، وتسمى : الزهراء ، والأمان ، والكنز ، والمعينة ، والمجادلة ، وسورة الاستغفارد وطيبة . وهي : مدنية الآيات ، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور : أنه وفد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نصاري نجران ، وكانوا ستين راكباً ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم ، أميرهم : العاقب عبد المسيح ، وصاحب رحلهم : السيد الأيهم ، وعالمهم : أبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائد . وذكر من جلالتهم ، وحسن شارتهم وهيئتهم . وأقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عيسى ، ويزعمون تارة أنه اللّه ، وتارة ولد الإله ، وتارة : ثالث ثلاثة . ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى ، وانتفاءها عن عيسى ، وهم يوافقونه على ذلك ، ثم أبوا إلاَّ جحوداً ، ثم قالوا : يا محمد ألست تزعم أنه كلمة اللّه وروح منه ؟ قال : { بلى} . قالوا : فحسبنا . فأنزل اللّه فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها ، إلى أن دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إبلى الإبتهال . وقال مقاتل : نزلت في اليهود المبغضين لعيسى ، القاذفين لأمّه ، المنكرين لما أنزل اللّه عليه من الإنجيل . ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة لأنه ، لما ذكر آخر البقرة { أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } ناسب أن يذكر نصرة اللّه تعالى على الكافرين ، حيث ناظرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وردّ عليهم بالبراهين الساطعة ، والحجج القاطعة ، فقص تعالى أحوالهم ، وردّ عليهم في اعتقادهم ، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون ، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردّ عليهم ، ولما كان متفتح آية آخر البقرة { الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } فكأن في ذلك الإيمان باللّه وبالكتب ، ناسب ذكر أوصاف اللّه تعالى ، وذكر ما أنزل على رسوله ، وذكر المنزل على غيره صلى اللّه عليهم . قرأ السبعة : ألم اللّه ، بفتح الميم ، وألف الوصل ساقطة . وروى أبو بكر في بعض طرقه ، عن عاصم : سكون الميم ، وقطع الألف . وذكرها الفراء عن عاصم ، ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وعمرو بن عبيد ، والرؤاسي ، والأعمش ، والبرجمي ، وابن القعقاع : وقفوا على الميم ، كما وقفوا على الألف واللام ، وحقها ذلك ، وأن يبدأ بعدها كما تقول : واحد اثنان . وقرأ أبو حيوة بكسر الميم ، ونسبها ابن عطية إلى الرؤاسي ، ونسبها الزمخشري إلى عمرو بن عبيد ، وقال : توهم التحريك لالتقاء الساكنين ، وما هي بمقبولة ، يعني : هذه القراءة . إنتهى . وقال غيره : ذلك رديء ، لأن الياء تمنع من ذلك ، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . إنتهى . وقال الأخفش : يجوز : ألم اللّه ، بكسر الميم لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله . واختلفوا في فتحة الميم : فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين ، كما حركوا : من اللّه ، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو : من الرجل ، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء ، كما قالوا : أين ؟ كيف ؟ ولزيادة الكسرة قبل الياء ، فزال الثقل . وذهب الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل ، لأن حروف الهجاء ينوي بها الوقف ، فينوي بما بعدها الاستئناف . فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو : لتسمعن وشياً في دياركم اللّه أكبر : يا ثارات عثماناً وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل . وما يسقط لا تلقى حركته ، قاله أبو علي . وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري ، وأورد أسئلة وأجاب عنها . فقال : فإن قلت : كيف جامز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها ؟ قلت : ليس هذا بدرج ، لأن ميم في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت . وإنما حذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ، ونظيره قولهم : واحد إثنان ، بالقاء حركة الهمزة على الدال . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وليس جوابه بشيء ، لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها . وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة ، سواء كانت حركته إعرابية ، أو بنائية ، أو نقلية ، أو لإلتقاء الساكنين ، أو للحكاية ، أو للاتباع . فلا يجوز في : قد أفلح ، إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال : قد ، أن تقف على دال : قد ، بالفتحة ، بل تسكنها قولاً واحداً . وأما قوله : ونظير ذلك قولهم : واحد اثنان بالقاء حركة الهمزة على الدال ، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ، ولم يحك الكسر لغة . فإن صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه ، كما زعم الزمخشري ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : إثنان ، فالتقى ساكنان ، دال ، واحد ، و : ثاء ، إثنين ، فكسرت الدال لإلتقائهما ، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل . وأما ما استدل به الفراء من قولهم : ثلاثة أربعة ، بإلقائهم الهمزة على بالهاء ، فلا دلالة فيه ، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها ، وليس كذلك همزة الوصل نحو : من اللّه ، وأيضاً ، فقولهم : ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة ، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا ، لا أنها موقوف عليها . ثم أورد الزمخشري سؤالاً ثانياً . فقال : فإن قلت : هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين ؟ . قلت : لأن إلتقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف ، وذلك كقولك : هذا إبراهيم ، وداود ، وإسحاق . ولو كان لإلتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لإلتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وهو سؤال صحيح ، وجواب صحيح ، لكن الذي قال : إن الحركة هي لإلتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف ، وإنما عنى إلتقاء الساكنين اللذين هما : ميم ميم الأخيرة . و : لام التعريف ، كالتقاء نون : من ، ولام : الرجل ، إذا قلت : من الرجل . ثم أورد الزمشخري سؤالاً ثالثاً ، فقال : فإن قلت : إنما لم يحركوا لإلتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف ، وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلاَّ التحريك فحركوا ؟ قلت : الدليل على أن الحركة ليست الملاقاة الساكن أنهم كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ومديق ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقائ الساكنين . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وفي سؤاله تعمية في قوله : فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ؟ ويعني بالساكنين : الياء والميم في ميم ، وحيئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، يعني الياء والميم ، ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ، يعني لام التعريف ، لم يمكن إلاَّ التحريك ، يعني في الميم ، فحركوا يعني : الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن . هذا شرح السؤال . وأما جواب الزمخشري عن سؤاله ، فلا يطابق ، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد اثنان ، بأن يسكنوا الدال ، والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة . فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ، وهذه مكابرة في المحسوس ، لا يمكن ذلك أصلاً ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء ، وطرح الهمزة . وأما قوله : فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع كما قلناه ، وأما قوله : كما قالوا : أصيم ومديق ، فهذا ممكن كما هو في : راد وضال ، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو ، فأمكن النطق به ، وليس مثل : واحد اثنان . لأن الساكن الأول ليس حرف علة ، ولا الثاء في مدغم ، فلا يمكن الجمع بينهما . وأما قوله : فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن ، وحركة ا التقاء الساكنين إنما هي لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ ، ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين ، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك ، فإن صح كسر الدال ، كما نقل هذا الرجل ، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا لنقل ، وقد ردّ قول الفراء ، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل : لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها ، لما في ذلك من الفساد والتدافع ، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها ، والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض . إنتهى . وهو ردّ صحيح . والذي تحرر في هذه الكلمات : أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلاً ووقفاً ، فلوا التقى آخر مسكن منها ، بساكن آخر ، حرك لالتقاء الساكنين . فهذه الحركة التي في ميم : ألم اللّه ، هي حركة التقاء الساكنين . والكلام على تفسير : { الم } ، تقدم في أول البقرة ، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة . والكلام على :{ اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } تقدم في آية { وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ اللّه } وفي أول آية الكرسي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { الم } إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ، أو نحو هذا . {اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } على ما ترك ذكره ، مما هو خبر عن الحروف ، قال : وذلك في نظمه مثل قوله :{ أَفَمَن شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ } ترك الجواب لدلالة قوله { فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللّه } عليه ، تقديره : كمن قسا قبله ومنه قول الشاعر : فلا تدفنوني ، إن دفني محرم عليكم ، ولكن خامري أم عامر أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها : خامري أم عامر . قال ابن عطية : يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله : اللّه ، حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني ، وفيه نظر ، لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الآبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون { اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } كلاماً مبتدأ جزماً ، جملة رادّة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحاجوه في عيسى بن مريم ، وقالوا : إنه اللّه . إنتهى كلامه . قال ابن كيسان : موضع : ألم ، نصب ، والتقدير : قرؤوا ألم ، و : عليكم ألم . ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى : هذا ألم ، و : ذلك ألم . وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : هذه الحروف كتابك . وقرأ عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن مسعود ، وعلقمة بن قيس : القيام . وقال خارجه في مصحف عبد اللّه : القيم ، وروي هذا أيضاً عن علقمة . {اللّه} رفع على الإبتداء ، وخبره :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } و { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون : نزل ، هو الخبر ، و : لا إله إلا هو ، جملة اعترض . وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } فأغنى عن إعادته هنا . وقال الرازي : مطلع هذه السورة عجيب ، لأنهم لما نازعوا كأنه قيل : إما أن تنازعوا في معرفة اللّه ، أو في النبوة ، فإن كان الأول فهو باطل ، لأن الأدلة العقلية دلت على أنه : حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد ، وإن كان في الثاني فهو باطل ، لأن الطريق الذي عرفتم أن اللّه تعالى أنزل التوراة والإنجيل ، هو يعينه قائم هنا ، وذلك هو المعجزة . ٣نزل عليك الكتاب . . . . . {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ } الكتاب هنا : القرآن ، باتفاق المفسرين ، وتكرر كثيراً ، والمراد القرآن ، فصار علماً . بالغلبة . وقرأ الجمهور : نزّل ، مشدداً و : الكتاب ، بالنصب ، وقرأ النخعي ، والأعمش ، وابن أبي عبلة : نزل ، مخففاً ، و : الكتابْ ، بالرفع ، وفي هذه القراءة تحتمل الآية وجهين : أحدهما : أن تكون منقطعة . والثاني : أن تكون متصلة بما قبلها ، أي : نزل الكتاب عليك من عنده ، وأتى هنا بذكر المنزل عليه ، وهو قوله : عليك ، ولم يأت بذكر المنزل عليه التوراة ، ولا المنزل عليه الإنجيل ، تخصيصاً له وتشريفاً بالذكر ، وجاء بذكر الخطاب لما في الخطاب من المؤانسة ، وأتى بلفظة : على ، لما فيها من الاستعلاء . كأن الكتاب تجللّه وتغشاه / صلى اللّه عليه وسلم. ومعنى : بالحق : بالعدل ، قاله ابن عباس ، وفيه وجهان : أحدهما : العدل فيما استحقه عليك من حمل أثقال النبوة . الثاني : بالعدل فيما اختصك به من شرف النبوة . وقيل : بالصدق فيما اختلف فيه ، قاله محمد بن جرير وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الأخبار عن القرون الخالية وقيل : بالصدق فيما تضمنه من الوعد بالثواب على الطاعة ، ومن الوعيد بالعقاب على المعصية . وقيل : معنى بالحق : بالحجج والبراهين القاطعة . والباء : تحتمل السببية أي : بسبب إثبات الحق ، وتحتمل الحال ، أي : محقاً نحو : خرج زيد بسلاحه ، أي متسلحاً . {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من كتب الأنبياء ، وتصديقه إياها أنها أخبرت بمجيئه ، ووقوع المخبر به يجعل المخبر صادقاً ، وهو يدل على صحة القرآن ، لأنه لو كان من عند غير اللّه لم يوافقها ، قاله أبو مسلم وقيل : المراد منه أنه لم يبعث نبياً قط ، إلاَّ بالدعاء إلى توحيده ، والإيمان ، وتنزيهه عما لا يليق به ، والأمر بالعدل والإحسان ، والشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان . فالقرآن مصدق لتلك الكتب في كل ذلك ، والقرآن ، وإن كان ناسخاً لشرائع أكثر الكتب ، فهي مبشرة بالقرآن وبالرسول ، ودالة على أن أحكامها تثبت إلى حين بعثة اللّه تعالى رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وأنها تصير منسوخة عند نزول القرآن . فقد وافقت القرآن ، وكان مصدقاً لها ، ن الدلائل الدالة على ثبوت الإلهية لا تختلف . وانتصاب : مصدقاً ، على الحال من الكتاب ، وهي حال مؤكدة ، وهي لازمة ، لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق لما بين يديه ، فهو كما قال أنا ابن دارة معروفاً به نسبي وهل بدارة يا للناس من عار ؟ وقيل : انتصاب : مصدقاً ، على أنه بدل من موضع : بالحق ، وقيل : حال من الضمير المجرور . و : لما ، متعلق بمصدقاً ، واللام لتقوية التعدية ، إذ : مصدقاً ، يتعدى بنفسه ، لأن فعله يتعدى بنفسه . والمعنى هنا بقوله { لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } المتقدم في الزمان . وأصل هذا أن يقال لما يتمكن الإنسان من التصرف فيه . كالشيء الذي يحتوي عليه ، ويقال : هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد . {وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ } فخم راء التوراة : ابن كثير ، وعاصم ، وابن عامر ، وأضجعها : أبو عمرو ، والكسائي . وقرأها بين اللفظين : حمزة ، ونافع وروي المسيبي عن نافع فتحها . وقرأ الحسن : والأنجيل ، بفتح الهمزة ، وهذا يدل على أنه أعجمي ، لأن أفعيلاً ليس من أبنية كلام العرب ، بخلاف إفعيل ، فإنه موجود في أبنيتهم : كإخريط ، وإصليت . ٤من قبل هدى . . . . . وتعلق : من قبل ، بقوله : وأنزل ، والمضاف إليه المحذوف هو الكتاب المذكور ، أي : من قبل الكتاب المنزل عليك وقيل : التقدير من قبلك ، فيكون المحذوف ضمير الرسول . وغاير بين نزل وأنزل ، وإن كانا بمعنى واحد ، إذ التضعيف للتعدية ، كما أن الهمزة للتعدية . وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل : نزل الكتاب ، وأنزل التوراة والإنجيل ؟ . قلت لأن القرآن نزل منجماً ، ونزل الكتابان جملة . انتهى . وقد تقدم الرد على هذا القول . وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير ، ولا التنجيم ، وقد جاء في القرآن : نزل وأنزل ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ } و { وَأَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } ويدل على أنهما بمعنى واحد قراءة من قرأ ما كان : ممن ينزل ، مشدداً بالتخفيف ، إلاَّ ما استثني ، فلو كان أحدهما يدل على التنجيم ، والآخر يدل على النزول دفعة واحدة ، لتناقض الإخبار . وهو محال . {هُدًى لّلنَّاسِ } قيل : هو قيد في الكتاب والتوراة والإنجيل . والظاهر أنه قيد في التوراة والإنجيل ، ولم يثن لأنه مصدر . وقيل : هو قيد في الإنجيل وحده ، وحذف من التوراة ، ودل عليه هذا القول الذي للإنجيل وقيل : تم الكلام عند قوله { مِن قَبْلُ } ثم استأنف فقال { هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } فيكون الهدى للفرقان فحسب ، ويكون على هذا الفرقان القرآن ، وهذا لا يجوز ، لأن هدى إذ ذاك يكون معمولاً لقوله : وأنزل الفرقان هدى ، وما بعد حرف العطف لا يتقدم عليه ، لو قلت : ضربت زيداً ، مجردةٍ و : ضربت هنداً ، تريد ، وضربت هنداً مجردة لم يجز ، وانتصابه على الحال . وقيل : هو مفعول من أجله ، والهدى : هو البيان ، فيحتمل أن يراد أن التوراة والإنجيل هدى بالفعل ، فيكون الناس هنا مخصوصاً ، إذا لم تقع الهداية لكل الناس ، ويحتمل أن يكون أراد أنهما هدىً في ذاتهما ، وأنهما داعيان للّهدى ، فيكون الناس عاماً ، أي : هما منصوبان وداعيان لمن اهتدى بهما ، ولا يلزم من ذلك وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس وقيل : الناس قوم موسى وعيسى وقيل : نحن متعبدون بشرائع من قبلنا ، فالناس عام . قال الكعبي : هذا يبطل قول من زعم أن القرآن عمى على الكافر ، وليس هدى له ، ويدل على أن معنى { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أنهم عند نزوله اختاروا العمى على وجه المجاز ، لقوله نوح ، { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلاَّ فِرَاراً } انتهى . قيل : وخص الهدى بالتوراة والإنجيل هنا ، وإن كان القرآن هدىً ، لأن المناظرة كانت مع النصارى وهم لا يهتدون بالقرآن ، بل وصف بأنه حق في نفسه ، قبلوه أو لم يقبلوه ، وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما ، فلذلك اختصا في الذكر بالهدى . قال ابن عطية : قال هنا للناس ، وقال في القرآن هدى للمتقين ، لأن هذا خبر مجرّد ، و : هدى للمتقين ، خبر مقترن به الاستدعاء ، والصرف إلى الإيمان ، فحسنت الصفة ليقع من السامع النشاط والبدار ، وذكر الهدى الذي هو إيجاد الهداية في القلب ، وهنا إنما ذكر الهدى الذي هو الدعاء ، أو الهدى الذي هو في نفسه معدٌّ أن يهتدي به الناس ، فسمي هدى بذلك . قال ابن فورك : التقدير هنا : هدى للناس المتقين ، ويرد هذا العام إلى ذلك الخاص ، وفي هذا نظر . انتهى كلام ابن عطية . وملخصه : أنه غاير بين مدلولي الهدى ، فحيث كان بالفعل ذكر المتقون ، وحيث كان بمعنى الدعاء ، أو بمعنى أنه هدى في ذاته ، ذكر العام . وأما الموضعان فكلاهما خبر لا فرق في الخبرية بين قوله { ذالِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } وبين قوله :{ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ} {وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } الفرقان : جنس الكتب السماوية ، لأنها كلها فرقان يفرق بين الحق والباطل ، من كتبه أو من هذه الكتب ، أو أراد الكتاب الرابع ، وهو الزبور . كما قال تعالى :{ وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً } أو الفرقان : القرآن ، وكرر ذكره بما هو نعت له ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل ، بعدما ذكره باسم الجنس تعظيماً لشأنه ، واظهاراً لفضله . واختار هذا القول الأخير ابن عطية . قال محمد بن جعفر : فرق بين الحق والباطل في أمر عيسى عليه السلام الذي جادل فيه الوفد . وقال قتادة ، والربيع ، وغيرهما : فرق بين الحق والباطل في أحكام الشرائع ، وفي الحلال والحرام ، ونحوه وقيل : الفرقان : كل أمر فرق بين الحق والباطل فيما قدم وحدث ، فدخل في هذا التأويل : طوفان نوح ، وفرق البحر لغرق فرعون ، ويوم بدر ، وسائر أفعال اللّه المفرقة بين الحق والباطل وقيل : الفرقان : النصر . وقال الرازي : المختار أن يكون المراد بالفرقان هنا المعجزات التي قرنها اللّه بالإنزال هذه الكتب ، لأنهم إذا ادعو أنها نازلة من عند اللّه افتقروا إلى ، تصحيح دعواهم بالمعجزات ، وكانت هي الفرقان ، لأنها تفرق بين دعوى الصادق والكاذب ، فلما ذكر أنه أنزلها ، أنزل معها ما هو الفرقان . وقال ابن جرير : أنزل بإنزال القرآن الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب وأهل الملل . وقيل : الفرقان : هنا الأحكام التي بينها اللّه ليفرق بها بين الحق والباطل . فهذه ثمانية أقوال في تفسير الفرقان . والفرقان مصدر في الأصل ، وهذه التفاسير تدل على أنه أريد به اسم الفاعل ، أي : الفارق ، ويجوز أن يراد به المفعول أي : المفروق . قال تعالى :{ وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأيَاتِ اللّه لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } لما قرر تعالى أمر الإلهية ، وأمر النبوّة بذكر الكتب المنزلة ، توعد من كفر بآيات اللّه من كتبه المنزلة ، وغيرها ، بالعذاب الشديد من عذاب الدنيا ، كالقتل ، والأسر . والغلبة ، وعذاب الآخرة : كالنار . و { الَّذِينَ كَفَرُواْ } عام داخل فيه من نزلت الآيات بسببهم ، وهم نصارى وفد نجران . وقال النقاش : إشارة إلى كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، وبني أخطب وغيرهم . {وَاللّه عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ } أي : ممتنع أو غالب لم لا يغلب ، أو منتصر ذو عقوبة ، وقد تقدّم أن الوصف : بذو ، أبلغ من الوصف بصاحب ، ولذلك لم يجيء في صفات اللّه صاحب ، وأشار بالعزة إلى القدرة التامة التي هي من صفات الذات ، وأشار بذي انتقام ، إلى كونه فاعلاً للعقاب ، وهي من صفات الفعل . قال الزمخشري :{ ذُو انتِقَامٍ } له انتقام شديد لا يقدر على مثله منتقم . انتهى . ولا يدل على هذا الوصف لفظ : ذو انتقام ، إنما يدل على ذلك من خارج اللفظ . ٥إن اللّه لا . . . . . {إِنَّ اللّه لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ فِي الاْرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء } شيء نكرة في سياق النفي ، فتعم ، وهي دالة على كمال العلم بالكليات والجزئيات ، وعبر عن جميع العالم بالأرض والسماء ، إذ هما أعظم ما نشاهده ، والتصوير على ما شاء من الهيئات دال على كمال القدرة ، وبالعلم والقدرة يتم معنى القيومية ، إذ هو القائم بمصالح الخلق ومهماتهم ، وفي ذلك ردّ على النصارى ، إذ شبهتهم في إدعاء إلهية عيسى كونه : يخبر بالغيوب ، وهذا راجع إلى العلم ، وكونه : يحيي الموتى ، وهو راجع إلى القدرة . فنبهت الآية على أن الإله هو العالم بجميع الأشياء ، فلا يخفي عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى عالماً ببعض المغيبات أن يكون إلها ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن عالماً بجميع المعلومات ، ونبهت على أن الإله هو ذو القدرة التامة ، فلا يمتنع عليه شيء ، ولا يلزم من كون عيسى قادراً على الإحياء في بعض الصور أن يكون إلهاً ، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى لم يكن قادراً على تركيب الصور وإحيائها ، بل إنباؤه ببعض المغيبات ، وخلقه وأحياؤه بعض الصور ، إنما كان ذلك بإنباء اللّه له على سبيل الوحي ، وإقداره تعالى له على ذلك ، وكلها على سبيل المعجزة التي أجراها ، وأمثالها ، على أيدي رسله . وفي الذكر التصوير في الرحم ردّ على من زعم أن عيسى إله ، إذ من المعلوم بالضرورة أنه صور في الرحم . وقيل : في قوله { لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء } تحذير من مخالفته سراً وجهراً ، ووعيد بالمجازاة وقيل : المعنى شيء مما يقولونه في أمر عيسى عليه السلام . وقال الزمخشري : مطلع على كفر من كفر ، وإيمان من آمن ، وهو مجازيهم عليه . وقال الماتريدي : لا يخفى عليه شيء من الأمور الخفية عن الخلق ، فكيف تخفي عليه أعمالكم التي هي ظاهرة عندكم ؟ وكل هذه تخصيصات . واللفظ عام ، فيندرج فيه هذا كله . وقال الراغب : لا يخفى عليه شيء ، أبلغ من : يعلم في الأصل ، وإن كان استعمال اللفظين فيه يفيدان معنى واحداً . ٦هو الذي يصوركم . . . . . وقال محمد بن جعفر بن الزبير ، والربيع ، في قوله : { هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ } ردّ على أهل الطبيعة ، إذ يجعلونها فاعلة مستبدة كيف يشاء . قال الماتريدي : فيه إبطال قول من يجعل قول القائف حجة في دعوى النسب ، لأنه جعل علم التصوير في الأرحام لنفسه ، فكيف يعرف القائف أنه صوره من مائه عند قيام التشابه في الصور ؟ انتهى . والأحسن أن تكون هذه الجمل مستقلة ، فتكون الأولى : إخباراً عنه تعالى بالعلم التام ، والثانية : إخباراً بالقدرة التامة وبالإرادة . والثالثة : بالإنفراد بالإلهية ، ويحتمل أن يكون خبراً عن : أن . وقال الراغب ، هنا : يصوركم ، بلفظ الحال ، وفي موضع آخر : فصوركم ، لأنه لا اعتبار بالأزمنة في أفعاله ، وإنما استعملت الألفاظ فيه للدلالة على الأزمنة بحسب اللغات ، وأيضاً : فصوركم ، إنما هو على نسبة التقدير ، وإن فعله تعالى في حكم ما قد فرع منه . ويصوركم على حسب ما يظهر لنا حالاً فحالاً . انتهى . وقرأ طاووس : تصوركم ، أي صوركم لنفسه ولتعبده . كقولك : أثلت مالاً ، أي : جعلته أثلة . أي : أصلاً . وتأثلته إذا أثلته لنفسك وتأتي : تفعَّل ، بمعنى : فعل ، نحو : تولى ، بمعنى : ولي . ومعنى { كَيْفَ يَشَاء } أي : من الطول والقصر ، واللون ، والذكورة والأنوثة ، وغير ذلك من الاختلافات . وفي قوله :{ كَيْفَ يَشَاء } إشارة إلى أن ذلك يكون بسبب وبغير سبب ، لأن ذلك متعلق بمشيئته فقط . و : كيف ، هنا للجزاء ، لكنها لا تجزم . ومفعول : يشاء ، محذوف لفهم المعنى ، التقدير : كيف يشاء أن يصوركم . كقوله { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء } أي : كيف يشاء أن ينفق ، و : كيف ، منصوب : بيشاء ، والمعنى : على أي حال شاء أن يصوركم صوركم ، ونصبه على الحال ، وحذف فعل الجزاء لدلالة ما قبله عليه ، نحو قولهم : أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : أنت ظالم إن فعلت فأنت ظالم ، ولا موضع لهذه الجملة من الإعراب ، وإن كانت متعلقة بما قبلها في المعنى ، فتعلقها كتعلق إن فعلت ، كقوله : أنت ظالم . وتفكيك هذا الكلام وإعرابه على ما ذكرناه ، لا يهتدى له إلاَّ بعد تمرّن في الإعراب ، واستحضار للطائف النحو . وقال بعضهم { كَيْفَ يَشَاء } في موضع الحال ، معمول : يصوركم ؛ ومعنى الحال أي : يصوركم في الأرحام قادراً على تصوريكم مالكاً ذلك وقيل : التقدير في هذه الحال : يصوركم على مشيئته ، أي مريداً ، فيكون حالاً من ضمير اسم اللّه ، ذكره أبو البقاء ، وجوّز أن يكون حالاً من المفعول ، أي : يصوركم منقلبين على مشيئته . وقال الحوفي : يجوز أن تكون الجملة في موضع المصدر ، المعنى : يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة ، وكما يشاء . {لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كرر هذه الجملة الدالة على نفي الإلهية عن غيره تعالى ، وانحصارها فيه ، توكيداً لما قبلها من قوله { لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } ورداً على من ادعى إلهية عيسى ، وناسب مجيئها بعد الوصفين السابقين من العلم والقدرة ، إذ مَن هذان الوصفان له ، هو المتصف بالإلهية لا غيره ، ثم أتى بوصف العزة الدالة على عدم النظير ، والحكمة الموجبة لتصوير الإشياء على الإتقان التام . ٧هو الذي أنزل . . . . . {هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } مناسبة هذا لما قبله أنه : لما ذكر تعديل البنية وتصويرها على ما يشاء من الأشكال الحسنة ، وهذا أمر جسماني ، استطرد إلى العلم ، وهو أمر روحاني . وكان قد جرى لوفد نجران أن من شُبَهِهِمْ قوله { وَرُوحٌ مّنْهُ } فبيّن أن القرآن منه محكم العبارة قد صينت من الاحتمال ، ومنه متشابه ، وهو ما احتمل وجوهاً . ونذكر أقاويل المفسرين في المحكم والمتشابة . وقد جاء وصف القرآن بأن آياته محكمة ، بمعنى كونه كاملاً ، ولفظه أفصح ، ومعناه أصح ، لا يساويه في هذين الوصفين كلام ، وجاء وصفه بالتشابه بقوله :{ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } معناه يشبه بعضه بعضاً في الجنس والتصديق . وأما هنا فالتشابه ما احتُمل وعجز الذهن عن التمييز بينهما ، نحو :{ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا }{ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } أي : مختلف الطعوم متفق المنظر ، ومنه : اشتبه الأمران ، إذا لم يفرق بينهما . ويقال لأصحاب المخاريق : أصحاب الشبه ، وتقول : الكلمة الموضوعة لمعنى لا يحتمل غيره نص ، أو يحتمل راجحاً أحد الاحتمالين على الآخر ، فبالنسبة إلى الراجح ظاهر ، وإلى المرجوح مؤوّل ، أو يحتمل من غير رجحان ، فمشترك بالنسبة إليهما ، ومجمل بالنسبة إلى كل واحد منهما . والقدر المشترك بين النص والظاهر هو المحكم ، والمشترك بين المجمل والمؤوّل هو المتشابه ، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين . قال ابن عباس ، وابن مسعود ، وقتادة ، والربيع ، والضحاك : المحكم الناسخ ، والمتشابه المنسوخ . وقال مجاهد ، وعكرمة : المحكم : ما بيَّن تعالى حلاله وحرمه فلم تشتبه معانيه ، والمتشابه : ما اشتبهت معانيه . وقال جعفر بن محمد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، والشافعي : المحكم ما لا يتحمل إلاَّ وجهاً واحداً ، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهاً . وقال ابن زيد : المحكم : ما لم تتكرر ألفاظه ، والمتشابه : ما تكررت . وقال جابر بن عبد اللّه ، وابن دئاب ، وهو مقتصى قول الشعبي والثوري وغيرهما : المحكم ما فهم العلماء تفسيره ، والمتشابه ما استأثر اللّه بعلمه : كقيام الساعة ، وطلوع الشمس من مغر بها ، وخروج عيسى . وقال أبو عثمان : المحكم ، الفاتحة . وقال محمد بن الفضل : سورة الإخلاص ، لأن ليس فيها إلاَّ التوحيد فقط . وقال محمد بن إسحاق : المحكمات ما ليس لها تصريف ولا تحريف . وقال مقاتل : المحكمات خمسمائة آية ، لأنها تبسط معانيها ، فكانت أمَّ فروع قيست عليها وتولدت منها ، كالأم يحدث منها الولد ، ولذلك سماها : أم الكتاب ، والمتشابه : القصص والأمثال . وقال يحي بن يعمر : المحكم الفرائض ، والوعد والوعيد ؛ والمتشابه : القصص والأمثال . وقيل : المحكم ما قام بنفسه ولم يحتج إلى استدلال . والمتشابه ما كان معاني أحكامه غير معقولة ، كأعداد الصلوات ، واختصاص الصوم بشهر رمضان دون شعبان . وقيل : المحكم ما تقرر من القصص بلفظ واحد ، والمتشابه ما اختلف لفظه ، كقوله : { فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى }{ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } و { قُلْنَا احْمِلْ } و { فَاسْلُكْ} وقال أبو فاختة : المحكمات فواتح السور المستخرج منها السور : كألم والمر . وقيل : المتشابه فواتح السور ، بعكس الأول . وقيل : المحكمات : التي في سورة الأنعام إلى آخر الآيات الثلاث ، والمتشابهات : آلم وآلمّرَ ، وما اشتبه على اليهود من هذه ونحوها ، حين سمعوا : آلم ، فقالوا : هذه بالجُمَّلِ : أحد وسبعون ، فهو غاية أجل هذه الأمة ، فلما سمعوا : ألر ، وغيرها ، اشتبهت عليهم . أو : ما اشتبه من النصارى من قوله :{ وَرُوحٌ مّنْهُ} وقيل : المتشابهات ما لا سبيل إلى معرفته ، كصفة الوجه ، واليدين ، واليد ، والاستواء . وقيل : المحكم ما أمر اللّه به في كل كتاب أنزله ، نحو قوله :{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ } الآيات و { قَضَى رَبَّكَ } الآيات وما سوى المحكم متشابه . وقال أكثر الفقهاء : المحكمات التي أحكمت بالإبانة ، فإذا سمعها السامع لم يحتج إلى تأويلها ، لأنها ظاهرة بينه ، والمتشابهات : ما خالفت ذلك . وقال بن أبي نجيح : المحكم ما فيه الحلال والحرام . وقال ابن خويز منداذ : المتشابه ما له وجوه واختلف فيه العلماء ، كالآيتين في الحامل المتوفى عنها زوجها ، عليّ وابن عباس يقولان : تعتد أقصى الأجلين ، وعمر ، وزيد ، وابن مسعود يقولون : وضع الحمل . وخلافهم في النسخ ، وكالاختلاف في الوصية للوراث هل نسخت أم لا . ونحو تعارض الآيتين : أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ؟ نحو :{ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ } يقتضي الجمع بين الأقارب بملك اليمين { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } يمنع من ذلك ؟ ومعنى : أم الكتاب ، معظم الكتاب ، إذ المحكم في آيات اللّه كثير قد فصل . وقال يحي بن يعمر : هذا كما يقال لمكة : أم القرى ، ولمرو : أم خراسان ، و : أم الرأس : لمجتمع الشؤون ، إذ هو أخطر مكان . وقال ابن زيد : جماع الكتاب ، ولم يقل : أمهات ، لأنه جعل المحكمات في تقدير شيء واحد ، ومجموع المتشابهات في تقدير شيء وآخر ، وأحدهما أم للآخر ، ونظيره { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً } ولم يقل : اثنين ، ويحتمل أن يكون : هنّ ، أي كل واحدة منهنّ ، نحو :{ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أي كل واحد منهم . قيل : ويحتمل أن إفراد في موضع الجمع . نحو :{ وَعَلَى سَمْعِهِمْ } وقال الزمخشري : أمّ الكتاب أي أصل الكتاب ، تحمل المتشابهات عليها ، وترد إليها . ومثال ذلك :{ لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ }{ إِلَى رَبّهَا }{ اللّه لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء }{ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } إنتهى . وهذا على مذهبه الإعتزالي في أن اللّه لا يُرى ، فجعل المحكم لا تدركه الأبصار . والمتشابه قوله :{ إِلَى رَبّهَا نَاظِرَةٌ} وأهل السنة يعكسون هذا ، أو يفرقون بين الإدراك والرّؤية . وذكر من المحكم :{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً }{ لاَّ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى } ومتشابهه :{ نَسُواْ اللّه فَنَسِيَهُمْ } ظاهر النسيان ضد العلم ، ومرجوحه الترك . وأرباب المذاهب مختلفون في المحكم والمتشابه ، فما وافق المذهب فهو عندهم محكم ، وما خالف فهو متشابه . فقوله :{ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } عند المعتزلة محكم { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه } متشابه . وغيرهم بالعكس . وصرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوحي لا بد فيه من دليل منفصل ، فإن كان لفظياً فلا يتم إلاَّ بحصول التعارض ، وليس الحمل على أحدهما أولى من العكس ، ولا قطع في الدليل اللفظي ، سواء كان نصاً وأرجح لتوقفه على أمور ظنية ، وذلك لا يجوز في المسائل الأصولية . فإذن المصير إلى المرجوح لا يكون بواسطة الدلالة العقلية القاطعة ، وإذا علم صرفه عن ظاهره فلا يحتاج إلى تعيين المراد ، لأن ذلك يكون ترجيح مجاز على مجاز ، وتأويل على تأويل . ومن الملاحدة من طعن في القرآن إلى يوم القيامة ، ثم إنا نراه يتمسك به صاحب كل مذهب على مذهبه ، فالجبري يتمسك بآيات الجبر :{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً }{ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} والقدري يقول : هذا مذهب الكفار في معرض الذم لهم في قوله :{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِىءاذانِنَا وَقْرٌ } وفي موضع آخر :{ قُولُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ومثبتو الرؤية تمسكوا بقوله :{ إِلَى رَبّهَا } والآخرون ، بقوله :{ وَكِيلٌ لاَّ تُدْرِكُهُ الاْبْصَارُ} ومثبتو الجهة بقوله :{ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ } وبقوله :{ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } والآخرون بقوله :{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء } فكيف يليق بالمحكم أن يرجع إلى المرجوع إليه هكذا ؟ إنتهى كلام الفخر الرازي . وبعضه ملخص . وقد ذكر العلماء لمجيء المتشابه فوائد ، وأحسن ذلك ما ذكره الزمشخري . قاله : فإن قلت : فهلا كان القرآن كله محكماً ؟ قلت : لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه ، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمل من النظر والاستدلال ، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة اللّه وتوحيده إلاَّ به ، ولما في المتشابه من الإبتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه ، ولما في تقادح العلماء وإتقانهم القرائح في إستخراج معانيه ، ورده إلى المحكم من الفوائد الجليلة ، والعلوم الجمة ، ونيل الدرجات عند اللّه ، ولأن المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام اللّه ، ولا اختلاف إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره ، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد ، ففكر وراجع نفسه وغيره ، ففتح اللّه عليه ، وتبين مطابقة المتشابة المحكم ، إزداد طمأنينة إلى معتقده ، وقوة في اتقانه . إنتهى كلام الزمخشري ، وهو مؤلف مما قاله الناس في فائدة المجيء بالمشابه في القرآن . ولما ذكر تعالى أول السورة { اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } ذكر هنا كيفية الكتاب ، وأتى بالموصول ، إذ في صلته حوالة على التنزيل السابق ، وعهد فيه . وقوله :{ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } إلى آخره ، في موضع الحال ، أي : تركه على هذين الوجهين محكماً ومتشابهاً ، وارتفع : آيات ، على الفاعلية بالمجرور لأنه قد اعتمد ، ويجوز ارتفاعه على الإبتداء ، والجملة حالية . ويحتمل أن تكون جملة مستأنفة ، ووصف الآيات بالأحكام صادق على أن كل آية محكمة ، وأما قوله :{ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فأُخر صفة لآيات محذوفة ، والوصف بالتشابه لا يصح في مفرد آخر ، لو قلت : وأخرى متشابهة لم يصح إلاَّ بمعنى أن بعضها يشبه بعضاً ، وليس المراد هنا هذا المعنى ، وذلك أن التشابه المقصود هنا لا يكون إلاَّ بين اثنين فصاعداً ، فلذلك صح هذا الوصف مع الجمع ، لأن كل واحد من مفرداته يشابه الباقي ، وإن كان الواحد لا يصح فيه ذلك ، فهو نظير ، رجلين يقتتلان ، وإن كان لا يقال : رجل يقتتل . وتقدم الكلام على أخر في قوله :{ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } فاغنى عن إعادته هنا . وذكر ابن عطية أن المهدوي خلط في مسألة : أخر ، وأفسد كلام سيبوية ، فتوقف على ذلك من كلام المهدوي . {فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } هم نصارى نجران لتعرضهم للقرآن في أمر عيسى ، قاله الربيع . أو : اليهود ، قاله ابن عباس ، والكلبي ، لأنهم طلبوا بقاء هذه الآية من الحروف المقعطة والزيغ : عنادهم . وقال الطبري : هو الأشبه . وذكر محاورة حي بن أخطب وأصحابه لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في مدة ملته ، واستخراج ذلك من الفواتح ، وانتقالهم من عدد إلى عدد إلى أن قالوا : خلطت علينا فلا ندري بكثير نأخذ أم بقليل ؟ ونحن لا نؤمن بهذا . فأنزل اللّه تعالى :{ هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } الآية ، وفسر الزيغ : بالميل عن الهدى ، ابن مسعود ، وجماعة من الصحابة ، ومجاهد ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وغيرهم . وقال قتادة : هم منكرو البعث ، فإنه قال في آخرها { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه } وما ذاك إلاَّ يوم القيامة ، فإنه أخفاه عن جميع الخلق . وقال قتادة أيضاً : هم الحرورية ، و : هم الخوارج . ومن تأول آية لا في محلها . وقال أيضاً : إن لم تكن الحرورية هم الخوارج السبائية ، فلا أدرى من هم . وقال ابن جريح : هم المنافقون . وقيل : هم جميع المبتدعة . وظاهر اللفظ العموم في الزائغين عن الحق ، وكل طائفة ممن ذكر زائغة عن الحق ، فاللفظ يشملهم وإن كان نزل على سبب خاص ، فالعبرة لعموم اللفظ . {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } قال القرطبي : متبعو المتشابه إما طالبو تشكيك وتناقض وتكرير ، وإما طالبو ظواهر المتشابه : كالمجمسة إذ أثبتوا أنه جسم ، وصورة ذات وجه ، وعين ويد وجنب ورجل وأصبع . وإما متبعو إبداء تأويل وإيضاح معاينة ، كما سأل رجل ابن عباس عن أشياء اختلفت عليه في القرآن ، مما ظاهرها التعارض ، نحو :{ وَلاَ يَتَسَاءلُونَ } و { أَقْبِلْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ }{ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّه حَدِيثاً }{ وَاللّه رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ونحو ذلك . وأجابه ابن عباس بما أزال عنه التعارض ، وإما متبعوه وسائلون عنه سؤال تعنت ، كما جرى لأصيبغ مع عمر ، فضرب عمر رأسه حتى جرى دمه على وجهه . إنتهى كلامه ملخصاً . {ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ } علل اتباعهم للمتشابه بعلتين : إحداهما : إبتغاء الفتنة . قال السدي ، وربيع ، ومقاتل ، وابن قتيبة : هي الكفر . وقال مجاهد : الشبهات واللبس . وقال الزجاج : إفساد ذات البين . وقيل : الشبهات التي حاج بها وفد نجران . والعلة الثانية : إبتغاء التأويل . قال ابن عباس : ابتغوا معرفة مدة النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : التأويل : التفسير ، نحو { سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } وقال ابن عباس أيضاً : طلبوا مرجع أمر المؤمنين ، ومآل كتابهم ودينهم وشريعتهم ، والعاقبة المنتظرة . وقال الزجاج : طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم تعالى : أن تأويل ذلك ، ووقته يوم يرون ما يوعدون من البعث والعذاب ، يقول الذين نسوه ، أي تركوه : قد جاءت رسل ربنا ، أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل . وقال السدي : أرادوا أن يعلموا عواقب القرآن ، وهو تأويله متى ينسخ منه شيء . وقيل : تأويله طلب كنه حقيقته وعمق معانيه . وقال الفخر الرازي كلاماً ملخصه : إن المراد بالتأويل ما ليس في الكتاب دليل عليه ، مثل : متى الساعة ؟ ومقادير الثواب والعقاب لكل مكلف ؟ وقال الزمخشري :{ الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } هم أهل البدع ، فيتبعون ما تشابه منه ، فيتعلقون بالمتشابه الذي يحتمل ما يذهب إليه المبتدع مما لا يطابق المحكم ، ويحتمل ما يطابقه من قول أهل الحق ، إبتغاء الفتنة : طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلوهم ، وإبتغاء تأويله : طلب أن يؤولوه التأويل الذي يشهونه . إنتهى كلامه . وهو كلام حسن . {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه وَالرسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } تم الكلام عند قوله : إلا اللّه ، ومعناه إن اللّه استأثر بعلمه تأويل المتشابه ، وهو قول ابن مسعود ، وأبي ، وابن عباس ، وعائشة ، والحسن ، وعروة ، وعمر بن عبد العزيز ، وأبي نهيك الأسدي ، ومالك بن أنس ، والكسائي ، والفراء ، ولجلبائي ، والأخفش ، وأبي عبيد . واختاره : الخطابي والفخر الرازي . ويكون قوله { وَالرسِخُونَ } مبتدأ و { يَقُولُونَ } خبر عنه وقيل : والراسخون ، معطوف على اللّه ، وهم يعلمون تأويله ، و : يقولون ، حال منهم أي : قائلين وروي هذا عن ابن عباس أيضاً ، ومجاهد والربيع بن أنس ، ومحمد بن جعفر بن الزبير ، وأكثر المتكلمين . ورجح الأول بأول بأن الدليل إذا دل على غير الظاهر علم أن المراد بعض المجازات ، وليس الترجيح لبعض إلاَّ بالأدلة اللفظية ، وهي ظنية ، والظن لا يكفي في القطعيات ، ولأن ما قبل الآية يدل على ذم طالب المتشابه ، ولو كان جائزاً لما ذمّ بأن طلب وقت الساعة تخصيص بعض المتشابهات ، وهو ترك للظاهر ، ولا يجوز ، ولأنه مدح الراسخين في العلم بأنهم قالوا { بِهِ إِنَّهُ } ولو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل لما كان في الإيمان به مدح ، لأن من علم شيئاً على التفصيل لا بد أن يؤمن به ، وإنما الراسخون يعلمون بالدليل العقلي أن المراد غير الظاهر ، ويفوضون تعيين المراد إلى علمه تعالى ، وقطعوا أنه الحق ، ولم يحملهم عدم التعيين على ترك الإيمان ، ولأنه لو كان : الراسخون ، معطوف على : اللّه ، للزم أن يكون : يقولون ، خبر مبتدأ وتقديره : هؤلاء ، أو : هم ، فيلزم الإضمار ، أو حال والمتقدّم : اللّه والراسخون ، فيكون حالاً من الراسخين فقط ، وفيه ترك للظاهر . ولأن قوله :{ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } يقتضي فائدة ، وهو أنهم آمنوا بما عرفوا بتفصيله وما لم يعرفوه ، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل عري عن الفائدة ، ولما نقل عن ابن عباس أن تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يقع جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير يعلمه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلاَّ اللّه ، تعالى . وسئل مالك ، فقال : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة . انتهى ما رجح به القول الأول ، وفي ذلك نظر ، ويؤيد هذا القول قراءة أبي ، وابن عباس ، فيما رواه طاووس عنه : إلا اللّه ويقول الراسخون في العلم آمنا به . وقراءة عبد اللّه : وابتغاء تأويله إن تأويله إلاَّ عند اللّه ، والراسخون في العلم يقولون . ورجح ابن فورك القول الثاني وأطنب في ذلك ، وفي قوله صلى اللّه عليه وسلم لابن عباس : { اللّهم فقهه في الدين وعلمه التأويل } ما يبين ذلك ، أي : علمه معاني كتابك . وكان عمر إذا وقع مشكل في كتاب اللّه يستدعيه ويقول له : غص غوّاص . ويجمع أبناء المهاجرين والأنصار ، ويأمرهم بالنظر في معاني الكتاب . و قال ابن عطية : إذا تأملت قرب الخلاف من الاتفاق ، وذلك أن الكتاب محكم ومتشابه ، فالمحكم المتضح لمن يفهم كلام العرب من غير نظر ، ولا لبس فيه ، ويستوى فيه الراسخ وغيره . والمتشابه منه ما لا يعلمه إلاَّ اللّه ، كأمر الروح ، وآماد المغيبات المخبر بوقوعها ، وغير ذلك . ومنه ما يحمل على وجوه في اللغة ، فيتأول على الاستقامة كقوله في عيسى { وَرُوحٌ مّنْهُ } إلى غير ذلك . ولا يسمى راسخاً إلاَّ من يعلم من هذا النوع كثيراً بحسب ما قدّر له ، وإلاَّ فمن لا يعلم سوى المحكم فليس براسخ . فقوله { إِلاَّ اللّه } مقتض ببديهة العقل أنه تعالى يعلمه على استيفاء نوعيه جميعاً ، والراسخون يعلمون النوع الثاني ، والكلام مستقيم على فصاحة العرب . ودخلوا بالعطف في علم التأويل كما تقول : ما قام لنصري إلاَّ فلان وفلان ، وأحدهما نصرك بأن ضارب معك ، والآخر أعانك بكلام فقط . وإن جعلنا { وَالرسِخُونَ } مبتدأ مقطعوعاً مما قبله ، فتسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي استوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع ؟ وما الرسوخ إلاَّ المعرفة بتصاريف الكلام ، وموارد الأحكام ، ومواقع المواعظ ؟ . وإعراب : الراسخين ، يحتمل الوجهين ، ولذلك قال ابن عباس بهما . ومن فسر المتشابه بأنه ما استأثر اللّه بعلمه فقط ، فتفسيره غير صحيح ، لأنه تخصيص لبعض المتشابه . انتهى . وفيه بعض تلخيص ، وفيه اختياره أنه معطوف على : اللّه ، وإياه اختار الزمخشري . قال : لا يهتدي إلى تأويله الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلاَّ اللّه وعباده الذين رسخوا في العلم ، أي ثبتوا فيه وتمكنوا ، وعضوا فيه بضرس قاطع . ويقولون ، كلام مستأنف موضح لحال الراسخين ، بمعنى : هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا به ، أي : بالمتشابه . انتهى كلامه . وتلخص في إعراب { وَالرسِخُونَ } وجهان : . أحدهما : أنه معطوف على قوله : اللّه ، ويكون في إعراب : يقولون ، وجهان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف . والثاني : أنه في موضع نصب على الحال من الراسخين ، كما تقول : ما قام إلاَّ زيد وهند ضاحكة . والثاني : من إعراب : والراسخون ، أن يكون مبتدأ ، ويتعين أن يكون : يقولون ، خبراً عنه ، ويكون من عطف الجمل . وقيل :{ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ } مؤمنو أهل الكتاب : كعبد اللّه بن سلام وأصحابه ، بدليل { لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ } يعنى الراسخين في علم التوراة ، وهذا فيه بعد ، وقد فسر الرسوخ في العلم بما لا تدل عليه اللغة ، وإنما هي أشياء نشأت عن الرسوخ في العلم ، كقول نافع : الراسخ المتواضع للّه ، وكقول مالك : الراسخ في العلم العامل بما يعلم ، المتبع . {كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا } هذا من المقول ، ومفعول : يقولون قوله :{ بِهِ كُلٌّ مّنْ عِندِ رَبّنَا وَمَا } وجعلت كل جملة كأنها مستقلة بالقول ، ولذلك لم يشترك بينهما بحرف العطف ، أو جعلا ممتزجين في القول امتزاج الجملة الواحدة ، نحو قوله : كيف أصحبت ؟ كيف أمسيت ؟ مما يزرع الود في فؤاد الكريم ؟ كأنه قال : هذا الكلام مما يزرع الودّ . والضمير في : به ، يحتمل أن يعود على المتشابه ، وهو الظاهر ، ويحتمل أن يعود على الكتاب . والتنوين في : كل ، للعوض من المحذوف ، فيحتمل أن يكون ضمير الكتاب ، أي : كله من عند ربنا ، ويحتمل أن يكون التقدير : كل واحد من المحكم والمتشابه من عند اللّه ، وإذا كان من عند اللّه فلا تناقض ولا أختلاف ، وهو حق يجب أن يؤمن به . وأضاف العندية إلى قوله : ربنا ، لا إلى غيره من أسمائه تعالى لما في الإشعار بلفظة الرب من النظر في مصلحة عبيده ، فلولا أن في المتشابه مصلحة ما أنزله تعالى ، ولجعل كتابه كله محكماً . {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الالْبَابِ } أي : وما يتعظ بنزول المحكم والمتشابه إلاَّ أصحاب العقول ، إذ هم المدركون لحقائق الأشياء ، ووضع الكلام مواضعه ، ونبه بذلك على أن ما أشتبه من القرآن ، فلا بد من النظر فيه بالعقل الذي جعل مميزاً لإدراك : الواجب ، والجائز ، والمستحيل ، فلا يوقف مع دلالة ظاهر اللفظ ، بل يستعمل في ذلك الفكر حتى لا ينسب إلى البارىء تعالى ، ولا إلى ما شرع من أحكامه ، ما لا يجوز في العقل . و قال ابن عطية : أي ، ما يقول هذا ويؤمن به ، ويقف حيث وقف ، ويدع اتباع المتشابه إلاَّ ذولبَ . وقال الزمخشري : مدح للراسخين بإلقاء الذهن وحسن التأمل . ٨ربنا لا تزغ . . . . . {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } ويحتمل أن يكون هذا من جملة المقول أي : يقولون ربنا ، وكأنهم لما رأوا انقسام الناس إلى زائغ ، ومتذكر مؤمن ، دعوا اللّه تعالى بلفظ الرب أن لا يزيغ قلوبهم بعد هدايتهم ، فيلحقوا بمن في قلبه زيغ ، ويحتمل أن يكون تعالى علمهم هذا الدعاء ، والتقدير : قولوا ربنا . ومعنى الإزاغة هنا الضلالة . وفي نسبة ذلك إليه تعالى رد على المعتزلة في قولهم : إن اللّه لا يضل ، إذ لو لم تكن الإزاغة من قبله تعالى لما جاز أن يدعى في رفع ما لا يجوز عليه فعله . وقال الزجاج : لا تكلفنا عبادة ثقيلة تزيغ بها قلوبنا ، وهذا القول فيه التحفظ من خلق اللّه الزيغ والضلالة في قلب أحد من العباد . وقال ابن كيسان : سألوا أن لا يزيغوا ، فيزيغ اللّه قلوبهم ، نحو :{ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللّه قُلُوبَهُمْ } أي : ثبتنا على هدايتك ، وأن لا نزيغ ، فنستحق أن تزيغ قلوبنا . وهذه نزغة إعتزالية ، كما قال الجبائي : لا تمنعها الألطاف التي بها يستمر القلب على صفة الإيمان . ولما منعهم الألطاف لاستحقاقهم منع ذلك ، جاز أن يقال : أزاغهم ، ويدل عليه : فلما زاغوا . وقال الجبائي أيضاً : لا تزغنا عن جنتك وثوابك . وقال أبو مسلم : أحرسنا من الشيطان وشر أنفسنا حتى لا نزيغ . وقال الزمخشري : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا ، أو : لا تمنعنا ألطافك بعد أن لطفت بنا . انتهى . وهذه مسألة كلامية : هل اللّه تعالى خالق الشر كما هو خالق الخبر ؟ أو لا يخلق الشر ؟ ف الأول : قول أهل السنة . والثاني : قول المعتزلة . وكل يفسر على مذهبه . وقرأ الصديق ، وأبو قائله ، والجراح : لا تزغ قلوبنا ، بفتح التاء ورفع الباء وقرأ بعضهم : لا يزغ بالياء مفتوحة ، ورفع باء قلوبنا ، جعله من زاغ ، وأسنده إلى القلوب . وظاهره نهي القلوب عن الزيغ ، وإنما هو من باب : لا أرينك ههنا . ولا أعرفن ربرباً حوراً مدامعه أي : لا تزغنا فتزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا . ظاهره الهداية التي هي مقابلة الضلال وقيل : بعد اذ هديتنا للعلم بالمحكم ، والتسليم للمتشابه من كتابك ، و : إذ ، أصلها أن تكون ظرفاً ، وهنا أضيف إليها : بعد ، فصارت إسماً غير ظرف ، وهي كانت قبل أن تخرج عن الظرفية تضاف إلى الجملة ، واستصحب فيها حالها من الإضافة إلى الجملة ، وليست الإضامة إليها تخرجها عن هذا الحكم . ألا ترى إلى قوله تعالى : { هَاذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ } ؟{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } في قراءة من رفع يوم ؟ وقول الشاعر . على حين عاتبت المشيب على الصبا على حين من تكتب عليه ذنوبه على حين الكرام قليل ألا ليت أيام الصفاء جديد كيف خرج الظرف هنا عن بابه ، واستعمل خبراً ومجروراً بحرف الجر ، واسم ليت ، وهو مع ذلك مضاف إلى الجملة ؟ . {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } سألوا بلفظ الهبة المشعرة بالتفضل والإحسان إليهم من غير سبب ولا عمل ولا معاوضة ، لأن الهبة كذلك تكون ، وخصوها بأنها من عنده ، والرحمة إن كانت من صفات الذات فلا يمكن فيها الهبة ، بل يكون المعنى : نعيماً ، أو ثواباً صادراً عن الرحمة . ولما كان المسؤول صادراً عن الرحمة ، صح أن يسألوا الرحمة إجراءً للسبب مجرى المسبب وقيل : معنى رحمة توفيقاً وسداداً وتثبيتاً لما نحن عليه من الإيمان والهدى . {إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ } هذا كالتعليل لقولهم : وهب لنا ، كقولك : حل هذا المشكل أنك أنت العالم بالمشكلات ، وأتى بصيغة المبالغة التي على فعال ، وإن كانوا قد قالوا : وهاب ، لمناسبة رؤوس الآي ، ويجوز في : أنت ، التوكيد للضمير ، والفصل ، والابتداء . ٩ربنا إنك جامع . . . . . {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية ، وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة ، أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة ، والبعث فيه للمجازاة ، وأن اعتقاد صحة الوعد به هو الذي هداهم إلى سؤال أن لا يزيغ قلوبهم . ومعنى : ليوم لا ريب فيه ، أي : لجزاء يوم ، ومعنى : لا ريب فيه ، لا شك في وجوده لصدق من أخبر به ، وإن كان يقع للمكذب به ريب فهو بحال ما لا ينبغي أن يرتاب فيه . وقيل : الللام ، بمعنى : في ، أي : في يوم ، ويكون المجموع لأجله لم يذكر ، وظاهر هذا الجمع أنه الحشر من القبور للمجازاة ، فهو اسم فاعل بمعنى الاستقبال ، ويدل على أنه مستقبل قراءة أبي حاتم : جامع الناس ، بالتنوين ، ونصب : الناس . وقيل : معنى الجمع هنا أنه يجمعهم في القبور ، وكأن اللام تكون بمعنى إلى للغاية ، أي : جامعهم في القبور إلى يوم القيامة ، ويكون اسم الفاعل هنا لم يلحظ فيه الزمان ، إذ من الناس من مات ، ومنهم من لم يمت ، فنسب الجمع إلى اللّه من غير اعتبار الزمان ، واالضمير في : فيه ، عائد على اليوم ، إذ الجملة صفة له ، ومن أعاده على الجمع المفهوم من جامع ، أو على الجزاء الدال عليه المعنى ، فقد أبعد . {إِنَّ اللّه لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } ظاهر العدول من ضمير الخطاب إلى الاسم الغائب يدل على الاستئناف ، وأنه من كلام اللّه تعالى لا من كلام الراسخين الداعين . قال الزمخشري : معناه أن الإلهية تنافي خلف الميعاد ، كقولك : إن الجواد لا يخيب سائله ، والميعاد : الموعد . انتهى كلامه ، وفيه دسيسه الاعتزال بقوله : إن الإلهية تنافي خلف الميعاد . وقد استدل الجبائي بقوله { إِنَّ اللّه لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ } على القطع بوعيد الفساق مطلقاً ، وهو عندنا مشروط بعدم العفو ، كما اتفقنا نحن وهم على أنه مشروط بعدم التوبة ، والشرطان يثبتان بدليل منفصل ، ولئن سلمنا ما يقولونه فلا نسلم أن الوعيد يدخل تحت الوعد . وقال الواحدي : يجوز حمله على ميعاد الأولياء دون وعيد الأعداء ، لأن خلف الوعيد كرم عند العرب ، ولذلك يمدحون به قال الشاعر : إذا وعد السرّاءَ أنجز وعده وإن وعد الضراءَ فالعفو مانعه ويحتمل أن تكون هذه الجملة من كلام الداعين ، ويكون ذلك من باب الالتفات ، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة ، وكأنهم لما والوا الدعاء بقولهم : ربنا ، أخبروا عن اللّه تعالى بأنه الوفي بالوعد . وتضمن هذا الكلام الإيمان بالبعث ، والمجازاة ، والإيفاء بما وعد تعالى . ١٠إن الذين كفروا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللّه شَيْئًا } قيل : المراد وفد نجران لأنه روي أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه : إني أعلم أنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولكني إن أظهرت ذلك أخذ ملوك الرّوم مني ما أعطوني من المال . وقيل : الإشارة إلى معاصري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال ابن عباس : قريظة ، والنضير . وكانوا يفخرون بأموالهم وأبنائهم ، وهي عامّة تتناول كل كافر . ومعنى : من اللّه ، أي : من عذابه الدنيوي والأخروي ، ومعنى : أغنى عنه ، دفع عنه ومنعه ، ولما كان المال في باب المدافعة والتقرب والفتنة أبلغ من الأولاد ، قدم في هذه الآية ، وفي قوله :{ وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى وَفِى قَوْلُهُ إِنَّمَا أَمْوالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } وفي قوله :{ وَتَكَاثُرٌ فِى الاْمْوالِ وَالاْوْلْادِ } وفي قوله :{ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } بخلاف قوله تعالى :{ زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ } إلى آخرها ، فإنه ذكر هنا حب الشهوات ، فقدّم فيه النساء والبنين على ذكر الأموال . وسيأتى الكلام على ذلك إن شاء اللّه . وقرأ أبو عبد الرحمن : لن يغني ، بالياء على تذكير العلامة . وقرأ علي : لن يغني ، بسكون الياء . وقرأ الحسن : لن يغني بالياء أولاً وبالياء منالساكنة آخراً ، وذلك لاستثقال الحركة في حرف اللين ، وإجراء المنصوب مجرى المرفوع . وبعض النحويين يخص هذا بالضرورة ، وينبغي أن لا يخص بها ، إذ كثر ذلك في كلامهم . و : من ، لابتداء الغاية عند اعبد ، وبمعنى : عند ، قاله أبو عبيدة ، وجعله كقوله تعالى : { الَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ } قال : معناه عند جوع وعند خوف ، وكون : من ، بمعنى : عند ، ضعيف جداً . وقال الزمشخري : قوله : من اللّه ، مثله في قوله :{ إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقّ شَيْئًا } والمعنى : لن تغني عنهم من رحمة اللّه ، أو من طاعة اللّه شيئاً ، أي : بدل رحمته وطاعته ، وبدل الحق . ومنه : ولا ينفع ذا الجدّ منك الجد أي : لا ينفعه جدّه وحظه من الدنيا بذلك ، أي : بدل طاعتك وعبادتك . وما عندك . وفي معناه قوله تعالى :{ وَمَا أَمْوالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى } إنتهى كلامه . وإثبات البدلية : لمن ، فيه خلاف أصحابنا ينكرونه ، وغيرهم قد أثبته ، وزعم أنها تأتي بمعنى البدل . واستدل بقوله تعالى :{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ مَا لَكُمْ }{ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً } أي : بدل الآخرة وبدلكم . وقال الشاعر : أخذوا المخاض من الفصيل غلبة ظلماً ويكتب للأمير إفيلا أي بدل الفصيل ، وشيئاً ينتصب على أنه مصدر ، كما تقول ضربت شيئاً من الضرب ، ويحتمل أن ينتصب على المفعول به ، لأن معنى : لن تغني ، لن تدفع أو تمنع ، فعلى هذا يجوز أن يكون : من ، في موضع الحال من شيئاً ، لأنه لو تأخر لكان في موضع النعت لها ، فلما تقدّم انتصب على الحال . وتكون : من إذ ذاك للتبعيض . فتلخص في : من ، أربعة أقوال : ابتداء الغاية ، وهو قول المبرد ، والكلبي . و : كونها بمعنى : عند ، وهو قول أبي عبيدة . و : البدلية ، وهو قول الزمخشري ، و : التبعيض ، وهو الذي قررناه . {وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } لما قدم : إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ، ولا تناصر أولادهم ، أخبر بمآلهم . وأن غاية من كفر ، ومنتهى من كذب بآيات اللّه النار ، فاحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على خبر : إن ، واحتمل أن تكونه مستأنفة عطفت على الجملة الأولى ، وأشار : بأولئك ، إلى بعدهم . وأتى بلفظ : هم ، المشعرة بالاختصاص ، وجعلهم نفس الوقود مبالغة في الاحتراق ، كأن النار ليس لها ما يضرمها إلا هم ، وتقدّم الكلام في الوقود في قوله :{ وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وقرأ الحسن ، ومجاهد ، وغيرهما : وقود ، بضم الواو ، وهو مصدر : وقدت النار تقد وقوداً ، ويكون على حذف مضاف ، أي : أهل وقود النار ، أو : حطب وقود ، أو جعلهم نفس الوقود مبالغة ، كما تقول : زيد رضا . وقد قيل في المصدر أيضاً : وقود ، بفتح الواو ، وهو من المصادر التي جاءت على فعول بفتح الواو ، وتقدّم ذكر ذلك ، و : هم ، يحتمل أن يكون مبتدأ ، ويحتمل أن يكون فصلاً . ١١كدأب آل فرعون . . . . . {كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } لما ذكر أن من كفر وكذب باللّه مآله إلى النار ، ولن يغني عنه ماله ولا ولده ، ذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وترتب العذاب على كفرهم ، كشأن من تقدّم من كفار الأمم ، أخذوا بذنوبهم ، وعذبوا عليها ، ونبه على آل فرعون ، لأن الكلام مع بني إسرائيل ، وهم يعرفون ما جرى لهم حين كذبوا بموسى من إغراقهم وتصييرهم آخراً إلى النار ، وظهور بني إسرائيل عليهم ، وتوريثهم أماكن ملكهم ، ففي هذا كله بشارة لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ولمن آمن به . أن الكفار مآلهم في الدنيا إلى الاسئصال ، وفي الآخرة إلى النار ، كما جرى لآل فرعون ، أهلكوا في الدنياد وصاروا إلى النار . واختلفوا في إعراب : كدأب ، فقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، فهو في موضع رفع ، التقدير : دأبهم كدأب ، وبه بدأ الزمشخري وابن عطية . وقيل : هو في موضع نصب بوقود ، أي : توقد النار بهم ، كما توقد بآل فرعون . كما تقول : إنك لتثلم الناس كدأب أبيك ، تريد : كظلم أبيك ، قاله الزمخشري . وقيل : يفعل مقدّر من لفظ الوقود ، ويكون التشبيه في نفس الإحتراق ، قاله ابن عطية . وقيل : من معناه أي عذبوا تعذيباً كدأب آل فرعون . ويدل عليه وقود النار . وقيل : بلن تغني ، أي : لن تغني عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك ، قاله الزمخشري . وهو ضعيف ، للفصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي :{ أُولَائِكَ هُمُ وَقُودُ النَّارِ } على أي التقديرين اللذين قدرناهما ، فيها من أن تكون معطوفة على خبر إن ، أو على الجملة المؤكدة بإن ، فان قدرتها اعتراضية ، وهو بعيد ، جاز ما قاله الزمخشري . وقيل : بفعل منصوب من معنى : لن تغني ، أي بطل انتفاعهم بالأموال والأولاد بطلاناً كعادة آل فرعون . وقيل : هو نعت لمصدر محذوف تقديره : كفراً كدأب والعامل فيه : كفروا ، قاله الفراء وهو خطأ ، لأنه إذا كان معمولاً للصلة كان من الصلة ، ولا يجوز أن يخبر عن الموصول حتى يستوفي صلته ومتعلقاتها ، وهنا قد أخبر ، فلا تجوز أن يكون معمولاً لما في الصلة . وقيل : بفعل محذوف يدل عليه : كفروا ، التقدير : كفروا كفراً كعادة آل فرعون . وقيل : العامل في الكاف كذبوا بآياتنا ، والضمير في : كذبوا ، على هذا لكفار مكة وغيرهم من معاصري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،أي : كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعون . وقيل : يتعلق بقوله :{ فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ } أي : أخذهم أخذاً كما أخذ آل فرعون ، وهذا ضعيف ، لأن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها . وحكى بعض أصحابنا عن الكوفيين أنهم أجازوا : زيداً قمت فضربت ، فعلى هذا يجوز هذا القول . فهذه عشرة أقوال في العامل في الكاف . قال ابن عطية : والدأب ، بسكون الهمزة وفتحها ، مصدر دأب يدأب ، إذا لازم فعل شيء ودام عليه مجتهداً فيه ، ويقال للعادة : دأب . وقال أبو حاتم : وسمعت يعقوب يذكر : كدأب ، بفتح الهمزة ، وقال لي : وأنا غُلَيْمٌ على أي شيء يجوز كدأب ؟ فقلت له : أظنه من : دئب يدأب دأباً ، فقبل ذلك مني ، وتعجب من جودة تقديري على صغري ، ولا أدري : أيقال أم لا ؟ قال النحاس : لا يقال دئب ألبتة ، وإنما يقال : دأب يدأب دؤباً هكذا حكى النحويون ، منهم الفرّاء ، حكاه في كتاب } المصادر صلى اللّه عليه وسلم. وآل فرعون : أشياعه وأتباعه . . {وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } هم كفار الأمم السالفة ، كقوم نوح ، وقوم هود ، وقوم شعيب ، وغيرهم . فالضمير على هذا عائد على آل فرعون ، ويحتمل أن يعود الضمير على الذين كفروا وهم معاصر ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وموضع : والذين ، جر عطفاً على : آل فرعون . {كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا } بهذه الجملة تفسير للدأب ، كأنه قيل : ما فعلوا ؟ وما فعلوا بهم ؟ فقيل : كذبوا بآياتنا ، فهي كأنها جواب سؤال مقدّر ، وجوّزوا أن تكون في موضع الحال ، أي : مكذبين ، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله :{ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } ثم ابتدأ فقال :{ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ } فيكون : الذين ، مبتدأ ، و : كذبوا خبره وفي قوله : بآياتنا ، التنفات ، إذ قبله من اللّه ، فهو اسم غيبة ، فانتقل منه إلى التكلم . و : الآيات ، يحتمل أن تكون المتلوة في كتب اللّه ، ويحتمل أن تكون العلامات الدالة على توحيد اللّه وصدق أنبيائه {فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ } رجع من التكلم إلى الغيبة ، ومعنى الأخذ بالذنب : العقاب عليه ، والباء في : بذنوبهم ، للسبب . {وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ } تقدّم تفسير مثل هذا ، وفيه إشارة إلى سطوة اللّه على من كفر بآياته وكذب بها . قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة . حسن الإبهام ، وهو فيما افتتحت به ، لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام . ومجاز التشبيه في مواضع منها { نُزّلَتْ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } وحقيقة النزول طرح جرم من علوٍ إلى أسفل ، والقرآن مثمبت في اللوح الحفوظ ، فلما أثبت في القلب صار بمنزلة جرم ألقي من علو إلى أسفل فشبه به ، وأطلق عليه لفظ الإنزال وفي قوله :{ لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } القرآن مصدّق لما تقدّمه من الكتب ، شبه بالإنسان الذي بين يديه شيء يناله شيئاً فشيئاً وفي قوله :{ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ الإنجِيلِ مِن قَبْلُ هُدًى النَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } أقام المصدر فيه مقام اسم الفاعل ، فجعل التوراة كالرجل الذي يوري عنك أمراً ، أي : يستره لما فيها من المعاني الغامضة ، والإنجيل شبه لما فيه من اتساع الترغيب والترهيب والمواعظ والخضوع بالعين النجلاء ، وجعل ذلك هدى لما فيه من الإرشاد ، كالطريق الذي يهديك إلى المكان الذي ترومه ، وشبه الفرقان بالجرم الفارق بين جرمين ، وفي قوله :{ عَذَابٍ شَدِيدٍ } شبه ما يحصل للنفس من ضيق العذاب وألمه بالمشدود الموثق المضيق عليه ، وفي قوله :{ يُصَوّرُكُمْ } شبه أمره بقوله : كن أو تعلق إرادته بكونه جاء على غاية من الإحكام والصنع بمصوّر يمثل شيئاً ، فيضم جرماً إلى جرم ، ويصوّر منه صورة وفي قوله :{ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } جعل ما اتضح من معاني كتابه ، وظهرت آثار الحكمة عليه محكماً ، وشبه المحكم لما فيه من أصول المعاني التي تتفرّع منها فروع متعدّدة ترجع إليها بالأم التي ترجع إليها ما تفرّع من نسلها ويؤمونها ، وشبه ما خفيت معانيه لاختلاف أنحائه كالفواتح ، والألفاظ المحتملة معاني شتى ، والأيات الدالة على أمر المعاد والحساب بالشيء المشتبه الملبس أمره الذي وجم العقل عن تكييفه ؛ وفي قوله :{ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } شبه القلب المائل عن القصد بالشيء الزائغ عن مكانه ، وفي قوله :{ وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } شبه المعقول من الرحمة عن إرادة الخير ، بالمحسوس من الإجرام من العوض والمعوض في الهبة وفي قوله :{ وَقُودُ النَّارِ } شبهم بالحطب الذي لا ينتفع به إلاَّ في الوقود . وقال تعالى :{ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّه حَصَبُ جَهَنَّمَ } والحصب الحطب بلغة الحبشة ، وفي قوله :{ فَأَخَذَهُمُ اللّه بِذُنُوبِهِمْ } شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ . وقيل : هذه كلها استعارات ، ولا تشبيه فيها إلاَّ{ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه . والاختصاص في مواضع ، منها في قوله :{ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } إلى { وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ } على من فسره بالزبور ، واختص الأربعة دون بقية ما أنزل ، لأن أصحاب الكتب إذ ذاك : المؤمنون ، واليهود ، والنصارى ، وفي قوله :{ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَىْء فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء } خصمهما لأنهما أكبر مخلوقاته الظاهرة لنا ، ولأنهما محلان للعقلاء ، ولأن منهما أكثر المنافع المختصة بعباده . وفي قوله :{ وَالرسِخُونَ } اختصهم بخصوصية الرسوخ في العلم بهم ؛ وفي قوله :{ أُوْلُو الاْلْبَابِ } لأن العقلاء لهم خصوصية التمييز ، والنظر ، والاعتيار . وفي قوله :{ لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } اختص القلوب لأن بها صلاح الجسد وفساده ، وليس كذلك بقية الأعضاء ، ولأنها محل الإيمان ومحل العقل على قول من يقول ذلك ، وفي قوله :{ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ } وهو جامعهم في الدنيا على وجه الأرض أحياءً وفي بطنها أمواتاً ، لأن في ذلك اليوم الجمع الأكبر ، وهو الحشر ، ولا يكون إلاَّ في ذلك اليوم ، ولا جامع إلاَّ هو تعالى . وفي قوله :{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم } اختص الكفار لأن المؤمنين تغني عنهم أموالهم التي ينفقونها في وجوه البر ، فهم يجنون ثمرتها في الآخرة ، وتنفعهم أولادهم في الآخرة ، يسقونهم ويكونون لهم حجاباً من النار ، ويشفعون فيهم إذا ماتوا صغاراً ، وينفعونهم بالدعاء الصالح كباراً . وكل هذا ورد به الحديث الصحيح . وفي قوله :{ كَدَأْبِ ءالِ فِرْعَوْنَ } خصهم بالذكر ، وقدمهم لأنهم أكثر الأمم طغياناً ، وأعظمهم تعنتاً على أنبيائهم ، فكانوا أشد الناس عذاباً . والحذف في مواضع ، في قوله :{ لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : من الكتب و { أَنَزلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } أي : وأنزل الإنجيل ، لأن الإنزالين في زمانين { هُدًى لّلنَّاسِ } أي : الدين أراد هداهم : عذاب شديد ، أي يوم القيامة ، .{ ذُو انتِقَامٍ } أي ممن أراد عقوبته { فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء } أي ولا في غيرهما { الْعَزِيزُ } أي : في ملكه .{ الْحَكِيمُ } أي في صنعه { وَأَخَّرَ } أي : آيات أُخر { زَيْغٌ} أي عن الحق { ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ } أي : لكم { وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ } أي : على غير الوجه المراد منه { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } أي : على الحقيقة المطلوبة { رَبَّنَا } أي يا ربنا { لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا } أي : عن الحق { بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } أي : إليه { كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا } أي : المنزلة على الرسل ، أو المنصوبات علماً على التوحيد { بِذُنُوبِهِمْ } أي السالفة . والتكرار : نزل عليك الكتاب ، وأنزل التوراة ، وأنزل الفرقان . كرر لاختلاف الإنزال ، وكيفيته ، وزمانه ، بآيات اللّه ، واللّه . كرر اسمه تعالى تفخيماً ، لأن في ذكر المظهر من التفخيم ما ليس في المضمر . لا إله إلاَّ هو الحي القيوم ، لا إله إلا هو العزيز . كرر الجملة تنبيهاً على استقرار ذلك في النفوس ، ورداً على من زعم أن معه إلهاً غيره . ابتغاء تأويله ، وما يعلم تأويله . كرر لاختلاف التأويلين ، أو للتفخيم لشأن التأويل . ربنا لا تزغ ، ربنا إنك . كرر الدعاء تنبيهاً على ملازمته ، وتحذيراً من الغفلة عنه لما فيه من إظهار الافتقار . والتقديم والتأخير ، وذلك في ذكر إنزال الكتب ، لم يجيء الإخبار عن ذلك على حسب الزمان ، إذ التوراة أولاً ، ثم الزبور ، ثم الإنجيل ، ثم القرآن . وقدم القرآن لشرفه ، وعظم ثوابه ونسخه لما تقدم ، وبقائه ، واستمرار حكمه إلى آخر الزمان . وثنى بالتوراة لما فيها من الأحكام الكثيرة ، والقصص ، وخفايا الاستنباط . ورواها من : أن التوراة حين نزلت كانت سبعين وسقاً ، ثم ثلث بالإنجيل ، لأنه كتاب فيه من المواعظ والحكم ما لا يحصى ، ثم تلاه بالزبور لأن فيه مواعظ وحكما لم تبلغ مبلغ الإنجيل ، وهذا إذا قلنا إن الفرقان هو الزبور ، وفي قوله :{ فِي الاْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَاء } قدم الأرض على السماء وإن كانت السماء أكثر في العوالم ، وأكبر في الأجرام ، وأكبر في الدلائل والآيات ، وأجزل في الفضائل لطهارة سكانها ، بخلاف سكان الأرض ، ليعلمهم ، إطلاعه على خفايا أمورهم ، فاهتم بتقديم محلهم عسى أن يزدجروا عن قبيح أفعالهم ، لأنه إذا أنبه على أن اللّه لا يخفى عليه شيء من أمره ، استحيا منه . والالتفات { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ } ثم قال { إِنَّ اللّه } وفي قوله :{ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا } ثم قال { وَاللّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} والتأكيد :{ وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } فاكد بلفظة : هم ، وأكد بقوله :{ هُوَ الَّذِي يُصَوّرُكُمْ } قوله { لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } وأكد بقوله { هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } قوله { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ} والتوسع بإقامة المصدر مقام اسم الفاعل في قوله : هدى ، والفرقان ، أي : هادياً ، والفارق . وبإقامة الحرف مقام الظرف في قوله : من اللّه ، أي : عند اللّه ، على قول من أوَّل : من ، بمعنى : عند . والتجنيس المغاير في قوله : وهب ، والوهاب . {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ وَاللّه يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لاوْلِى الاٌّ بْصَارِ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَآءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَاللّه عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ } العبرة : الاتعاظ يقال : منه اعتبر ، وهو الاستدلال بشيء على شيء يشبهه ، واشتقاقها من العبور ، وهو مجاوزة الشيء إلى الشيء ، ومنه : عبر النهر ، وهو شطه ، والمعبر : السفينة ، والعبارة يعبر بها إلى المخاطب بالمعاني ، وعبرت الرؤيا مخففاً ومثقلاً : نقلت ما عندك من علمها إلى الرائي أو غيره ممن يجهل : وكان الاعتبار انتقالاً عن منزلة الجهل إلى منزلة العلم ، ومنه ، العَبرة ، وهي الدمع ، لأنها تجاوز العين . الشهوة : ما تدعو النفس إليه ، والفعل منه : اشتهى ، ويجمع بالألف والتاء فيقال : شهوات ، ووجدت أنا في شعر العرب جمعها على : شُهى ، نحو : نزوة ونزى ، و : كوة وكوى ، على قول من زعم أن : كوى ، جمع كوة بفتح الكاف ، وهذا مع : قرية وقرى ، ذكره النحويون مما جاء على وزن فعلة معتل اللام ، وجمع على فعل ، واستدركت أنا : شهى ، وقالت امرأة من بني نضر بن معاوية : فلولا الشُّهى واللّه كنت جديرة بأن أترك اللذات في كل مشهد القنطار : فنعال نونه زائدة ، قاله ابن دريد ، فيكون وزنه : فنعالاً من : قطر يقطر وقيل : أصل ووزن فعلال ، وفيه خلاف : أهو واقع على عدد مخصوص ؟ أم هو وزن لا يحد ولا يحصر ؟ والقائلون بأنه عدد مخصوص اختلفوا في ذلك العدد ، ويأتي ذلك في التفسير ، إن شاء اللّه تعالى . ويقال منه : قنطر الرجل إذا كان عنده قناطير ، أو قنطار من المال وقال الزجاج : هو مأخوذ من : قنطرت الشيء ، عقدته وأحكمته ، ومنه سميت القنطرة لإحكامها وقيل : قنطرته : عبيته شيئاً على شيء ، ومنه سمي القنطرة . فشبه المال الكثير الذي يعبى بعضه على بعض بالقنطرة . الذهب : معروف ، وهو مؤنث يجمع على ذهاب وذهوب . وقيل : الذهب جمع ذهبية . والفضة : معروفة ، وجمعها قضض ، فالذهب مشتق من الذهاب ، والفضة من انفض الشيء : تفرق ، ومنه : فضضت القوم . الخيل : جمع لا واحد له من لفظه ، بل واحدة : فرس . وقيل : واحده خايل ، كراكب وركب ، قاله أبو عبيدة . سميت بذلك لاختيالها في مشيها . وقيل : اشتقاقه من التخيل ، لأنه يتخيل في صورة من هو أعظم منه . وقيل : الاختيال مأخوذ من التخيل . النعم : الإبل فقط ، قال الفراء : وهو مذكر ولا يؤنث ، يقولون هذا نعم وارد . وقال الهروي : النعم ، يذكر ويؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم . وقال ابن قتيبة : الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحدها نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، وسميت بذلك لنعومة مسها وهو لينها ، ومنه : الناعم ، والنعامة ، والنعامي الجنوب ، سميت بذلك للين هبوبها . المآب : مفعل من آب يؤوب إياباً . أي : رجع ، يكون للمصدر والمكان والزمان . ١٢قل للذين كفروا . . . . . {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } سبب نزولها أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر ، إن قريشاً كانوا أغماراً ، ولو حاربتنا لرأيت رجالاً . وقيل : نزلت في قريش قبل بدر بسنتين ، فحقق اللّه تعالى ذلك وقيل : لما غلب قريشاً ببدر ، قالت اليهود : هو النبي المبعوث الذي في كتابنا ، لا تهزم له راية . فقالت لهم شياطينهم : لا تعجلوا حتى نرى أمره في وقعة أخرى . فلما كانت أحد كفروا جميعهم ، وقالوا : ليس بالنبي المنصور . وقيل : في أبي سفيان وقومه ، جمعوا لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعد بدر ، فنزلت . ولما أخبر تعالى قيل : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم وَإِنَّهُمْ وَقُودُ النَّارِ } ناسب ذلك الوعد الصادق اتباعه هذا الوعد الصادق ، وهو كالتوكيد لما قبله ، فالغلبة تحصل بعدم انتفاعهم بالأموال والأولاد ، والحشر لجهنم مبدأ كونهم يكونون لها وقوداً . وقرأ حمزة ، والكسائي : سيغلبون ويحشرون ، بالياء على الغيبة وقرأ باقي السبعة : بالتاء ، خطاباً ، فتكون الجملة معمولاً للقول . ومن قرأ بالياء فالظاهر أن الضمير : للذين كفروا ، وتكون الجملة إذ ذاك ليست محكية بقل ، بل محكية بقول آخر ، التقدير : قل لهم قولي سيغلبون ، وإخباري أنه يقع عليهم الغلبة والهزيمة . كما قال تعالى :{ قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيغلبون ، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيغلبون ، وأجاز بعضهم ، وهو : الفراء ، وأحمد بن يحيى ، وأورده ابن عطية ، إحتمالاً أن يعود الضمير في : سيغلبون ، في قراءة التاء على قريش ، أي : قل لليهود ستغلب قريش ، وفيه بُعْدٌ . والظاهر أن : الذين كفروا ، يعم الفريقين المشركين واليهود ، وكل قد غلب بالسيف ، والجزية ، والذلة ، وظهور الدلائل والحجج ، وإلى معناها الغاية ، وإن جهنم منتهى حشرهم ، وأبعد من ذهب إلى أن : إلى ، في معنى : في ، فيكون المعنى : إنهم يجمعون في جهنم وبئس المهاد ، يحتمل أن يكون من جملة المقول ، ويحتمل أن يكون استئناف كلام منه تعالى ، قاله الراغب ؛ والمخصوص بالذم محذوف لدلالة ما قبله عليه ، التقدير : وبئس المهاد جهنم . وكثيراً ما يحذف لفهم المعني ، وهذا مما يستدل به لمذهب سيبويه : أنه مبتدأ والجملة التي قبله في موضع الخبر ، إذ لو كان خبر مبتدأ محذوف ، أو مبتدأ محذوف الخبر للزم من ذلك حذف الجملة برأسها من غير أن يبقى ما يدل عليها ، وذلك لا يجوز ، لأن حذف المفرد أسهل من حذف الجملة . وأمّا من جعل : المهاد ، ما مهدوا لأنفسهم ، أي : بئسما مهدوا لأنفسهم ، وكان المعنى عنده ، و : بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم ، ففيه بُعْدٌ ، ١٣قد كان لكم . . . . . ويروى عن مجاهد . {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } قال في { ري الظمآن} : أجمع المفسرون على أنهها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله ابن مسعود ، والحسن . فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال : من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم ، حين أخبره النبي صلى اللّه عليه وسلم بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله . وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ : ستغلبون ، بالتاء . ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، وإعلاماً بأن اللّه سينصر دينه . وقد أراكم في ذلك مثالاً بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر . وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري وابن جرير ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي قريش ، فإن اللّه غالبكم ، وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء . كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي . وازداد حسناً بالفصل ، وإذا كان الفصل حسناً في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة وقال : إن امرأ غره منكن واحدة بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال : برهرهة رودة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر ذهب إلى القضيب ، وفي قوله { فِي فِئَتَيْنِ } محذوف تقديره في : قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال . {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل اللّه ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل اللّه . وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر . والجمهورُ برفع : فئة ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر . وقيل : الرفع على البدل من الضمير في التقتا . وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئةٍ ، بالجر على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال : وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِ ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة ، الأولى بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل اللّه ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء وإما على الخبر . وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فئة ، بالنصب . قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل اللّه ، وأذم أخرى كافرة . وقال الزمخشري : النصب في : فئة ، على الاختصاص وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً ، وأجاز هو ، وغيره قبله كالزجاج : أن ينتصب على الحال من الضمير في : التقتا ، وذكر : فئة ، على سبيل التوطئة . وقرأ الجمهور : تقاتل ، بالتاء على تأنيث الفئة ، وقرأ مجاهد ، ومقاتل : يقاتل بالياء على التذكير ، قالوا : لأن معنى الفئة القوم فرد إليه ، وجرى على لفظه . {يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ } قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل ، ترونهم ، بالتاء على الخطاب وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة وقرأ ابن عباس ، وطلحة : ترونهم بضم التاء على الخطاب وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة ، فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب ، فيكون الضمير في : لكم ، للمؤمنين ، والضمير المرفوع في : ترونهم ، للمؤمنين أيضاً . وضمير النصب في : ترونهم ، وضمير الجر في : مثليهم ، عائد على الكافرين ، والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون ذلك أبلغ في الآية ، أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ، ومع ذلك نصرهم اللّه عليهم ، وأوقع المسلمون بهم . وهذه حقيقة التأييد بالنصر ، كقوله تعالى { كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه } واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية ، وآية الأنفال ، قصة واحدة ، وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ، فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ، ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين ، والضمير المنصوب في : ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين ، واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون : ترونهم مثليكم . وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، كقوله تعالى :{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } ويحتمل أن يعود الضمير في : مثليهم ، على الفئة المقاتلة في سبيل اللّه ، أي : ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل اللّه وهم أنفسهم . والمعنى : ترونهم مثليكم ، وهذا تقليل ، إذا كانوا نيفاً على ألف ، والمسلمون في تقدير ثلث . منهم ، فأرى اللّه المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله : { إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } لتجترئوا عليهم . وإذن كان الضمير في : لكم ، للكافرين وفي : ترونهم ، الخطاب لهم ، والمنصوب والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم . ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائداً على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم ، فيكون اللّه تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين ، أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم ، وكانت تلك الرؤية مدداً من اللّه للمؤمنين ، كما أمدهم تعالى بالملائكة ، فإن كانت هذه ، وآية الأنفال في قصة واحدة ، فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين ، قللوا أولاً في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين ، وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا ، كقوله :{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ }{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } وأما من قرأ بالياء المفتوحة . فالظاهر أن الجملة صفة لقوله : وأخرى كافرة ، وضمير الرفع عائد عليها على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : تراهم ، وضمير النصب عائد على : فئة تقاتل في سبيل اللّه ، وضمير الجرّ في : مثليهم ، عائد على فئة أيضاً ، وذلك على معنى الفئة ، إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب : تراها مثليها ، أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها . أي : ستمائة ونيف وعشرين ، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة ، أي ألفين ، أو قريباً من ألفين . ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى ، أي : ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها . ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة . والجملة إذ ذاك صفة لقوله : وأخرى كافرة ، ففي الوجه الأول الرابط الواو ، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب . وإذا كان الضمير في : لكم ، لليهود ؛ فالآية كما أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتثبيتاً لصورة الوعد السابق من أن الكفار : سيغلبون . فمن قرأ بالتاء كان معناه : لو حضرتم ، أو إن كنتم حضرتم ، وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ، ووقوع اليقين به ، لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ، ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل . والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد ، وانتصب : مثليهم ، على الحال . قاله أبو علي ، ومكي ، والمهدوي . ويقوي ذلك ظاهر قوله : رأي العين ، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد . قال الزمخشري : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات . وقيل : الرؤية هنا من رؤية القلب ، فيتعدى لإثنين ، والثاني هو : مثليهم . ورد هذا بوجهين : أحدهما :قوله تعالى : رأي العين ، والثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين . وأجيب عن الأول : بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي ، أي : رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به . وعن الثاني : بأن معنى الرؤية هنا الإعتقاد ، فلا يكون ذلك محالاً . وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الإعتقاد دون اليقين ، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى . قال تعالى :{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } أي فإن اعتقدتم إيمانهن ، ويدل على هذا قراءة من قرأ : ترونهم ، بضم التاء ، أو الباء . قالوا : فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً ، لا يقيناً . فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك ، وذلك أن : أُري ، بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر ، وإذا كان كذلك ، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم ، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين ، لأنه كما لا يقع : العلم غير مطابق للمعلوم ، كذلك لا يقع : النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه ، فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن ، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم . شبه برؤية العين ، والرأي مصدر : رأى ، يقال : رأى رأياً ورؤية ورؤيا ، ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ، ورأيا في الإعتقاد ، يقال : هذا رأي فلان ، قال رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه خوارج تراكين قصد المخارج ومعنى : مثليهم ، قدرهم مرتين . وزعم الفراء أن معنى : يرونهم مثليهم ، ثلاثة أمثالهم كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها . وغلطه الزجاج . وقال : إنما مثل الشيء مساو له . ومثلاه مساويه مرتين . وقال ابن كيسان : أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر ، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلاّ على عدتهم ، وهذا بعيد ، وليس المعنى عليه ، وإنما المعنى أراهم اللّه على غير عدتهم بجهتين : إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ، لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك . والأخرى : أنه آية النبي صلى اللّه عليه وسلم. انتهى كلام ابن كيسان . وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة ، والمؤمنين ثلثمائة وأربعة عشر . وقيل : وثلاثة عشرة ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع ، وناس كثير حتى بقي للقتال من بقرب من الثلثين ، فذكر اللّه المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد . وحكي عن ابن عباس : أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين ، وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف . وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : { يوم بدر القوم ألف} . وقال ابن عباس : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وقال في رواية : لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . فأسرنا منهم رجلاً فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً . ونقل أن المشركين لما أسروا ، قالوا للمسلمين : كم كنتم ؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، قالوا : ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا وتكثير كل طائفة في عين الأخرى ، وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز ، فلا يمتنع . {وَاللّه يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي : يقويه بعونه . وقيل : النصر الحجة . ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ، ومفعول : من يشاء ، محذوف أي : من يشاء نصره . {إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : النصر . وقيل : رؤية الجيش مثليهم { لَعِبْرَةً } أي اتعاظاً ودلالة .{ لاِوْلِى الاْبْصَارِ } إن كانت الرؤية بصرية ، فالمعنى : للذين أبصروا الجمعين ، وإن كانت اعتقادية ، فالمعنى : لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار . ١٤زين للناس حب . . . . . {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّسَاء وَالْبَنِينَ } قرأ الجمهور : زين مبنياً للمفعول ، والفاعل محذوف ، فقيل : هو اللّه تعالى ، قاله عمر ، لأنه قال حين نزلت : الآن يا رب حين زينتها ، فنزلت { قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ } الآية ، ومعنى التزيين : خلقها وإنشاء الجبلة على الميل إليه ، وهذا كقوله :{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ } فزينها تعالى للابتلاء ، ويدل عليه قراءة : زين للناس حب ، مبنياً للفاعل ، وهو الضمير العائد على اللّهفي قوله :{ وَاللّه يُؤَيّدُ} وقيل : المزين الشيطان ، وهو ظاهر قول الحسن ، قال : من زينها : ما أحد أشد ذماً لها من خالقها ويصح إسناد التزيين إلى اللّه تعال بالإيجاد والتهيئة للانتفاع ، ونسبته إلى الشيطان بالوسوسة ، وتحصيلها من غير وجهها . وأشارت الآية إلى توبيخ معاصري رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من اليهود وغيرهم ، المفتونين بالدنيا ، وأضاف المصدر إلى المفعول ، وهو الكثير في القرآن ، وعبر عن المشتهيات : بالشهوات ، مبالغة . إذ جعلها نفس الأعيان ، وتنبيهاً على خستها ، لأن الشهوة مسترذلة عند العقلاء ، يذم متبعها ويشهد له بالانتظام في البهائم ، وناهيك لها ذماً قوله صلى اللّه عليه وسلم : { حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره } وأتى بذكر الشهوات أولاً مجموعة على سبيل الإجمال ، ثم أخذ في تفسيرها شهوة شهوة ليدل على أن المزين ما هو إلاّ شهوة دنيوية لا غير ، فيكون في ذلك تنفير عنها ، وذم لطالبها وللذي يختارها على ما عند اللّه ، وبدأ في تفصيلها بالأهم فالأهم ، بدأ بالنساء لأنهنّ حبائل الشيطان وأقرب وأكثر امتزاجاً : { ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكنّ}. ويقال ؛ فيهنّ فتنتان : قطع الرحم وجمع المال من الحلال والحرام ، وفي البنين فتنة واحدة وهي جمع المال . وثنى بالبنين لأنهم من ثمرات النساء ، وفروع عنهنّ ، وشقائق النساء في الفتن ، الولد مبخلة مجبنة : وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمض وقدّموا على الأموال لأن حب الإنسان ولده أكثر من حبه ماله ، وحيث ذكر الامتنان والإنعام أو الاستعانة والغلبة . قدمت الأموال على الأولاد . وظاهر قوله : والبنين ، الذكران . وقيل يشمل : الإناث ، وغلب التذكير . {وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ } ثلث بالأموال لما في المال من الفتنة ، ولأنه يحصل به غالب الشهوات ، ولأن المرء يرتكب الأخطار في تحصيله للولد . واختلف في : القنطار ، أهو عدد مخصوص ، أم ليس كذلك ؟ فقيل : ألف ومائتا أوقية ، وقيل : اثنا عشر ألف أوقية ، وقيل : ألف ومائتا دينار . وكل هذه رويت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم : الأول : رواه أبيّ ، وقال به معاذ ، وابن عمر ، وعاصم بن أبي النجود ، والحسن في رواية . والثاني : رواه أبو هريرة وقال به . و الثالث : رواه الحسن ، ورواه العوفي عن ابن عباس . وقيل : اثنا عشر ألف درهم ، أو ألف دينار ذهباً ، وروي عن ابن عباس ، وعن الحسن ، والضحاك . وقال ابن المسيب : ثمانون ألفاً . وقال مجاهد ، وروي عن ابن عمر : سبعون ألف دينار . وقال السدي : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال الكلبي : ألف مثقال ذهب أو فضة . وقال قتادة : مائة رطل من الذهب ، أو ثمانون ألف درهم من الفضة . وقال سعيد بن جبير ، وعكرمة : مائة ألف ، ومائة منّ ، ومائة رطل ، ومائة مثقال ، ومائة درهم . ولقد جاء الإسلام يوم جاء ، وبمكة مائة رجل قد قنطروا . وقيل : أربعون أوقية من ذهب أو فضة ، ذكره مكي ، وقاله ابن سيده في } المحكم} . وقيل : ثمانية آلاف مثقال ، وهي مائة رطل . وقال ابن سيده في { المحكم} القنطار : بلغة بربر : ألف مثقال . وروى أنس ، عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في تفسير : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ } قال : ألف دينار . وحكى الزجاج أنه قيل : إن القنطار هو رطل ذهباً أو فضة . قال ابن عطية ، وأظنه وهماً ، وإن القول مائة رطل ، فسقطت مائة للناقل . انتهى . وقال أبو حمزة الثمالي : القنطار بلسان أفريقية والأندلس : ثمانية آلاف مثقال وهذا يكون في الزمان الأول . وأما الآن فهو عندنا : مائة رطل ، والرطل عندنا ، ستة عشر أوقية . وقال أبو بصرة ، وأبو عبيدة : ملء مسك ثور ذهباً . قال ابن سيده : وكذا هو بالسريانية . وقال ابن الكلبي : وكذا هو بلغة الروم . وقال الربيع بن أنس : المال الكثير بعضه على بعض . وقال ابن كيسان : المال العظيم . وقال أبو عبيدة : القنطار عند العرب وزن لا يحد ، وقال الحكم : القنطار ما بين السماء والأرض من مال . و قال ابن عطية : القنطار معيار يوزن به ، كما أن الرطل معيار . ويقال : لما بلغ ذلك الوزن قنطاراً . أي يعدل القنطار ، وأصح الأقوال الأول ، والقنطار يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية . انتهى . والمقنطرة : مفعللة ، أو مفيعلة من القنطار . ومعناه المجتمعة ، كما يقول : الألوف المؤلفة ، والبدرة المبدرة . اشتقوا منها وصفاً للتوكيد . وقيل : المقنطرة المضعفة ، قاله قتادة والطبري . وقيل : المقنطرة تسعة قناطير ، لأنه جمع جمع ، قاله النقاش . وهذا غير صحيح . وقال ابن كيسان : لا تكون المقنطرة أقل من تسعة . وقال الفراء : لا تكون أكثر من تسعة ، وهذا كله تحكم . وقال السدي : المقنطرة المضروبة دنانير ، أو دراهم . وقال الربيع والضحاك المنضد : الذي بعضه فوق بعض ، وقيل : المخزونة المدخورة . وقال يمان : المدفونة المكنوزة . وقيل : الحاضرة العتيدة ، قاله ابن عطية . . وقال مروان بن الحكم ، ما المال إلاَّ ما حازته العيان { مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ } تبيين للقناطير ، وهو في موضع الحال منها ، أي كائناً من الذهب { وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ } أي : الراعية في المروج ، سامت سرحت وأخذت سومها من الرعي : أي غاية جهدها ، ولم تقصر على حال دون حال ، فيكون قد عدى الفعل بالتضعيف ، كما عدى بالهمزة في قولهم : أسمتها ، قاله ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن ، وعبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبزى ، ومجاهد ، والربيع . وروي عن مجاهد : أنها المطهمة الحسان . وقال السدي : هي الرائقة من سيما الحسن . وقال عكرمة : سومها الحسن ، واختاره النحاس . من قولهم : رجل وسيم ، ولا يكون ذلك لاختلاف المادتين ، إلاَّ إن ادعى القلب . وقال أبو عبيدة ، والكسائي : المعلمة بالشيات وروي عن ابن عباس ، وهو من السومة ، وهي العلامة قال أبو طالب : أمين محب للعباد مسوّم بخاتم ربّ طاهر للخواتم قال أبو زيد : أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى : وقال ابن فارس في { المجمل} المسومة : هي المرسل عليها ركبانها . وقال ابن زيد : المعدّة للجهاد . وقال ابن المبرد : المعروفة في البلدان . وقال ابن كيسان : البلق . وقيل : ذوات الأوضاح من الغرة والتحجيل . وقيل : هي الهماليج . {وَالانْعَامِ وَالْحَرْثِ } يحتمل أن يكون المعاطيف من قوله : والقناطير ، إلى آخرها . غير ما أتى تبييناً معطوفاً على الشهوات ، أي : وحب القناطير وكذا وكذا . ويحتمل أن يكون معطوفاً على قوله : من النساء ، فيكون مندرجاً في الشهودات . ولم يجمع الحرث لأنه مصدر في الأصل . وقيل : يراد به المفعول ، وتقدّم الكلام فيه عند قوله { وَلاَ تَسْقِى الْحَرْثَ} {ذالِكَ مَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا } أشار : بذلك ، وهو مفرد إلى الأشياء السابقة وهي كثيرة ، لأنه أراد ذلك المذكور ، أو المتقدم ذكره . والمعنى : تحقير أمر الدنيا ، والإشارة إلى فنائها وفناء ما يستمتع به فيها ، وأدغم أبو عمر وفي الإدغام الكبير ثاء : والحرث ، في : ذال : ذلك ، واستضعف لصحة الساكن قبل الثاء . {وَاللّه عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ } أي : المرجع ، وهو إشارة إلى نعيم الآخرة الذي لا يفني ولا ينقطع . ومن غريب ما استنبط من الأحكام في هذه الآية أن فيها دلالة على إيجاب الصدقة في الخيل السائمة لذكرها مع ما تجب فيه الصدقة أو النفقة ، فالنساء والبنون فيهم النفقة ، وباقيها فيها الصدقة ، قاله الماتريدي . وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة والبلاغة : الخطاب العام : ويراد به الخاص في قوله :{ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } على قول عامّة المفسرين هم اليهود ، وهذا من تلوين الخطاب . والتجنيس المغاير : في { تَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ } والاحتراس : في {رَأْىَ الْعَيْنِ } قالوا لئلا يعتقد أنه من رؤية القلب ، فهو من باب الحزر وغلبة الظن . والإبهام : في { زُيّنَ لِلنَّاسِ} والتجنيس المماثل : في { وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} والحذف : في مواضع ، وهي كل موضع يضطر فيه إلى تصحيح المعنى بتقدير محذوف . ١٥قل أؤنبئكم بخير . . . . . الرضوان : مصدر رضي ، وكسر رائه لغة الحجاز ، وضمها لغة تميم وبكر ، وقيس ، وغيلان . وقيل : الكسر للأسم ، ومنه : رِضوان خازن الجنة ، والضم للمصدر . السحر : بفتح الحاء وسكونها ، قال قوم منهم الزجاج : الوقت قبل طلوع الفجر ، ومنه يقال : تسحر أكل في ذلك الوقت ، واستحر : سار فيه قال . بكرن بكوراً واستحرت بسحرة فهنّ لوادي الرس كاليد للفم واستحر الطائر صالح وتحرك فيه قال : يعل به برد أنيابها اذا غرّد الطائر المستحر وأسحر الرجل واسثحر دخل في السحر قال : وأدلج من طيبة مسرعا فجاء إلينا وقد أسحرا وقال بعض اللغويين السحر : من ثلث الليل الآخر إلى الفجر ، وجاء في بعض الأشعار عن العرب أن السحر يستمر حكمه فيما بعد الفجر . وقيل : السحر عند العرب بكون من آخر الليل ثم يستمر إلى الإسفار . وأصل السحر الخفاء للطفة ، ومنه السحر والسحر . {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذالِكُمْ } نزلت حين قال عمر عندما نزل :{ زُيّنَ لِلنَّاسِ } يا رب الآن حين زينتها . ولما ذكر تعالى أن { عِندَهُ حُسْنُ الْمَأَبِ } ذكر المآب وأنه خير من متاع الدنيا ، لأنه خير خال من شوب المضار ، وباق لا ينقطع . والهمزة في : أؤنبئكم ، الأولى همزة الاستفهام دخلت على همزة المضارعة وقرىء في السبعة بتحقيق الهمزتين من غير ادخال ألف بينهما ، وبتحقيقهما ، وادخال ألف بينهما ، وبتسهيل الثانية من غير ألف بينهما . ونقل ورش الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة . وبتسهيلها وإدخال ألف بينهما وفي هذه الآية تسلية عن زخارف الدنيا ، وتقوية لنفوس تاركها وتشريف الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، ولما قال : ذلك متاع ، فأفرد ، جاء : بخير من ذلكم ، فأفرد اسم الإشارة ، وإن كان هناك مشاراً به إلى ما تقدّم ذكره ، وهو كثير . فهذا مشار به إلى ما أشير بذلك ، و : خير ، هنا أفعل التفضيل ، ولا يجوز أن يراد به خير من الخيور ، ويكون : من ذلكم ، صفة لما يلزم في ذلك من أن يكون ما رغبوا فيه بعضاً مما هدوا فيه . {لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ عِندَ رَبّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ } يحتمل أن يكون للذين متعلقاً بقوله : بخير من ذلكم ، و : جنات ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو جنات ، فتكون ذلك تبييناً لما أبهم في قوله : بخير من ذلكم ويؤيد ذلك قراءة يعقوب : جنات ، بالجر بدلاً من : بخير ، كما تقول : مررت برجل زيد ، بالرفع و : زيد بالجر ، وجوّز في قراءة يعقوب أن يكون : جنات ، منصوباً على إضمار : أعني ، ومنصوباً على البدل على موضع بخير ، لأنه نصب . ويحتمل أن يكون : للذين ، خبرا لجنات ، على أن تكون مرتفعة على الإبتداء ، ويكون الكلام تم عند قوله : بخير من ذلكم ، ثم بين ذلك الخير لمن هو ، فعلى هذا العامل في : عند ربهم ، العامل في : للذين ، وعلى القول الأول العامل فيه قوله : بخير . {خَاالِدِينَ فِيهَا وَأَزْواجٌ مُّطَهَّرَةٌ } تقدّم تفسير هذا وما قبله . {وَرِضْوانٌ مّنَ اللّه} بدأ أولاً بذكر المقر ، وهو الجنات التي قال فيها { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الاْنْفُسُ وَتَلَذُّ الاْعْيُنُ } { فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر} ثم انتقل من ذكرها إلى ذكر ما يحصل به الأنس التامّ من الأزواج المطهرة ، ثم انتقل من ذلك إلى ما هو أعظم الأشياء وهو رضا اللّه عنهم ، فحصل بمجموع ذلك اللذة الجسمانية والفرح الروحاني ، حيث علم برضا اللّه عنه ، كما جاء في الحديث أنه تعالى : { يسأل أهل الجنة هل رضيم ؟ فيقولون : ما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا }. ففي هذه الآية الإنتقال من عال إلى أعلى منه ، ولذلك جاء في سورة براءة ، قد ذكر تعالى الجنات والمساكن الطيبة فقال : { وَرِضْوانٌ مّنَ اللّه أَكْبَرُ } يعنى أكبر مما ذكر من ذكر من الجنات والمساكن . وقال الماتريدي : أهل الجنة مطهرون لأن العيوب في الأشياء علم الفناء ، وهم خلقوا للبقاء ، وخص النساء بالطهر لما فيهنّ في الدنيا من فضل المعايب والأذى . وقال أبو بكر : ورضوان ، بالضم حيث وقع إلاَّ في ثاني العقود ، فعنه خلاف . وباقي السبعة بالكسر ، وقد ذكرنا أنهما لغتان . {وَاللّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي بصير بأعمالهم ، مطلع عليها ، فيجازي كلاً بعمله ، فتضمنت الوعد والوعيد . ١٦الذين يقولون ربنا . . . . . ولما ذكر المتقين أفهم مقابلهم فختم الآية بهذا . {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } لما ذكر أن الجنة للمتقين ذكر شيئاً من صفاتهم ، فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى ، وذكر دعاءهم ربهم عند الإخبار عن أنفسهم بالإيمان ، وأكد الجملة بأن مبالغة في الإخبار ، ثم سألوا الغفران ووقايتهم من العذاب مرتباً ذلك على مجرد الإيمان ، فدل على أن الإيمان يترتب عليه المغفرة ، ولا يكون الإيمان عبارة عن سائر الطاعات ، كما يذهب إليه بعضهم ، لأن من تاب وأطاع اللّه لا يدخله النار بوعده الصادق ، فكان يكون السؤال في أن لا يفعله مما لا ينبغي ، ونظيرها ، { بِنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً } الآية ، فالصفات الآتية بعد هذا ليست شرائط بل هي صفات تقتضي كمال الدرجات . وقال الماتريدي : مدحهم تعالى بهذا القول ، وفيه تزكية أنفسهم بالإيمان ، واللّه تعالى نهى عن تزكية الأنفس بالطاعات ، كما قال تعالى :{ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ } فلو كان الإيمان إسما لجميع الطاعات لم يرض منهم التزكية بالإيمان ، كما لم يرضها بسائر الطاعات ، فالآية حجة من جعل الطاعات من الإيمان ، وفيها دلالة على أن إدخال الاستثناء في الإيماغن باطل ، لأنه رضيه منهم دون استثناء . إنتهى . قيل : ولا تدل على شيء من التزكية ولا من الاسثنتاء ، لأن قولهم : آمنا ، هو اعتراف بما أمروا به ، فلا يكون ذلك تزكية منهم لأنفسهم ، ولأن الاستثناء إنما هو فيما يموت عليه المرء ، لا فيما هو متصف به ، ولا قائل بأن الإيمان الذي يتصف به العبد يجوز الاستثناء فيه ، فإن ذلك محال عقلاً . وأعرب : الذين يقولون ، صفة وبدلاً ومقطوعاً لرفع أو لنصب ، ويكون ذلك من توابع :{ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ } أو من توابع : العباد ، والأول أظهر . ١٧الصابرين والصادقين والقانتين . . . . . {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالاْسْحَارِ } لما ذكر الإيمان بالقول ، أخبر بالوصف الدّال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف ، فصبروا على أداء الطاعة ، وعن اجتناب المحارم ، ثم بالوصف الدال على مطابقة الإعتقاد في القلب للفظ الناطق به اللسان ، فهم صادقون فيما أخبروا به من قولهم :{ رَبَّنَا إِنَّنَا ءامَنَّا } وفي جميع ما يخبرون . وقيل : هم الذين صدقت نياتهم ، واستقامت قلوبهم وألسنتهم في السر والعلانية ، وهذا راجع للقول الذي قبله ، ثم بوصف القنوت ، وتقدم تفسيره في قوله :{ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } فأغنى عن إعادته ، ثم بوصف الإنفاق ، لأن ما تقدم هو من الأوصاف التي نفعها مقتصر على المتصف بها لا يتعدى ، فأبى في هذا بالوصف المتعدي إلى غيره ، وهو الإنفاق ، وحذفت متعلقات هذه الأوصاف للعلم بها ، فالمعنى : الصابرين على تكاليف ربهم ، والصادقين في أقوالهم ، والقانتين لربهم ، والمنفقين أموالهم في طاعته ، والمستغفرين اللّه لذنوبهم في الأسحار ولما ذكر أنهم رتبوا طلب المغفرة على الإيمان الذي هو أصل التقوى ، أخبر أيضاً عنهم ، أنهم عند اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة ، هم مستغفرون بالأسحار ، فليسوا يرون اتصافهم بهذه الأوصاف الشريفة مما يسقط عنهم طلب المغفرة ، وخص السحر بالذكر ، وإن كانوا مستغفرين دائماً ، لأنه مظنة الإجابة ، كما صح في الحديث : { أنه تعالى ، تنزه عن سمات الحدوث ، ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر} . وكانت الصحابة : ابن مسعود ، وابن عمر ، وغيرهم يتحرون الأسحار ليستغفروا فيها ، وكان السحر مستحباً فيه الإستغفار لأن العبادة فيه أشق ، ألا تراهم يقولون : إن إغفاءة الفجر من ألذ النوم ؟ ولأن النفس تكون إذ ذاك أصفى ، والبدن أقل تعباً ، والذهني أرق وأحد ، إذ قد أجم عن الأشياء الشاقة الجسمانية والقلبية بسكون بدنه ، وترك فكرة بانغماره في وارد النوم . وقال الزمخشري : إنهم كانوا يقدمون قيام الليل ، فيحسن طلب الحاجة فيه { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } إنتهى . ومعناه ، عن الحسن وهذه الأوصاف الخمسة هي لموصوف واحد وهم : المؤمنون ، وعطفت بالواو ولم تتبع دون عطف لتباين كل صفة من صفة ، إذ ليست في معنى واحد ، فينزل تغاير الصفات وتباينها منزلة تغاير الذوات فعطفت . وقال الزمخشري : والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها . إنتهى ولا نعلم العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال . قال المفسرون في الصابرين : صبروا عن المعاصي . وقيل : ثبتوا على العهد الأول . وقيل : هم الصائمون . قالوا في الصادقين : في الأقوال . وقيل : في القول والفعل والنية . وقيل : في السر والعلانية . قالوا في القانتين : الحافظين للغيب . وقال الزجاج : القائمين على العبادة . وقيل : القائمين بالحق . وقيل : الداعين المتضرعين . وقيل : الخاشعين . وقيل : المصلين . وقالوا في المنفقين : المخرجين المال على وجه مشروع . وقيل : في الجهاد . وقيل : في جميع أنواع البر . وقال ابن قتيبة : في الصدقات . قالوا في المستغفرين السائلين قاله ابن عباس وقال ابن مسعود وان عمر وأنس وقتادة السائلين المغفرة وقت فراغ البال وخفة الأشفال ، وقال قتادة أيضاً : المصلين بالأسحار . وقال زيد بن أسلم : المصلين الصبح في جماعة . وهذا الذي فسروه كله متقارب . ١٨شهد اللّه أنه . . . . . {شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ} {سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة ، فقال أحدهما للآخر : ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان ، ثم عرفا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالنعت ، فقالا : أنت محمد ؟ قال : } نعم { . فقالا : أنت أحمد ؟ فقال : } نعم { . فقالا : نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا . فقال : } سلاني فقال أحدهما : أخبرنا عن أعظم الشهادة في كتاب اللّه ، فنزلت وأسلما . وقال ابن جبير : كان حول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ، فلما نزلت هذه الآية خرت سجدا . وقيل : نزلت في نصارى نجران لما حاجوا في أمر عيسى . وقيل : في اليهود والنصارى لما تركوا اسم الإسلام وتسموا باليهودية والنصرانية . وقيل : إنهم قالوا : ديننا أفضل من دينك ، فنزلت . وأصل : شهد ، حضر ، ثم صرفت الكلمة في أداء ما تقرر علمه في النفس ، فأي وجه تقرر من حضور أو غيره . فقيل : معنى : شهد ، هنا : أعلم . قاله المفضل وغيره ، وقال الفرّاء ، وأبو عبيدة : قضى ، وقال مجاهد : حكم ، وقيل : بين . وقال ابن كيسان : شهد بإظهار صنعه . وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد قال الزمخشري : شبهت دلالته على وحدانيته بأفعاله الخاصة التي لا يقدر عليها غيره ، وبما أوحى من آياته الناطقة بالتوحيد كسورة الإخلاص ، وآية الكحرسي وغيرهما . بشهادة الشاهد في البيان والكشف ، وكذلك إقرار الملائكة وأولي العلم بذلك ، واحتجاجهم عليه . إنتهى . وهو حسن . وقال المروزي : ذكر شهادته سبحانه على سبيل التعظيم لشهادة من ذكر بعده ، كقوله : { قُلِ الانفَالُ } إنتهى . ومشاركة الملائكة وأولي العلم للّه تعالى في الشهادة . من حيث عطفا عليه لصحة نسبة الإعلام ، أو صحة نسبة الإظهار والبيان ، وإن اختلفت كيفية الإظهار والبيان من حيث أن إظهاره تعالى بخلق الدلائل ، وإظهار الملائكة بتقريرها للرسل ، والرسل لأولي العلم . وقال الواحدي : شهادة اللّه بيانه وإظهاره ، والشاهد هو العالم الذي بيّن ما علمه ، واللّه تعالى بيّن دلالات التوحيد بجميع ما خلق ، وشهادة الملائكة بمعنى بالإقرار كقوله :{ هَاذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أي : أقررنا . فنسق شهادة الملائكة على شهادة اللّه ، وإن اختلفت معنىً ، لتماثلهما لفظاً . كقوله :{ إِنَّ اللّه وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ } لأنها من اللّه الرحمة ، ومن الملائكة الأستغفار والدعاء وشهادة أولي العلم يحتمل الإقرار ويحتمل التبيين ، لأنهم أقرّوا وبينوا . إنتهى . وقال المؤرخ : شهد اللّه ، بلغة قيس بن غيلان . و { أُوْلُواْ الْعِلْمِ } قيل : هم الأنبياء . وقيل : العلماء وقيل مؤمنو أهل الكتاب . وقيل : المهاجرون والأنصار . وقيل : علماء المؤمنين . وقال الحسن : المؤمنون . والمراد بأولي العلم : من كان من البشر عالماً ، لأنهم ينقسمون إلى : عالم وجاهل ، بخلاف الملائكة . فإنهم في العلم سواء . و { وَأَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } : مفعول : شهد ، وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف ، ليدل على الاعتناء بذكر المفعول ، وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين ، بحيث لا ينسقان متجاورين . وقدم الملائكة على أولي العلم من البشر لأنهم الملأ الأعلى ، وعلمهم كله ضروري ، بخلاف البشر ، فإن علمهم ضروري وإكتسابي . وقرأ أبو الشعثاء : شهد ، بضم الشين مبنياً للمفعول ، فيكون : أنه ، في موضع البدل أي : شهد وحدانية اللّه وألوهيته . وارتفاع : الملائكة ، على هذه القراءة على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره : والملائكة وأولو العلم يشهدون . وحذف الخبر لدلال المعنى عليه ، ويحتمل أن يكون فاعلاً بإضمار فعل محذوف لدلالة شهد عليه ، لأنه إذا بني الفعل للمفعول فإنه قبل ذلك كان مبنياً للفاعل ، والتقدير : وشهد بذلك الملائكة وأولو العلم . وقرأ أبو المهلب ، عم محارب بن دثار : شهداء اللّه ، على وزن : فعلاء ، جمعاً منصوباً . قال ابن جني : على الحال من الضمير في المستغفرين . وقيل : نصب على المدح ، وهو جمع شهداء ، وجمع شاهد : كظرفاء وعلماء . وروي عنه ، وعن أبي نهيك : شهداء اللّه ، بالرفع أي : هم شهداء اللّه . وفي القراءتين : شهداء ، مضاف إلى اسم اللّه . وروي عن أبي المهلب : شهد بضم الشين والهاء ، جمع : شهيد ، كنذير ونذر ، وهو منصوب على الحال ، واسم اللّه منصوب . وذكر النقاش : أنه قرىء كذلك بضم الدال وبفتحها مضافاً لام اللّه في القراءتين . وذكر الزمخشري ، أنه قرىء : شهداء للّه ، برفع الهمزة ونصبها ، وبلام الجر داخلة على اسم اللّه ، فوجه النصب على الحال من المذكورين ، والرفع على إضمارهم ، ووجه رفع الملائكة على هاتين القراءتين عطفاً على الضمير المستكن في شهداء ، وأجاز ذلك الوقوع الفاصل بينهما . وتقدم توجيه رفع الملائكة إما على الفاعلية ، وإما على الإبتداء . وقرأ أبو عمر وبخلاف عنه بإدغام : واو ، وهو في : واو ، والملائكة . وقرأ ابن عباس :{ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } بكسر الهمزة في : أنه ، وخرج ذلك على أنه أجرى : شهد ، مجرى : قال ، لأن الشهادة في معنى القول ، فلذلك كسر إن ، أو على أن معمول : شهد ، هو إن الدين عند اللّه الإسلام } ويكون قوله : ويكون قوله :{ أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } جملة اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف ، إذ فيها تسديد لمعنى الكلام وتقوية ، هكذا خرجوه والضمير في : أنه ، يحتمل أن يكون عائداً على : اللّه ، ويحتمل أن يكون ضمير الشأن ، ويؤيد هذا قراءة عبد اللّه { شَهِدَ اللّه أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } ففي هذه القراءة يتعين أن يكون المحذوف إذا خففت ضمير الشأن ، لأنها إذا خففت لم تعمل في غيره إلاَّ ضرورة ، وإذا عملت فيه لزم حذفه . قالوا : وانتصب :{ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ } على الحال من اسم اللّه تعالى ، أو من : هو ، أو من الجميع ، على اعتبار كل واحد واحد ، أو على المدح ، أو صفة للمنفي ، كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو . أو : على القطع ، لأن أصله : القائم ، وكذا قرأ ابن مسعبود ، فيكون كقوله :{ وَلَهُ الدّينُ وَاصِبًا } أي الواصب . وقرأ أبو حنيفة : قيما ، وانتصابه على ما ذكر . وذكر السجاوندي : أن قراءة عبد اللّه : قائم ، فأما انتصابه على الحال من اسم اللّه فعالمها شهد ، إذ هو العامل في الحال ، وهي في هذا الوجه حال لازمة ، لأن القيام بالقسط وصف ثابت للّه تعالى . وقال الزمخشري : وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه ، أي : من اللّه ، كقوله { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدّقًا} انتهى . وليس من الحال المؤكدة ، لأنه ليس من باب :{ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } ولا من باب : أنا عبد اللّه شجاعاً . فليس { قَائِمَاً بِالْقِسْطِ } بمعنى : شهد ، وليس مؤكداً مضمون الجملة السابقة في نحو : أنا عبد اللّه شجاعاً ، وهو زيد شجاعاً . لكن في هذا التخريج قلق في التركيب ، إذ يصير كقولك : أكل زيد طعاماً وعائشة وفاطمة جائعاً . فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول ، وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف ، لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد ، وأما انتصابه على الحال من الضمير الذي هو : هو ، فجوّزه الزمخشري وابن عطية . قال الزمخشري : فإن قلت : قد جعلته حالاً من فاعل : شهد ، فهل يصح أن ينتصب حالاً من : هو ، في :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } ؟ قلت : نعما لأنها حال مؤكدة ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها ، كقوله : أنا عبد اللّه شجاعاً . انتهى . ويعني . أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئاً من الجملة السابقة قبلها ، وإنما ينتصب بعامل مضمر تقديره : أحق ، أو نحوه مضمراً بعد الجملة ، وهذا قول الجمهور . والحال المؤكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم ، أو شبيه بالملازم ، فإن كان المتكلم بالجملة مخبراً عن نفسه ، فيقدر الفعل : أحق ، مبنياً للمفعول ، نحو : أنا عبد اللّه شجاعاً ، أي : أحق شجاعاً . وإن كان مخبراً عن غيره نحو : هو زيد شجاعاً ، فتقديره : أحقه شجاعاً . وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمن من معنى المسمى ، وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه . وأما من جعله حالاً من الجميع ، على ما ذكر ، فرد بأنه لو جاز ذلك لجاز : جاء القوم راكباً ، أي : كل واحد منهم . وهذا لا تقوله العرب . وأما انتصابه على المدح ، ف قال الزمخشري : فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة ، كقولك : الحمد للّه الحميد ، { إنا معشر الأنبياء لا نورث} . إنا بني نهشل لا ندعى لأب ؟ قلت : قد جاء نكرة في قول الهذلي : ويأوي إلى نسوة عطل وشعثاً مراضيع مثل السعالي انتهى سؤاله وجوابه . وفي ذلك تخليط ، وذلك أنه لم يفرّق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم ، وبين المنصوب على الاختصاص ، وجعل حكمهما واحداً ، وأورد مثالاً من المنصوب على المدح وهو : الحمد للّه الحميد ، ومثالين في المنصوب على الاختصاص وهما : { إنا معشر الأنبياء لا نورث} . إنا بني نهشل لا ندعى لأب والذي ذكر النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة ، وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعاً لها ، وقد لا يصلح ، وقد يكون نكرة كذلك ، وقد يكون نكرة وقبلها معرفة ، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها نحو قول النابغة : أقارعُ عوفٍ لا أحاولُ غيرَها وجوهَ قرودٍ يبتغي من يخادعُ فانتصب : وجوهَ قرودٍ ، على الذم . وقبله معرفة وهو قوله : أقارع عوف . وأما المنصوب على الاختصاص فنصبوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهماً ، ولا يكون إلاَّ معرفاً بالألف واللام ، أو بالإِضافة ، أو بالعلمية ، أو بأي ، ولا يكون إلاَّ بعد ضمير متكلم مختص به ، أو مشارك فيه ، وربما أتى بعد ضمير مخاطب . وأما انتصابه على أنه صفة للمنفي ف قال الزمخشري . فإن قلت : هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل : لا إله قائماً بالقسط إلا هو ؟ قلت : لا يبعد ، فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف ، ثم قال : وهو أوجه من انتصابه عن فاعل : شهد ، وكذلك انتصابه على المدح . انتهى . وكان قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله : لا رجل إلاَّ عبد اللّه شجاعاً . ويعني أن انتصاب : قائماً ، على أنه صفة لقوله : إله ، أو لكونه انتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل : شهد ، وهو اللّه . وهذا الذي ذكره لا يجوز ، لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي ، وهو المعطوفان اللذان هما : الملائكة وأولو العلم ، وليسا معمولين من جملة { لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللّه } بل هما معمولان : لشهد ، وهو نظير : عرف زيد أن هنداً خارجة وعمرو وجعفر ا لتميمية . فيفصل بين هنداً والتميمية بأجنبي ليس داخلاً فيما عمل فيها ، وفي خبرها بأجنبي وهما : عمرو وجعفر ، المرفوعان بعرف ، المعطوفان على زيد . وأما المثال الذي مثل به وهو : لا رجل إلاَّ عبد اللّه شجاعاً ، فليس نظير تخريجه في الآية ، لأن قولك : إلاَّ عبد اللّه ، يدل على الموضع من : لا رجل ، فهو تابع على الموضع ، فليس بأجنبي . على أن في جواز هذا التركيب نظراً ، لأنه بدل ، و : شجاعاً ، وصف ، والقاعدة أنه : إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل ، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح ، فصار من جملة أخرى على المذهب . وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلاَّ على مذهب الكوفيين ، وقد أبطله البصريون . والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوباً على الحال من اسم اللّه ، والعامل فيه : شهد ، وهو قول الجمهور . وأما قراءة عبد اللّه : القائم بالقسط ، فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو القائم بالقسط . قال الزمخشري وغيره : إنه بدل من : هو ، ولا يجوز ذلك ، لأن فيه فصلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي . وهو المعطوفان ، لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه ، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضاً ، لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف ، لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك ، لم يجز . إنما الكلام : جاء زيد أخوك وعائشة . وقال الزمخشري فإن قلت : لم جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ، ولو قلت : جاءني زيد وعمر وراكباً لم يجز ؟ قلت : إنما جاز هذا لعدم الإلباس ، كما جاز في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } إن انتصب : نافلة ، حالاً عن : يعقوب ، ولو قلت : جاءني زيد وهند راكباً ، جاز لتميزه بالذكورة . انتهى كلامه . وما ذكر من قوله في : جاءني زيد وعمرو راكباً ، أنه لا يجوز ليس كما ذكر ، بل هذا جائز ، لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل ، أو ما أشبه ذلك ، وإذا كان قيداً فإنه يحمل على أقرب مذكور ، ويكون راكباً حالاً مما يليه ، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة ، لو قلت : جاءني زيد وعمرو الطويل . لكان : الطويل ، صفة : لعمرو ، ولا تقول : لا تجوز هذه المسألة ، لأنه يلبس بل لا لبس في هذا ، وهو جائز فكذلك الحال . وأما قوله : في : نافلة ، إنه انتصب حالاً عن : يعقوب ، فلا يتعين أن يكون حالاً عن : يعقوب ، إذ يحتمل أن يكون : نافلة ، مصدراً كالعافية والعاقبة . ومعناه : زيادة ، فيكون ذلك شاملاً لإسحاق ويعقوب ، لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره ، إذ كان إنما جاء له إسحاق على الكبر ، وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة ، وأولاد إبراهيم غير إسماعيل وإسحاق مديان ، ويقال : مدين ، ويشتاق ، وشواح ، وهو خاضع ، ورمران وهو محدان ، ومدن ، ويقشان وهو مصعب ، فهؤلاء ولد إبراهيم لصلبه . والعقب الباقي منهم لإسماعيل وإسحاق لا غير . قال الزمخشري : فإن قلت : ما المراد بأولي العلم ، الذين عظمهم هذا التعظيم حيث جمعهم معه ومع الملائكة في الشهادة على وحدانيته وعدله ؟ قلت : هم الذين يثبتون وحدانيته وعدله بالحجج القاطعة ، والبراهين الساطعة ، وهم علماء العدل والتوحيد . انتهى . ويعني بعلماء العدل والتوحيد : المعتزلة ، وهم يسمون أنفسهم بهذا الاسم كما أنشدنا شيخنا الإمام الحافظ أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي رحمه اللّه بقراءتي عليه قال : أنشدنا الصاحب أبو حامد عبد الحميد بن هبة بن محمد بن أبي الحديد المعتزلي ببغداد لنفسه : لولا ثلاث لم أخف صرعتي ليست كما قال فتى العبد أن أنصر التوحيد والعدل في كل مقام باذلاً جهدي وأن أناجي اللّه مستمتعا بخلوة أحلى من الشهد وأن أتيه الدهر كبراً على كل لئيم أصعر الخدّ لذاك أهوى لا فتاة ولا خمر ولا ذي ميعة نهد {لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كرر التهليل توكيداً وقيل : الأول شهادة اللّه ، والثاني شهادة الملائكة وأولي العلم ، وهذا بعيد جدّاً لأنه يؤدّي إلى قطع الملائكة عن العطف على اللّه تعالى ، وعلى إضمار فعل رافع ، أو على جعلهم مبتدأ ، وعلى الفصل بين ما يتعلق بهم وبين التهليل بأجنبي ، وهو قوله :{ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ} وقيل : الأول جار مجرى الشهادة ، والثاني جار مجرى الحكم وقيل : هذا الكلام ينطوي على مقدّمتين ، وهذا هو نتيجتهما ، فكأنه قال : شهد اللّه والملائكة وأولو العلم وما شهدوا به حق فلا إله إلا هو حق ، فحذف إحدى المقدّمتين للدّلالة عليها ، وهذا التقدير كله لا يساعد عليه اللفظ . وقال الراغب : إنما كرر { لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد لأن أكثرها مشارك في ألفاظها العبيد ، فيصح وصفهم بها ، وكذلك وردت ألفاظ التنزيه في حقه أكثر ، وأبلغ ما وصف به من التنزيه : لا إله إلا اللّه ، فتكريره هنا لأمرين : أحدهما : لكون الثاني قطعاً للحكم ، كقولك : أشهد أن زيداً خارج ، وهو خارج . والثاني : لئلا يسبق بذكر العزيز الحكيم إلى قلب السامع تشبيه ، إذ قد يوصف بهما المخلوق انتهى . وقال الزمخشري : صفتان مقرّرتان لما وصف به ذاته من الوحدانية والعدل ، يعني أنه العزيز الذي لا يغالبه إله آخر ، الحكيم الذي لا يعدل عن العدل في أفعاله . انتهى . وهو تحويم على مذهب المعتزلة . وارتفع : العزيز ، على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : والعزيز ، على الاستئناف قيل : وليس بوصف ، لأن الضمير لا يوصف ، وليس هذا بالجمع عليه ، بل ذهب الكسائي إلى أن ضمير الغائب كهذا يوصف . وجوّزوا في إعراب : العزيز ، أن يكون بدلاً من : هو . وروي في حديث عن الأعمش أنه قام يتهجد ، فقرأ هذه الآية ، ثم قال : وأنا أشهد بما شهد اللّه به ، وأستودع اللّه هذه الشهادة وهي لي عند اللّه وديعة ، إن الدين عند اللّه الإسلام قالها مراراً ، فسئل ، فقال : حدّثني أبو وائل ، عن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول اللّه : عبدي عهد إليّ وأنا أحق من وفى ، أدخلوا عبدي الجنة} . وقال أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي : العزيز ، إشارة إلى كمال القدرة ، و : الحكيم ، إشار ، إلى كمال العلم ، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلاَّ معهما ، لأن كونه { قَائِمَاً بِالْقِسْطِ } لا يتم إلاَّ إذا كان عالماً بمقادير الحاجات ، فكان قادراً على تحصيل المهمات ، وقدم العزيز في الذكر لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية ، وهذا الخطاب مع المستدل . انتهى كلامه . ١٩إن الدين عند . . . . . {إِنَّ الدّينَ عِندَ اللّه الإِسْلَامُ } أي الملة والشرع ، والمعنى : إن الدين المقبول أو النافع أو المقرر . قرأ الجمهور : إن ، بكسر الهمزة وقرأ ابن عباس ، والكسائي ، ومحمد بن عيسى الأصبهاني : أن ، بالفتح ، وتقدّمت قراءة ابن عباس : شهد اللّه إنه ، بكسر الهمزة ، فأما قراءة الجمهور فعلى الاستئناف ، وهي مؤكدة للجملة الأولى . قال الزمخشري : فإن قلت : ما فائدة هذا التوكيد ؟ قلت : فائدته أن قوله : لا إله إلاَّ هو توحيد ، وقوله : قائماً بالقسط ، تعديل ، فإذا أردفه قوله : إن الدين عند اللّه الإسلام ، فقد آذن أن الإسلام هو العدل والتوحيد ، وهو الدين عند اللّه ، وما عداه فليس عنده بشيء من الدين ، وفيه أن من ذهب إلى تشبيه ، أو ما يؤدّي إليه ، كإجازة الرؤية ، أو ذهب إلى الجبر الذي هو محض الجور ، لم يكن على دينا للّه الذي هو الإسلام ، وهذا بيِّن جلي كما ترى . انتهى كلامه . وهو على طريقة المعتزلة من إنكار الرؤية ، وقولهم : إن أفعال العبد مخلوقة له لا للّه تعالى . وأما قراءة لكسائي ومن وافقه في نصب : أنه ، وأن ، فقال أبو علي الفارسي : إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو هو ، ألا ترى أن الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو هو في المعنى ؟ وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال ، لأن الإسلام يشتمل على التوحيد والعدل . وقال : وإن شئت جعلته بدلاً من القسط ، لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل ، فيكون أيضاً من بدل الشيء من الشيء ، وهما لعين واحدة . انتهت تخريجات أبي علي ، وهو معتزلي ، فلذلك يشتمل كلامه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل ، وعلى البدل من أنه لا إله إلاَّ هو ، خرجه غيره أيضاً وليس بجيد ، لأنه يؤدي إلى تركيب بعيدٌ أن يأتي مثله في كلام العرب ، وهو : عرف زيد أنه لا شجاع إلاَّ هو ، و : بنو تميم ، وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي ، إن الخصلة الحميدة هي البسالة . وتقريب هذا المثال : ضرب زيد عائشة ، والعمران حنقاً أختك . فحنقاً : حال من زيد ، وأختك بدل من عائشة ، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف ، وهو لا يجوز . وبالحال لغير المبدل منه ، وهو لا يجوز ، لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل . وخرجها الطبري على حذف حرف العطف ، التقدير : وأن الدين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، ولم يبين وجه ضعفه ، ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف ، فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية ، وبجملتي الاعتراض ، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل ، نحو : أكل زيد خبزاً وعمرو وسمكاً . وأصل التركيب : أكل زيد وعمرو خبراً وسمكاً . فإن فصلنا بين قولك : وعمرو ، وبين قولك : وسمكاً ، يحصل شنع التركيب . وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح . وقال الزمخشري : وقرئتا مفتوحتين على أن الثاني بدل من الأول ، كأنه قيل : شهد اللّه أن الدين عند اللّه الإسلام ، والبدل هو المبدل منه في المعنى ، فكان بياناً صريحاً ، لأن دين الإسلام هو التوحيد والعدل . إنتهى . وهذا نقل كلام أبي علي دون استيفاء . وأما قراءة ابن عباس فخرج على { إِنَّ الدّينَ عِندَ اللّه الإِسْلَامُ } هو معمول : شهد ، ويكون في الكلام اعتراضان : أحدهما : بين المعطوف عليه والمعطوف وهو { أَنَّهُ لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } والثاني : بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو { لا إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وإذا أعربنا : العزيز ، خبر مبتدأ محذوف ، كان ذلك ثلاث اعتراضات ، فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظير من كلام العرب ، وإنما حمل على ذلك العجمة ، وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب ، وحفظ أشعارها . وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب : أنه لا يكفي النحو وحده في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بدّ من الاطلاع على كلام العرب ، والتطبع بطباعها ، والاستكثار من ذلك ، والذي خرجت عليه قراءة : أن الدّين ، بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول : للحكيم ، على إسقاط حرف الجر ، أي : بأن ، لأن الحكيم فعيل للمبالغة : كالعليم والسميع والخبير ، كما قال تعالى { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } وقال { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } والتقدير : لا إله إلا هو العزيز الحاكم أن الدّين عند اللّه الإسلام . ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية ، وشهد له بذلك الملائكة وأولو العلم ، حكم أن الدّين المقبول عند اللّه هو الإسلام ، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وعدل من صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ، ولمناسبة العزيز ، ومعنى المبالغة تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع إن الدين عنده هو الإسلام ، إذ حكم في كل شريعة بذلك . فإن قلت : لم حملت الحكيم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلا جعلته فعيلاً بمعنى مفعل ، فيكون معناه المحكم ، كما قالوا في : أليم ، إنه بمعنى مؤلم ، وفي سميع من قول الشاعر : أمن ريحانة الداعي السميع أي المسمع ؟ فالجواب : إنا لا نسلم أن فعيلاً يأتي بمعنى مفعل ، وقد يؤوّل : أليم وسميع ، على غير مفعل ، ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ والقلة بحيث لا ينقاس ، وأما فعيل المحوّل من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جداً ، خارج عن الحصر : كعليم وسميع قدير وخبير وحفيظ ، في ألفاظ لا تحصى ، وأيضاً فإن العربي القح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلاَّ أنه محوّل للمبالغة من حاكم ، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّه وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أنكد أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق : واللّه غفور رحيم فقيل له التلاوة :{ وَاللّه عَزِيزٌ حَكُيمٌ } فقال : هكذا يكون عز فحكم ، ففهم من حكم أنه محول للمبالغة من حالكم ، وفهم هذا العربي حجة قاطعة بما قلناه ، وهذا تخريج سهل سائغ جداً ، يزيل تلك التكلفات والتركيبات المعقدة التي ينزه كتاب اللّه عنها . وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل : أن الدين معمولاً : لشهد ، كما فهموا ، وأن : أنه لا إله إلاَّ هو ، اعتراض ، وأنه بين المعطوف والحال وبين : أن الدين ، اعتراض آخر ، أو اعتراضان ، بل نقول : معمول : شهد ، إنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد ، لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراءً لها مجرى القول ، أو نقول : إنه معمولها ، وعلقت ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتاً ، فإنك تقول : شهدت إن زيداً لمنطلق ، فيعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت : شهدت أن زيداً منطلق ، فمن قرأ بفتح : أنه ، فإنه لم ينو التعليق ، ومن كسر فإنه نوى التعليق . ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا . والإسلام : هنا الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ، ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان ومرادهما أنه مع الأعمال . وقرأ عبد اللّه : إن الدين عند اللّه الحنيفية . قال ابن الإنباري : ولا يخفي على ذي تمييز أن هذا كلام من النبي صلى اللّه عليه وسلم على جهة التفسير ، أدخله بعض من ينقل الحديث في القراءات ، وقد تقدّم الكلام في الإسلام والإيمان : أهما شيء واحد أهم هما مختلفان ؟ والفرق ظاهر في حديث سؤال جبريل . {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } أي : اليهود والنصارى ، أو هما والمجوس ، أقوال ثلاثة : فعلى أنهم اليهود ، وهو قول الربيع بن أنس ، الذين اختلفوا فيه التوراة . قال : لما حضرة موسى عليه السلام الوفاة ، استودع سبعين من أحبار بني إسرائيل التوراة عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع ، فلما مضى ثلاثة قرون وقعت الفرقة بينهم . وقيل : الذين اختلفوا فيه نبوة نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، فقال بعضهم : بعث إلى العرب خاصة ، وقال بعضهم : ليس بالنبي المبعوث لأن ذلك حقق في بني إسحاق . وعلى أنهم النصارى ، وهو قول محمد بن جعفر الزبير ، فالذي اختلفوا فيه : دينهم ، أو أمر عيسى ، أو دين الإسلام . ثلاثة أقوال . وقال الزمخشري : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واختلفوا أنهم تركوا الإسلام وهو التوحيد والعدل من بعد ما جاءهم العلم أنه الحق الذي لا محيد عنه ، فثلثت النصارى { وَقَالَتِ الْيَهُودُ عَزِيزٌ ابْنُ اللّه } ، وقالوا : كنا أحق بأن تكون النبوة فينا من قريش لأنهم أمّيون ، ونحن أهل كتاب ، وهذا تجوير للّه تعالى . إنتهى . ثم قال : وقيل : اختلافهم في نبوة محمد عليه السلام ، حيث آمن به بعض وكفر بعض ، وقيل : اختلافهم في الإيمان بالأنبياء فمنهم من آمن بموسى ، ومنهم من آمن بعيسى . إنتهى . والذي يظهر أن اللفظ عام في { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } وأن المختلف فيه هو : الإسلام ، لأنه تعالى قرر أن الدين هو الإسلام ، ثم قال :{ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } أي : في الإسلام حتى تنكبوه إلى غيره من الأديان . {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } الذي هو سبب لاتباع الإسلام ، والاتفاق على اعتقاده ، والعمل به ، لكن عموا عن طريق العلم وسلوكه بالبغي الواقع بينهم من الحسد ، والاسئثار بالرياسة ، وذهاب كل منهم مذهباً يخالف الإسلام حتى يصير رأساً يتبع فيه ، فكانوا ممن ضل على علم . وقد تقدّم ما يشبه هذا من قوله { وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} {بَغْياً بَيْنَهُمْ } وإعراب : بغياً ، فإنه أتى بعد إلاَّ شيآن ظاهرهما أنهما مستثنيان ، وتخريج ذلك : فأغنى عن إعادته هنا . {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه فَإِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ } هذا عام في كل كافر بآيات اللّه ، فلا يخص بالمختلفين من أهل الكتاب ، وإن جاءت الجملة الشرطية بعد ذكرهم . وآياته ، هنا قيل : حججه ، وقيل : التوراة والإنجيل وما فيهما من وصف نبينا صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : القرآن ، وقال الماتريدي : أي من المختلفين . وتقدّم تفسير : سريع الحساب ، فأغنى عن إعادته ، وهذه الجملة جواب الشرط والعائد منها على إسم الشرط محذود تقديره : سريع الحساب له . ٢٠فإن حاجوك فقل . . . . . {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للّه} الضمير في : حاجوك ، ابلظاهر أنه يعود على { الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } وقال أبو مسلم : يعود على جميع الناس ، لقوله بعد { وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالاْمّيّينَ } وقيل : يعود على نصارى نجران ، قدموا المدينة للمحاجة . وظاهر المحاج فيه أنه دين الإسلام ، لأنه السابق . وجواب الشرط هو :{ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للّه } والمعنى : انقدت وأطعت وخضعت للّه وحده ، وعبر : بالوجه ، عن جميع ذاته ، لأن الوجه أشرف الأعضاء ، وإذا خضع الوجه فما سواه أخضع وقال الزوزي ، وسبقه الفراء إلى معناه : معنى أسلمت وجهي ، أي : ديني ، لأن الإيمان كالوجه بين الأعمال إذ هو الأصل ، وجاء في التفسير أقوال : أقول لكم ، كما قال ابن نعيم : وقد أجمعتم على أنه محق { قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وقال الزمخشري : وأسلمت وجهي ، أي : أخلصت نفسي وعملي للّه وحده ، لم أجعل له شريكاً بأن أعبده وأدعوا إلها معه ، يعني : أن ديني التوحيد ، وهو الدين القديم الذي ثبت عندكم صحته ، كما ثبت عندي . وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه ، ونحوه { قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ } الآية ، فهو دفع للمجادلة . إنتهى . وفي تفسيره أطلق الوجه على النفس والعمل معاً ، إلاَّ إن كان أراد تفسير المعنى لا تفسير اللفظ ، فيسوغ له ذلك . وقال الرازي : في كيفية إيراد هذا الكلام طريقان : الأول : أنه إعراض عن المحاجة ، إذ قد أظهر لهم الحجة على صدقة قبل نزول هذه الآية ، فإن هذه السورة مدنية ، وذلك بإظهار بالمعجزات بالقرآن وغيره ، وقد ذكر قبل هذه الآية الحجة بقوله :{ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } على فساد قول النصارى في إلهية عيسى ، وبقوله { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } على صحة نبوّته ، وذكر شُبَهَ القوم وأجاب عنها ، وذكر معجزات أخرى ، وهي ما شاهدوه يوم بدر ، بين القول بالتوحيد بقوله : شهد اللّه . والطريق الثاني : أنه إظهار للدليل ، وذلك أنهم كانوا مقرين بالصانع واستحقاقه للعبادة فكأنه قال : أنا متمسك بهذا القدر المتفق عليه ، والخلف فيما وراءه ، وعلى المدعي الإثبات . وأيضاً كانوا معظمين إبراهيم عليه السلام وأنه كان محقاً ، وقد أمر أن يتبع ملته ، وهنا أمر أن يقول كقوله ، فيكون هذا من باب الإلزام ، أي : أنا متمسك بطريق من هو عندكم محق ، وهذا قاله أبو مسلم ، وأيضاً لما تقدّم أن الدين هو الإسلام ، قيل له : إن نازعوك فقل : الدليل عليه أني أسلمت وجهي للّه ، فهذا تمام الوفاء بلزوم الربوبية والعبودية ، فصح أن الدين الكامل الإسلام ، وأيضاً فالآية مناسبة لقول إبراهيم { لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } أي : لا تجوز العبادة إلاَّ لمن يكون نافعاً وضاراً وقادراً على جميع الأشياء ، وعيسى ليس كذلك ، وأيضاً فهذه إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه السلام إذ قال له ربه : أسلم قال أسلمت لرب العالمين } وروي هذا عن ابن عباس . إنتهى ما لخص من كلام الرازي . وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها . وفتح الياء : من : وجهي ، هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون . وروي هذا عن ابن عباس . إنتهى ما لخص من كلام الرازي . وليس أواخر كلامه بظاهرة من مراد الآية ومدلولها . وفتح الياء : من : وجهي ، هنا ، وفي الأنعام نافع ، وابن عامر ، وحفص ، وسكنها الباقون . {وَمَنِ اتَّبَعَنِ } قيل : من ، في موضع رفع ، وقيل : ي موضع نصب على أنه مفعول معه ، وقيل : في موضع خفض عطفاً على اسم اللّه . ومعناه : جعلت مقصدي بالإيمان به ، والطاعة له ، ولمن اتبعني بالحفظ له ، والتحفي بتعلمه ، وصحته . فأما الرفع فعطفاً على الفاعل في : أسلمت ، قاله الزمخشري ، وبدأ به قال : وحسن للفاصل ، يعنى أنه عطف على الضمير المتصل ، ولا يجوز العطف على الضمير المتصل المرفوع إلاَّ في الشعر ، على رأي البصريين . إلاَّ أنه فصل بين الضمير والمعطوف ، فيحسن . وقاله ابن عطية أيضاً ، وبدأ به . ولا يمكن حمله على ظاهره لأنه إذا عطف على الضمير في نحو : أكلت رغيفاً وزيد ، لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف ، وهنا لا يسوغ ذلك ، لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم وهو صلى اللّه عليه وسلم وجهه للّه ، وإنما المعنى : أنه صلى اللّه عليه وسلم أسلم وجهه للّه ، وهم أسلموا وجوههم للّه ، فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول ، لا مشارك في مفعول : أسلمت ، التقدير : ومن اتبعني وجهه . أو أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة المعنى عليه ، ومن اتبعني كذلك ، أي : أسلموا وجوههم للّه ، كما تقول : قضى زيد نحبه وعمرو ، أي : وعمرو كذلك . أي : قضى نحبه . ومن الجهة التي امتنع عطف . ومن ، على الضمير إذا حمل الكلام على ظاهره دون تأويل ، يمتنع كون : من ، منصوباً على أنه مفعول معه ، لأنك إذا قلت : أكلت رغيفاً وعمراً ، أي : مع عمرو ، دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف ، وقد أجاز هذا الوجه الزمخشري ، وهو لا يجوز لما ذكرنا على كل حال ، لأنه لا يمكن تأويل حذف المفعول مع كون الواو واو المعية . وأثبت ياء : اتبعني ، في الوصل أبو عمرو ، ونافع ، وحذفها الباقون ، وحذفها أحسن لموافقة خط المصحف ، ولأنها رأس آية كقوله : أكرمن وأهانن ، فتشبه قوافي الشعر كقول الشاعر : وهل يمنعنّي ارتيادُ البلا د من حذر الموت أن يأتيَنْ {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ } هم : اليهود والنصارى باتفاق { وَالاْمّيّينَ } هم مشركو العرب ، ودخل في ذلك كل من لا كتاب له { ءأَسْلَمْتُمْ } تقدير في ضمنه الأمر . وقال الزجاج : تهدّد . قال ابن عطية : وهذا احسن ، لأن المعنى : أأسلمتم له أم لا ؟ وقال الزمخشري : يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضى حصوله لا محالة ، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم ؟ وهذا كقولكم لمن لخصت له المسألة ، ولم تبقِ من طرق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته ، هل فهمتها لا أمّ لك ؟ ومنه قوله عز وعلا :{ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر ، وفي هذا الاستفهام استقصار وتغيير بالمعاندة وقلة الإنصاف ، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة ولم يتوقف إذعانه للحق ، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان ، وكذلك في : هل فهمتها ؟ توبيخ بالبلادة وكله القريحة ، وفي { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } بالتقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه . انتهى كلامه . وهو حسن ، وأكثره من باب الخطابة . {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ } أي إن دخلوا في الإسلام فقد حصلت لهم الهداية ، وعبر بصيغة الماضي المصحوب بقد الدالة على التحقيق مبالغة في الإخبار بوقوع الهدى ، ومن الظلمة إلى النور . انتهى . {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } أي : هم لا يضرونك بتوليهم ، وما عليك أنت إلاَّ تنبيههم بما تبلغه إليهم من طلب إسلامهم وانتظامهم في عبادة اللّه وحده ، وقيل : إنها آية مواعدة منسوخة بآية السيف ، ولا نحتاج إلى معرفة تاريخ النزول ، وإذا نظرت إلى سبب نزول هذه الآيات ، وهو وفود وفد نجران ، فيكون المعنى : فإنما عليك البلاغ بقتالٍ وغيره . {وَاللّه بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} وفيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام ، ووعد بالخير لمن أسلم ، إذ معناه : إن اللّه مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته . ٢١إن الذين يكفرون . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ } الآية هي في اليهود والنصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره ، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات : إحداهما : كفره بآيات اللّه وهم مقرون بالصانع ، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع ، أو يجعل : بآيات اللّه ، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى اللّه عليه وسلم. الثانية : قتلهم الأنبياء ، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } والألف واللام في : النبيين ، للعهد . والثالثة : قتل من أمر بالعدل . فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأعظم فالأعظم ، وبما هو سبب للآخر : فأولها : الكفر بآيات اللّه ، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة ، وثانيها : قتل من أظهر آيات اللّه واستدل بها . و الثالث : قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه صلى اللّه عليه وسلم ، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل ، ودخلت الفاء في خبر : أن ، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط ، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك ، نسب إليهم ذلك ، ولأنهم أرادوا قتله صلى اللّه عليه وسلم ، فقتل أتباعه فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي : من شأنهم وإرادتهم ذلك . ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك ، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة ، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم . والمعنى : إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف ، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم ، فإنهم لم يكونوا على حق . فذكر تقبيح الأوصاف ، والتوعد عليها بالعقاب ، مما ينفر عنها ، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات اللّه وإجلال رسله وأتباعهم . وقرأ الحسن : ويقتلون النبيين ، بالتشديد ، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل وقرأ حمزة ، وجماعة من غير السبعة : ويقاتلون الثاني . وقرأها الأعمش : وقاتلوا الذين ، وكذا هي في مصحف عبد اللّه وقرأ أبيّ : يقتلون النبيين والذين يأمرون ، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد ، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل ، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع ، لأن كل جملة مستقلة بنفسها ، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل ، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء ، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان . وقيل : يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح ، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر ، فيكونان إذ ذاك مختلفين . وجاء في هذه السورة { بِغَيْرِ حَقّ } بصيغة التنكير ، وفي البقرة { بِغَيْرِ الْحَقّ } بصيغة التعريف ، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط ، وهو عام لا يتخصص ، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً ، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين ، وذلك قوله { ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } فناسب أن يأتي بصيغة التعريف ، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفاً ، كقوله { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف ، بخلاف ما في هذه السورة . وقد تقدّم في البقرة أن قوله :{ بِغَيْرِ الْحَقّ } هي حال مؤكدة ، إذ لا يقع قتل نبي إلاَّ بغير الحق ، وأوضحنا لك ذلك . فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا . ومعنى : من الناس ، أي : غير الأنبياء ، إذ لو قال : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ، لكان مندرجاً في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم ، فجاء من الناس بمعنى : من غير الأنبياء . قال الحسن : تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلى منزلته في العظم منزلة الأنبياء . وعن أبيه عبيدة بن الجراح ، قلت يا رسول اللّه : أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال : { رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر} . ثم قرأها . ثم قال : { يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني اسرائيل ، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار} . {فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم ، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازاً لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه . وهذه الجملة هي خبر : إن ، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه ، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء ، أعني : إن . ومع ذلك في المسألة خلاف : الصحيح جواز دخول الفاء في خبر : إن ، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط ، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ ، وتلك الشروط معتبرة هنا ، ونظير هذه الآية في دخول الفاء { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ }{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }{ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة ، ولم يقس زيادتها . وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار ، فإذا استعملت مع ما ليس بسار ، فقيل : ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله : تحية بينهم ضرب وجيع أي : القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم وقيل : هو على معنى تأثر البشرة من ذلك ، فلم يؤخذ فيه قيد السرور ، بل لوحظ معنى الاشتقاق . ٢٢أولئك الذين حبطت . . . . . {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ} تقدم تفسير هذه الجملة عند قوله ومن { يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } فأغنى عن إعادته . وقرأ ابن عباس ، وأبو السمال : حبطت ، بفتح الباء وهي لغة . {وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ } مجيء الجمع هنا أحسن من مجيء الإفراد ، لأنه رأس آية ، ولأنه بإزاء من للمؤمنين من الشفعاء الذين هم الملائكة والأنبياء وصالحو المؤمنين ، أي : ليس لهم كأمثال هؤلاء ، والمعنى : بانتفاء الناصرين انتفاء ما يترتب على النصر من المنافع والفوائد ، وإذا انتفت من جمع فانتفاؤها من واحد أَولى ، وإذا كان جمع لا ينصر فأحرى أن لا ينصر واحد ، ولما تقدم ذكر معصيتهم بثلاثة أوصاف ناسب أن يكون جزاؤهم بثلاثة ، ليقابل كل وصف بمناسبة ، ولما كان الكفر بآيات اللّه أعظم ، كان التبشير بالعذاب الأليم أعظم ، وقابل قتل الأنبياء بحبوط العمل في الدنيا والأخرة ، ففي الدنيا بالقتل والسبي وأخذ المال والاسترقاق ، وفي الآخرة بالعقاب الدائم ، وقابل قتل الآمرين بالقسط ، بانتفاء الناصرين عنهم إذا حل بهم العذاب ، كما لم يكن للآمرين بالقسط من ينصرهم حين حل بهم قتل المعتدين ، كذلك المعتدون لا ناصر لهم إذا حل بهم العذاب . وفي قوله : أولئك ، إشارة إلى من تقدم موصوفاً بتلك الأوصاف الذميمة ، وأخبر عنه : بالذين ، إذ هو أبلغ من الخبر بالفعل ، ولأن فيه نوع انحصار ، ولأن جعل الفعل صلة يدل على كونها معلومة للسامع ، معهودة عنده ، فإذا أخبرت بالموصول عن اسم استفاد المخاطب أن ذلك الفعل المعهود المعلوم عنده المعهود هو منسوب للمخبر عنه بالموصول ، بخلاف الإخبار بالفعل ، فإنك تخبر المخاطب بصدوده عن من أخبرت به عنه ، ولا يكون ذلك الفعل معلوماً عنده ، فإن كان معلوماً عنده جعلته صلة ، وأخبرت بالموصول عن الأسم . قيل وجمعت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبلاغة . أحدهما : التقديم والتأخير في :{ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللّه الإِسْلَامُ } قال ابن عباس التقدير : شهد اللّه أن الدين عند اللّه الاسلام ، أنه لا إله إلا هو ، ولذلك قرأ إنه ، بالكسر : وأن الدين ، بالفتح . وأطلق اسم السبب على المسبب في قوله { مِنْ بَعْدَمَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ } عبر بالعلم عن التوراة والإنجيل أو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، على الخلاف الذي سبق . وإسناد الفعل إلى غير فاعله في :{ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } وأصحاب النار والإيماء في قوله : { بَغْياً بَيْنَهُمْ } فيه إيماء إلى أن النفي دائر شائع فيهم ، وكل فرقة منهم تجاذب طرفاً منه . والتعبير ببعض عن كل في :{ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} والاستفهام الذي يراد به التقرير أو التوبيخ والتقريع في قوله { ءأَسْلَمْتُمْ} والطباق المقدر في قوله :{ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ } ووجهه : أن الإسلام الانقياد إلى الإسلام ، والإقبال عليه ، والتولي ضد الإقبال . والتقدير : وإن تولوا فقد ضلوا ، والضلالة ضد الهداية . والحشو الحسن في قوله { بِغَيْرِ حَقّ } فإنه لم يقتل قط نبي بحق ، وإنما أتى بهذه الحشوة ليتأكد قبح قتل الأنبياء ، ويعظم أمره في قلب العازم عليه . والتكرار في { وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ } تأكيداً لقبح ذلك الفعل . والزيادة في { فَبَشّرْهُم } زاد الفاء إيذاناً بأن الموصول ضمن معنى الشرط . والحذف في مواضع قد تكلمنا عليها فيما سبق . ٢٣ألم تر إلى . . . . . غَر ، يغر ، غروراً : خدع والغِر : الصغير ، والغريرة : الصغيرة ، سميا بذلك لأنهما ينخدعان بالعجلة ، والغِرة منه يقال : أخذه على غرة ، أي : تغفل وخداع ، والغُرة : بياض في الوجه ، يقال منه : وجه أغر ، ورجل أغر ، وامرأة غراء . والجمع على القياس فيهما غُر . قالوا : وليس بقياس وغران . قال الشاعر : ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم عند المشاهد غران نزع ينزع : جذب ، وتنازعنا الحديث تجاذبناه ، ومنه : نزاع الميت ، ونزع إلى كذا : مال إليه وانجذب ، ثم يعبر به عن الزوال ، يقال : نزع اللّه عنه الشر : أزاله . ولج يلج ولوجاً ولجة وولجاً ، وولج تولجاً وأتلج إتلاجاً قال الشاعر : فإن القوافي يتَّلجْن موالجا تضايق عنها أن تولجها الإبر الامد : غاية الشيء ، ومنتهاه ، وجمعه آماد . اللّهم : هو اللّه إلاَّ أنه مختص بالنداء فلا يستعمل في غيره ، وهذه الميم التي لحقته عند البصريين هي عوض من حرف النداء ، ولذلك لا تدخل عليه إلاَّ في الضرورة . وعند الفراء : هي من قوله : يا اللّه أمنا بخير ، وقد أبطلوا هذا النصب في علم النحو ، وكبرت هذه اللفظة حتى حذفوا منها : أل ، فقالوا : لا همّ ، بمعنى : اللّهمّ . قال الزاجر : لا هم إني عامر بن جهم أحرم حجاً في ثياب دسم وخففت ميمها في بعض اللغات قال : كَحَلْقَه من أبي رياح يسمعها اللّهمَ الكُبار الصدر : معروف ، وجمعه : صدور . {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مّنَ الْكِتَابِ } قال السدّي : دعا النبي صلى اللّه عليه وسلم اليهود إلى الإسلام ، فقال له النعمان بن أبي أوفى : هلم نخاصمك إلى الأحبار . فقال : { بل إلى كتاب اللّه} . فقال : بل إلى الأحبار . فنزلت . وقال ابن عباس : دخل صلى اللّه عليه وسلم إلى المدارس على اليهود ، فدعاهم إلى اللّه ، فقال نعيم بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ فقال : { على ملة إبراهيم} . قالا : إن إبراهيم كان يهودياً . فقال صلى اللّه عليه وسلم : { فهلموا إلى التوراة} . فأبيا عليه ، فنزلت . وقالَ الكلبي : زنى رجل منهم بامرأة ولم يكن بعد في ديننا الرجم ، فتحاكموا إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تخفيفاً للزانيين لشرفهما ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { إنما أحكم بكتابكم} . فأنكروا الرجم ، فجيء بالتوراة ، فوضع حبرهم ، ابن صوريا ، يده على آية الرجم ، فقال عبد اللّه بن سلام : جاوزها يا رسول اللّه ، فأظهرها فرُجما . وقال النقاش : نزلت في جماعة من اليهود أنكروا نبوّته ، فقال لهم : { هلموا إلى التوراة ففيها صفتي} . وقال مقاتل : دعا جماعة من اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : نحن أحق بالهدى منك ، وما أرسل اللّه نبياً إلا من بين إسرائيل ، قال : { فأخرجوا التوراة فإني مكتوب فيها أني نبي } فأبوا ، فنزلت { وَالَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } هم : اليهود ، والكتاب : التوراة . وقال مكي وغيره : اللوح المحفوظ ، وقيل :{ مّنَ الْكِتَابِ } جنس للكتب المنزلة ، قاله ابن عطية ، وبدأ به الزمخشري و : من ، تبعيض . وفي قوله : نصيباً ، أي : طرفاً ، وظاهر بعض الكتاب ، وفي ذلك إذ هم لم يحفظوه ولم يعلموا جميع ما فيه . {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّه} هو : التوراة ، وقال الحسن ، وقتادة ، وابن جريح : القرآن . و : يدعون ، في موضع الحال من الذين ، والعامل : تر ، والمعنى : ألا تعجب من هؤلاء مدعوين إلى كتاب اللّه ؟ أي : في حال أن يدعوا إلى كتاب اللّه { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } أي : ليحكم الكتاب . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وعاصم الجحدري : ليُحكم ، مبيناً للمفعول والمحكوم فيه هو ما ذكر في سبب النزول . {ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مّنْهُمْ } هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم بأن الرجوع إلى كتاب اللّه واجب ، ونسب التولي إلى فريق منهم لا إلى جميع المبعدين ، لأن منهم من أسلم ولم يتول كابن سلام وغيره . {وَهُم مُّعْرِضُونَ } جملة حالية مؤكدة لأن التولي هو الإعراض ، أو مبينة لكون التولي عن الداعي ، والإعراض عما دعا إليه ، فيكون المتعلق مختلفاً ، أو لكون التولي بالبدن والإعراض بالقلب ، أو لكون التولي من علمائهم والإعراض من أتباعهم ، قاله ابن الأنباري . أو جملة مستأنفة أخبر عنهم قوم لا يزال الإعراض عن الحق وأتباعه من شأنهم وعادتهم ، وفي قوله :{ بَيْنَهُمْ } دليل على أن المتنازع فيه كان بينهم واقعاً لا بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وهو خلاف ما ذكر في أسباب النزول ، فإن صح سبب منها كان المعنى : ليحكم بينهم وبين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وإن لم يصح حمل على الاختلاف الواقع بين من أسلم من أحبارهم وبين من لم يسلم ، فدعوا إلى التوراة التي لا اختلاف في صحتها عندكم ، ليحكم بين المحق والمبطل ، فتولى من لم يسلم . قيل وفي هذه الآية دليل على صحة نبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهم ولولا علمهم بما ادّعاه في كتبهم من نعته وصحة نبوته ، لما أعرضوا وتسارعوا إلى موافقة ما في كتبهم ، حتى ينبئوا عن بطلان دعواه . وفيا دليل على أن من دعاه خصمه إلى الحكم الحق لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب اللّه ، ويعضده :{ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} قال القرطبي : وإذا دعي إلى كتاب اللّه وخالف تعين زجره بالأدب على قدر المخالِف ، والمخالَف . وهذا الحكم جارٍ عندنا بالأندلس وبلاد المغرب ، وليس بالديار المصرية . قال ابن خويزمنداد المالكي : واجب على من دعي إلى مجلس الحكم أن يجيب ما لم يعلم أن الحاكم فاسق . ٢٤ذلك بأنهم قالوا . . . . . {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ } الإشارة بذلك إلى التولي ، أي : ذلك التولي بسبب هذه الأقوال الباطلة ، وتسهيلهم على أنفسهم العذاب ، وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل . وقال الزمخشري : كما طمعت الجبرية والحشوية . {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من أن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، كما غرى أولئك بشفاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في كبائرهم . إنتهى كلامه . وهو على عادته من اللّهج بسب أهل السنة والجماعة ، ورميهم بالتشبيه ، والخروج إلى الطعن عليهم بأي طريق أمكنه . وتقدّم تفسير هذه : الأيام المعدودات ، في سورة البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، إلاَّ أنه جاء هناك : معدودة ، وهنا : معدودات ، وهما طريقان فصيحان تقول : جبال شامخة ، وجبال شامخات . فتجعل صفة جمع التكسير للمذكر الذي لا يعقل تارة لصفة الواحدة المؤنثة ، وتارة لصفة المؤنثات . فكما تقول : نساء قائمات ، كذلك تقول : جبال راسيات ، وذلك مقيس مطرد فيه . {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } قال مجاهد : الذي افتروه هو قولهم :{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ } وقال قتادة : بقولم : نحن أبناء اللّه وأحباؤه . وقيل :{ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} وقيل : مجموع هذه الأقوال . وارتفع : ذلك ، بالابتداء ، و : بأنهم ، هو الخبر ، أي : ذلك الإعراض والتولي كائن لهم وحاصل بسبب هذا القول ، وهو قولهم : إنهم لا تمسهم النار إلاَّ أياماً قلائل ، يحصرها العدد . وقيل : خبر مبتدأ محذوف ، أي : شأنهم ذلك ، أي التولي والإعراض ، قاله الزجاج . وعلى هذا يكون : بأنهم ، في موضع الحال ، أي : مصحوباً بهذا القول ، و : ما في : ما كانوا ، موصولة ، أو مصدرية . ٢٥فكيف إذا جمعناهم . . . . . {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } هذا تعجيب من حالهم ، واستعظام لعظم مقالتهم حين اختلفت مطامعهم ، وظهر كذب دعواهم ، إذ صاروا إلى عذاب ما لهم حيلة في دفعه ، كما قال تعالى :{ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } هذا الكلام يقال عند التعظيم لحال الشيء ، فكيف إذا توفتهم الملائكة ؟ وقال الشاعر : فكيف بنفس ، كلما قلت : أشرفت على البرء من دهماء ، هيض اندمالها وقال : فكيف ؟ وكلٌّ ليس يعدو حمامه وما لامرىء عما قضى اللّه مرحلُ وانتصاب : فكيف ، قيل على الحال ، والتقدير : كيف يصنعون ؟ وقدره الحوفي : كيف يكحون حالهم ؟ فإن أراد كان التامة كانت في موضع نصب على الحال ، وإن كانت الناقصة كانت في موضع نصب على خبر كان ، والأجود أن تكون في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى : التقدير : كيف حالهم ؟ والعامل في : إذا ، ذلك الفعل الذي قدره ، والعامل في : كيف ، إذا كانت خبراً عن المبتدأ إن قلنا إن انتصابها انتصاب الظروف ، وإن قلنا إنها اسم غير ظرف ، فيكون العامل في : إذا ، المبتدأ الذي قدرناه ، أي : فكيف حالهم في ذلك الوقت ؟ وهذا الاستفهام لا يحتاج إلى جواب ، وكذا أككثر استفهامات القرآن ، لأنها من عالم الشهادة ، وإنما استفهامه تعالى تقريع . واللام ، تتعلق : بجمعناهم ، والمعنى : لقضاء يوم وجزائه كقوله :{ إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ } قال النقاش : اليوم ، هنا الوقت ، وكذلك :{ أَيَّامًا مَّعْدُوداتٍ } و { فِى يَوْمَيْنِ } و { فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } إنما هي عبارة عن أوقات ، فإنما الأيام والليالي عندنا في الدنيا . و قال ابن عطية : الصحيح في يوم القيامة أنه يومك ، لأنه قبله ليلة وفيه شمس . ومعنى :{ لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في نفس الأمر ، أو عند المؤمن ، أو عند المخبر عنه ، أو حين يجمعهم فيه ، أو معناه : الأمر خمسة أقوال . {وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } تقدم تفسير مثل يهذا في البقرة ، آخر آيات الربا . ٢٦قل اللّهم مالك . . . . . {قُلِ اللّهمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ } قال الكلبي : ظهرت صخرة في الخندق ، فضربها صلى اللّه عليه وسلم ، فبرق برق فكبر ، وكذا في الثانية والثالثة ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { في الأولى : قصور العجم ، وفي الثانية : قصور الروم . وفي الثالثة : قصور اليمن فأخبرني جبريل عليه السلام : أن أمتي ظاهرة على الكل} . فعيره المنافقون بأنه يضرب المعول ويحفر الخندق فرقاً ، ويتمنى ملك فارس والروم ، فنزلت . اختصره السجاوندي هكذا ، وهو سبب مطول جد . وقال ابن عباس : لما فتحت مكة ، كبر على المشركين وخافوا فتح العجم ، فقال عبد اللّه بن أبي : هم أعز وأمنع ، فنزلت . وقال ابن عباس ، وأنس : لما فتح صلى اللّه عليه وسلم مكة ، وعد أمته ملك فارس والروم ، فنزلت . وقيل : بلغ ذلك اليهود فقالو : هيهات هيهات فنزلت ، فذلوا وطلبوا المواصمة . وقال الحسن : سأل صلى اللّه عليه وسلم ملك فارس والروم لأمته ، فنزلت على لفظ النهي . وروي نحوه عن قتادة أنه ذكر له ذلك . وقال أبو مسلم الدمشقي : قالت اليهود : واللّه لا نطيع رجلاً جاء بنقل النبوّة من بني إسرائيل إلى غيرهم ، فنزلت . وقيل : نزلت رداً على نصارى نجران في قولهم : إن عيسى هو اللّه ، وليس فيه شيء من هذه الأوصاف . والملك هنا ظاهره السلطان والغلبة ، وعلى هذا التفسير جاءت أسباب النزول . وقال مجاهد : الملك النبوّة ، وهذا يتنزل على نقل أبي مسلم في سبب النزول . وقيل : المال والعبيد ، وقيل : الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : مالك العباد وما ملكوا . وقال الزمخشري : أي تملك جنس الملك فتتصرف فيه تصرف الملاك فيما يملكون . وقال معناه ابن عطية ، وقد تكلم في لفظة : اللّهم ، من جهة النحو ، فقال : أجمعوا على أنها مضمومة الهاء مشدّدة الميم المفتوحة ، وأنها منادى . إنتهى . وما ذكر من الإجماع على تشديد الميم قد نقل الفراء تخفيف ميمها في بعض اللغات ، قال : وأنشد بعضهم : كَحْلَفةٍ من أبي رِيَاح يسمعها اللّهم الكبار قال الراد عليه : تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصاً عند الفراء ، لأن عنده هي التي في أمّنا ، إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية أمّنا . قال : والرواية الصحيحة يسمعها لاهه الكبار . إنتهى . وإن صح هذا البيت عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ، ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلاً بالفعل الذي قبله ؟ قال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم تجمع سبعين اسماً من اسمائه وقال النضر بن شميل : من قال اللّهم فقد دعا اللّه بجيع أسمائه كلها . وقال الحسن : اللّهم مجمع الدعاء . ومعنى قول النضر : إن اللّهم هو اللّه زيدت فيه الميم ، فهو الأسم العلم المتضمن لجميع أوصاف الذات ، لأنك إذا قلت : جاء زيد ، فقد ذكرت الأسم الخاص ، فهو متضمن جميع أوصافه التي هي فيه من شهلة أو طول أو جود أو شجاعة ، أو اضدادها وما أشبه ذلك . وانتصاب : مالك الملك ، على أنه منادى ثانٍ أي : يا مالك الملك ، ولا يوصف اللّهم عند سيبويه ، وأجاز أبو العباس وأبو إسحاق وصفه ، فهو عندهما صفة للاهم ، وهي مسألة خلافية يبحث عنها في علم النحو . {تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء } الظاهر أن الملك هو السلطان والغلبة ، كما أن ظاهر الملك الأوّل كذلك ، فيكون الأوّل عاماً ، وهذان خاصين . والمعنى : إنك تعطي من شئت قسماً من الملك ، وتنزع ممن شئت قسماً من الملك وقد فسر الملك هنا بالنبوّة أيضاً ، ولا يتأتى هذا التفسير في : تنزع الملك ، لأن اللّه لم يؤت النبوّة لأحد ثم نزعها منه إلاَّ أن يكون تنزع مجازاً بمعنى : تمنع النبوّة ممن تشاء ، فيمكن . وقال أبو بكر الوراق : هو ملك النفس ومنعها من اتباع الهوى . وقيل : العافية ، وقيل : القناعة . وقيل : الغلبة بالدين والطاعة . وقيل : قيام الليل . وقال الشبلي : هو الاستغناء بالمكون عن الكونين . وقال عبد العزيز بن يحيى : هو قهر إبليس كما كان يفرّ من ظل عمر ، وعكسه من كان يجري الشيطان منه مجرى الدم . وقيل : ملك المعرفة بلا علة ، كما أتى سحرة فرعون ، ونزع من بلعام . وقال أبو عثمان : هو توفيق الإيمان . وإذا حملناه على الأظهر : وهو السلطنة والغلبة ، وكون المؤتَى هو الآمر المتبع ، فالذي آتاه الملك هو محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمته ، والمنزوع منهم فارس والروم . وقيل : المنزوع منه أبو جهل وصناديد قريش . وقيل : العرب وخلفاء الإسلام وملوكه ، والمنزوع فارس والروم . وقال السدي : الأنبياء أمر الناس بطاعتهم ، والمنزوع منه الجبارون أمر الناس بخلافهم . وقيل : داود عليه السلام ، والمنزوع منه طالوت . وقيل : صخر ، والمنزوع منه سليما أيام محنته . وقيل : المعنى تؤتي الملك في الجنة من تشاء وتنزع الملك من ملوك الدنيا في الآخرة ممن تشاء . وقيل : الملك العزلة والانقطاع ، وسموه الملك المجهول . وهذه أقوال مضطربة ، وتخصيصات ليس في الكلام ما يدل عليها ، والأولى أن يحمل على جهة التمثيل لا الحصر في المراد . {وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء } قيل : محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه ، حين دخلوا مكة في اثني عشر ألفاً ك ظاهرين عليها ، وأذل أبا جهل وصناديد قريش حتى حزت رؤوسهم وألقوا في القليب . وقيل : بالتوفيق والعرفان ، وتذل بالخذلان . وقال عطاء : المهاجرين والأنصار وتذل فارس والروم . وقيل : بالطاعة وتذل بالمعصية . وقيل : بالظفر والغنيمة وتذل بالقتل والجزية . وقيل : بالإخلاص وتذل بالرياء . وقيل بالغنى وتذل بالفقر . وقيل : بالجنة والرؤية وتذل بالحجاب والنار ، قاله الحسن بن الفضل . وقيل : بقهر النفس وتذل باتباع الخزي ، قاله الوراق . وقيل : بقهر الشيطان وتذل بقهر الشيطان اياه ، قاله الكتاني . وقيل : بالقناعة والرضا وتذل بالحرص والطمع . ينبغي حمل هذه الأقاويل على التمثيل لأنه لا مخصص في الآية ، بل الذي يقع به العز والذل مسكوت عنه ، وللمعتزلة هنا كلام مخالف لكلام أهل السنة ، قال الكعبي : تؤتى الملك على سبيل الاستحقاق من يقوم به ، ولا تنزعه إلاَّ ممن فسق ، يدل عليه { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }{ إِنَّ اللّه اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ } جعل الاصطفاء سبباً للملك ، فلا يجوز أن يكون ملك الظالمين بإيتائه وقد يكون ، وقد ألزمهم أن لا يتملكوه ، فصح أن الملوك العادلين هم المخصوصون بايتاء اللّه الملك ، وأما الظالمون فلا . أما النزع فبخلافه ، فكما ينزعه من العادل لمصلحة ، فقد ينزعه من الظالم . وقال القاضي عبد الجبار : الإعزاز المضاف إليه تعالى يكون في الدين بالإمداد بالألطاف ومدحهم وتغلبهم على الأعداء ، ويكون في الدنيا بالمال وإعطاء الهيبة . وأشرف أنواع العزة في الدين هو الإيمان ، وأذل الأشياء الموجبه للذلة هو الكفر ، فلو كان حصول الإيمان والكفر من العبد لكان إعزاز العبد نفسه بالإيمان وإذلاله نفسه بالكفر أعظم من إعزاز اللّه إياه وإذلاله ، ولو كان كذلك كان حظه من هذا الوصف أتم من حظه سبحانه ، وهو باطل قطعاً . وقال الجبائي : يذل أعداءه في الدنيا والآخرة ، ولا يذل أولياءه وإن أفقرهم وأمرضهم وأخافهم وأحوجهم إلى غير ذلك ، لأن ذلك لعزهم في الآخرة بالثواب أو العوض فصار كالفصد يؤلم في الحال ويعقب نفعاً . قال : ووصف الفقر بكونه ذلاً مجازاً ، كقوله أذلة على المؤمنين } وإذلال اللّه المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة . وإذلال اللّه المبطل بوجوه بالذم واللعن ، وخذلانهم بالحجة والنصرة ، وبجعلهم لأهل دينه غنيمة ، وبعقوبتهم في الآخرة . {بِيَدِكَ الْخَيْرُ } أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحه للّه تعالى . قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحرّ ، أي والبرد . وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله { إِنَّكَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح بأن نذكر أفضل الخصال . وقال الزمخشري . فإن قلت : كيف قال { بِيَدِكَ الْخَيْرُ } فذكر الخير دون الشر ؟ قلت لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال :{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ، ولأن كل أفعال اللّه من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله . انتهى كلامه ، وهو يدافع آخرهُ أولَه ، لأنه ذكر في السؤال ؛ لَم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟ وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط . وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول . و قال ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ، إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى :{ بِيَدِكَ الْخَيْرُ } فأجزل حظي منه . وقال الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه . وقال الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلاَّ بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق اللّه . ولأن فاعل الأشرف أشرف ، والإيمان أشرف . ٢٧تولج الليل في . . . . . {تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وابن زيد : المعنى ما ينتقص من النهار يزيد في الليل ، وما ينتقص من الليل يزيد في النهار ، دأباً كل فصل من السنة ، قيل : حتى يصير الناقص تسع ساعات ، والزائد خمس عشرة ساعة . وذكر بعض معاصرينا : أجمع أرباب علم الهيئة على أن الذي تحصل به الزيادة من الليل والنهار يأخذ كل واحد منهما من صاحبه ثلاثين درجة ، فتنتهي زيادة الليل على النهار إلى أربع عشرة ساعة ، وكذلك العكس . وذكر الماوردي : أن المعنى في الولوج هنا تغطية الليل بالنهار إذا أقبل ، وتغطية النهار بالليل ، إذا أقبل ، فصيرورة كل واحد منهما في زمان الآخر كالولوج فيه ، وأورد هذا القول احتمالاً ابن عطية ، فقال : ويحتمل لفظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار ، وكان زوال أحدهما ولوج الآخر . {وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَىِّ } معنى الإخراج التكوين هنا ، والإخراج حقيقة هو إخراج الشيء من الظرف قال ابن مسعود ، وابن جبير ، ومجاهد ، وقتادة ، وإبراهيم ، والسدي ، وإسماعيل بن أبي خالة إبراهيم ، وعبد الرحمن بن زيد . تخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة إذا انفصلت النطفة من الحيوان ، وتخرج النطفة وهي ميتة من الرجل وهو حي ، فعلى هذا يكون الموت مجازاً إذ النطفة لم يسبق لها حياة ، ويكون المعنى : وتخرج الحي من ما لا تحله الحياة وتخرج ما لا تحله الحياة من الحي ، والإخراج عبارة عن تغير الحال . وقال عكرمة ، والكلبي : أي الفرخ من البيضة ، والبيضة من الطير ، والموت أيضاً هنا مجاز والإخراج حقيقة . وقال أبو مالك : النخلة من النواة ، والسنبلة من الحبة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والموت والحياة في هذا مجاز . وقال الحسن ، وروى نحوه عن سامان الفارسي : تخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، وهما أيضاً مجاز . وفي الحديث : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : { سبحان اللّه الذي يخرج الحيّ من الميت} . وقد رأى امرأة صالحة مات أبوها كافراً وهي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث . وقال الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحيّ . وقيل : الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب وقال الماوردي : ويحتمل يخرج الجلد الفطن من البليد العاجز ، والعكس ، لأن الفطنة حياة الحس والبلادة موته . وقيل : يخرج الحكمة من قلب الفاجر لأنها لا تستقر فيه ، والسقطة من لسان العارف وهذه كلها مجازات بعيدة . والأظهر في قوله { الْحَىَّ مِنَ الْمَيّتِ } تصور اثنين وقيل : عنى بذلك شيئاً واحداً يتغير به الحال ، فيكون ميتاً ثم يحيا ، وحياً ثم يموت . نحو قولك : جاء من فلان أسد و قال ابن عطية : ذهب جمهور من العلماء إلى أن الحياة والموت هنا حقيقتان لا استعارة فيهما ، ثم اختلفوا في المثل الذي فسروا به ، وذكر قول ابن مسعود وقول عكرمة المتقدمين ، ولا يمكن الحمل إذ ذاك على الحقيقة أصلاً ، وكذلك في الموت ، وشدّد حفص ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي : الميِّت ، في هذه الآية . وفي الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، والروم ، وفاطر زاد نافع تشديد الياء في :{أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } وفي الأنعام و { الاْرْضُ الْمَيْتَةُ } في يس و { لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً } في الحجرات . وقرأ الباقون بتخفيف ذلك ، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال ، كما تقول : لين وليّن وهين وهيّن . ومن زعم أن المخفف لما قد مات ، والمشدّد لما قد مات ولما لم يمت فيحتاج إلى دليل . {وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقدّم تفسير نظيره في قوله { وَاللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً } فأغنى ذلك عن اعادته هنا وقال الزمخشري : ذكر قدرته الباهرة ، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ، ويؤتيه العرب ويعزهم . انتهى . وهو حسن . قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من : الفصاحة ، والبلاغة ، والبديع . الاستفهام الذي معناه التعجب في { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} والإشارة في { نَصِيباً مّنَ الْكِتَابِ } فإدخال : من ، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علماً ولا حفظاً ، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم وتنقيص قدرهم وذمهم ، اذ يزعمون أنهم أخياروهم بخلاف ذلك ، وفي قوله { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم ، وفي { وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ } إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء . والتكرار في { عِلْمٌ مّنَ الْكِتَابِ }{ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّه } إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحداً ، وإما في اللفظ إن كان مختلفاً . وفي التولي والإعراض إن كانا بمعنى واحد . وفي :{ مَالِكَ الْمُلْكِ }{ تُؤْتِى الْمُلْكَ }{ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ } وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم إن كان المراد واحداً ، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط ، وتكرار { مَن تَشَاء } وفي { تُولِجُ } وفي { تُخْرِجُ } وفي متعلقيهما . والاتساع في جعل : في ، بمعنى : على ، على قول من زعم ذلك في قوله { تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ } أي على النهار ، { وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ } أي على الليل . وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية . والنفي المتضمن الأمر في { لاَ رَيْبَ فِيهِ } على قول الزجاج ، أي لا ترتابوا فيه ، والتجنيس المماثل في { مَالِكَ الْمُلْكِ } والطباق : في : تؤتي وتنزع ، وتعز وتذل ، وفي الليل والنهار ، وفي الحي والميت . ورد العجز على الصدر في : تولج ، وما بعده ، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها . كقوله { تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَاء } أي من تشاء أن تؤتيه . والإسناد المجازي في { لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } أسند الحكم إلى الكتاب لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم وروي في الحديث : { إن من أراد قضاء دينه قرأ كل يوم : قل اللّهم مالك الملك إلى بغير حساب . ويقول رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما من تشاء إقض عني ديني . فلو كان ملء الأرض ذهباً لأداه اللّه} . ٢٨لا يتخذ المؤمنون . . . . . {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قيل : نزلت في عبادة بن الصامت ، كان له حلفاء من اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو وقيل : في عبد اللّه بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون اليهود وقيل : في قوم من اليهود ، وهم : الحجاح بن عمر ، وكهمس بن أبي الحقيق ، وقيس بن يزيد ، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا ، فنزلت هذه الأقوال مروية عن ابن عباس . وقيل : في حاطب بن بلتعة ، وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش ، فنزلت . ومعنى : اتخاذهم أولياء : اللطف بهم في المعاشرة ، وذلك لقرابة أو صداقة . قبل الإسلام ، أو يد سابقة أو غير ذلك ، وهذا فيما يظهر نهوا عن ذلك ، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم ، واللطف عام في جميع الأعصار ، وقد تكرر هذا في القرآن . ويكفيك من ذلك قوله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه وَرَسُولَهُ } الآية ، والمحبة في اللّه والبغض في اللّه أصل عظيم من أصول الدين . وقرأ الجمهور : لا يتخذ ، على النهي وقرأ الضبي برفع الذال على النفي ، والمراد به النهي ، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم اللّه تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها ، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق ، وكان الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه إذ هو تعالى مالك الملك . وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلاَّ ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيداً ، والاستعانة بهم استعانه العزيز بالذليل ، والأرفع بالأوضع ، والنكاح فيهم . فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه ، ولسنا ممنوعين منه ، فالنهي ليس على عمومه . {مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } تقدم تفسير : من دون ، في قوله { وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّه } فأغنى عن إعادته . و : يتخذ ، هنا متعدية إلى اثنين ، و : من دون ، متعلقة بقوله : لا يتخذ ، و : من ، لابتداء الغاية قال علي بن عيسى : أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين . {وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّه فِي شَىْء } ذلك إشارة إلى اتخاذهم أولياء ، وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة ، إذ نفي عن متوليهم أن يكون في شيء من اللّه ، وفي الكلام مضاف محذوف أي : فليس من ولاية اللّه في شيء وقيل : من دينه وقيل : من عبادته وقيل : من حزبه . وخبر : ليس ، هو ما استقلت به الفائدة ، وهي : في شيء ، و : من اللّه ، في موضع نصب على الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء ، والتقدير : فليس في شيء من ولاية اللّه . و : من ، تبعيضية نفي ولاية اللّه عن من اتخذ عدوه ولياً ، لأن الولايتين متنافيتان ، قال : تود عدوي ثم تزعم أنني صديقك ، ليس النَّوْكُ عنك بعازب وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة : إذا حاولت في أسد فجورا فإني لست منك ولست مني ليس بجيد ، لأن : منك ومني ، خبر ليس ، وتستقل به الفائدة . وفي الآية الخبر قوله : في شيء ، فليس البيت كالآية . قال ابن عطية { فَلَيْسَ مِنَ اللّه فِي شَىْء } معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { من غشنا فليس منا} . وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى اللّه والتزلف . ونحو هذا مقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله :{ لَيْسَ مِنْ اللّه فِي شَىْء} انتهى كلامه . وهو كلام مضطرب ، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى اللّه ، يقتضي أن لا يكون من اللّه خبراً لليس ، إذ لا يستقل . فقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى : ليس ، على قوله لا يكون لها خبر ، وذلك لا يجوز . وتشبيهه بقوله عليه السلام : { من غشنا فليس منا } ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية . {إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } هذا استثناء مفرع من المفعول له ، والمعنى لا يتخذوا كافراً ولياً لشيء من الأشياء إلاَّ لسبب التقية ، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب والضمير ، ولذلك قال ابن عباس : التقية المشار إليها مداراة ظاهرة وقال : يكون مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ، ولا مودة لهم في قلبه . وقال قتادة : إذا كان الكفار غالبين ، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم ، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان . وقال ابن مسعود : خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : خالص المؤمن وخالق الكافر ، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن . وقال الصادق : التقية واجبة ، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني وقال : الرياء مع المؤمن شرك ، ومع المنافق عبادة . وقال معاذ بن جبل ، ومجاهد : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأما اليوم فقد أعز اللّه المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم . وقال الحسن : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل وقال مجاهد : إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا . وفي قوله { إِلا أَن تَتَّقُواْ } التفات ، لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على نظم الأول لكان : إلا أن يتقوا ، بالياء المعجمة من أسفل ، وهذا النوع في غاية الفصاحة ، لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز ، جعل ذلك في اسم غائب ، فلم يواجهوا بالنهي ، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذاناً بلطف اللّه بهم ، وتشريفاً بخطابه إياهم . وقرأ الجمهور : تقاة ، وأصله : وقية ، فأبدلت الواو تاء ، كما أبدلوها في : تجاه وتكاه ، وانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على فعلة : كالتؤدة والتخمة ، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلاً . وجاء مصدراً على غير الصدر ، إذ لو جاء على المقيس لكان : اتقاء ونظير وقوله تعالى :{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } وقول الشاعر : ولاح بجانب الجبلين منه ركام يحفر الأرض احتفاراً والمعنى : إلاَّ أن تخافوا منهم خوفاً . وأمال الكسائي : تقاة ، وحق تقاته ، ووافقه حمزة هنا وقرأ ورش بين اللفظين ، وفتح الباقون . وقال الزمخشري : إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه وقرىء : تقية . وقيل : للمتقي تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه . انتهى فجعل : تقاة ، مصدراً في موضع اسم المفعول ، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر ، ولذلك قدره إلاَّ أن تخافوا أمراً . وقال أبو عليّ : يجوز أن يكون : تقاة ، مثل : رماة ، حالاً من : تتقوا ، وهو جمع فاعل ، وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقي . انتهى كلامه . وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ } وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً ، ولو كان جمع : تقي ، لكان أتقياء ، كغني وأغنياء ، وقولهم : كمي وكماة ، شاذ فلا يخرجّ عليه ، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى :{ اتَّقُواْ اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ } المعنى حق اتقائه ، وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا : اتقى ، حتى صار : تقي يتقي ، تق اللّه فصار كأنه مصدر لثلاثي . وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وسهل ، وحميد ابن قيس ، والمفضل عن عاصم : تقية على وزن مطية وجنية ، وهو مصدر على وزن : فعيلة ، وهو قليل نحو : النميمة . وكونه من افتعل نادر . وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم ، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية ، إذ لها تعلق بالآية ، فقالو : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك ، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه ؟ وفيما يبيحها ؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك : الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر . قال مالك : وزوج المرأة قد يكره ؛ وأما ما يببحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة . وأما بأي شيء تكون من الأقوال ؟ فبالكفر فما دونه من : بيع ، وهبة ، وغير ذلك . وأما من الأفعال : فكل محرم . وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ . وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال ، روي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، والضحاك . وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من اللّه تعالى ، وتركها أفضل ، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر ، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة . قال أحمد بن حنبل ، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا . وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق ؟ والذي نقل إلينا خلفاً عن سلف أن الصحابة ، وتابعيهم ، بذلوا أنفسهم في ذات اللّه . وأنهم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم . وقال الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين ، وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة . وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين ، إلاَّ أن مذهب الشافعي : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس ، وهي جائزة لصون النفس والمال . إنتهى . قيل : وفي الآية دلالة على أنه لادلالة لكافر على مسلم في شيء ، ماذا كان له ابن صغير مسلم باسلام أمة فلا ولا به له عليه في تصرف ولا تزوّج ولا غيره . قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة . {وَيُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ } قال ابن عباس : بطشه ، وقال الزجاج : نفسه أي : إياه تعالى ، كما قال الأعشى : يوماً بأجود نائلاً منه إذا نفس الجبان تجهمت سؤَّالها أراد إذا البخيل تجهم سؤاله . قال ابن عغطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات . وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه . فقال ابن عباس ، والحسن : ويحذركم اللّه عقابه . إنتهى كلامه . ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، حذرهم من مخالفته بموالاة أعداه قال :{ وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ } أي : صيرورتكم ورجوعكم ، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي . وفي ذلك تهديد وعيد شديد . ٢٩قل إن تخفوا . . . . . {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّه} تقدّم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة ، وهناك قدّم الإبداء على الإخفاء ، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء ، وجعل محلهما ما في الصدور ، وأتى جواب الشرط قوله :{ يَعْلَمْهُ اللّه } وذلك من التفنن في الفصاحة . والمفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر ، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها ، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة ، وتحذير من ذلك . {وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي } هذا دليل على سعة علمه ، وذكر عموم بعد خصوص ، فصار علمه بما في صدورهم مذكوراً مرتين على سبيل التوكيد ، أحدهما : بالخصوص ، والآخر : بالعموم ، إذ هم ممن في الأرض . {يَشَاء وَاللّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدروهم . وقال الزمخشري : وهذا بيان لقوله { وَيُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ } لأن نفسه ، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقي ، فلا يجسر أحد على قبيح ، ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ، فلا حق به العذاب . إنتهى . وهو كلام حسن ، وفيه التصريح بإثبات صفة العلم ، والقدرة للّه تعالى ، وهو خلاف ما عليه أشياخه من المعتزلة ، وموافقة لأهل السنة في إثبات الصفات . ٣٠يوم تجد كل . . . . . {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا } اختلف في العامل في : يوم ، فقال الزجاج : العامل فيه : ويحذركم ، ورجحه . وقال أيضاً : العامل فيه : المصير . وقال مكي بن أبي طالب : العامل فيه : قدير ، وقال أيضاً : فيه مضمر تقديره اذكر . وقال ابن جرير : تقديره : اتقوا ، ويضعف نصبه بقوله : ويحذركم ، لطول الفصل . هذا من جهة اللفظ ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود ، واليوم موعود ، فلا يصح له العمل فيه ، ويضعف انتصابه : بالمصير ، للفصل بين المصدر ومعموله ، ويضعف نصبه : بقدير ، لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم ، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً . وأما نصبه باضمار فعل ، فالإضمار على خلاف الأصل . وقال الزمخشري :{ يَوْمَ تَجِدُ } منصوب : بتود ، والضمير في : بينه ، ليوم القيامة ، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً . إنتهى هذا التخريأ . والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه ، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة ، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين ، وهي : إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء اتصل بالمعمول للفعل ، نحو : غلام هند ضربت ، وثوبي أخويك يلبسان ، ومال زيد أخذ ، فذهب الكسائي ، وهشام ، وجمهور البصريين : إلى جوزاز هذه المسائل . ومنها الآية على تخريج الزمخشري ، لأن الفاعل : بتودّ ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول : تودّ ، وهو : يوم ، لأن : يوم ، مضاف إلى : تجد كل نفس ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ . وذهب الفراء ، وأبو الحسن الأخفش ، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز ، لأن هذا المعمول فضلة ، فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك ، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ، ولهذه العلة امتنع : زيداً ضرب ، وزيداً ظنّ قائماً . والصحيح جواز ذلك قال الشاعر : أجل المرء يستحث ولا يد ري إذا يبتغي حصول الأماني أي : المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر . و : تجد ، الظاهر أنها متعدّية إلى واحد وهو : ما عملت ، فيكون بمعنى نصيب ، ويكون : محضراً ، منصوباً على الحال . وقيل : تجد ، هنا بمعنى : تعلم ، فتتعدّى إلى اثنين ، وينتصب : محضراً على أنه مفعول ثان لها ، وما ، في : ما عملت ، موصولة ، والعائد عليها من الصلة محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : عملها ، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول ، أي : معمولها ، فقوله : ما عملت ، هو على حذف مضاف أي : جزاء ما عملت وثوابه . قيل : ومعنى : محضراً على هذا موفراً غير مبخوس . وقيل : ترى ما عملت مكتوباً في الصحف محضراً إليها تبشيراً لها ، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل . وقرأ الجمهور : محضراً ، بفتح الضاد ، اسم مفعول . وقرأ عبيد بن عمير : محضرا بكسر الضاد ، أي محضراً الجنة أو محضراً مسرعاً به إلى الجنة من قولهم : أحضر الفرس ، إذا جرى وأسرع . وما عملت من سوء ، يجوز أن تكون في موضع نصب ، معطوفاً على : ما عملت من خير ، فيكون المفعول الثاني إن كان : تجد ، متعدّية إليهما ، أو الحال إن كان يتعدّى إلى واحد محذوفاً ، أي : وما عملت من سوء محضراً . وذلك نحو : ظننت زيداً قائماً وعمراً ، إذا أردت : وعمراً قائماً ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون : تودّ ، مستأنفاً . ويجوز أن يكون : توّد ، في موضع الحال أي : وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء ، فيكون الضمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء ، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم ، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو : الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلاَّ بتجوّز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر ، فتودّ تباعدة لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير . و الأولى : عوده على : ما عملت من السوء ، لأنه أقرب مذكور ، لأن المعنى : أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه ، وإلى عطف : ما عملت من سوء ، على : ما عملت من خير ، وكون ، تودّ ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري ، ويجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، موصولة في موضع رفع بالابتداء و : تودّ ، جملة في موضع الخبر : لما ، التقدير : والذي عملته من سبوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وثنى به ابن عطية ، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، شرطاً . قال الزمخشري : لارتفاع : تودّ . و قال ابن عطية : لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه ، اللّهم إلاَّ أن يقدر في الكلام محذوف ، أي : فهي تودّ ، وفي ذلك ضعف . إنتهى كلامه . وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع : تودّ ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبون العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي ، رحمه اللّه ، واستشسكل قول الزمخشري . وقال : ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير : وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول : لا غائب مالي ولا حرم وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى : { بالتذكرة } ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك ، بعد أن نقدّم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء ، جاز في ذلك المضارع الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقوم عمرو ، وان قام زيد يقم عمرو . فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ، ولا تعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلاَّ ما ذكره صاحب كتاب { الإعراب} عن بعض النحويين أنه : لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع : كان ، لقوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها . وظاهر كلام سيبويه ، ونص الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان ، وأنشد سيبويه للفرزدق : دسَّت رسولاً بأن القوم إن قدروا وقال أيضاً : تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير . وقال بعض أصحابنا : وهو أحسن من الجزم ، ومنه بين زهير السابق إنشاده ، وهو قوله أيضاً : وإن سل ريعان الجميع مخافة يقول جهاراً : ويلكم لا تنفروا وقال أبو صخر : ولا بالذي إن بان عنه حبيبه يقول ويخفي الصبر : إني لجازع وقال الآخر : وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوّف أهل الغائب بالمتنظِّر وقال الآخر : وإن كان لا يرضيك حتى تردّني إلى قطري لا إخالك راضياً وقال الآخر : إن يسألوا الخير يعطوه ، وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب إخبار هذا الرفع ، كما رأيت كثير ، ونصوص الأمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره . وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي ، وهو مصنف { وصف المباني} رحمه اللّه : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع ، تقدّم الماضي أو تأخر ، وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجعله مثل قول الشاعر : إنك إن يصرغ أخوك تصرغ . على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة . وأما المقدّمون فاختلفوا في تخريج الرفع ، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم . وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده . وذهب الكوفيون ، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء ، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم تظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط ، لكونه ماضياً ، ضعف عن العمل في فعل الجواب ، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء ، ولا على نية التقديم ، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان . وتلخص من هذا الذي قلناه : أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون : وما عملت ، شرطاً لعلة أخرى ، لا لكون : تود ، مرفوعاً ، وذلك على ما نقرره على مذه سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : إذا كان : تود ، منوياً به كالتقديم أدّى إلى تقدّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية . ألا ترى أن الضمير في قوله : وبينه ، عائد على اسم الشرط الذي هو : ما ، فيصير التقدير : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ؟ فيلزم من هذا التقدير تقدّم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز . فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط ؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير . فالجواب : إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب . وإذا كان كذلك تدافع الأمر ، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها ، فتدافعا . وهذا بخلاف : ضرب زيداً غلامه ، هي جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم : ضرب غلامها هنداً ، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع : ضرب غلامها جار هند ، لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين . ولا يحفظ من لسان العرب : أودّلو أني أكرمه أياً ضربت هند ، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره . وقرأ عبد اللّه ، وابن أبي عبلة : من سوء ودّت لو أن ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون : ما ، شرطية في موضع نصب ، فعملت . أو في موضع رفع على إضمار الهاء في : عملت ، على مذهب الفراء ، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام ، وتكون : ودّت ، جزاء الشرط . قال الزمخشري : لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى ، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة . انتهى . و : لو ، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول : تود ، محذوف ، والتقدير : تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك ، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في : لو ، و : أن ، وما بعدها في موضع مبتداً على مذهب سيبويه ، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس . وأمّا على قول من يذهب إلى أن : لو ، بمعنى : أن ، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية ، ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلاّ َ قليلاً ، كقوله تعالى { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } والذي يقتضيه المعنى أن : لو أن ، وما يليها هو معمول : لتودّ ، في موضع المفعول به . قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ، ذلك معناه . ومعنى أمداً بعيداً : غاية طويلة ، وقيل : مقدار أجله ، وقيل : قدر ما بين المشرق والمغرب . {وَيُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ} كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من اللّه بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه . {وَاللّه رَءوفٌ بِالْعِبَادِ } لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجاً للقلوب ، ومنبهاً على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدّة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى :{ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف ، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم اللّه ، وجاء المحذر مخصوصاً بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت إسمية ، فتكرر فيها اسم اللّه ، إذا لوصف محتمل ضميره تعالى ، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رؤوف ، وجاء متعلقة عاماً ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه . قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه . وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمىً من أمرهم . وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضاً ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن . ٣١قل إن كنتم . . . . . {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللّه وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ} نزلت في اليهود ، قالوا :{ نَحْنُ أَبْنَاء اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ } أو : في قول المشركين { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى اللّه زُلْفَى } قالوا ذلك ، وقد نصبت قريش أصنامها يسجدون لها ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم } وكلا هذين القولين عن ابن عباس . وقال الحسن ، وابن جريج : في قوم قالوا : إنا لنحب ربنا حباً شديداً . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : في وفد نجران حيث قالوا : إنا نعظم المسيح حباً للّه . انتهى . ولفظ الآية يعم كل من ادعى محبة اللّه ، فمحبة العبد للّه عبارة عن عن ميل قلبه إلى ما حدّه له تعالى وأمره به ، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة ، ومحبته تعالى للعبد تقدّم الكلام عليها ، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل ، فأغنى عن إعادته . رتب تعالى على محتبهم له واتباع رسوله محبته لهم ، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه ، فإنه هو المبين عن اللّه ، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام اا في العبادات ولا في غيرها ، بل رسوله صلى اللّه عليه وسلم هو الموضح لذلك ، فكان اتباعه فيما أتى به احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة اللّه تعالى . وقرأ الجمهور : تحبون ، ويحببكم ، من أحب . وقرأ أبو رجاء العطاردي : تحبون ويحببكم ، بفتح التاء والياء من حب ، وهما لغتان وقد تقدّم ذكرهما . وذكر الزمخشري أنه قرىء : يحبكم ، بفتح الياء والإدغام . وقرأ الزهري : فاتبعوني ، بتشديد النون ، ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية ، ولم يحذف الواو شبهاً : بأتحاجوني ، وهذا توجيه شذوذ . قال الزمخشري : أراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل ، فمن أدّعى محبته وخالف سنة رسوله فهو كذاب ، وكتاب اللّه يكذبه . ثم ذكر من يذكر محبة اللّه ، ويصفق بيديه مع ذكرها ، ويطرب وينعر ويصفق ، وقبح من فعله هذا ، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه . وروي عن أبي عمر إدغم : راء ، و : يغفر لكم ، في لام : لكم ، وذكر ابن عطية عن الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن أبي عمرو ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك ، وذكرنا أن رؤساء الكوفة : أبا جعفر الرواسي ، والكسائي ، والفراء رووا ذلك عن العرب ، ورأسان من البصريين وهما : أبو عمرو ، ويعقوب قرآ بذلك وروياه ، فلا التفات لمن خالف في ذلك . ٣٢قل أطيعوا اللّه . . . . . {قُلْ أَطِيعُواْ اللّه وَالرَّسُولَ } هذا توكيد لقوله : فاتبعوني ، وروي عن ابن عباس أنه لما نزل { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللّه } قال عبد اللّه بن أبي لاصحابه : إن محمداً يجعل طاعته كطاعة اللّه ، ويأمر بأن نحبه كما أحبت النصارى عيسى بن مريم ، فنزل { قُلْ أَطِيعُواْ اللّه} {فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } يحتمل أن يكون : تولوا ، ماضياً . ويحتمل أن يكون مضارعاً حذفت منه التاء ، أي : فإن تتولوا ، والمعنى : فإن تولوا عما أمروا به من اتباعه وطاعته فإن اللّه لا يحب من كان كافراً . وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافراً ، وتقييد انتفاء محبة اللّه بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية ، فالمؤمن من العاصي لا يندرج في ذلك . قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة وفنون البلاغة الخطاب العام الذي سببه خاص . وفي قوله { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ } والتكرار ، في قوله : المؤمنون من دون المؤمنين ، وفي قوله : من اللّه ، ويحذركم اللّه نفسه ، وإلى اللّه ، وفي : يعلمه اللّه ، ويعلم ، وفي قوله : يعلمه اللّه ، واللّه علي ، وفي قوله : ما عملت ، وما عملت ، وفي قوله : اللّه نفسه ، واللّه ، وفي قوله : ويحذركم اللّه ، واللّه روؤف ، وفي قوله : تحبون اللّه ، يحببكم اللّه ، واللّه غفور ، قل أطيعوا اللّه ، فإن اللّه . والتجنيس المماثل في : تحبون ويحببكم ، والتجنيس المغاير ، في : تتقوا منهم تقاه ، وفي يغفر لكم وغفور . والطباق في : تخفوا وتبدوه ، وفي : من خير ومن سوء ، وفي : محضراً وبعيداً . والتعبير بالمحل عن الشيء في قوله : ما في صدوركم ، عبر بها عن القلوب ، قال تعالى :{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ } الآية . والإشارة في قوله : ومن يفعل ذلك ، الآية . أشار إلى انسلاخهم من ولاية اللّه . والاختصاص في قوله : ما في صدوركم ، وفي قوله : ما في السموات وما في الأرض . والتأنيس بعد الإيحاش في قوله : واللّه روؤف بالعباد ، والحذف في عدة مواضع تقدم ذكرها في التفسير . ٣٣إن اللّه اصطفى . . . . . نوح : اسم أعجمي مصروف عند الجمهور وإن كان فيه ما كان يقتضي منع صرفه وهو : العلمية والعجمة الشخصية ، وذلك لخفة البناء بكونه ثلاثياً ساكن الوسط لم يضف إليه سبب آخر ، ومن جوز فيه الوجهين فبالقياس على هذا لا بالسماع ، ومن ذهب إلى أنه مشتق من النواح فقوله ضعيف ، لأن العجمة لا يدخل فيها الاشتقاق العربي إلاَّ ادعى أنه مما اتفقت فيه لغة العرب ولغة العجم ، فيمكن ذلك . ويسمى : آدم الثاني واسمه السكن ، قاله غير واحد ، وهو ابن لملك بن متوشلخ بن اخنوخ بن سارد بن مهلابيل بن قينان بن انوش بن شيث بن آدم . عمران : اسم أعجمي ممنوع الصرف للعلمية والعجمة ، ولو كان عربياً لامتنع أيضاً للعلمية ، وزيادة الألف والنون إذ كان يكون اشتقاقه من العمر واضحاً . محرراً : اسم مفعول من حرر ، ويأتي اختلاف المفسرين في مدلوله في الآية ، والتحرير : العتق ، وهو تصيير المملوك حراً . الوضع : الحط والإلقاء ، تقول : وضع يضع وضعاً وضعة ، ومنه الموضع . الأنثى والذكر : معروفان ، وألف أنثى للتأنيث ، وجمعت على إناث ، كربى ورباب ، وقياس الجمع : أناثى ، كحبلى وحبالى . وجمع الذكر : ذكور وذكران . مريم : اسم عبراني ، وقيل عربي جاء شاذاً : كمدين ، وقياسه : مرام كمنال ، ومعناه في العربية التي تغازل الفتيان ، قال الراجز : . قلت لزيد لم تصله مريمه عاذ بكذا : اعتصم به ، عوذاً وعياذ أو معاذ أو معاذة ومعناه : التجأ واعتصم وقيل : اشتقاقه من العوذ وهو : عوذ يلجأ إليه الحشيش في مهب الريح . رجم : رمى وقذف ، ومنه { رَجْماً بِالْغَيْبِ } أي : رمياً به من غير تيقن ، والحديث المرجم هو : المظنون ليس فيه يقين . والرجيم : يحتمل أن يكون للمبالغة من فاعل ، أي إنه يرمي ويقذف بالشر والعصيان في قلب ابن آدم ، ويحتمل أن يكون بمعنى : مرجوم ، أي يُرجم بالشهب أو يبعد ويطرد . الكفالة : الضمان ، يقال : كفل يكفل فهو كافل وكفيل ، هذا أصله ثم يستعار للضم والقيام على الشيء . زكريا : أعجمي شبه بما فيه الألف الممدودة والألف المقصورة فهو ممدود ومقصور ، ولذلك يمتنع صرفه نكرة ، وهاتان اللغتان فيه عند أهل الحجاز ، ولو كان امتناعه للعلمية والعجمة انصرف نكرة . وقد ذهب إلى ذلك أبو حاتم ، وهو غلط منه ، ويقال : ذكرى بحذف الألف ، وفي آخره ياء كياء بحتى ، منونة فهو منصرف ، وهي لغة نجد ، ووجهه فيما قال أبو علي ؛ إنه حذف ياءي الممدود والمقصور ، وألحقه ياءي النسب يدل على ذلك صرفه ، ولو كانت الياءان هما اللتين كانتا في زكريا لوجب أن لا يصرف للعجمة والتعريف . انتهى كلامه . وقد حكي : ذكر على وزن : عمر ، وحكاها الأخفش . المحراب : قال أبو عبيدة : سيد المجالس وأشرفها ومقدمها ، وكذلك هو من المسجد ، وقال الاصمعي : الغرفة وقال : وماذا عليه إن ذكرت أوانسا كغزلان رمل في محاريب أقتالِ شرحه الشراح في غرف أقيال وقال الزجاج : الموضع العالي الشريف وقال أبو عمرو بن العلاء : القصر ، لشرفه وعلوه وقيل : المسجد وقيل : محرابه المعهود سمي بذلك لتحارب الناس عليه وتنافسهم فيه ، وهو مقام الإمام من المسجد . هنا : اسم إشارة للمكان القريب ، والتزم فيه الظرفية إلاَّ أنه يجر بحرف الجر ، فإن ألحقته كاف الخطاب دل على المكان البعيد . وبنو تميم تقول : هناك ، ويصح دخول حرف التنبيه عليه إذا لم تكن فيه اللام ، وقد يراد بها ظرف الزمان . النداء : رفع الصوت ، وفلان أندى صوتاً ، أي أرفع ، ودار الندوة لأنهم كانوا ترتفع أصواتهم بها ، والمنتدى والنادي مجتمع القوم منه ، ويقال : نادى مناداة ونِداء ونُداء ، بكسر النون وضمها قيل : فبالكسر المصدر ، وبالضم اسم ، وأكثر ما جاءت الأصوات على الضم : كالدُعاء والُرغاء والصُراخ وقال يعقوب : يمد مع كسر النون ، ويقصر مع ضمها . والندي : المطر ، يقال منه ندى يندى ندى . يحيي : اسم أعجمي امتنع الصرف للعجمة والعلمية ، وقيل : هو عربي ، وهو فعل مضارع من : حي ، سمي به فامتنع الصرف للعلمية ووزن الفعل ، وعلى القولين يجمع على : يحيون ، بحذف الألف وفتح ما قبلها على مذهب الخليل ، وسيبويه ونقل عن الكوفيين : إن كان عربياً فتحت الياء ، وإن كان أعجمياً ضمت الياء . سيد : فيعل من : ساد ، أي : فاق في الشرف ، وتقدم الكلام في نظير هذا ، وجمعه على : فعلة ، فقالوا : سادة ، شاذ وقال الراغب : هو السايس بسواد الناس ، أي : معظمهم ، ولهذا يقال : سيد العبد ، ولا يقال سيد الثوب . انتهى . الحصور : فعول من الحصر ، وهو للمبالغة من حاصر وقيل : فعول بمعنى مفعول ، أي محصور ، وهو في الآية بمعنى الذي لا يأتي النساء . الغلام : الشاب من الناس ، وهو الذي طرّ شاربه ، ويطلق على الطفل على سبيل التفاؤل ، وعلى الكهل ومنه قول ليلى الأخيلية : شفاها من الداء العضال الذي بها غلام إذا هز القناة سقاها تسمية بما كان عليه قبل الكهولة ، وهو من الغلمة والاغتلام ، وذلك شدة طلب النكاح . ويقال : اغتلم الفحل : هاج من شدة شهوة الضراب ، واغتلم البحر : هاج وتلاطمت أمواجه ، وجمعه على ، غلمة ، شاذ وقياسه في القلة : أغلمة ، وجمع في الكثرة على : غلمان ، وهو قياسه : الكبر ، مصدر : كبر يكبر من السن قال : صغيرين نرعى البهم يا ليت إننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهمُ العاقر : من لا يولد له من رجل أو امرأة ، وفعله لازم ، والعاقر اسم فاعل من عقر أي : قتل ، وهو متعد . الرمز : الإشارة باليد أو بالرأس أو بغيرهما وأصله التحرك يقال ارتمز تحرك ومنه قيل للبحر الراموز . العشي : مفرد عشية ، كركيّ . وركية والعشية : أواخر النهار ، ولامها واو ، فهي كمطي . الإبكار : مصدر أبكر ، يقال أبكر : خرج بكرة . {إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إِبْراهِيمَ وَءالَ عِمْرانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } قال ابن عباس : قالت اليهود : نحن أبناء إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب . ونحن على دينهم ، فنزلت . وقيل : في نصارى نجران لما غلوا في عيسى ، وجعلوه ، ابن اللّه تعالى ، واتخذوه إلهاً ، نزلت رداً عليهم ، وإعلاماً أن عيسى من ذرية البشر المتنقلين في الأطوار المستحيلة على الإله ، واستطرد من ذلك إلى ولادة أمه ، ثم إلى ولادته هو ، وهذه مناسبة هذه الآيات لما قبلها . وأيضاً . لما قدم قبل :{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّه فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللّه } ووليه { قُلْ أَطِيعُواْ اللّه وَالرَّسُولَ } وختمها بأنه { لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } ذكر المصطفين الذين يحب اتباعهم ، فبدأ أولاً بأولهم وجوداً وأصلهم ، وثنى بنوح عليه السلام إذ هو آدم الأصغر ليس أحد على وجه الأرض إلاَّ من نسله ، ثم أتى ثالثاً بآل إبراهيم ، فاندرج فيهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، المأمور باتباعه وطاعته ، وموسى عليه السلام ، ثم أتى رابعاً بآل عمران ، فاندرج في آله مريم وعيسى عليهما السلام ، ونص على آل إبراهيم لخصوصية اليهود بهم ، وعلى آل عمران لخصوصية النصارى بهم ، فذكر تعالى جعلَ هؤلاءِ صفوة ، أي مختارين نقاوة . والمعنى أنه نقاهم من الكدر . وهذا من تمثيل المعلوم بالمحسوس . . واصطفاء آدم بوجوه . منها خلقة أول هذا الجنس الشريف ، وجعله خليفة في الأرض ، وإسجاد الملائكة له ، واسكانه جنته ، إلى غير ذلك مما شرّفه به . واصطفاء نوح عليه السلام بأشياء ، منها : أنه أول رسول بعث إلى أهل الأرض بتحريم : البنات والأخوات والعمات والخالات وسائر ذوي المحارم ، وأنه أب الناس بعد آدم وغير ذلك ، واصطفاء آل إبراهيم عليه السلام بأن جعل فيهم النبوّة والكتاب . قال ابن عباس ، والحسن : آل إبراهيم من كان على دينه . وقال مقاتل : آله اسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط . وقيل : المراد بآل إبراهيم إبراهيم نفسه . وتقدّم لناشىء من الكلام على ذلك في قوله :{ وَبَقِيَّةٌ مّمَّا تَرَكَ ءالُ مُوسَى وَءالُ هَارُونَ} وعمران هذا المضاف إليه آل ، قيل هو : عمران بن ماثان من ولد سليمان بن داود ، وهو أبو مريم البتول أم عيسى عليه السلام ، قاله : الحسن ووهب . وقيل : هو عمران أبو موسى وهارون ، وهو عمران بن نصير قاله مقاتل . فعلى الأول آله عيسى ، قاله الحسن وعلى الثاني آله موسى وهارون ، قاله مقاتل . وقيل : المراد بآل عمران عمران نفسه ، والظاهر في عمران أنه أبو مريم لقوله بعد { إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ } فذكر قصة مريم وابنها عيسى ، ونص على أن اللّه اصطفاها بقوله { إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ } فقوله :{ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ } كالشرح لكيفية الاصطفاء ، لقوله : وآل عمران ، وصار نظير تكرار الاسم في جملتين ، فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول ، نحو : أكرم زيداً رجل صالح . وإذا كان المراد بالثاني غير الأول ، كان في ذلك إلباس على السامع . وقد رجح القول الآخر بأن موسى يقرن بإبراهيم كثيراً في الذكر ، ولا يتطرق الفهم إلى أن عمران الثاني هو أبو موسى وهارون ، وإن كانت له بنت تسمى مريم ، وكانت أكبر من موسى وهارون سناً ، للنص على أن مريم بنت عمران بن ماثان ولدت عيسى ، وأن زكريا كفل مريم أم عيسى ، وكان زكريا قد تزوج أخت مريم إمشاع ابنة عمران بن ماثان فكان يحيى وعيسى ابني خالة ، وبين العمرانين والمريمين أعصار كثيرة . قيل : بين العمرانين ألف سنة وثمانمائة سنة . والظاهر أن الآل من يؤول إلى الشخص في قرابة أو مذهب ، والظاهر أنه نص على هؤلاء هنا في الاصطفاء للمزايا التي جعلها اللّه تعالى فيهم . وذهب قاضي القضاة بالأندلس : أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي ، رحمه اللّه ورضى عنه ، إلى أن ذكر آدم ونوح تضمن الإشارة إلى المؤمنين من بينهما ، وأن الآل الأتباع ، فالمعنى أن اللّه اصطفى المؤمنين على الكافرين ، وخص هؤلاء بالذكر تشريفاً لهم ، ولأن الكلام في قصة بعضهم . إنتهى ما قال ملخصاً ، وقوله شبيه في المعنى بقول من تأول قوله آدم وما بعده على حذف مضاف ، أي : أن اللّه اصطفى دين آدم . وروي معناه عن ابن عباس ، قال : المراد اصطفى دينهم على سائر الأديان ، واختاره الفراء . وقال التبريزي : هذا ضعيف ، لأنه لو كان ثَمَّ مضاف محذوف لكان : ونوح مجروراً ، لأن آدم محله الجر بالإضافة ، وهذا الذي قاله التبريزي ليس بشيء ، ولولا تسطيره في الكتب ما ذكرته . لأنه لا يلزم أن يجر المضاف إليه إذا حذف المضاف ، فيلزم جر ما عطف عليه ، بل يعرب المضاف إليه بإعراب المضاف المحذوف . ألا ترى إلى قوله واسأل القرية ؟ وأما إقراره مجروراً فلا يجوز إلا بشرط ذكر في علم النحو . {عَلَى الْعَالَمِينَ } متعلق باصطفى ، ضمنه معنى فضل ، فعداه بعلى . ولو لم يضمنه معنى فضل لعدى بمن . قيل : والمعنى على عالمي زمانهم ، واللفظ عام ، والمراد به الخصوص كما قال جرير : ويضحى العالمون له عيالاً وقال الحطيئة : أراح اللّه منك العالمينا وكما تؤول في { وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} وقال القتبي : لكل دهر عالم ، ويمكن أين يخص بمن سوى هؤلاء ، ويكون قد اندرج في قوله : وآل إبراهيم محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فيكون المعنى : أن هؤلاء فضلوا على من سواهم من العالمين . واشتراكهم في القدر المشترك من التفضيل لا يدل على التساوي في مراتب التفضيل ، كما تقول : زيد وعمر وخال أغنياء ، فاشتراكهم في القدر المشترك من الغنى لا يدل على التساوي في مراتب الغنى ، وإذا حملنا : العالمين ، على من سوى هؤلاء ، كان في ذلك دلالة على تفضيل البشر على الملائكة ، لأنهم من سوى هؤلاء الصطفين ، وقد استدل بالآية على ذلك . ولا يمكن حمل : العالمين ، على عمومه لأجل التناقض ، لأن الجمع الكثير إذا وصفوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين ، يلزم كل واحد منهم أن يكون أفضل من الآخر ، وهو محال . وقرأ عبد اللّه : وآل محمد على العالمين . ٣٤ذرية بعضها من . . . . . {ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } أجازوا في نصب : ذرية ، وجهين : . أحدهما : أن يكون بدلاً . قال الزمخشري { مّنْ ءالِ إِنَّ اللّه اصْطَفَى } يعني أن الآلين ذرية واحدة ، وقال غيره بدل من نوح ومن عطف عليه من الأسماء . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون بدلاً من آدم لأنه ليس بذرية انتهى . و قال ابن عطية : لا يسوغ أن تقول في والد هذا ذرية لولده . وقال الراغب : الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل . كقوله :{ حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ } أي آباءهم ، ويقال للنساء : الذراري . وقال صاحب النظم : الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء ، والابناء ذرية للآباء ، وجاز ذلك لأنه من ذرأ اللّه الخلق ، فالأب ذرىء منه الولد ، والولد ذرىء من الأب . وقال معناه النقاش فعلى قول الراغب وصاحب النظم ، يجوز أن يكون : ذرية ، بدلاً من : آدم ، ومن عطف عليه . وأجازوا أيضاً نصب : ذرية ، على الحال ، وهو الوجه الثاني من الوجهين ، ولم يذكره الزمخشري ، وذكره ابن عطية . وقال : وهو أظهر من البدل . وتقدّم الكلام على ذرية دلالةً واشتقاقاً ووزناً ، فأغنى عن إعادته . وقرأ زيد بن ثابت والضحاك : ذِرية ، بكسر الذال ، والجمهور بالضم . {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } جملة في موضع الصفة لذرية و : من ، للتبعيض حقيقة أي : متشعبة بعضها من بعض في التناسل ، فإن فسر عمران بوالد موسى وهارون فهما منه ، وهو من يصهر ، ويصهر من قاهث ، وقاهث من لاوي ، ولاوى من يعقوب ، ويعقوب من إسحاق ، وإسحاق من إبراهيم عليهم السلام . وإن فسر عمران بوالد مريم أم عيسى ، فعيسى من مريم ، ومريم من عمران بن ماثان ، وهو من ولد سليمان بن داود ، وسليمان من ولد يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم وقد دخل في آل إبراهيم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : من ، للتبعيض مجازاً أي : من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوّة ، وإلى نحو من هذا ذهب الحسن ، قال : من بعض في تناصر الدين ، وقال أبورون : بعضها على دين بعض . وقال قتادة : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد . {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لما يقوله الخلق ، عليم بما بضمرونه . أو : سميع لما تقوله امرأة عمران ، عليم بما تقصد . أو : سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما تضمره . ثلاثة أقوال . وقال الزمشخري : عليم بمن يصلح للاصطفاء ، أو : يعلم أن بعضهم من بعض في الدين . إنتهى . والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله { وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } مناسب لقوله { إِبْراهِيمَ الْكِتَابَ إِنَّ اللّه } لأن إبراهيم عليه السلام دعا لآله في قوله :{ رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } بقوله :{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثَّمَراتِ } وحمد ربه تعالى فقال :{ الْحَمْدُ للّه الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } وقال مخبراً عن ربه :{ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء } ثم دعا ربه بأنه يجعله مقيم الصلاة وذريته ، وقال حين بنى هو واسماعيل الكعبة { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا } إلى سائر ما دعا به حتى قوله :{ وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ } ولذا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { أنا دعوة إبراهيم} . فلما تقدمت من إبراهيم تضرعات وأدعية لربه تعالى في آله وذريته ، ناسب أن يختم بقوله :{ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } وكذلك آل عمران ، دعت امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته للّه تعالى ، فناسب أيضاً ذكر الوصفين ، ولذلك حين ذكرت النذر ودعت بتقبله ، أخبرت عن ربها بأنه { السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لدعائها ، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها اللّه تعالى . ٣٥إذ قالت امرأة . . . . . {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ } الآية ، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران ، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران ، ذكر ابتداء حال آل عمران ، وامرأة عمران اسمها : حنة ، بالحاء المهملة والنون المشدّدة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث ، وهو اسم عبراني ، وهي حنة بنت فاقود ، ودير حنة بالشام معروف ، وثم دير آخر يعرف بدير حنة ، وقد ذكر أبو نواح دير حنة في شعره فقال : يا دير حنة من ذات الاكيداح من يصح عنك فاني لست بالصاح وقبر حنة ، جدّة عيسى ، بظاهر دمشق . وقال القرطبي : لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة ، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ : حنة أم عمر ويروي حديها ابن جريج . ويستفاد حنة مع : حبة ، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل ، و : حية ، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل ، وهما اسمان لناس ، ومع : خبة ، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل ، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي ، أم محمد بن نصر ، ومع : جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر ، لا نعرف سواه . ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ ، وخاطبت به اللّه تعالى ، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب . الذي هو مالكها ومالك كل شيء ، وتقدّم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر . وقيل : ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة . قال الشاعر : فليت رجالا فيك قد نذروا دمي وهموا بقتلي يا بثين لفوني و : لك ، اللام فيه لام السبب ، وهو على حذف التقدير : لخدمة بيتك ، أو للاحتباس على طاعتك . {مَا فِي بَطْنِي } جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً ، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً . {مُحَرَّرًا } معناه عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا ، فهو من لفظ الحرية . قال محمد بن جعفر بن الزبير : أو خادماً للبيعة . قاله مجاهد ، أو : مخلصاً للعبادة ، قاله الشعبي . ورواه خصيف عن عكرمة ، ومجاهد ، وأتى بلفظ : ما ، دون : من ، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل ، أو لأن : ما ، مبهمة تقع على كل شيء ، فيجوز أن تقع موقع : من . ونسب هذا إلى سيبويه . {فَتَقَبَّلْ مِنّي } دعت اللّه تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له ، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به ، وأصله المقابلة بالجزاء ، و : تقبل ، هنا بمعنى : قبل ، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد ، كقولهم : تعدى الشيء وعدّاه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل . {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر ، وعقدته بنيتها ، وتلفظت به ، ودعت بقبوله . فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين . والعامل في : إذ ، مضمر تقديره : إذكر ، قاله الأخفش ، والمبرد ، أو معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران . قاله الزجاج ، وعلى هذا يجعل { إِنَّ اللّه } من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم ، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء ، وزمان قول امرأة عمران ، فلا يصح عمله فيه . وقال الطبري ما معناه : إن العامل فيه : سميع ، وهو ظاهر قول الزمخشري ، أو : سميع عليم ، لقول امرأة عمران ونيتها ، و : إذ ، منصوب به . انتهى . ولا يصح ذلك لأن قوله : عليم ، إما ان يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : سميع ، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل : سميع ، في الظرف ، لأنه قد وصف . اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ، ولأن اتصافه تعالى : بسميع عليم ، لا يتقيد بذلك الوقت . وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة ، المعنى : قالت امرأة عمران . وتقدّم له نظير هذا القول في : مواضع ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو . وانتصب محرراً ، على الحال . قيل : من ما ، فالعامل : نذرت وقيل من الضمير الذي في : استقر ، العامل في الجار والمجرور ، فالعامل في هذا : استقر ، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره : غلاماً محرراً . و قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، يعني أن : نذر ، قد أخذ مفعوله ، وهو : ما في بطني ، فلا يتعدّى إلى آخره ، ويحتمل أن ينتصب : محرراً ، على أن يكون مصدراً في معنى : تحريراً ، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة ، كما قال الشاعر : ألم تعلم مسرجي القوافي فلاعياً بهنّ ولا اجتلابا التقدير : تسريجي القوافي ، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف ، أي : نذر تحرير ، أو على أنه مصدر من معنى : نذرت ، لأن معنى : { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } حررت لك بالنذر ما في بطني . والظاهر القول الأول ، وهو أن يكون حالاً من : ما ، ويكون ، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله : محرراً ، خادماً للكنيسة ، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً ، لأن عتق ما في البطن يجوز . وكتبوا : امرأة عمران ، بالتاء لا بالهاء ، وكذلك امرأة العزيز في موضعين ، وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون . سبعة مواضع ، فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعاً لرسم المصحف مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت ، بالتاء . ووقف أبو عمرو ، والكسائي : بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك ، وهي لغة أكثر العرب ، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقراً ، وكانوا أهل بيت لهم عند اللّه مكانة ، فبينا هي يوماً في ظل شجرة نظرت إلى طائر يذق فرخاً له ، فتحركت به نفسها للولد ، فدعت اللّه تعالى أن يهب لها ولداً . فحملت . ومات عمران زوجها وهي حامل ، فحسبت الحمل ولداً فنذرته للّه حبيساً لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس ، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم ، ولم يكن أحد منهم إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان ، وكانت الجارية لا تصلح لذلك ، وكان جائزاً في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم ، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ ، فيخير ، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها ، وليس له الخروج بعد ذلك ، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس . ٣٦فلما وضعتها قالت . . . . . {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى } أنث الضمير في وضعتها حملاً على المعنى في : ما ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم اللّه تعالى و قال ابن عطية : حملاً على الموجدة ، ورفعاً للفظ : ما ، في قولها : ما في بطني . وقال الزمخشري : أو على تأويل الجبلة ، أو النفس ، أو النسمة . جواب : لما ، هو : قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها ، وخلاف ما قدّرت لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته محرراً . وجاء في قوله :{ إِنّى وَضَعْتُهَا } الضمير مؤنثاً ، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر ، إذ تكون الحال في قوله : أنثى ، مبينة إذا النسمة والنفس تنطلق على المذكر والؤنث . وقال الزمخشري : فإ قلت : كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها ؛ وهو كقولك : وضعت الأنثى أنثى ؟ . قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال ، وذا الحال شيء واحد ، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} إنتهى . وآل قوله إلى أن : أنثى ، تكون حالاً مؤكدة ، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة . وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك ، حيث عاد الضمير على معنى : من ، فليس ذلك نظير : وضعتها أنثى ، لأن ذلك حمل على معنى : من ، إذ المعنى : أية امرأة ، كانت امّك ، أي : كانت هي أيّ المرأة أمّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى : من ، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير : وضعتها أنثى ، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير ، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى ، فإنه لمجرد التأكيد . وأما تنظيره بقوله :{ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ } فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر ، والكلام عليه يأتي في مكانه ، فإنه من المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير في : وضعتها أنثى ، عائداً على النسمة ، أو النفس ، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة . وقيل : خاطبت اللّه تعالى بذلك على سبيل الاعتذار ، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت ، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم . وقيل : كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ . {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : بضم التاء ، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم ، وكأنها خاطبت نفسها بقولها : واللّه أعلم . ولم تأت على لفظ : رب ، إذ لو أتت على لفظه لقالت : وأنت أعلم بما وضعت . ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر ، وأن علم اللّه وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد ، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد ، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها . ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر ، إذ أرادهنا اللّه ، سلت بذلك نفسها . وتكون : الألف واللام في : الذكر ، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة اللّه على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً ، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية ، لأن الذكر يصلح للتحرير ، والاستمرار على خدمة موضع العبادة ، ولأنه أقوى على الخدمة ، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة . قال ابن عطية : كالانثى ، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان ؟ قاله قتادة ، والربيع ، والسدّي ، وعكرمة ، وغيرهم . وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها ، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول : وليست الانثى كالذكر ، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها ، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد . إنتهى . وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في : الذكر ، للجنس . وقرأ باقي السبعة : بما وضعت ، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من اللّه بأنه أعلم بالذي وضعته . أي : بحاله ، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى ، فإن قولها : وضعتها أنثى ، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير ، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة ، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال ، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة ، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور ، إذ جعلها وابنها آية للعالمين . ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً . وقرأ ابن عباس : بما وضعت ، بكسر تاء الخطاب ، خاطبها اللّه بذلك أي : إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة ، وما علمه اللّه تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها . و : ما ، موصولة بمعنى : الذي ، أو : التي ، وأتى بلفظ : ما ، كما في قوله :{ نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } والعائد عليها محذوف على كل قراءة . {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } مريم في لغتهم معناه : العابدة ، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير ، والتقرب إلى اللّه تعالى ، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، وأن تصدّق فيها ظنها بها . ألا ترى إلى إعاذتها باللّه وإعاذة ذريتها من الشيطان ؟ وخاطبت اللّه بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه ، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات ، كما نقل أنه مات وهي حامل ، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات ، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة ، وفي الحديث : { ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم} . وفي الحديث أنه : { يعق عن المولود في السابع ويسمى} . وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها ، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ : بما وضعت ، بضم التاء . وأما من قرأ : بما وضعت ، بسكون التاء أو بالكسر . ف قال الزمخشري : هي معطوفة على : إني وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان معترضان ، كقوله :{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} إنتهى كلامه . ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتا معترضتان ، لأنه يحتمل أن يكونه { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى } في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة ، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : وضعت ، بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي : أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك . وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله :{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو :{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ } وجوابه الذي هو :{ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ } بجملة واحدة وهي قوله :{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } لكنه جاء في جملة الأعتراض بين بعض أجزائه وبعض ، اعتراض بجملة وهي قوله :{ لَّوْ تَعْلَمُونَ } اعترض به بين المنعوت الذي هو : لقسم ، وبين نعته الذي هو : عظيم ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله :{ وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى } وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل ، يقول سميت ابني بزيد ، وسميته زيداً . قال : وسميت كعباً بشر العظام وكان أبوك يسمى الجعل أي : وسميت بكعب ، ويسمى : بالجعل ، وهو باب مقصور على السماع ، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير ، وتحرير ذلك في علم النحو . {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أتى خبر : إن ، مضارعاً وهو : أعيذها ، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة ، والتكرار بخلاف : وضعتها ، وسميتها ، فإنهما ماضيان قد انقطعا ، وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به ، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها ، ومناجاتها اللّه بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة ، كما يقدّم الانسان بين يدى مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده ، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود ، وورد في الحديث ، من رواية أبي هريرة : { كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان ، وبها يستهل الصبي ، إلاَّ ما كان من مريم ابنة عمران وابنها ، فإن أمّها قالت حين وضعتها : واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب} . وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق ، والمعنى واحد . وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث ، قال : لأنه خبر واحد على خلاف الدليل ، فوجب رده ، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير ، والصبي ليس كذلك ، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذكل ، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء ، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره ، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث . وقال الزمخشري : وما يروي في الحديث : { ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها} . فاللّه أعلم بصحته ، فإن صح فمعناه : أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلاَّ مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين . وكذلك كل من كان صفتهما لقوله :{ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } واستهلاله صارخاً من مسه ، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي : لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه . إنتهى كلامه . وهو جار على طريقة أهل الاعتزال ، وقد مرلنا شيء من الكلام على هذا في قوله :{ كَالَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} ٣٧فتقبلها ربها بقبول . . . . . {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن قبول محمول على : قبلها قبولاً ، يقال : قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج ، ولكنه جاء بالفتح ، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف ، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قبلته قَبولاً وقُبولاً . وقال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها . وقال الحسن : معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل ، فيكون تفعل بمعنى استفعل ، أي : استقبلها ربها ، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته ، وتقصيت الشيء واستقصيته ، من قولهم : استقبل الأمر أي أخذه بأوله . قال : وخير الأمر ما استقبلت منه وليس ببأن تتبعه اتباعاً أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت . وقيل : المعنى فقبلها أي : رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبريء . والباء في : بقبول ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ، وقيل : ليست بزائدة . والقبول اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر في النذر ، أو : مصدر على تقدير حذف مضاف أي : بذي قبول حسن ، أي : بأمر ذي قبول حسن ، وهو الاختصاص . {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على يالطاعة والعبادة . قال ابن عباس : لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار . وقيل : لم تجر عليها خطيئة . قال قتادة : حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم . وقيل : معنى { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي : جعل ثمرتها مثل عيسى . وانتصب : نباتاً ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتاً حسناً ، ويقال : القبول الحسن الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا اللّه في جميع الأوقات . {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } قال قتادة : ضمها إليه . وقال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبياً . أوحى اللّه إلى داود عليه السلام : إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً . وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها . وأبيّ : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها بسكون اللام ربها ، بالنصب على النداء ، و : أبنتها ، بكسر الباء وسكون التاء ، و : كفلها ، بكسر الفاء مشدّدة وسكون اللام على الدعاء من أم مريم لمريم . وقرأ عبد اللّه المزني : وكفلها ، بكر الفاء وهي لغة يقال : كفل يكفِل وكفل يكفَل ، كعلم يعلم . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : زكريا ، مقصوراً وباقي السبعة ممدوداً . وتقدم ذكر اللغات فيه . روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها . فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها . فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر . قيل : هو نهر الأردن وهو قول الجمهور . وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها . قيل : واسترضع لها . وقال الحسن : لم تلتقم ثدياً قط . وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء . وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفاً كأنما ركز في طين ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان تزوّج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم . وقال السدّي ، وغيره : كان زكريا تزوّج ابنة أخرى لعمران . ويعضد هذا القول قول صلى اللّه عليه وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة . وقيل : إنما كفلها لأن أمّها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمّها . وقيل : كان زكريا ابن عمها وكانت أختها تحته . وقال ابن إسحاق : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم زكريا : أني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريح ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ، لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبياً ، فهو أولى بها لعصمته . وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، والياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان عليه السلام ، وسليمان من يهوذا بن يعقوب ، وموسى وهارون بن لاوي بن يعقوب . قال ابن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلاَّ بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره . وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا خرج قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحداً ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزلة تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس وقيل : كانت مطهرة من الحيض . {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثدياً قط ، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة . والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، وصاحب جريج ، وابن المرأة وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود . والأغرب أن مريم منهم . وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها . وههذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب . وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم قال ابن عباس : كان عنباً في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق . والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن اللّه تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف . و : كلما ، تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها . ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو . وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من اللّه من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقاً قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية . {قَالَ يَاءادَمُ مَرْيَمَ إِنّى لَكَ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق ؟ و : أنَّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال الكميت : أنَّى ومن أين أتاك الطرب من حيث لا صبوة ولا طرب وجوابها سؤاله بأنه { مِنْ عِندِ اللّه } ظاهره أنه لم : يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به اللّه تعالى . وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند اللّه ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً ، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها اللّه تعالى بأن جعلها في كفالته . وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا وقيل : كان تأسيساً لنبوّة ولدها عيسى . وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي . والظاهر أنها كرامة خص اللّه بها مريم ، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ، وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد . قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَةً لّلْعَالَمِينَ } وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال . لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئاً معيناً في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنساناً ، فأخبرته أنه { مِنْ عِندِ اللّه } ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي . {إنَّ اللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقدّم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم. . وروى جابر حديثاً مطولاً فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فسألها : من أين لك هذا ؟ فقالت : هو من عند اللّه . فحمد اللّه ، وقال : الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل . قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة . العموم الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والإختصاص في قوله : آدم ، ونوحاً ، وآل إبراهيم ، وآل عمران . وإطلاق اسم الفرع على الأصل والمسبب على السبب ، في قوله : ذرية ، فيمن قال المراد الآدباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله :{ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : واللّه أعلم بما وضعت ، في قراءة من سكن التاء أو كسرها وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : واللّه أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت والتكرار في : وأنى ، وفي : زكريا ، وزكريا ، وفي : من عند اللّه ، إن اللّه والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتاً ، وفي : رزقاً ويرزق والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند اللّه ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلاَّ اللّه . وفي قوله : رزقاً ، أتى به منكّراً مشيراً إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة . والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها . ٣٨هنالك دعا زكريا . . . . . {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } أصل : هنالك ، أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان وقيل بهما في هذه الآية ، أي في ذلك المكان دعا زكريا ، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق العظيم لمريم ، وأنها ممن اصطفاها اللّه ، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه ، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب ، كما قصه تعالى في سورة مريم ، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقراً ، إذ رأى من حال مريم أمراً خارجاً عن العادة ، فلا يبعد أن يرزقه اللّه ولداً مع كون امرأته كانت عاقراً ، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد . وانتصاب : هنالك ، بقوله : دعا ، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان ، وهنالك في الزمان ، وهو وهم ، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا . وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان ، كما أن أصل : عند ، أن يكون للمكان ، ثم يتجوز بها للزمان ، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس . قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة . وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقاً للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : { ذالِكَ الْكِتَابُ } لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه . وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب اللّه له ولداً يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلاَّ فيما هو معتاد الوجود وإن كان اللّه قادراً على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد . انتهى . وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل . وفي قوله :{ هُنَالِكَ دَعَا } دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة . {قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً } هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ، إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : هب ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنة ، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى اللّه تعالى بقوله : من لدنك ، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب . وتقدّم أن : لدن ، لما قرب ، و : عند ، لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاماً من : لدن ، ألا ترى أن : عند ، تقع جواباً لأين ، ولا تقع له جواباً : لدن ؟ . {وَمِنْ لَّدُنْكَ } متعلق : بهب ، وقيل : في موضع الحال من : ذرية ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، والذرية جنس يقع على واحد ، فأكثر . وقال الطبري : أراد بالذرية هنا واحداً دليل ذلك طلبه : ولياً ، ولم يطلب : أولياء . قال ابن عطية : وفيما قاله الطبري تعقب ، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكريا . انتهى . وفسر : طيبة ، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية . وقال الراغب : صالحة ، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح . وقيل : أراد : بطيبة ، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوّة ، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس ، ولم يقيد بالوحدة ، فوصفها : بطيبة ، واضح وإن كان أراد ذكراً واحداً ، فأنث لتأنيث اللفظ ، كما قال : أبوك خليفة ولدته أخرى سكات إذا ما عَضّ ليس بأدْرَدَا وكما قال : أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة ذاك الكمال وفي قوله :{ هَبْ لِى } دلالة على طلب الولد الصالح ، والدعاء بحصوله وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين . {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } لما دعا ربه بأنه يهب له ولداً صالحاً ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء . وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع اللّه لمن حمده . عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ ذال :{ الْحَمْدُ للّه الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء } فأجاب اللّه دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من اللّه إجابة دعائه . ألا ترى إلى قوله :{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً } ؟ . قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ : أحدها : هذا ، والثاني :{ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى } إلى آخره . و الثالث :{ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ } فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زماناً . انتهى . ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله { رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً } على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط . وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربياً ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله :{ فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ } وفي قوله :{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يُحْىِ } وظاهر قوله في مريم :{ رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ } اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه . . ٣٩فنادته الملائكة وهو . . . . . {فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ } قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري : كعب بن مالك ، من أعلى الجبل . قاله ابن عطية ، وغيره . ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك ، كما جاء . { يا أهل النار خلود بلا موت} وجاء : { فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً } وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم { إِنَّ اللّه يُبَشّرُكِ } لا إن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال . ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيداً كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا . وهما قولان للمفسرين . وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل اللّه دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته . وذكر أنه كان بين دعائه والإستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك . والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة . وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد اللّه ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم . وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس . وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود . وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره . فعبر عنه بالكثرة لذلك . قيل : وجبريل رئيس الملائكة . وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث و : الملائكة ، جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وإن لا يلحق . تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال . وإلحاق العلامة قيل . أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسِّن الحذف هنا الفصل بالمفعول . {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ } ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن . فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا إن اللّه يبشرك . وقيل : المحراب موقف الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين . وقيل : القبلة . والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة . وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم . وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته . وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، و : يصلي ، يحتمل أن يكون صفة : لقائم ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : قائم ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوّز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً : لهو ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد . ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بقائم ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالاً من الضمير الذي استكن في : قائم ، فيجوز . لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي : يصلى ، وهو : قائم ، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : قائم ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور . وفي قوله :{ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ } قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعاً لمن قبلنا . ورقق وَرش راء : المحراب ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كانت : المحراب ، مجروراً ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر . ولم يقيد بالجر . {أَنَّ اللّه يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن اللّه ، بكسر الهمزة . فعند البصريين الكسر على إضمار القبول ، أي : وقالت . وعند الكوفيين لا إضمار ، لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت بنادته ، لأن معناه قالت له . وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير : وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب . وقرأ عبد اللّه : يا زكريا إن اللّه . فقوله : يا زكرياء ، هو معمول النداء . فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : إن ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى . وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل . ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك ؟ وقد قال في سورة مريم :{ رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ } فأسند ذلك إليه تعالى . وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففاً . وافقهما ابن كثير ، وأبو عمر ، وفي الشورى زاد حمزة في الحجر : ألا فبم تبشرون ، ومريم وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين وقرأ عبد اللّه يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغىً ثلاث ذكرها غير واحد من اللغويين وقال الشاعر : بَشَرْتُ عِيالي إِذ رأيتُ صحيفة أتتك من الحجاج يتُلى كتابها وقال الآخر : يا بشر حق لوجهك التَّبشير هلا غضبت لنا وأنت أمير بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، فإن كان أعجمياً فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربياً فللعلمية ووزن الفعل ، كيعمر . وقد ذكرنا هذا . وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه معنى الاشتقاق من الحياة . قال قتادة : سماه اللّه يحيى لأنه أحياه بالإيمان . وقال الحسن بن المفضل : حيي بالعصمة والطاعة وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء روي في الحديث : { من هوان الدنيا على اللّه أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة } وقال مقاتل : سمي يحيى لأنه أحياه بين شيخ وعجوز وقال الزجاج : حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها وقال ابن عباس : إن اللّه أحيا به عقر أمّه وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلاً ، كالمفازة والسليم وقيل : لأن اللّه أحيا به الناس بالهدى . {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّه} الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّي وغيرهم . قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أوّل من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من اللّه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أمّ يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ، وفي رواية : يسجد ، وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق . وقال أبو عبيدة ، وغيره { بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّه } أي : بكتاب من اللّه التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن اللّه كلمته ، أي قصيدته . وفي الحديث : { أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد : ألاكل شيء ما خلا اللّه باطل وكل نعيم لا محالة زائل } وقيل معنى : { بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّه } هنا أي : بوعد من اللّه ، وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين . ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالاً للكسرة في العين . وانتصب : مصدّقاً ، على الحال قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . {وَسَيّدًا } قال ابن عباس : السيد الكريم وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر : سيد لا تحل حبوته بوادر الجاهلين إن جهلوا وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب وقال الضحاك : الحسن الخلق وقال سالم : التقي وقال ابن زيد : الشريف وقال ابن المسيب : الفقيه العالم وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء اللّه وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه وقال أبو بكر الورّاق : المتوكل وقال الترمذي : العظيم الهمة وقال الثوري : السيد مَن لا يحسد من قولهم : الحسود لا يسود وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه . وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي تجب طاعته . ولهذا قيل للزوج : سيد وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي . وجاء في الحديث : { السيد من أعطى مالاً ورزق سماحاً ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس} . وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه وقال في الحديث بني سلمة وقد سألهم من سيدكم فقالوا الجدّ بن قيس على بخله فقال عليه السلام : { وأي داء أدوى من البخل ؟ سيدكم عمرو بن الجموح} . وسمي أيضاً سعد بن معاذ سيداً في قوله :{ قوموا إلى سيدكم} .أي رئيسكم والمطاع فيكم . وسمي الحسن بن علي : سيداً . في قوله :{ إن ابني هذا سيد ، ولعل اللّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} . وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي يفوقها في الشرف . وكان يحيى قائماً لقومه ، قائماً للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة ؟ انتهى كلامه . وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه اللّه بذكر السؤدد ، وهو الإعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، وتفضيله : بذل الندى وهو الكرم ، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات . وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيداً وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة . وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية ؟ قيل له : وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما انتهى كلامه . وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيراً في وصف يحيى عليه السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون . وفي قوله : وسيداً ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح . ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر . وورد النهي : { لا تقولوا للمنافق سيداً } ، وما جاء من قوله { أَطَعْنَا سَادَتَنَا } فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم . قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنت سيدنا وذو الطول علينا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { السيد هو اللّه ، تكلموا بكلامكم } ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيداً ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح . {وَحَصُورًا } هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر : وحصوراً لا يريد نكاحا لا ولا يبتغي النساء الصِّباحا وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره وقيل : الحاضر نفسه عن الشهوات وقيل : عن معاصي اللّه وقيل : الحصور الهيوب وقال ابن مسعود أيضاً ، وابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل . وإيراد الحصور وصفاً في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك . قال مجاهد : كان طعام يحيي العشب ، وكان يبكي من خشية اللّه حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرىً في وجهه . قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا . وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر . قال الأخطل : وشارب مربح بالكأس نادمني لا بالحصور ولا فيها بسآر فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللّهو . وقد روي أنه : مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت . والحصور والحصِر كما تم السر قال جرير : ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا حَصِراً بسرك يا أميم ضنينا وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلاَّ مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير . وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها . وقد استدل بقوله { وَحَصُورًا } من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس . {وَنَبِيّا } هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولاً الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة وخصوصاً فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا وهي : رتبة النبوّة . وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف . مريم عليها السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها اللّه تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابة إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق . ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيداً ، فاشتركا في هذا الوصف . وكانت مريم عذراء بتولاً لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء . وكانت مريم أتاها الملك رسولاً من عند اللّه وحاوراها عن اللّه بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبياً ، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي اللّه إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف . {مّنَ الصَّالِحِينَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال :{ ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحاً من جملة الصالحين . كما قال تعالى في وصف إبراهيم { وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند اللّه قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم . انتهى . وقد قال سليمان بعد حصول النبوّة له { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيباً من الصلاح كان أعلى قدراً . وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم لا يتحقق إلاَّ بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرههم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوّة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيداً . وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة . ٤٠قال رب أنى . . . . . {قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } كان قد تقدّم سؤاله به :{ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً } فلا شك في إمكانية ذلك ، وجوازه : وإذا كان ذلك ممكناً وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام ؟ . وأجيب بوجوه : . أحدهما : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقراً ؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانياً وتسعين سنة وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة . أم أُعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له ؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال . قال معناه : الحسن ، والأصم . الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بنيه ؟ . الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة . الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة اللّه تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدّة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبداً له عادة . الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزاً عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر ؟ السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها . السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري من ناداك ؟ قال : ملائكة ربي قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال :{ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ } ليبين اللّه له من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي . قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع . وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما بتعلق بالدين ، وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله . وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة . كما قالت مريم . إنتهى . وعلى ما قاله : لو كان استبعاداً لما سأله بقوله :{ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً } لأنه لا يسأل إلاَّ ما كان ممكناً لا سيما الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع . و : يكون ، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام ، أي : أنَّي يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الأسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الإبتداء بالنكرة ، إذ تقدّم أداة الإستفهام مسوغ لجواز الإبتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة . وقيل : { وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئاً فشيئاً ، فلم يكن وصفاً لازماً ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأنه كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر فيّ : وحقيقة البلوغ في الأجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه . وأسند البلوغ إلى الكبر توسعاً في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب ، وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء :{ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } وكما قال : مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت نجران أو بلغت سوءاتهم هجر وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر . إنتهى . وهنا قدّم حال نفسه وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعي الألفاظ في الحكاية إنما تراعي المعاني المدرجة في الألفاظ . وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه ، { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} وقال :{ وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَائِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا } ، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتياً روؤس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعراً بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام . {قَالَ كَذالِكَ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاء } الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل اللّه ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً من اللّه أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة ؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة ؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلاً مثل ذلك الفعل ، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من يفعل ، وذكل على مذهب سيبويه ، وقد تقدّم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون كذلك اللّه مبتدأ وخبراً ، وذلك على حذف مضاف ، أي صنع اللّه الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون { يَفْعَلُ مَا يَشَاء } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : اللّه ، قال :{ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاء } بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات . إنتهى . و قال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة اللّه . إنتهى . وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة . قال ابن عطية وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكحون لكما الغلام . والكلام تام على هذا التأويل . في قوله : كذلك وقوله : اللّه يفعل ما يشاء . جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب . إنتهى كلامه . فيكون : كذلك ، متعلقاً بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد وأنت بحالتك . والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول . ٤١قال رب اجعل . . . . . {قَالَ رَبّ اجْعَل لِّىءايَةً قَالَ ءايَتُكَ أَن لا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا } قال الربيع ، والسدي ، وغيرهما : هن زكريا قال : يا رب إن كان ذلك الكلام من قبلك ، والبشارة حق ، فاجعل لي آية ، علامة أعرف بها صحة ذلك فعوقب على هذا الشك في أمر اللّه بأن منع الكلام ثلاثة أيام مع الناس . وقالت فرقة من المفسرين : لم يشك قط زكريا ، وإنما سأل عن الجهة التي بها يكون الولد ، وتتم به البشارة ، فلما قيل له : . {كَذالِكَ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاء } سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى . واختلفوا في منعه الكلام : هل كان لآفة نزلت به أم لغير آفة ؟ فقال جبير بن نفير : ربا لسانه في فيه حتى ملأه ، ثم أطلقه اللّه بعد ثلاث . وقال الربيع ، وغيره : أخذ اللّه عليه لسانه فجعل لا يقدر على الكلام معاقبة على سؤال آية بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة . وقالت طائفة : لم تكن آفة ، ولكنه منع مجاورة الناس ، فلم يقدر عليها ، وكان يقدر على ذكر اللّه . قاله الطبري ، وذكر نحوه عن محمد بن كعب ، وكانت الآية حبس اللسان لتخلص المدة لذكر اللّه لا يشغل لسانه بغيره توفراً منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها ، وكأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلاَّ عن الشكر . وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقاً من السؤال ، ومنتزعاً منه وكان الإعجاز في هذه الآية من جهة قدرته على ذكر اللّه ، وعجزه عن تكليم الناس ، مع سلامة البنية واعتدال المزاج ، ومنه جهة وقوع العلوق وحصوله على وفق الأخبار . وقيل : أمر أن يصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم . وقال أبو مسلم : يحتمل أن يكون معناه : آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الخلق ، وأن تشتغل بالذكر شكراً على إعطاء هذه الموهبة ، وإذا أمرت بذلك فقد حصل المطلوب . قيل : فسأل اللّه أن يفرض عليه فرضاً يجعله شكراً لذلك . والذي يدل عليه ظاهر الآية أنه سأل آية تدل على أنه يولد له ، فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً ، وأمر بالذكر والتسبيح وانتفاء الكلام قد يكون لمتكلف به ، أو بملزومه في شريعتهم ، وهو الصوم ، وقد يكون لمنع قهري مدّة معينة لآفة تعرض في الجارحة ، أو لغير آفة ، قالوا : مع قدرته على الكلام بذكر اللّه . قال الزمخشري : ولذلك قال :{ وَاذْكُر رَّبَّكَ } إلى آخره يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس ، وهي من الآيات الباهرة . إنتهى . ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الإنتفاء ، ولأن الأمر بالذكحر والتسبيح ليس مقيداً بالزمان الذي لا يكلم الناس ، وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق بالكلام ، وظاهر : جعل ، هنا أنها بمعنى صيِّر ، فتتعدّى لمفعولين : الأول آية ، والثاني المجرور ، قبله وهو : لي ، وهو يتعين تقديمه ، لأنه قبل دخول : اجعل ، هو مصحح لجواز الابتداء بالنكرة . وقرأ ابن أبي عبلة : أن لا تكلم ، برفع الميم على أن : أن ، هي المخففة من الثقيلة ، أي أنه لا تكلم ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، أو على إجراء : أن ، مجرى : ما المصدرية ، وانتصاب : ثلاثة أيام ، على الظرف خلافاً للكوفيين ، إذ زعموا أنه كان اسم الزمان يستغرقه الفعل ، فليس بظرف ، وإنما ينتصب انتصاب المفعول به نحو : صمت يوماً ، فانتصاب ثلاثة أيام عندهم على أنه مفعول به ، لأن انتفاء الكلام منه للناس كان واقعاً في جميع الثلاثة ، لم يخل جزء منها من انتفاء فيه . والمراد : ثلاثة أيام بلياليها ، يدل على ذلك قوله في سورة مريم :{ قَالَ رَبّ أَن لا تُكَلّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } وهذا يضعف تأويل من قال : أمر بالصوم ثلاثة أيام ، وكانوا لا يتكلمون في صومهم ، والليالي تبعد مشروعية صومها ، ولم يعين ابتداء ثلاثة أيام ، بل أطلق فقال : ثلاثة أيام ، فإن كان ذلك بتكليف فيمكن أن يكون ذلك موكولاً إلى اختياره ، يمتنع من تكليم الناس ثلاثة أيام متى شاء ، ويمكن أن يكون ذلك من حين الخطاب ، وإن كان بمنع قهري فيظهر أنه من حين الخطاب . قيل : وفي ذلك دلالة على نسخ القرآن بالسنة ، وهذا على تقدير قدرة زكريا على الكلام في تلك الأيام الثلاثة ، وأن شرعه شرع لنا وإن نسخه قوله صلى اللّه عليه وسلم : لا صمت يوم إلى الليل . وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن معناه : لا صمت يوم ، أي عن ذكر اللّه ، وأما الصمت عما لا منفعة فيه ، فحسن . واستثناء الرمز ، قيل : هو استثناء منقطع ، إذا الرمز لا يدخل تحت التكليم ، من أطلق الكلام في اللغة على الإشارة الدالة على ما في نفس المشير ، فلا يبعد أن يكون هذا استثناء متصلاً على مذهبه . ولذلك أنشد النحويون : أرادت كلاماً فاتقت من رقيبها فلم يك إلاَّ ومؤها بالحواجب وقال : إذا كلمتني بالعيون الفواتر رددت عليها بالدموع البوادر واستعمل المولدون هذا المعنى . قال حبيب : كلمته بجفون غير ناطقة فكان من ردّه ما قال حاجبه وكونه استثناءً متصلاً بدأ به الزمخشري . قال : لما أدّى مؤدّي الكلام ، وفهم منه ما يفهم منه ، سمي كلاماً . وأما ابن عطية فاختار أن يكون منقطعاً . قال : والكلام المراد به في الآية إنما هو النطق باللسان لا الإعلام بما في النفس ، فحقيقة هذا الأستثناء أنه منقطع ، وبدأ به أوّلاً ، فقال استثناء الرمز وهو استثناء منقطع ، ثم قال : وذهب الفقهاء في الإشارة ونحوها إلى أنها في حكم الكلام في الإيمان ونحوها ، فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلا ، والرمز هنا : تحريك بالشضفتين ، قاله مجاهد . أو : إشارة باليد والرأس ، قاله الضحاك ، والسدّي ، وعبد اللّه بن كثير . أو : إشارة باليد ، قاله الحسن . أو : إيماء ، قاله قتادة . فالإيماء هو الإشارة لكنه لم يعين بماذا أشار . وروي عن قتادة : إشارة باليد أو أشارة بالعين ، روي ذلك عن الحسن . وقيل : رمزه الكتابة على الأرض . وقيل : الإشارة بالإصبع المسبحة . وقيل : باللسان . ومنه قول الشاعر : ظل أياماً له من دهره يرمز الأقوال من غير خرس وقيل : الرمز الصوت الخفي . وقرأ علقمة بن قيس ، ويحيى بن وثاب : رمزاً ، بضم الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رموز ، كرسل ورسول ، وعلى أنه مصدر كرمز جاء على فعل ، وأتبعت العين الفاء كاليسر واليسر . وقرأ الأعمش : رمزاً ، بفتح الراء والميم ، وخرج على أنه جمع رامز ، كخادم وخدم ، وانتصابه إذا كان جمعاً على الحال من الفاعل ، وهو الضمير في تكلم ، ومن المفعول وهو : الناس . كما قال الشاعر : فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيىّ وأيّك فارس الأحزاب أي : إلاَّ مترامزين كما يكلم الأخرس الناس ويكلمونه . وفي قوله : { إِلاَّ رَمْزًا } دلالة على أن الإشارة تتنزل منزلة الكلام ، وذلك موجود في كثير من السنة . وفي الحديث : { أين اللّه} . فأشارت برأسها إلى السماء ، فقال : { أعتقها فإنها مؤمنة} . فأجاز الإسلام بالإشارة وهو أصل الديانة التي تحقن الدم وتحفظ المال وتدخل الجنة ، فتكون الإشارة عامة في جميع الديانات ، وهو قول عامة الفقهاء . {وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا } قيل : الذكر هنا هو بالقلب ، لأنه منع من الكلام . وقيل : باللسان لأنه منع من الكلام مع الناس ولم يمنع من الذكر . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : واذكر عطاء ربك وإجابته دعائك . وقال محمد بن كعب القرظي : لو رخص لأحد في ترك الذكر لرخص لزكريا ، وللرجل في الحرب . وقد قال تعالى :{ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّه كَثِيراً } وأمر بكثرة الذكر ليكثر ذكر اللّه له بنعمه وألطافه ، كما قال تعالى :{ فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ} وانتصاب : كثيراً ، على أنه نعت لمصدر محذوف ، أو منصوب على الحال من ضمير المصدر المحذوف الدال عليه : اذكروا ، على مذهب سيبويه . {وَسَبّحْ بِالْعَشِىّ وَالإبْكَارِ } أي : نزه اللّه عن سمات النقص بالنطق باللسان بقولك : سبحان اللّه . وقيل : معنى وسبح وصلّ ، ومنه : كان يصلي سبحة الضحى أربعاً ، فلولا أنه كان من المسبحين على أحد الوجهين . والظاهر أنه أمر بتسبيح اللّه في هذين الوقتين : أول الفجر ، ووقت ميل الشمس للغروب ، قاله مجاهد وقال غيره : يحتمل أن يكون أراد بالعشيّ الليل ، وبالإبكار النهار ، فعبر بجزء كل واحد منهما عن جملته ، وهو مجاز حسن . ومفعول : وسبح ، محذوف للعلم به ، لأن قبله :{ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا } أي : وسبح ربك . و : الباء في : بالعشي ، ظرفية أي : في العشي . وقرىء شاذاً والإبكار ، بفتح الهمزة ، وهو جمع بكر بفتح الباء والكاف ، تقول : أتيتك بكراً ، وهو مما يلتزم فيه الظرفية إذا كان من يوم معين ونظيره : سحر وأسحار ، وجبل وأجبال . وهذه القراءة مناسبة للعيش على قول من جعله جمع عشية إذ يكون فيها تقابل من حيث الجمعية ، وكذلك هي مناسبة إذا كان العيش مفرداً ، وكانت الألف واللام فيه للعموم ، كقوله :{ إِنَّ الإنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } وأهلك الناس الدينار الصفر . وأما على قراءة الجمهور : والإبكار ، بكسر الهمزة ، فهو مصدر ، فيكون قد قابل العشي الذي هو وقت ، بالمصدر ، فيحتاج إلى حذف أي : بالعشي ووقت الإبكار . والظاهر في : بالعشي والإبكار ، أن الألف واللام فيهما للعموم ، ولا يراد به عشى تلك الثلاثة الأيام ولا وقت الإبكار فيها . وقال الراغب : لم يعن التسبيح طرفي النهار فقط ، بل إدامة العبادة في هذه الأيام . وقال غيره : يدل على أن المراد بالتسبيح الصلاة ، ذكره العشي وازبكار فكأنه قال : اذكر ربك في جميع هذه الأيام والليالي ، وصل طرفي النهار . إنتهى . ويتعلق : بالعشي ، بقوله : وسبح ، ويكون على إعمال الثاني وهو الأولى ، إذ لو كان متعلقاً بقوله : واذكر ربك ، لأضمر في الثاني ، إذ لا يجوز حذفه إلا في ضرورة . قيل :أو في قليل من الكلام ، ويحتمل أن يكون من باب الإعمال ، فيكون الأمر بالذكر غير مقيد بهذين الزمانين . قيل : وتضمنت هذه الآية من فنون الفصاحة أنواعاً : الزيادة في البناء في قوله : هنالك ، وقد ذكرت فائدته و : التكرار ، في ربه : قال رب ، وفي أن اللّه يبشرك ، وبكلمة من اللّه . وفي آية قال : آيتك ، وفي : يكون لي غلام كانت وتأنيث المذكر حملاً على اللفظ . وفي : ذرية طيبة ، و : الإسناد المجازي في : وقد بلغني الكبر ، والسؤال والجواب : قال رب أني ؟ قال كذلك قال رب ، اجعل لي آية . قال : آيتك . قال أرباب الصناعة : أحسن هذا النوع ما كثرت فيه القلقلة والحذف في مواضع . ٤٢وإذ قالت الملائكة . . . . . القلم : معروف وهو الذي يكتب به ، وجمعه أقلام ويقع على السهم الذي يقترع به ، وهو فعل بمعنى مفعولاً لأنه يقلم أي : يبرى ويسوى وقيل : هو مشتق من القلامة ، وهي نبت ضعيف لترقيقه ، والقلامة أيضاً ما سقط من الظفر إذا قلم ، وقلمت أظفاره أخذت منها وسويتها قال زهير : لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم وقال بعض المولدين : يشبه بالهلال وذاك نقص قلامة ظفره شبه الهلال الوحي : إلقاء المعنى في النفس في خفاء ، فقد يكون بالملك للرسل وبالإلهام كقوله : { وَأُوحِىَ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ } وبالإشارة كقوله . لأوحت إلينا والأنامل رسلها {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ } وبالكتابة : قال زهير : أتى العجم والآفاق منه قصائد بَقِينَ بقاء الوَحْيِ في الحَجَرِ أَلاصَم والوحي : الكتاب قال : فمدافع الرّيان عرّى رسمها خلقا كما ضمن الوحيّ سلامها وقيل : الوحي جمع : وحي ، وأما الفعل فيقال أوحى ووحى . المسيح : عبراني معرب ، وأصله بالعبراني مشيحاً ، بالشين عرب بالسين كما غيرت في موشى ، فقيل : موسى ، قاله أبو عبيد وقال الزمخشري : ومعناه المبارك ، كقوله { وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَمَا كُنتُ } وهو من الألقاب المشرّفة ، كالصدّيق ، والفاروق ، انتهى . وقيل : المسيح عربي ، واختلف : أهو مشتق من السياحة فيكون وزنه مفعلاً ؟ أو من المسيح فيكون وزنه فعيلاً ؟ وهل يكون بمعنى مفعول أو فاعل خلاف ، ويتبين في التفسير لم سمي بذلك . الكهل : الذي بلغ سن الكهولة وآخرها ستون وقيل : خمسون وقيل : اثنان وخمسون ، ثم يدخل سن الشيخوخة . واختلف في أوّلها فقيل : ثلاثون وقيل : اثنان وثلاثون وقيل : ثلاثة وثلاثون . وقيل : خمسة وثلاثون وقيل : أربعون عاماً . وهو من اكتهل النبات إذا قوي وعلا ، ومنه : الكاهل ، وقال ابن فارس : اكتهل الرجل وخطه الشيب ، من قولهم : اكتهلت الروضة إذا عمها النور ، ويقال للمرأة : كهلة . انتهى . ونقل عن الأئمة في ترتيب سن المولود وتنقل أحواله : أنه في الرحم : جنين ، فإذا ولد : فوليد ، فإذا لم يستتم الأسبوع : فصديع ، وإذا دام يرضع : فرضيع ، وإذا فطم : ففطيم ، وإذا لم يرضع : فجحوش ، فإذا دب ونما : فدارج ، فإذا سقطت رواضعه : فمثغور ، فإذا نبتت بعد السقوط : فمتغر ، بالتاء والثاء . فإذا كان يجاوز العشر : فمترعرع وناشيء ، فإذا كان يبلغ الحلم : فيافع ، ومراهق ، فإذا احتلم : فمحزور ، وهو في جميع هذه الأحوال : غلام . فإذا اخضر شاربه وسال عذاره : فباقل ، فإذا صار ذاقناً : ففتى وشارخ ، فإذا كملت لحيته : فمجتمع ، ثم ما دام بين الثلاثين والأربعين : فهو شاب ، ثم هو كهل : إلى أن يستوفي الستين . هذا هو المشهور عند أهل اللغة . الطين : معروف ، ويقال طانه اللّه على كذا ، وطامه بابدال النون ميماً ، جبله وخلقه على كذا ، ومطين لقب لمحدث معروف . الهيئة : الشكل والصورة ، وأصله مصدر يقال : هاء الشيء بهاء هيأ وهيئة إذا ترتب واستقر على حال مّا ، وتعديه بالتضعيف ، فتقول : هيأته ، قال { اللّه لَكُمْ} النفخ : معروف . الإبراء : إزالة العلة والمرض ، يقال : برىء الرجل وبرأ من المرض ، وأما من الذنب ومن الدّين فبريء . الكمه : العمى يولد به الإنسان وقد يعرض ، يقال : كمه يكمه كمهاً : فهو أكمه . وكمهتها أنا أعميتها قال سويد : . كمهت عيناه حتى ابيضتا وقال رؤبة . فارتد عنها كارتداد الأكمه البرص : داء معروف وهو بياض يعتري الجلد ، يقال منه : برص فهو أبرص ، ويسمى القمر أبرص لبياضه ، والوزغ سام أبرص للبياض الذي يعلو جلده . ذخر : الشيء يذخره خبأه ، والذخر المذخور قال : لها أشارير من لخم تثمره من الثعالي وذخر من أرانبها {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ اللّه اصْطَفَاكِ } لما فرغ من قصة زكريا ، وكان قد استطرد من قصة مريم إليها ، رجع إلى قصة مريم ، وهكذا عادة أساليب العرب ، متى ذكروا شيئاً استطردوا منه إلى غيره ثم عادوا إلى الأول إن كان لهم غرض في العود إليه ، والمقصود تبرئة مريم عن ما رمتها به اليهود ، وإظهار استحالة أن يكون عيسى إلهاً ، فذكر ولادته . وظاهر قوله الملائكة أنه جمع من الملائكة وقيل : المراد جبريل ومن معه من الملائكة ، لأنه نقل أنه : لا ينزل لأمر إلاَّ ومعه جماعة من الملائكة وقيل : جبريل وحده . وقرأ ابن مسعود ، وعبد اللّه بن عمرو : وإذ قال الملائكة ، وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها ومعمول القول الجملة المؤكدة : بإن . والظاهر مشافهة الملائكة لها بالقول قال الزمخشري : روي أنهم كلموها شفاهاً معجزة لزكريا ، أو إرهاصاً لنبوّة عيسى . انتهى . يعني : بالارهاص التقدّم ، والدلالة على نبوّة عيسى وهذا مذهب المعتزلة ، لأن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد غير نبي إلاَّ إن كان في وقته نبي ، أو انتظر بعث نبي ، فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثة ذلك النبي . {وَطَهَّرَكِ } التطهير هنا من الحيض ، قاله ابن عباس قال السدي : وكانت مريم لا تحيض . وقال قوم : من الحيض والنفاس وروي عن ابن عباس : من مس الرجال وعن مجاهد : عما يصم النساء في خلق وخلق ودين ، وعنه أيضاً : من الريب والشكوك . {وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ } قيل : كرر على سبيل التوكيد والمبالغة وقيل : لا توكيد إذ المراد بالاصطفاء الأول اصطفاء الولاية ، وبالثاني اصطفاء ولادة عيسى ، لأنها بولادته حصل لها زيادة اصطفاء وعلو منزلة على الأكفاء وقيل : الاصطفاء الأول : اختيار وعموم يدخل فيه صوالح من النساء ، والثاني : اصطفاء على نساء العالمين . وقيل : لما أطلق الاصطفاء الأول بيّن بالثاني أنها مصطفاة على النساء دون الرجال وقال الزمخشري : اصطفاك أوّلاً حين تقبلك من أمّك ورباك ، واختصك بالكرامة السنية ، وطهرك مما يستقذر من الأفعال ، ومما قذفك به اليهود ، واصطفاك آخراً على نساء العالمين بأن وهب لك عيسى من غير أب ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء . انتهى . وهو كلام حسن ، ويكون : نساء العالمين ، على قوله عاماً ، ويكون الأمر الذي اصطفيت به من أجله هو اختصاصها بولادة عيسى وقيل : هو خدمة البيت وقيل : التحرير ولم تحرر أنثى غير مريم وقيل : سلامتهها من نخس الشيطان وقيل : نبوتها ، فإنه قيل إنها نبئت ، وكانت الملائكة تظهر لها وتخاطبها برسالة اللّه لها ، وكان زكريا يسمع ذلك ، فيقول : إن لمريم لشأناً . والجمهور على أنه لم ينبأ امرأه ، فالمعنى الذي اصطفيت لأجله مريم على نساء العالمين هو شيء يخصها ، فهو اصطفاء خاص إذ سببه خاص وقيل : نساء العالمين ، خاص بنساء عالم زمانها ، فيكون الاصطفاء إذ ذاك عاماً ، قاله ابن جريج . وروي عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { خير نساء الجنة مريم بنت عمران} . وروي : { خير نسائها مريم بنت عمران } وروي : { خير نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد } وروي : { فضلت خديجة على نساء أمّتي كما فضلت مريم على نساء العالمين } وروي : أنها من الكاملات من النساء . وقد روي في الأحاديث الصحاح تفضيل مريم على نساء العالمين ، فذهب جماعة من المفسرين إلى ظاهر هذا التفضيل قال بعض شيوخنا : والذي رأيت ممن اجتمعت عليه من العلماء ، أنهم ينقلون عن أشياخهم : أن فاطمة أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات لأنها بضعة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ٤٣يا مريم اقنتي . . . . . {يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبّكِ } لا خلاف بين المفسرين أن المنادي لها بذلك الملائكة الذين تقدّم ذكرهم على الخلاف المذكور ، والمراد بالقنوت هنا : العبادة ، قاله الحسن ، وقتادة . أو : طول القيام في الصلاة ، قاله مجاهد ، وابن جريج ، والربيع ، أو : الطاعة ، أو : الإخلاص ، قاله ابن جبير . وفي قوله : لربك ، إشارة إلى أن تفرّده بالعبادة وتخصصه بها ، والجمهور على ما قاله مجاهد ، وهو المناسب في المعنى لقوله :{ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى } وروي مجاهد أنها : لما خوطبت بهذا قامت حتى ورمت قدماها . وقال الأوزاعي : قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها . وروي : أن الطير كانت تنزل على رأسها تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها . {وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ } أمرتها الملائكة بفعل ثلاثة أشياء من هيئات الصلاة ، فإن أريد ظاهر الهيئات فهي معطوفة بالواو ، والواو لا ترتب ، فلا يسأل لم قدم السجود على الركوع إلاَّ من جهة علم البيان . والجواب : أن السجود لما كانت الهيئة التي هي أقرب ما يكون العبد فيها إلى اللّه قدم ، وإن كانت متأخراً في الفعل على الركوع ، فيكون إذ ذاك التقديم بالشرف . وقيل : كان السجود مقدّماً على الركوع في شرع زكريا وغيره منهم ، ذكره أبو موسى الدمشقي . وقيل : في كل الملل إلاَّ ملة الإسلام ، فجاء التقديم من حيث الوقوع في ذلك الشرع ، فيكون إذ ذاك التقديم زمانياً من حيث الوقوع ، وهذا التقديم أحد الأنواع الخمسة التي ذكرها البيانيون ، وكذلك التقديم الذي قبله ، وتوارد الزمخشري ، وابن عطية على أنه لا يراد ظاهر الهيئات . فقال الزمخشري : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئات الصلاة وأركانها ، ثم قيل لها { وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ } المعنى : ولتكن صلاتك مع المصلين أي في الجماعة ، أي وانظمي نفسك في جملة المصلين ، وكوني معهم وفي عدادهم ، ولا تكون في عداد غيرهم . و قال ابن عطية : القول عندي في ذلك أن مريم أمرت بفعلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما : طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة . وهذان يختصان بصلاتها منفردة ، وإلاَّ فمن يصلي وراء إمام لا يقال له : أطل قيامك ، ثم أمرت بعدُ بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها :{ وَارْكَعِى مَعَ الركِعِينَ } وقصد هنا معلم آخر من معالم الصلاة لئلا يتكرر لفظ . ولم يرد بالآية السجود والركوع الذي هو منتظم في ركعة واحدة . انتهى كلامه . ولا ضرورة بنا تخرج اللفظ عن ظاهره . وقد ذكرنا مناسبة لتقديم السجود على الركوع ، وقد استشكل ابن عطية هذا ، فقال : وهذه الآية أشد إشكالاً من قولنا : قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمر وليس له رتبة معلومة ، وقد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك في هذه الآية ؟ انتهى . وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه ، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية ، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ، فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر ، ولا التفات لقول بعض أصحابنا المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق وعلى تقديم اللاحق ، ولا في ترجيح تقديم السابق على تقديم اللاحق . وذكر الزمخشري توجيهاً آخر في تأخير الركوع عن السجود ، فقال : ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع ، وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ، ولا تكون مع من لا يركع . انتهى . فكأنه قيل : لا تقتصري على القيام والسجود ، بل أضيفي إلى ذلك الركوع . وقيل : المراد : باقنتي : أطيعي ، وباسجدي : صلي ، ومنه { وَأَدْبَارَ السُّجُودِ } أي : الصلوات ، و : باركعي : أشكري مع الشاكرين ، ومنه :{ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } ويقوي هذا المعنى ، ويرد على من زعم أنه لم تشرع صلاة إلاَّ والركوع فيها مقدّم على السجود ، فإن المشاهد من صلاة اليهود والنصارى خلوّها من الركوع ، ويبعد أن يراد بالركوع الإنحناء الذي يتوصل منه إلى السجود ، ويحتمل أن يكون ترك الركوع مما غيرته اليهود والنصارى من معالم شريعتهم . و : مع ، في قوله : مع الراكعين ، تقتضي الصحبة والإجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع ، فتكون مأمورة بالصلاة في جماعة ، ويحتمل أن يتجوز في : مع ، فتكون للموافقة للفعل فقط دون اجتماع ، أي : إفعلي كفعلهم ، وإن لم توقعي الصلاة معهم ، فإنها كانت تصلي في محرابها . وجاء : مع الراكعين ، دون الراكعات لأن هذا الجمع أعمَ إذ يشمل الرجال والنساء على سبيل التغليب ، ولمناسبة أواخر الآيات قبل وبعد ، ولأن الاقتداء بالرجال أفضل إن قلنا إنها مأمورة بصلاة الجماعة . قال الماتريدي : ولم تكره لها الصلاة في الجماعة ، وإن كانت شابة ، لأنهم كانوا ذوي قرابة منها ورحم ، ولذلك اختصوا في ضمها وإمساكها . انتهى . ٤٤ذلك من أنباء . . . . . {ذالِكَ مِنْ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ } الإشارة إلى ما تقدّم من قصص امرأة عمران ، وبنتها مريم ، وزكريا ، ويحيى ، والمعنى : أن هذه القصص وصولها إليك من جهة الوحي إذ لست ممن دارس الكتب ، ولا صحب من يعرف ذلك ، وهو من قوم أمّيين ، فمدرك ذلك إنما هو الوحي من عند اللّه كما قال في الآية الأخرى ، وقد ذكر قصة أبعد الناس زماناً من زمانه / صلى اللّه عليه وسلم. وهو نوح عليه السلام ، واستوفاها له في سورة هود أكثر مما استوفاها في غيرها { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَاذَا } وفي هذا دليل على نبوّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ أخبر بغيوب لم يطلع عليها إلاَّ من شاهدها ، أو : من قرأها في الكتب السابقة ، أو : من أوحي اللّه إليه بها . وقد انتفى العيان والقراءة ، فتعين الثالث وهو الوحي من اللّه تعالى . والكاف في : ذلك ، و : إليك ، خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والأحسن في الإعراب أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من أنباء الغيب ، خبره . وأن يكون : نوحيه ، جملة مستأنفة ، ويكون الضمير في : نوحيه ، عائداً على الغيب ، أي : شأننا أننا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ، ولذلك أتى بالمضارع ، ويكون أكثر فائدة من عوده على : ذلك ، إذ يشتمل ما تقدّم من القصص وغيرها التي يوحيها إليه في المستقبل ، إذ يصير نظير : زيد يطعم المساكين ، فيكون إخباراً بالحالة الدائمة . والمستعمل في هذا المعنى إنما هو المضارع ، وإذ يلزم من عوده على : ذلك ، أن يكون : نوحيه ، بمعنى : أوحيناه إليك ، لأن الوحي به قد وقع وانفصل ، فيكون أبعد في المجاز منه إذا كان شاملاً لهذه القصص وغيرها مما سيأتي ، وجوّزوا أن يكون : نوحيه ، خبراً : لذلك ، و : من أنباء ، حال من : الهاء ، في : نوحيه ، أو متعلقاً : بنوحيه . {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } هذا تقرير وتثبيت أن ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من اللّه تعالى ، والمعلم به قصتان : قصة مريم ، وقصة زكريا . فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالإخبار أولاً ، وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد ، ولأندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل ، فما خلت من تنبيه على قصة . ومعنى :{ مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ } أي : ما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم . ونفي المشاهدة ، وإن كانت منتفية بالعلم ولم تنتف القراءة والتلقي ، من حفاظ الأنباء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي ، وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ، ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار ، فتعين أن يكون علمه بذلك بوحي من اللّه تعالى إليه ، ونظيره في قصة موسى :{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىّ }{ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ } وفي قصة يوسف { مَا كُنتُ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ} والضمير ، في : لديهم ، عائد على غير مذكور ، بل على ما دل عليه المعنى ، أي : وما كنت لدى المتنازعين ، كقوله :{ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } أي : بالمكان . والعامل في : إذ ، العامل في : لديهم . وقال أبو علي الفارسي : العامل في : إذ ، كنت . إنتهى . ولا يناسب ذلك مذهبه في كان الناقصة . لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث ، وتجردت للزمان وما سبيله هكذا ، فكيف يعمل في ظرف ؟ لأن الظرف وعاء للحدث ولا حدث فلا يعمل فيه ، والمضارع بعد : إذ ، في معنى الماضي ، أي : إذ ألقوا أقلامهم للاستهام على مريم ، والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة . وقيل : كانوا يكتبون بها التوراة ، فاختاروها للقرعة تبركاً بها . وقيل : الأقلام هنا الأزلام ، وهي : القداح ، ومعنى الإلقاء هنا الرمي والطرح ، ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ، ولا كيفية حال الإلقاء ، كيف خرج قلم زكريا . وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من ذلك عن المفسرين ، واللّه أعلم بالصحيح منها . وقال أبو مسلم : كانت الأمم يكتبون أسماءهم على سهام عند المنازعة ، فمن خرج له السهم سلم له الأمر ، وهو شبيه بأمر القداح التي يتقاسم بهال الجزور . وارتفع { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } على الابتداء والخبر ، وهو في موضع نصب إما على الحكاية بقول محذوف ، أي : يقولون أيهم يكفل ، ودل على المحذوف :{ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ } وقد استدل بهذه الآية على إثبات القرعة وهي مسألة فقهية تذكر في علم الفقه . {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي : بسبب مريم ، ويحتمل أن يكون هذا الاختصام هو الاقتراع ، وأن يكون اختصاماً آخر بعده ، والمقصود شدّة رغبتهم في التكفل بشأنها . والعامل في : اذ ، العامل في : لديهم ، أو ، كنت ، على قول أبي علي في : إذ يلقون وتضمنت هذه الآية من ضروب الفصاحة : التكرار في : اصطفاك ، وفي : يا مريم ، وفي : ما كنت لديهم . قيل : والتقديم والتأخير في : واسجدي واركعي ، على بعض الأقوال . والأشتعارة ، فيمن جعل القنوعت والسجود والركوع ليس كناية عن الهيئات التي في الصلاة ، والإشارة بذلك من أنباء الغيب ، والعموم المراد به الخصوص في نساء العالمين على أحد التفسيرين ، والتشبيه في أقلامهم ، إذا قلنا إنه أراد القداح . والحذف على عدة مواضع . ٤٥إذ قالت الملائكة . . . . . {إِذْ قَالَتِ الْمَلَئِكَةُ يامَرْيَمُ مَرْيَمَ إِنَّ اللّه يُبَشّرُكِ بِكَلِمَةٍ مّنْهُ } العامل في : إذا ، اذكر أو : يختصمون ، أو إذ ، بدل من إذ ، في قوله : إذ يختصمون ، أو من : وإذ قالت الملائكة ، أقوال يلزم في القولين المتوسطين اتحاد زمان الاختصام وزمان قول الملائكة ، وهو بعيد ، وهو قول الزجاج . ويبعد الرابع لطول الفصل بين البدل والمبدل منه . والرابع اختيار الزمخشري وبه بدأ . والخلاف في الملائكة : أَهُمْ جمع من الملائكة أو جبريل وحده على ما سبق قبل في خطابهم لزكريا ولمريم ؟ وتقدم تكليم الملائكة قبل هذا التبشير بذكر الاصطفاء والتطهير من اللّه ، وبالأمن بالعبادة له على سبيل التأنيس واللطف ، ليكون ذلك مقدمة لهذا التبشضير بهذا الأمر العجيب الخارق الذي لم يجر لامرأة قبلها ، ولا يجري لأمرأة بعدها ، وهو أنها تحمل من غير مس ذكر لها ، وكان جرى ذلك الخارق من رزق اللّه لها أيضاً تأنيساً لهذا الخارق . وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر : وإذ قال الملائكة . والكلمة من اللّه هو عيسى عليه السلام ، سمي كلمة لصدوره بكلمة : كن ، بلا أب . قاله قتادة . وقيل : لتسميته المسيح ، وهو كلمة من اللّه أي : من كلام اللّه . وقيل : لوعد اللّه به في كتابه التوراة والكتب السابقة . وفي التوراة : أتانا اللّه من سيناء ، وأشرق من ساعر ، واستعلن من جبال فاران . وساعر هو الموضع الذي بعث منه المسيح . وقيل : لأن اللّه يهدي بكلمته . وقيل : لأنه جاء على وفق كلمة جبريل ، وهو :{ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ لاِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً } فجاء على الصفة التي وصف . وقيل : سماه اللّه بذلك كما سمى من شاء من سائر خلقه بما شاء من الأسماء ، فيكون على هذا علماً موضوعاً له لم تلحظ فيه جهة مناسبة . وقيل : الكلمة هنا لا يراد بها عيسى ، بل الكلمة بشارة الملائكة لمريم بعيسى . وقيل : بشارة النبي لها . {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } الضمير في اسمه ، عائد على : الكلمة ، على معنى : نبشرك بمكون منه ، أو بموجود من اللّه . وسمي : المسيح ، لأنه مسح بالبركة ، قاله الحسن ، وسعيد ، وشمر . أو : بالدهن الذي يمسح به الأنبياء ، خرج من بطن أمّه ممسوحاً به ، وهو دهن طيب الرائحة إذا مسح به شخص علم أنه نبي . أو : بالتطهير من الذنوب ، أو : بمسح جبريل له بجناحه أو : لمسح رجليه فليس فيهما خمص ، والأخمص ما تجافى عن الأرض من باطن الرجل ، وكان عيسى أمسح القدم لا أخمص له . قال الشاعر : بات يقاسيها غلام كالزلم خدلج الساقين ممسوح القدم أو : لمسح الجمال إياه وهو ظهوره عليه ، كما قال الشاعر : على وجه مي مسحة من ملاحة أو : لمسحة من الأقذار التي تنال المولودين ، لأن أمه كانت لا تحيض ولم تدنس بدم نفاس . أقوال سبعة ، ويكون : فعيل ، فيها بمعنى مفعول ، والألف واللام في : المسيح ، للغلبة مثلها في : الدبران والعيوق . وقال ابن عباس : سمي بذلك لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاهة إبلا بريء ، فعلى هذا يكون : فعيل ، مبنياً للمبالغة : كعليم ، ويكون من الأمثلة التي حولت من فاعل إلى فعيل للمبالغة . وقيل : من المساحة ، وكان يجول في الأرض فكأنه كان يمسحها . وقيل : هو مفعل من ساح يسيح من السياحة . وقال مجاهد ، والنخعي : المسيح : الصديق . وقال ابن عباس ، وابن جبير : المسيح : الملك ، سمي بذلك لأنه ملك إحياء الموتى وغير ذلك من الآيات . وقال أبو عبيد : أصله بالعبرانية مشيحاً ، فغير ، فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً ليس هو مشتقاً من المسح ولا من السياحة { عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } الأبناء ينسبون إلى الآباء ، ونسب إليها . وإن كان الخطاب لها إعلاماً أنه يولد من غير أب فلا ينسب إلا إليها . والظاهر أن اسمه : المسيح ، فيكون : اسمه المسيح ، مبتدأ وخبراً ، و : عيسى ، جوزوا فيه أن يكون خبراً بعد خبر ، وأن يكون بدلاً ، وأن يكون عطف بيان . ومنع بعض النحويين أن يكون خبراً بعد خبر ، وقال : كان يلزم أن يكون أسماه على المعنى ، أو أسماها على لفظ الكلمة ، ويجوز أن يكون : عيسى ، خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عيسى ابن مريم . قال ابن عطية : ويدعو إلى هذا كون قوله : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، إذ قد أجمع الناس على كتبه دون الألف . وأما على البدل ، أو عطف البيان ، فلا يجوز أن يكون : ابن مريم ، صفة : لعيسى ، لأن الاسم هنا لم يرد به الشخص . هذه النزعة لأبي علي . وفي صدر الكلام نظر . إنتهى كلامه . وقال الزمخشري فإن قلت لِمَ قيل :{ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } وهذه ثلاثة أشياء الاسم منها : عيسى ، وأما : المسيح و : الأبن ، فلقب وصفة ؟ . قلت : الاسم للمسمى علامة يعرف بها ، ويتميز من غيره ، فكأنه قيل : الذي يعرف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الثلاثة . إنتهى كلامه . ويظهر من كلامه أن اسمه مجموع هذه الثلاثة ، فتكون الثلاثة أخباراً عن قوله : اسمه ، ويكون من باب : هذا حلو حامض ، و : هذا أعسر يسر . فلا يكون أحدها على هذا مستقلاً بالخبرية . ونظيره في كون الشيئين أو الأشياء في حكم شيء واحد قول الشاعر : كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الكريم ؟ أي : مجموع هذا مما يزرع الود ، فلما جاز في المبتدأ أن يتعدد دون حرف عطف إذا كان المعنى على المجموع ، كذلك يجوز في الخبر . وأجاز أبو البقاء أن يكون : ابن مريم ، خبر مبتدأ محذوف أي : هو ابن مريم ، ولا يجوز أن يكون بدلاً مما قبله ، ولا صفة لأن : ابن مريم ، ليس باسم . ألا ترى أنك لا تقول : اسم هذا الرجل ابن عمرو إلاَّ إذا كان علماً عليه ؟ إنتهى . قال بعضهم : ومن قال إن المسيح صفة لعيسى ، فيكون في الكلام تقديم وتأخير تقديره : اسمه عيسى المسيح ، لأن الصفة تابعة لموصوفها . إنتهى . ولا يصح أن يكون المسيح في هذا التركيب صفة ، لأن المخبر به على هذا اللفظ ، والمسيح من صفة المدلول لا من صفة الدال ، إذ لفظ عيسى ليس المسيح . ومن قال : إنهما اسمان تقدم المسيح على عيسى لشهرته . قال ابن الأنباري : وإنما بدأ بلقبه لأن : المسيح ، أشهر من : عيسى ، لأنه قل أن يقع على سمي يشتبه ، وعيسى قد يقع على عدد كثير ، فقدمه لشهرته . ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم ؟ وهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لقب لا اسم . قال الزجاج : وعيسى معرب من : ايسوع ، وإن جعلته عربياً لم ينصرف في معرفة ولا نكرة لأن فيه ألف تأنيث ، ويكون مشتقاً من : عاسه يعوسه ، إذا ساسه وقام عليه . وقال الزبمخشري : مشتق من العيس كالرقم في الماء . {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ } قال ابن قتيبة : الوجيه ذو الجاه ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة . وقال ابن دريد : الوجيه المحب المقبول . وقال الأخفش : الشريف ذو القدر والجاه . وقيل : الكريم على من يسأله ، لأنه لا يرده لكرم وجهه . ومعناه في حق عيسى أن وجاهته في الدنيا بنبوته ، وفي الآخرة بعلو درجته . وقيل : في بالدنيا بالطاعة ، وفي الآخرة بالشفاعة . وقيل : في الدنيا بإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ، وفي الآخرة بالشفاعة . وقيل : في الدنيا كريماً لا يرد وجهه ، وفي الآخرة في علية المرسلين . وقال الزمشخري : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ، وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة . و قال ابن عطية : وجاهة عيسى في الدنيا نبوته وذكره ورفعه ، وفي الآخرة مكانته ونعميه وشفاعته . {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } معناه من اللّه تعالى . وقال الزمخشري : وكونه من المقرّبين رفع إلى السماء وصحبته الملائكة . وقال قتادة : ومن المقربين عند اللّه يوم القيامة . وقيل : من الناس بالقبول والإجابة ، قاله الماوردي . وقيل : معناه : المبالغ في تقريبهم ، لأن فعل من صغ المبالغة ، فقال : قرّبه يقرّبه إذا بالغ في تقريبه إنتهى . وليس فعل هنا من صبغ المبالغة ، لأن التضعيف هنا للتعدية ، إنما يكون للمبالغة في نحو : جرّحت زيداً و : موّت الناس . {وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } معطوف على قوله : وجيهاً ، وتقديره : ومقرباً من جملة المقربين . أعلم تعالى أن ثَمَّ مقربين ، وأن عيسى منهم . ونظير هذا العطف قوله تعالى :{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ } فقوله : وبالليل ، جار ومجرور في موضع الحال ، وهو معطوف على : مصبحين ، وجاءت هذه الحال هكذا لأنها من الفواصل ، فلو جاء : ومقرباً ، لم تكن فاصلة ، وأيضاً فأعلم تعالى أن عيسى مقرب من جملة المقربين ، والتقريب صفة جليلة عظيمة . ألا ترى إلى قوله :{ وَلاَ الْمَلَئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } ؟ وقوله :{ فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ } وهو تقريب من اللّه تعالى بالمكانة والشرف وعلو المنزلة ٤٦ويكلم الناس في . . . . . {وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً } وعطف : ويكلم ، وهو حال أيضاً على : وجيهاً ، ونظيره :{ إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } أي : وقابضات . وكذلك : ويكلم ، أي : ومكلماً . وأتى في الحال الأولى بالاسم لأن الأسم هو للثبوت ، وجاءت الحال الثانية جاراً ومجروراً لأنه يقد بالأسم . وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة . ألا ترى في الحال وصف في المعنى ؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالأسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة . كقوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } فكذلك الحال ، بدىء بالأسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة . وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد ، كما أن الأسم يشعر بالثبوت ، ويتعلق : في المهد ، بمحذوف إذ هو في موضع الحال ، التقدير : كائنا في المهد وكهلاً ، معطوف على هذه الحال ، كأنه قيل : طفلاً وكهلاً ، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال . ونظيره عكساً :{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ } ومن زعم أن : وكهلاً ، معطوف على : وجيهاً ، فقد أببعد . والمهد : مقر الصبي في رضاعه ، وأصله مصدر سمي به يقال : مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها ، أي : وطأت ، ويقال : أمهد الشيء ارتفع . وتقدم تفسير : الكهل لغة . وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير باللازم غالباً ، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته ، فلا يكون في ذلك كالشارخ ، والعرب تتمدح الكهولة ، قال : وما ضر من كانت بقاياه مثلنا شباب تسامى للعلى وكهول ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر ، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي ، وفي قوله : وكهلاً ، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة ، قاله الربيع ، ويقال : إن مريم ولدته لثمانية أشهر ، ومن ولد لذلك لم يعش ، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن . وقيل : كانت العادة أن من تكلم في المهدمات ، وفي قوله :{ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً } إشارة إلى تقلب الأحوال عليه ، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته . وقال ابن كيسان : ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاماً به أنه يكتهل ، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب . واختلف في كلامه : في المهد ، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق ؟ أو كان يتكلم دائماً في المهد حتى بلغ إبان الكلام ؟ قولان : الأول : عن ابن عباس . ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو رضيع ، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في الهد نبياً لقوله :{ قَالَ إِنّى عَبْدُ اللّه ءاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى } ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها . وقيل : لم يكن نبياً في ذلك الوقت ، وإنما كان الكلام تأسيساً لنبوته ، فيكون قوله :{ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } إخباراً عما يؤول إليه بدليل قوله :{ وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ } ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلاً ، فقيل : كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة . وقيل : ينزل من السماء كهلاً ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فيقول لهم : إني عبد اللّه ، كما قال في المهد ، وهذه فائدة قوله : وكهلاً ، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلاً ، قاله ابن زيد . وقال الزمشخري : معناه : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ، وينبأ فيها الأنبياء . إنتهى . قيل : وتكلم في المهد سبعة : عيسى ، ويحيى ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج . وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وصاحب الجبار ، وصاحب الأخدود ، وقصص هؤلاء مروية ، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعاً في ثلاثة ، لأن ذلك كان إخباراً قبل أن يعلم بالباقين ، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولاً ، ثم أعلم بالباقين . {وَمِنَ الصَّالِحِينَ } أي : وصالحاً من جملة الصالحين ، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء . وانتصاب : وجيهاً ، وما عطف عليه على الحال من قوله : بكلمة منه ، وحسن ذلك ، وإن كان نكرة ، كونه وصف بقوله : منه ، وبقوله : منه ، وبقوله : اسمه المسيح . ٤٧قالت رب أنى . . . . . {قَالَتْ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ } لما أخبرتها الملائكة أن اللّه بشرها بالمسيح ، نادت ربها ، وهو اللّه ، مستفهمة على طريق التعجب من حدوث الولد من غير أب إذ ذاك من الأمور الموجبة للتعجب ، وهذه القضية أعجب من قضية زكريا ، لأن قضية زكريا حدث منها الولد بين رجل وامرأة ، وهنا حدث من امرأة بغير واسطة بشر ، ولذلك قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} وقيل : استفهمت عن الكيفية ، كما سأل زكريا عن الكيفية ، تقديره : هل يكون ذلك على جري العادة بتقدم وطء ؟ أَمْ بأمر من قدرة اللّه ؟ . وقال الانباري : لما خاطبها جبريل ظنته آدمياً يريد بها سوءاً ، ولهذا قالت :{ إِنّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } فلما بشرها لم تتيقن صحة قوله لأنها لم تعلم أنه ملك ، فقال :{ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ } ؟ ومن ذهب إلى أن قولها : رب ، وقول زكريا : رب ، إنما هو نداء لجبريل لما بشرهما ، ومعناه : يا سيدي فقد أبعد وقال الزمخشري : هو من بدع التفاسير ، و : يكون ، يحتمل أن تكون الناقصة والتامة ، كما سبق في قصة زكريا . و : لم يمسسني بشر ، جملة حالية ، والمسيس هنا كناية عن الوطء ، وهذا نفي عام أن يكون باشرها أحد بأي نوع كان من تزوّج أو غيره ، والبشر يطلق على الواحد والجمع ، والمراد هنا النفي العام ، وسمي بشراً لظهور بشرته وهو جلده ، وبشرت الأديم قشرت وجهه ، وأبشرت الأرض أخرجت نباتها ، وتباشير الصبح أول ما يبدو من نوره . {قَالَ كَذالِكَ اللّه يَخْلُقُ مَا يَشَاء } تقدم الكلام في نظيرها في قصة زكريا ، إلاَّ أن في قصته { يَفْعَلُ مَا يَشَاء } من حيث إن أمر زكريا داخل في الإمكان العادي الذي يتعارف ، وإن قل ، وفي قصة مريم : يخلق ، لأنه لا يتعارف مثله ، وهو وجود ولد من غير والد ، فهو إيجاد واختراع من غير سبب عادي ، فلذلك جاء بلفظ : يخلق ، الدال على هذا المعنى . وقد ألغز بعض العرب المستشهد بكلامها فقال : ألا رب مولود وليس له أب وذي ولد لم يلده أبوان يريد : عيسى وآدم . {إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة : لغةً وتفسيراً وقراءةً وإعراباً ، فأغنى ذلك عن إعادته . ٤٨ويعلمه الكتاب والحكمة . . . . . {وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } الكتاب : هنا مصدر ، أي : يعلمه الخط باليد ، قاله ابن عباس ، وابن جريج وجماعة وقيل : الكتاب هو كتاب غير معلوم ، علمه اللّه عيسى مع التوراة والإنجيل وقيل : كتب اللّه المنزلة . والألف واللام للجنس وقيل : هو التوراة والإنجيل . قالوا : وتكون الواو في : والتوراة ، مقحمة ، والكتاب عبار عن المكتوب ، وتعليمه إياها قيل : بالإلهام ، وقيل : بالوحي ، وقيل : بالتوفيق والهداية للتعلم والحكمة . تقدم تفسيرها ، وفسرت هنا : بسنن الأنبياء ، وبما شرعه من الدين ، وبالنبوة ، وبالصواب في القول والعمل وبالعقل ، وبأنواع العلم . وبمجموع ما تقدم أقوال سبعة . روي أن عيسى كان يستظهر التوراة ، ويقال لم يحفظها عن ظهر قلب غير : موسى ، ويوشع ، وعزير ، وعيسى . وذكر الإنجيل لمريم وهو لم ينزل بعد لأنه كان كتاباً مذكوراً عند الأنبياء والعلماء ، وأنه سينزل . وقرأ نافع ، وعاصم ، ويعقوب ، وسهل : ويعلمه ، بالياء وقرأ الباقون : بالنون ، وعلى كلتا القراءتين هو معطوف على الجملة المقولة ، وذلك إن قوله : قال كذلك ، الضمير في : قال ، عائد على الرب ، والجملة بعده هي المقولة ، وسواء كان لفظ اللّه مبتدأ ، وخبره فيما قبله ، لزم مبتدأ وخبره يخلق على ما مر إعرابه في :{ قَالَ كَذالِكَ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاء } فيكون هذا من المقول لمريم ، أم على سبيل الاغتباط والتبشير بهذا الولد الذي يوجده اللّه منها ، ويجوز أن يكون معطوفاً على : يخلق ، سواء كانت خبراً عن اللّه أم تفسيراً لما قبلها ، إذا أعربت لفظ : اللّه مبتدأ وما قبله الخبر ، وهذا ظاهر كله على قراءة الياء . وأما على قراءة النون ، فيكون من باب الإلتفات ، خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم لما في ذلك من الفخامة . وقال أبو علي : وجوزه الزمخشري ، وغيره عطف : ويعلمه ، على : يبشرك ، وهذا بعيد جداً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه . وأجاز ابن عطية وغيره أن يكون معطوفاً على : ويكلم ، وأجاز الزمخشري أن يكون معطوفاً على : وجيهاً ، فيكون على هذين القولين في موضع نصب على الحال . وفيما أجازه أبو علي والزمخشري في موضع رفع لأنه معطوف على خبر إن ، وهذا القولان بعيدان أيضاً لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، ولا يقع مثله في لسان العرب . وقال بعضهم : ونعلمه ، بالنون حمله على قوله { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } فإن عنى بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير ، وإن عنى بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح وقال الزمخشري : أو هو كلام مبتدأ يعنى أنه لا يكون معطوفاً على شيء من هذه التي ذكرت ، فإن عنى أنه استئناف إخبار عن اللّه ، أو من اللّه ، على اختلاف القراءتين ، فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله ، فلا يكون ابتداء كلام إلاَّ أن يدعى زيادة الواو في : ويعلمه ، فحينئذ يصح أن يكون ابتداء كلام ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر ، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه ، وأن يكون الذي عطف عليه ابتداء كلام حتى يكون المعطوف كذلك . وقال الطبري : قراءة الياء عطف على قوله { يَخْلُقُ مَا يَشَاء } وقراءة النون عطف على قوله { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } قال ابن عطية : وهذا القول الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى . انتهى . ولم يبين ابن عطية جهة إفساد المعنى ، أما قراءة النون فظاهر فساد عطفه على : نوحيه ، من حيث اللفظ ، ومن حيث المعنى ، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان العرب لبعد الفصل المفرط ، وتعقيد التركيب ، وتنافر الكلام . وأما من حيث المعنى فإن المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه ، فيصير المعنى بقوله ذلك من أنباء الغيب أي : إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمران ، وولادتها لمريم ، وكفالة زكريا ، وقصته في ولادة يحيى له ، وتبشير الملائكة لمريم بالاصطفاء والتطهير ، كل ذلك من أخبار الغيب ، نعلِّمه ، أي : نعلم عيسى الكتاب ، فهذا كلام لا ينتظم معناه مع معنى ما قبله . وأما قراءة الياء وعطف : ويعلمه ، على : يخلق ، فليست مفسدة للمعنى ، بل هو أولى وأصح ما يحمل عليه عطف : ويعلمه ، لقرب لفظه وصحة معناه . وقد ذكرنا جوازه قبل ، ويكون اللّه قد أخبر مريم بأنه تعالى يخلق الأشياء الغريبة التي لم تجرِ بها عادة ، مثل ما خلق لك ولداً من غير أب ، وأنه تعالى يعلم هذا الولد الذي يخلقه لك ما لم يعلمه قبله من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل ، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشير لها بهذا الولد ، وإظهار بركته ، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس من بني إسرائيل ، بل هو مخالف لهم في أصل النشأة ، وفيما يعلمه تعالى من العلم ، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف : ويعلمه . ٤٩ورسولا إلى بني . . . . . {وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } اختلفوا في : رسولاً ، هنا فقيل : هو وصف بمعنى المرسل على ظاهر ما يفهم منه وقيل : هو مصدر بمعنى رسالة ، إذ قد ثبت أن رسولاً يكون بمعنى رسالة ، وممن جوز ذلك فيه هنا الحوفي ، وأبو البقاء ، وقالا : هو معطوف على الكتاب ، أي : ويعلمه رسالة إلى بني اسرائيل ، فتكون : رسالة ، داخلاً في ما يعلمه اللّه عيسى . وأجاز أبو البقاء في هذا الوجه أن يكون مصدراً في موضع الحال . وأما الوجه الأول فقالوا في إعرابه ، وجوها . أحدها : أن يكون منصوباً بإضمار فعل تقديره : ويجعله رسولاً إلى بني إسرائيل ، قالوا : فيكون مثل قوله : يا ليت زوجك قد غدا متقلداً سيفاً ورمحاً أي : ومعتقلاً رمحاً . لما لم يمكن تشريكه مع المنصوبات قبله في العامل الذي هو : يعلمه ، أضمر له فعل ناصب يصح به المعنى ، قاله ابن عطية وغيره . الثاني : أن يكون معطوفاً على : ويعلمه ، فيكون : حالاً ، إذ التقدير : ومعلماً الكتاب ، فهذا كله عطف بالمعنى على قوله : وجيهاً ، قاله الزمخشري ، وثنى به ابن عطية ، وبدأ به وهو مبني على إعراب : ويعلمه وقد بينا ضعف إعراب من يقول : إن : ويعلمه ، معطوف على : وجيهاً ، للفصل المفرط بين المتعاطفين . الثالث : أن يكون منصوباً على الحال من الضمير المستكن في : ويكلم ، فيكون معطوفاً على قوله : وكهلاً ، أي : ويكلم الناس طفلاً وكهلاً ورسولاً إلى بني إسرائيل ، قاله ابن عطية ، وهو بعيد جداً لطول الفصل بين المتعاطفين . الرابع : أن تكون الواو زائدة ، ويكون دالاً من ضمير : ويعلمه ، قاله الأخفش ، وهو ضعيف لزيادة الواو ، لا يوجد في كلامهم : جاء زيد وضاحكاً ، أي : ضاحكاً . الخامس : أن يكون منصوباً على إضمار فعل من لفظ رسول ، ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول من عيسى ، التقدير : وتقول أرسلت رسولاً إلى بني إسرائيل ، واحتاج إلى هذا التقدير كله ، لقوله : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } وقوله :{ وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ } ، إذ لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر ، لأن ما قبله ضمير غائب ، وهذان ضمير متكلم ، فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح المعنى . قاله الزمخشري ، وقال : هو من المضايق ، يعني من المواضع التي فيها إشكال . وهذا الوجه ضعيف ، إذ فيه إضمار القول ومعموله الذي هو : أرسلت ، والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة ، إذ يفهم من قوله : وأرسلت ، أنه رسول ، فهي على هذا التقدير حال مؤكدة . فهذه خمسة أوجه في إعراب : ورسولاً ، أولاها الأول ، إذ ليس فيه إلاَّ إضمار فعل يدل عليه المعنى ، أي : ويجعله رسولاً ، ويكون قوله { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } معمولاً لرسول ، أي ناطقاً بأني قد جئتكم ، على قراءة الجمهور ، ومعمولاً لقول محذوف على قراءة من كسر الهمزة ، وهي قراءة شاذة ، أي : قائلاً إني قد جئتكم ، ويحتمل أن يكون محكياً بقوله : ورسولاً ، لأنه في معنى القول ، وذلك على مذهب الكوفيين . وقرأ اليزيدي : ورسولٍ ، بالجر ، وخرجه الزمخشري على أنه معطوف على : بكلمة منه ، وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف . وأرسل عيسى إلى بني إسرائيل مبيناً حكم التوراة ، وداعياً إلى العمل بها ، ومحللاً أشياء مما حرم فيها : كالثروب ، ولحوم الإبل ، وأشياء من الحيتان . والطير ، وكان عيسى قد هربت به أمّه من قومها إلى مصرحين عزلوا أولادهم ، ونهوهم عن مخالطته ، وحبسوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم فقالوا : ليسوا ها هنا ، فقال ما في هذا البيت ؟ قالوا : خنازير ، قال : كذلك يكونون ، ففتحوا عنهم فإذا هم خنازير . ففشا ذلك في بني إسرائيل ، فهموا به ، فهربت به أمّه إلى أرض مصر . فلما بلغ اثنتي عشرة سنة أوحى اللّه إليها : أن انطلقي إلى الشام ، ففعلت حتى إذا بلغ ثلاثين سنة جاءه الوحي على رأس الثلاثين ، فكانت نبوّته ثلاث سنين ، ثم رفعه اللّه إليه . وكأن أول أنبياء بني إسرائيل : يوسف ، وقيل : موسى ، وآخرهم عيسى . والظاهر أن قوله : { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ } إلى قوله { مُّسْتَقِيمٍ } متعلق بقوله { وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ } ومعمول له ، فيكون ذلك مندرجاً تحت القول السابق . والخطاب لمريم بقوله : قال كذلك اللّه ، فتكون مريم قد بشرت بأشياء مما يفعلها اللّه لولدها عيسى : من تعليمه ما ذكر ، ومن جعله رسولاً ناطقاً بما يكون منه إذا أرسل : من مجيئه بالآيات ، وإظهار الخوارق على يديه ، وغير ذلك مما ذكر إلى قوله : مستقيم . ويكون بعد قوله : مستقيم . وقيل : قوله : فلما أحس ، محذوف يدل عليه وتضطرء إلى تقديره ، المعنى ، تقديره : فجاء عيسى بني إسرائيل ورسولاً ، فقال لهم ما تقدّم ذكره ، وأتى بالخوارق التي قالها ، فكفروا به وتمالؤوا على قتله وإذايته ، فلما أحس عيسى منهم الكفر . وقيل : يحتمل أن يكون الكلام تم عند قوله { وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ } ولا يكون { أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ } متعلقاً بما قبله ، ولا داخلاً تحت القول والخطاب لمريم ، ويكون المحذوف هنا : لا بعد قوله : مستقيم ، والتقدير : فجاء عيسى كما بشر اللّه رسولاً إلى بني اسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم . وقرأ الجمهور : بأنه ، على الإفراد ، وكذلك في { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } وفي مصحف عبد اللّه : بآيات ، على الجمع في الموضعين . ويجوز أن يكون : من ربكم ، في موضع الصفة ، لأنه يتعلق بمحذوف ، ويجوز أن يتعلق : بجئتكم ، أي : جئتكم من ربكم بآية . {أَنِى أَخْلُقُ لَكُمْ مّنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّه} قرأ الجمهور : أني أخلق ، بفتح الهمزة على أن يكون بدلاً من : آية ، فيكون في موضع جر ، أو بدلاً من قوله : أني قد جئتكم ، فيكون في موضع نصب أو جر على الخلاف ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي ، أي : الآية أني أخلق ، فيكون في موضع رفع . وقرأ نافع بالكسر على الاستئناف ، أو على إضمار القول ، أو على التفسير للآية . كما فسر المثل في قوله :{ كَمَثَلِ ءادَمَ } بقوله :{ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } ومعنى : أخلق : أقدّر وأهيء ، والخلق يكون بمعنى الإنشاء وإبراز العين من العدم الصرف إلى الوجود . وهذا لا يكون إلاَّ للّه تعالى . ويكون بمعنى : التقدير والتصوير ، ولذلك يسمون صانع الأديم ونحوه : الخالق ، لأنه يقدّر ، وأصله في الإجرام ، وقد نقلوه إلى المعاني قال تعالى { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } ومما جاء الخلق فيه بمعنى التقدير قوله تعالى :{ فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } أي المقدّرين . وقال الشاعر : ولأنت تَتِفري ما خَلَقْت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري واللام في : لكم ، معناها التعليل ، و : من الطين ، تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف ، بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة . وقرأ الجمهور : كهيئة ، على وزن : جيئة ، وقرأ الزهري : كهية ، بكسر الهاء وياء مشددة مفتوحة بعدها تاء التأنيث ، و : الكاف ، من : كهيئة ، اسم على مذهب أبي الحسن ، فهي مفعولة : بأخلق ، وعلى قول الجمهور : يكون ، صفة لمفعول محذوف تقديره : هيئة مثل هيئة ، ويكون : هيئة ، مصدراً في معنى المفعول ، أي : مثالاً مهيأً مثل . وقرأ الجمهور : الطير ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع : كهيئة الطائر ، والمراد به الجنس : فأنفخ فيه الضمير في : فيه ، يعود على : الكاف ، أو على موصوفها على القولين المذكورين . وقرأ بعض القراء : فأنفخها ، أعاد الضمير على الهيئة المحذوفة ، إذ يكون التقدير : هيئة كهيئة الطير ، أو : على الكاف على المعنى ، إذ هي بمعنى : مماثلة هيئة الطير ، فيكون التأنيث هنا كما هو في المائدة في قوله : { فَتَنفُخُ فِيهَا } ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجرّ . كما قال : ما شق جيب ولا قامتك نائحة ولا بكتك جياد عند إسلاب يريد : ولا قامت عليك ، وهي قراءة شاذة نقلها الفراء . وقال النابغة : كالهبرقيّ تنحَّى ينفخ الفحماء فعدى : نفخ ، لمنصوب ، فيمكن أن يكون على إسقاط حرف الجر ، ويمكن أن يكون على التضمين ، أي : يضرم بالنفخ الفحم ، فيكون هنا ناقصة على بابها ، أو بمعنى : تصير . وقرأ نافع ويعقوب هنا وفي المائدة : طائراً ، وقرأ الباقون : طيراً ، وانتصابه على أنه خبر : يكون ، ومن جعل : يكون ، هنا تامّة ، و : طائراً ، حالاً فقد أبعد . وتعلق بإذن اللّه ، قيل : بيكون . وقيل : بطائر ، ومعنى : بإذن اللّه ، أي بتمكينه وعلمه بأني أفعل ، وتعاطي عيسى التصوير بيده والنفخ في تلك الصورة تبيين لتلبسه بالمعجزة ، وتوضيح أنها من قبله ، وأما خلق الحياة في تلك الصورة الطينية فمن اللّه وحده . وظاهر الآية يدل على أن خلقه لذلك لم يكن باقتراح منهم ، بل هذه الخوارق جاءت تفسيراً لقوله :{ أَنّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } وقيل : كان ذلك باقتراح منهم ، طلبوا منه أن يخلق لهم خفاشاً على سبيل التعنت جرياً على عاداتهم مع أنبيائهم ، وخصوا الخفاش لأنه عجيب الخلق ، وهو أكمل الطير خلقاً ، له : ثدي ، وأسنان ، وآذان ، وضرع ، يخرج منه اللبن ، ولا يبصر في ضوء النهار ولا في ظلمة الليل ، إنما يرى في ساعتين : بعد غروب الشمس ساعة ، وبعد طلوع الفجر ساعة قبل أن يسفر جداً ، ويضحك كما يضحك الإنسان ، ويطير بغير ريش ، وتحيض أنثاه وتلد . روي عن أبي سعيد الخدري : أنه قال لهم : ماذا تريدون ؟ قالوا : الخفاش . فسألوه أشد الطير خلقاً لأنه يطير بغير ريش ، ويقال : ما صنع غير الخفاش ، ويقال : فعل ذلك أولاً وهو مع معلمه في الكتاب ، وتواطأ النقل عن المفسرين أن الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتاً ليتميز فعل المخلوق من فعل الخالق ، وكان بنو إسرائيل مع معاينتهم لذلك الطائر يطير يقولون في عيسى : هذا ساحر . {وَأُبْرِىء الاْكْمَهَ والاْبْرَصَ } تقدّم تفسيرهما في المفردات . وقال مجاهد : الأكمه هو الأعشى . وقال عكرمة : هو الأعمش . وقال الزمخشري : هو الذي ولد أعمى . وقيل : هو الممسوح العين ، ولم يكن في هذه الأمة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير . وقال ابن عباس ، والحسن ، والسدّي : هو الأعمى على الإطلاق . وحكى النقاش : أن الأكمه هو الأبكم الذي لا يفهم ولا يُفهم ، الميت الفؤاد ، وقال ابن عباس أيضاً ، وقتادة : هو الذي يولد أعمى مضموم العينين . قيل : وقد كان عيسى يبرىء بدعائه ، والمسح بيده ، كل علة . ولكن لا يقوم الحجة على بني إسرائيل في معنى النبوة إلاَّ بالإبراء من العلل التي يعجز عن إبرائها الأطباء ، حتى يكون فعله ذلك خارقاً للعادات . والإبراء من العشي والعمش ليس بخارق ، وأما العمى فالأبلغ الإبراء من عمى الممسوح العين . روي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفاً من المرضى ، من أطاق منهم أتاه ، ومن لم يطق أتاه عيسى ، وما كانت مداواته إلاَّ بالدعاء وحده ، وخص بالذكر الكمه والبرص لأنهما داءان معضلان لا يقدر على الإبراء منهما ، إلاَّ اللّه تعالى ، وكان الغالب على زمان عيسى الطب ، فأراهم اللّه المعجزة في جنس علمهم ، كما أرى قوم موسى ، إذ كان الغالب عليهم السحر ، المعجزة بالعصا واليد البيضاء ، وكما أرى العرب ، إذ كان الغالب عليهم البلاغة ، المعجزة بالقرآن . روي أن جالينوس كان في زمان عيسى ، وأنه رحل إليه من رومية إلى الشام ليلقاه ، فمات في طريقه . {وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّه} نقل أئمة التفسير أنه أحيا أربعة : عاذر ، وكان صديقاً له ، بعد ثلاثة أيام . فقام من قبره يقطر ودكه ، وبقي إلى أن ولد له . و : ابن العجوز ، وهو على سريره ، فنزل عن أعناق الرجال وحمل سريره وبقي إلى أن ولد له ، و : بنت العاشر ، متعث بولدها بعد ما حييت ، وسألوه أن يحيى سام بن نوح ليخبرهم عن حال السفينة ، فخرج من قبره فقال : أَقَدْ قامت الساعة ؟ وقد شاب نصف رأسه ، وكان شاباً ابن خمسمائة ، فقال : شيبني هول يوم القيامة . وروي أنه في إحيائه الموتى كان يضرب بعصاه الميت ، أو القبر ، أو الجمجمة ، فيحيي الإنسان ويكلمه ويعيش . وقيل : تموت سريعاً . وروي عن الزهري أنه قال : بلغني أن عيسى خرج هو ومن معه من حوارييه حتى بلغ الأندلس ، وذكر قصة فيها طول ، مضمونها : أنه أحيا بها ميتاً ، وسألوه فإذا هو من قوم عاد . ووردت قصص في إحياء خلق كثير على يد عيسى ، وذكروا أشياء مما كان يدعو بها إذا أحيا ، اللّه أعلم بصحتها . {وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ } قال السدّي ، وابن جبير ، ومجاهد ، وعطاء ، وابن إسحاق : كان عيسى من لدن طفوليته ، وهو في الكتاب يخبر الصبيان بما يفعل آباؤهم ، وبما يؤكل من الطعام ، وما يدخر إلى أن نبىء ، ويقول لمن سأله : أكلت البارحة كذا ، وادّخرت . وقيل : كان ذلك بعد النبوة لما أحيا لهم الموتى ، طلبوا منه آية أخرى ، وقالوا : أخبرنا بما نأكل وما ندّخر للغد ، فأخبرهم . وقال قتادة : كان ذلك في نزول المائدة ، عهد إليهم أن يأكلوا منها ولا يخبؤوا ولا يدخروا ، فخالفوا ، فكان عيسى يخبرهم بما أكلوه وما ادّخروا في بيوتهم ، وعوقبوا على ذلك . وأتى بهذه الخوارق الأربع مصدرة بالمضارع الدال على التجدد ، والحالة الدائمة : وبدأ بالخلق إذ هو أعظم في الإعجاز ، وثنى بإبراء الأكمه والأبرص ، وأتى ثالثاً بإحياء الموتى ، وهو خارق شاركه فيه غيره بإذن اللّه تعالى ، وكرر : بإذن اللّه ، دفعاً لمن يتوهم فيه الآلُوهية ، وكان ، بإذن اللّه ، عقب قوله : أني أخلق ، وعطف عليه : وأبرىء الأكمه والأبرص ، ولم يذكر : بإذن اللّه ، اكتفاء به في الخارق الأعظم ، وعقب قوله : وأحيى الموتى ، بقوله : بإذن اللّه ، وعطف عليه : وأنبئكم ، ولم يذكر فيه ، بإذن اللّه ، لأن إحياء الأموات أعظم من الإخبار بالمغيبات ، فاكتفى به في الخارق الأعظم أيضاً ، فكل واحد من الخارقين الأعظمين قيد بقوله : بإذن اللّه ، ولم يحتج إلى ذلك فيما عطف عليهما اكتفاء بالأول إذ كل هذه الخوارق لا تكون إلا بإذن اللّه . و : ما ، في : ما تأكلون وما تدخرون ، موصولة اسمية ، وهو الظاهر . وقيل : مصدري . وقرأ الجمهور : تدخرون ، بدال مشددة ، وأصله : إذتخر ، من الذخر ، أبدلت التاء دالاً ، فصار : إذدخر ، ثم أدغمت الذال في الدال ، فقيل : ادّخر ، كما قيل : ادكره . وقرأ مجاهد ، والزهري ، وأيوب السختياني ، وأبو السمال : تذخرون ، بذال ساكنة وخاء مفتوحة . وقرأ أبو شعيب السوسي ، في رواية عنه : وما تذدخرون ، بذال ساكنة ودال مفتوحة من غير إدغام ، وهذا الفك جائز . وقراءة الجمهور بالإدغام أجود ، ويجوز جعل بالدال ذالاً ، والإدغام فتقول : اذخر ، بالذال المعجمة المشددة . {إِنَّ فِي ذالِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ظاهر هذه الجملة أنها من كلام عيسى لاحتفافها بكلامه من قبلها ومن بعدها ، حكاه اللّه عنه . وقيل : هو من كلام اللّه تعالى ، استئناف صيغته صيغة الخبر ، ومعناه التوبيخ والتقريع ، وأشير بذلك إلى ما تقدم من جعل الطين طائراً ، والإبراء والإحياء والإنباء . وتقدم أن في مصحف ابن مسعود : آيات ، على الجمع ، فمن أفرد أراد الجنس وهو صالح للقليل والكثير ، ويعين المراد القرائن : اللفظية ، والمعنوية ، والحالية ، ومن جمع فعلى الأصل ، إذ هي : آيات ، وهي : آية في نفسها ، آمنوا أو كفروا ، فيحتمل أن يكون ثَمَّ صفة محذوفة حتى يتجه التعليق بهذا الشر ، أي : لآية نافعة هادئة لكم إن آمنتم ، ويكون خطاباً لمن لم يؤمن بعد ، وإن كان خطاباً لم آمن فذلك على سبيل التثبيت وتطمين النفس وهزها . كما تقول لإبنك : أطعني إن كنت إبني ، ومعلوم أنه ابنك ، ولكن تريد أن تهزه بذكر ما هو محقق . ذكر ما جعل معلقاً به ما قبله على سبيل أن يحصل ٥٠انظر تسفير الآية:٥١ ٥١ومصدقا لما بين . . . . . {وَمُصَدّقًا لّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } عطف و : مصدقاً ، على قوله : بآية إذ الباء فيه للحال ، ولا تكون للتعدية لفساد المعنى ، فالمعنى : وجئتكم مصحوباً بآية من ربكم ، ومصدقاً لما بين يدي . ومنعوا أن يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : رسولاً إلى بني إسرائيل ، ولا على : وجيهاً ، لما يلزم من كون الضمير في قوله : لما بين يدي ، غائباً . فكان يكون : لما بين يديه ، وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله : ورسولاً ، أن يكون منصوباً بإضمار فعل ، أي : وأرسلت رسولاً ، فعلى هذا التقدير يكون : ومصدقاً ، معطوفاً على : ورسولاً . ومعنى تصديقه للتوراة الإيمان بها وإن كانت شريعته تخالف في أشياء . قال وهب بن منبه : كان يسبت ويستقبل بيت المقدس . {وَلاِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرّمَ عَلَيْكُمْ } قال ابن جريج : أحل لهم لحوم الأبل والشحوم . وقال الربيع : وأشياء من السمك وما لا ضئضئة له من الطير ، وكان ذلك في التوراة محرماً . وقال بعض المفسرين : حرم عليكم ، إشارة إلى ما حرمه الأحبار بعد موسى وشرعوه ، فكأن عيسى ردّ أحكام التوراة إلى حقائقها التي نزلت من عند اللّه . إنتهى كلامه . واختلفوا في إحلاله لهم السبت . وقرأ عكرمة : ما حرم عليكم ، مبنياً للفاعل ، والفاعل ضمير يعود على : ما ، من قوله : لما بين يدي ، أو يعود على : اللّه ، منزل التوراة ، أو على : موسى ، صاحب التوراة . والظاهر الأول لأنه مذكور . وقرأ : حرم ، بوزن : كرم ، إبراهيم النخعي ، والمراد ببعض مدلولها المتعارف ، وزعم أبو عبيدة أن المراد به هنا معنى كل خطأ ، لأنه كان يلزم أن يحل لهم : القتل ، والزنا ، والسرقه ، لأن ذلك محرم عليهم ، واستدلاله على أن : بعضاً ، تأتي بمعنى : كل ، بقول لبيد : ترَّاك أمكنة إذا لم أرضها أو ترتبط بعض النفوس حمامها ليس بصحيح ، لأن بعضاً على مدلوله ، إذ يريد نفسه ، فهو تبعيض صحيح ، وكذلك استدلال من استدل بقوله : إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ ترى في بعضها خللا لصحة التبعيض ، إذ ليس كل ما دبره الأحداث يكون فيه الخلل . وقال بعضهم : لا يقوم : بعض ، مقام : كل إلا إذل دلت قرينة على ذلك ، نحو قوله : أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض يريد : بعض الشر أهون من كله . إنتهى . وفي ذكل نظر . واللام في : ولأحل لكم ، لام كي ، ولم يتقدم ما يسوغ عطفه عليه من جهة اللفظ ، فقيل : هو معطوف على المعنى ، إذ المعنى في : ومصدقاً ، أي : لأصدق ما بين يدي من التوراة ، ولأحل لكم . وهذا هو العطف على التوهم ، وليس هذا منه ، لأن معقولية الحال مخالفة لمعقولية التعليل ، والعطف على التوهم لا بد أن يكون المعنى متحداً في المعطوف والمعطوف عليه . ألا ترى إلى قوله : فأصدق وأكن كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض ؟ وكذلك قوله : تقي نقي لم يكثر غنيمة بنكهة ذي قربى ولا بحفلد كيف اتحد معنى النفي في قوله : لم يكثر ، ولا في قوله : ولا بحفلد ؟ أي : ليس بمكثر ولا بحفلد . وكذلك ما جاء من هذا النوع . وقيل : اللام تتعلق بفعل مضمر بعد الواو يفسره المعنى : أي وجئتكم لأحلّ لكم . وقيل : تتعلق اللام بقوله : وأطيعون ، والمعنى : واتبعون لأحل لكم ، وهذا بعيد جداً . وقال أبو البقاء : هو معطوف على محذوف تقديره : لأخفف عنكم ، أو نحو ذلك . وقال الزمخشري : ولأحل ، ردّ على قوله : بآية من ربكم ، أي : جئتكم بآية من ربكم ، لأن : بآية ، في موضع حال ، و : لأحل ، تعليل ، ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشترك في بالحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه ، فإن عطفت على مصدر ، أو مفعول به ، أو ظرف ، أو حال ، أو تعليل ، أو غير ذلك شاركه في ذلك المعطوف . {وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّه وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللّه رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } ظاهر اللفظ أن يكون قوله :{ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } للتأسيس لا للتوكيد ، لقوله : قد جئتكم بآية من ربكم ، وتكون هذه الآية قوله :{ إِنَّ اللّه رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } لأن هذا القول شاهد على صحة رسالته ، إذ جميع الرسل كانوا عليه لم يختلفوا فيه ، وجعل هذا القول آية وعلامة ، لأنه رسول كسائر الرسل ، حيث هداه للنظر في أدلة العقل والأستدلال . وكسر : إن ، على هذا القول لأن : قولاً ، قبلها محذوف ، وذلك القول بدل من الآية ، فهو معمول للبدل . ومن قرأ بفتح : أن ، فعلى جهة البدل من : آية ، ولا تكون الجملة من قوله : إن ، بالكسر مستأنفة على هذا التقدير من إضمار القول ، ويكون قوله : { فَاتَّقُواْ اللّه وَأَطِيعُونِ } جملة اعتراضية بين البدل والمبدل منه . وقيل : الآية الأولىفي قوله :{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ } هي معجزة . وفي قوله :{ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ } هي الآية من الإنجيل ، فاختلف متعلق المجيء ، ويجوز أن يكون { وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مّن رَّبّكُمْ } كررت على سبيل التوكيد ، أي جئتكم بآية بعد أخرى مما ذكرت لكم من : خلق الطير والإبراء والإحياء والإنباء بالخفيات ، وبغيره من ولادتي من غير أب ، ومن كلامي في المهد ، وسائر الآيات . فعلى بهذا من كسر : إن ، فعلى الأستئناف ، ومن فتح فقيل التقدير ، لأن اللّه ربي وربك فاعبدوه ، فيكون متعلقاً بقوله : فاعبدوه ، كقوله :{ لإِيلَافِ قُرَيْشٍ } ثم قال :{ فَلْيَعْبُدُواْ } فقدم : أن ، على عاملها . ومن جوز : أن تتقدم : أن ، ويتأخر عنها العامل في نحو هذا غير مصيب ، لا يجوز : أن زيداً منطلق عرفت ، نص على ذلك سيبويه وغيره ، ويجوز أن يكون المعنى : وجئتكم بآية على أن اللّه ربي وربكم ، وما بينهما اعتراض . و قال ابن عطية : التقدير : أطيعون لأن اللّه ربي وربكم . إنتهى . وليس قوله بظاهر . والأمر بالتقوى والطاعة تحذير ودعاء ، والمعنى أنه : تظاهر بالحجج والخوارق في صدقه ، فاتقوا اللّه في خلافي ، وأطيعون في أمري ونهيي . وقيل : اتقوا اللّه فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى ، وأطيعون فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم . وتكرار : ربي وربكم ، أبلغ في التزام العبودية من قوله : ربنا ، وأدل على التبري من الربوبية . {هَاذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي : طريق واضح لمن يسلكه لا اعوجاج فيه ، والإشارة بهذا إلى قوله :{ إِنَّ اللّه رَبّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ } أي إفراد اللّه وحده بالعبادة هو الطريق المستقيم ، ولفظ العبادة يجمع الإيمان والطاعات . وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة والبديع : إسناد الفعل للآمر به لا لفاعله ، في قوله : إن اللّه يبشرك ، اذ هم المشافهون بالبشارة ، واللّه الآمر بها . ومثله : نادى السلطان في البلد بكذا ، وإطلاق اسم السبب على المسبب في قوله : بكلمة منه ، على الخلاف الذي في تفسير : كلمة . والاحتراس : في قوله : وكهلاً ، من ما جرت به العادة أن من تكلم في حال الطفولة لا يعيش . والكناية : في قوله : ولم يمسسني بشر ، كنت بالمسّ عن الوطء ، كما كنى عنه : بالحرث ، واللباس ، والمباشرة . والسؤال والجواب في : قالت الملائكة وفي أنى يكون ؟ والتكرار : في : جئتكم بآية . وفي : أنى أخلق لكم . و ، في : الطير ، وفي : بإذن اللّه ، وفي : ربي وربكم ، وفي : ما ، في قوله : بما تأكلون وما . والتعبير عن الجمع بالمفرد في : الآية ، وفي : الأكمة والأبرص ، وفي : إذا قضى أمراً . والطباق في : وأحيي الموتى ، وفي : لأحل وحرم والالتفات في : ونعلمه فيمن قرأ بالنون والتفسير بعد الإبهام في : من قال : الكتاب مبهم غير معين ، والتوراة والإنجيل تفسير له والحذف في عدة مواضع . ٥٢فلما أحس عيسى . . . . . الإحساس : الإدراك ببعض الحواس الخمس وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس . يقال : أحسست الشيء ، وحسست به . وتبدل سينه ياء فيقال : حسيت به ، أو تحذف أولى سنييه في أحسست فيقول : أحست . قال : سوى ان العتاق من المطايا أحسن به فهن إليه شوس وقال سيبويه : وما شذ من المضاعف ، يعني في الحذف ، فشبيه بباب : أقمت ، وذلك قولهم : أحست وأحسن يريدون : أحسست ، وأحسسن ، وكذلك يفعل بكل بناء تبنى لام الفعل فيه على السكون ولا تصل إليه الحركة ، فإذا قلت لم أحس لم تحذف . الحواري : صفوة الرجل وخاصته . ومنه قيل : الحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهنّ قال أبو جَلْذة اليشكري : فقل للحواريات تبكين غيرنا ولا تبكنا إلا الكلابُ النوابح ومثله في الوزن : الحوالي ، للكثير الحيل ، وليست الياء فيهما للنسب ، وهو مشتق من : الحور ، وهو البياض . حورت الثوب بيضته . المكر : الخداع والخبث وأصله الستر ، يقال : مكر الليل إذا أظلم واشتقاقه من المكر ، وهو شجر ملتف ، فكأن الممكور به يلتف به المكر ، ويشتمل عليه ، ويقال : امرأة ممكورة إذا كانت ملتفة الخلق . والمكر : ضرب من النبات . تعالى : تفاعل من العلو ، وهو فعل ، لاتصال الضمائر المرفوعة به ، ومعناه : استدعاء المدعوّ من مكانه إلى مكان داعيه ، وهي كلمة قصد بها أولاً تحسين الأدب مع المدعو ، ثم اطردت حتى يقولها الإنسان لعدّوه ولبهيمته ونحو ذلك . الابتهال : قوله بهلة اللّه على الكاذب ، والبهلة بالفتح والضم : اللعنة ، ويقال بهله اللّه : لعنه وأبعده ، من قولك أبهله إذا أهمله ، وناقة باهلة لا ضرار عليها ، وأصل الابتهال هذا ، ثم استعمل في كل دعاء يجتهد فيه ، وإن لم يكن التعاناً . وقال لبيد : من قروم سادة من قومهم نظر الدهر إليهم فابتهل {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } تقدّم ترتيب هذه الجملة على ما قبلها من الكلام ، وهل الحذف بعد قوله { صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أو بعد قوله :{ وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ } وذلك عند تفسير { وَرَسُولاً إِلَى بَنِى إِسْراءيلَ} قال مقاتل : أحس ، هنا رأى من رؤية العين أو القلب وقال الفراء : أحسّ وجد وقال أبو عبيدة : عرف . وقيل : علم وقيل : خاف . والكفر : هنا جحود نبوّته وإنكار معجزاته ، و : منهم ، متعلق بأحس قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكفر . {قَالَ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّه} لما أرادوا قتله استنصر عليهم ، قال مجاهد وقال غيره : إنه استنصر لما كفروا به وأخرجوه من قريتهم وقيل : استنصرهم لإقامة الحق . قال المغربي : إنما قال عيسى :{ مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّه } بعد رفعه إلى السماء وعوده إلى الأرض ، وجمع الحواريين الأثني عشر ، وبثهم في الآفاق يدعون إلى الحق ، وما قاله من أن ذلك القول كان بعد ما ذكر بعيد جداً ، لم يذكره غيره بل المنقول . والظاهر أنه قال ذلك قبل رفعه إلى السماء . قال السدّي : من أعواني مع اللّه وقال الحسن : من أنصاري في السبيل إلى اللّه وقال أبو علي الفارسي معنى : إلى اللّه : للّه ، كقوله :{ يَهْدِى إِلَى الْحَقّ } أي للحق وقيل : من ينصرني إلى نصر اللّه . وقيل : من ينقطع معي إلى اللّه ، قاله ابن بحر وقيل : من ينصرني إلى أن أبين أمر اللّه وقال أبو عبيدة : من أعواني في ذات اللّه ؟ و قال ابن عطية : من أنصاري إلى اللّه . عبارة عن حال عيسى في طلبه من يقوم بالدين ، ويؤمن بالشرع ويحميه ، كما كان محمد صلى اللّه عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل ، ويتعرض للأحياء في المواسم . انتهى وقال الزمخشري وإلى اللّه من صلة أنصاري ؟ مضمناً معنى الإضافة ، كأنه قيل : من الذين يضيفون أنفسهم إلى اللّه ينصرونني كما ينصرني ؟ أو يتعلق بمحذوف حالاً من الياء ، أي : من أنصاري ذاهباً إلى اللّه ملتجئاً إليه ؟ انتهى . {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } أي أصفياء عيسى . قاله ابن عباس . أو : خواصه ، قاله الفراء . أو : البيض الثياب ، رواه ابن جبير عن ابن عباس . أو : القصارون ، سموا بذلك لأنهم يجودون الثياب ، أي يبيضونها ، قاله الضحاك ، ومقاتل . أو : المجاهدون ، أو الصيادون ، قال لهم عيسى على نبينا وعليه السلام : ألا تمشون معي تصطادون الناس للّه ؟ فأجابوا . قال مصعب : كانوا اثني عشر رجلاً يسيحون معه ، يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض ، فقالوا : من أفضل منا ؟ نأكل من أين شئنا . فقال عيسى : من يعمل بيده ؟ ويأكل من كسبه ؟ فصاروا قصَّارين وحكى ابن الأنباري : الحواريون : الملوك وقال الضحاك ، وأبو أرطاة : الغسالون وقال ابن المبارك : الحوار النور ، ونسبوا إليه لما كان في وجوههم من سيما العبادة ونورها وقال تاج القراء : الحواري : الصديق . قيل : لما أراهم الآيات وضع لهم ألواناً شتى من حب واحد آمنوا به واتبعوه وقرأ الجمهور : الحواريون ، بتشديد الياء . وقرأ إبراهيم النخعي ، وأبو بكر الثقفي ، بتخفيف الياء في جميع القرآن ، والعرب تستثقل ضمة الياء المكسور ما قبلها في مثل : القاضيون ، فتنقل الضمة إلى ما قبلها وتحذف الياء لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها ، فكان القياس على هذا أن يقال : الحوارون ، لكن أقرت الضمة ولم تنقل دلالة على أن التشديد مراد ، إذ التشديد يحتمل الضمة كما ذهب إليه الأخفش في : يستهزئون ، إذ أبدل الهمزة ياءً ، وحملت الضمة تذكراً لحال الهمزة المراد فيها . {نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه} أي : أنصار دينه وشرعه . والداعي إليه . {بِاللّه وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَا } لما ذكروا أنهم أنصار اللّه ذكروا مستند لإيمانهم ، لأن انقياد الجوارح تابعة لانقياد القلب وتصديقه ، والرسل تشهد يوم القيامة لقومهم ، وعليهم . ودل ذلك على أن عيسى عليه السلام كان على دين الإسلام ، برأه اللّه من سائر الأديان كما برأ إبراهيم بقوله :{ مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا } الآية ، ويحتمل أن يكون : واشهد ، خطاباً للّه تعالى أي : واشهد يا ربنا ، وفي هذا توبيخ لنصارى نجران ، إذ حكى اللّه مقالة أسلافهم المؤمنين لعيسى ، فليس كمقالهم فيه ، ودعوى الإلهية له . ٥٣ربنا آمنا بما . . . . . {رَبَّنَا ءامَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ } أي : من الآيات الدالة على صدق أنبيائك ، أو : بما أنزلت من كلامك على الرسل أو بالإنجيل . {وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ } هو : عيسى على قول الجمهور . {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } هم : محمد صلى اللّه عليه وسلم وأمّته ، لأنهم يشهدون للرسل بالتبليغ ، ومحمد صلى اللّه عليه وسلم يشهد لهم بالصدق . روى ذلك عكرمة عن ابن عباس ، أو : من آمن قبلهم ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . أو : الأنبياء لأن كل نبي شاهد على أمّته . أو : الصادقون ، قاله مقاتل . أو : الشاهدون للأنبياء بالتصديق ، قاله الزجاج . أو : الشاهدون لنصرة رسلك ، أو : الشاهدون بالحق عندك ، رغبوا في أن يكونوا عنده في عداد الشاهدين بالحق من مؤمني الأمم ، وعبروا عن فعل اللّه ذلك بهم بلفظ : فاكتبنا ، إذ كانت الكتابة تقيد وتضبط ما يحتاج إلى تحقيقه وعلمه في ثاني حال . ٥٤ومكروا ومكر اللّه . . . . . {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّه} الضمير في : مكروا ، عائد على من عاد عليه الضمير في :{ فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ } وهم : بنو إسرائيل ، ومكرهم هو احتيالهم في قتل عيسى بأن وكلوا به من يقتله غيلة ، وسيأتي ذكر كيفية حصره وحصر أصحابه في مكان ، ورومهم قتله وإلقاء الشبه على رجل ، وقتل ذلك الرجل وصلبه في مكانه ، إن شاء اللّه . {وَمَكَرَ اللّه} مجازاتهم على مكرهم سمى ذلك مكراً ، لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر ، كقوله :{ وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا } وقوله { فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ } وكثيراً ما تسمى العقوبة باسم الذنب ، وإن لم تكن في معناه . وقيل : مكر اللّه بهم هو ردّهم عما أرادوا برفع عيسى إلى السماء ، وإلقاء شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل . وقال الأصم : مكر اللّه بهم أن سلط عليهم أهل فارس فقتلوهم وسبوا ذراريهم وذكر ابن إسحاق : أن اليهود غزوا الحواريين بعد رفع عيسى ، فأخذوهم وعذبوهم ، فسمع بذلك ملك الروم ، وكان ملك اليهود من رعيته ، فأنقذهم ثم غزا بني إسرائيل وصار نصرانياً ، ولم يظهر ذلك . ثمَ ولي ملك آخر بعدُ وغزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحوٍ من أربعين سنة ، فلم يترك فيه حجراً على آخر ، وخرج عند ذلك قريظة والنضير إلى الحجاز . وقال المفضل : ودبروا ودبر اللّه ، والمكر لطف التدبير وقال ابن عيسى : المكر قبيح ، وإنما جاز في صفة اللّه تعالى على مزاوجة الكلام وقيل : مكر اللّه بهم إعلاء دينه وقهرهم بالذل ، ومكرهم لزومهم إبطال دينه . والمكر عبارة عن الاحتيال في إيصال الشر في خفية ، وذلك غير ممتنع وقيل : المكر الأخذ بالغفلة لمن استحقه ، وسأل رجل الجنيد ، فقال : كيف رضي اللّه سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما تقول ، ولكن أنشدني فلان الظهراني : ويقبح من سواك الفعل عندي فتفعله فيحسن منك ذاكاً ثم قال : قد أجبتك إن كنت تعقل . {وَاللّه خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } معناه أي : المجازين أهل الخير بالفضل وأهل الجور بالعدل ، لأنه فاعل حق في ذلك ، والماكر من البشر فاعل باطل في الأغلب ، وقال تعالى :{ وَاللّه أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} وقيل : خير ، هنا ليست للتفضيل ، بل هي : كهي في قوله :{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } وقال حسان . فشركما لخيركما الفداء وفي هذه الآية من ضروب البلاغة : الاستعارة في : أحس ، إذ لا يحس إلا ما كان متجسداً ، والكفر ليس بمحسوس ، وإنما يعلم ويفطن به ، ولا يدرك بالحس إلاَّ إن كان أحس ، بمعنى رأى ، أو بمعنى : سمع منهم كلمة الكفر ، فيكون : أحس ، لا استعارة فيه ، إذ يكون أدرك ذلك منهم بحاسة البصر ، أو بحاسة الأذن ، وتسمية الشيء باسم ثمرته . قال الجمهور : أحس منهم القتل ، وقتل نبي من أعظم ثمرات الكفر . والسؤال والجواب في : قال { مَنْ أَنصَارِى إِلَى اللّه قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } والتكرار في : من أنصاري إلى اللّه ، وأنصار اللّه ، وآمنا باللّه ، وآمنا بما أنزلت ، ومكروا ومكر اللّه ، والماكرين ، وفي هذا التجنيس المماثل ، والمغاير ، والحذف ، في مواضع . ٥٥إذ قال اللّه . . . . . {إِذْ قَالَ اللّه ياعِيسَى عِيسَى إِنّي مُتَوَفّيكَ } العامل في : إذ ، ومكر اللّه قاله الطبري ، أو : اذكر ، قاله بعض النحاة ، أو : خير الماكرين ، قاله الزمخشري . وهذا القول هو بواسطة الملك ، لأن عيسى ليس بمكلم ، قاله ابن عطية : . و : متوفيك ، هي وفاة يوم رفعه اللّه في منامه ، قاله الربيع من قوله : { وَهُوَ الَّذِى يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ } أي : ورافعك وأنت نائم ، حتى لا يلحقك خوف ، وتستيقظ وأنت في السماء آمن مقرب . أو : وفاة موت ، قاله ابن عباس . وقال وهب : مات ثلاث ساعات ورفعه فيها ثم أحياه اللّه بعد ذلك في السماء ، وفي بعض الكتب : سبع ساعات . وقال الفراء : هي وفاة موت ، ولكن المعنى : متوفيك في آخر أمرك عند نزولك وقتلك الدجال ، وفي الكلام تقديم وتأخير . وقال الزمخشري : مستوفي أجلك ، ومعناه أي : عاصمك من أن يقتلك الكفار ، ومؤخرك إلى أجل كتبته لك ، ومميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم . وقيل : متوفيك : قابضك من الأرض من غير موت ، قاله الحسن ، والضحاك ، وابن زيد ، وابن جريج ، ومطر الوراق ، ومحمد بن جعفر ابن الزبير ، من : توفيت مالي على فلان إذا استوفيته . وقيل : أجعلك كالمتوفى ، لأنه بالرفع يشبهه وقيل : آخذك وافياً بروحك وبدنك وقيل : متوفيك : متقبل عملك ، ويضعف هذا من جهة اللفظ وقال أبو بكر الواسطي : متوفيك عن شهواتك . قال ابن عطية : وأجمعت الأمة على ما تضمنه الحديث المتواتر من : { أن عيسى في السماء حي ، وأنه ينزل في آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويقتل الدجال ، ويفيض العدل ، وتظهر به الملة ، ملة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويحج البيت ، ويعتمر ، ويبقى في الأرض أربعاً وعشرين سنة } وقيل : أربعين سنة . انتهى . {وَرَافِعُكَ إِلَىَّ } الرفع نقل من سفل إلى علو ؛ و : إليّ ، إضافة تشريف . والمعنى : إلى سمائي ومقر ملائكتي . وقد علم أن الباري تعالى ليس بمتحيز في جهة ، وقد تعلق بهذا المشبهة في ثبوت المكان له تعالى وقيل : إلى مكان لا يملك الحكم فيه في الحقيقة ولا في الظاهر إلاَّ أنا ، بخلاف الأرض ، فإنه قد يتولى المخلوقون فيها الأحكام ظاهراً وقيل : إلى محل ثوابك . قال ابن عباس : رفعه إلى السماء ، سماء الدنيا ، فهو فيها يسبح مع الملائكة ، ثم يهبطه اللّه عند ظهور الدجال على صخرة بيت المقدس قيل : كان عيسى على طور سيناء ، وهبت ريح فهرول عيسى فرفعه اللّه في هرولته ، وعليه مدرعة من شعر . وقال الزجاج : كان عيسى في بيت له كوة ، فدخل رجل ليقتله ، فرفع عيسى من البيت وخرج الرجل في شبه عيسى يخبرهم أن عيسى ليس في البيت ، فقتلوه . وروي أبو بكر بن أبي شيبة ، عن ابن عباس قال : رفع اللّه عيسى من روزنة كانت في البيت . {وَمُطَهّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } جعل الذين كفروا دنساً ونجساً فطهره منهم ، لأن صحبة الأشرار وخلطة الفجار تتنزل منزلة الدنس في الثوب ، والمعنى : أنه تعالى يخلصه منهم ، فكنى عن إخراجه منهم وتخليصه بالتطهير ، وأتى بلفظ الظاهر لا بالضمير ، وهو : الذين كفروا ، إشارة إلى علة الدنس والنجس وهو الكفر ، كما قال :{ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } وكما جاء في الحديث : { المؤمن لا ينجس } فجعله علة تطهيره الإيمان . وقيل : مطهرك من أذى الكفرة . وقيل : من الكفر والفواحش . وقيل : مما قالوه فيك وفي أمك . وقيل : ومطهرك أي مطهر بك وجه الناس من نجاسة الكفر والعصيان . وقال الراغب : متوفي : آخذك عن هواك ، ورافعك إلي عن شهواتك ، ولم يكن ذلك رفعاً مكانياً وإنما هو رفعة المحل ، وإن كان قدر رفع إلى السماء ، وتطهيره من الكافرين إخراجه من بينهم . وقيل : تخليصه من قتلهم ، لأن ذلك نجس طهره اللّه منه . قال أبو مسلم : التخليص والتطهير واحد ، إلاَّ أن لفظ التطهير فيه رفعة للمخاطب ، كما أن الشهود والحضور واحد ، وفي الشهود رفعة . ولهذا ذكره اللّه في المؤمنيٌّ ، وذكر الحضور والإحضار في الكافرين . {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ } الكاف : ضمير عيسى كالكاف السابقة . وقيل : هو خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو من تلوين الخطاب . إنتهى هذا القول ، ولا يظهر . ومعنى اتبعوك : أي في الدين والشريعة ، وهم المسلمون . لأنهم متبعوه في أصل الإسلام وإن اختلفت الشرائع . {فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } معلونهم بالحجة ، وفي أكثر بالأحوال بها وبالسيف ، والذين كفروا هم الذين كذبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى ، قاله الزمخشري ، بتقديم وتأخير في كلامه . فالفوقية هنا بالحجة والبرهان ، قاله الحسن . أو : بالعز والمنعة ، قاله ابن زيد . فهم فوق اليهود ، فلا تكون لهم مملكة كما للنصارى . فالآية ، على قوله ، مخبرة عن إذلال اليهود وعقوبتهم بأن النصارى فوقهم في جميع أقطار الأرض إلى يوم القيامة ، فخصص ابن زيد المتبعين والكافرين ، وجعله حكماً دنيوياً لافضلية فيه للمتبعين الكفار ، بل كونهم فوق اليهود عقوبة لليهود . وقال الجمهور : بعموم المتبعين ، فتدخل في ذلك أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، نص عليه قتادة ، وبعموم الكافرين . والآية تقتضي إعلام عيسى أن أهل الإيمان به كما يحب هم فوق الذين كفروا بالحجة والبرهان والعزة والمنعة والغلبة ، ويظهر عن عبارة ابن جريج أن المتبعين له هم في وقت استنصاره ، وهم الحواريون ، جعلهم اللّه فوق الكافرين لأنه شرفهم ، وأبقى لهم في الصالحين ذكراً ، فهم فوقهم بالحجة والبرهان ، وما ظهر عليهم من رضوان اللّه . وقيل : فوق الذين كفروا يوم القيامة في الجنة ، إذ هم في الغرفات ، والذين كفروا في أسفل سافلين في الدركات . وتلخص من أقوال هؤلاء المفسرين أن متبعيه هم متبعوه في أصل الإسلام ، فيكون عاماً في المسلمين ، وعاماً في الكافرين ، أوهم متبعوه في الإنتماء إلى شريعته ، وإن لم يتبعوها حقيقة ، يكون الكافرون خاصاً باليهود ، أو متبعوه هم الحواريون ، والكافرون : من كفر به . وأما الفوقية فإما حقيقة وذلك بالجنة والنار ، وإما مجازاً أي : بالحجة والبرهان ، فيكون ذلك دينياً ، و : إما بالعزة والغلبة فيكون ذلك دنيوياً ، وإما بهما . {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } الظاهر أن : إلى ، تتعلق بمحذوف ، وهو العامل في : فوق ، وهو المفعول الثاني : لجاعل ، إذ معنى جاعل هنا مصير ، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة ، وهذا على أن الفوقية مجاز ، وأما إن كانت الفوقية حقيقة ، وهي الفوقية بالجنة ، فلا تتعلق : إلى ، بذلك المحذوف ، بل بما تقدّم من : متوفيك ، أو من : رافعك ، أو من : مطهرك ، إذ يصح تعلقه بكل واحد منها ، أما برافعك أو مطهرك ، فظاهر . وأما بمتوفيك فعلى بعض الأقوال . وهذه الأخبار الأربعة ترتيبها في غاية الفصاحة ، بدأ أولاً : بإخباره تعالى لعيسى أنه متوفيه ، فليس للماكرين به تسلط عليه ولا توصل إليه ، ثم بشره ثانياً : برفعه إلى سمائه وسكناه مع ملائكته وعبادته فيها ، وطول عمره في عبادة ربه . ثم ثالثاً : برفعه إلى سمائه بتطهيره من الكفار ، فعم بذلك جميع زمانه حين رفعه ، وحين ينزله في آخر الدنيا فهي بشارة عظيمة له أنه مطهر من الكفار أولاً وآخراً . ولما كان التوفي والرفع كل منهما خاص بزمان ، بدىء بهما . ولما كان التطهير عاماً يشمل سائر الأزمان أخر عنهما ، ولما بشره بهذه البشائر الثلاث ، وهو أوصاف له في نفسه ، بشره برفعة أتباعه فوق كل كافر ، لتقرّ بذلك عينه ، ويسر قلبه . ولما كان هذا الوصف من إعتلاء تابعيه على الكفار من أوصاف تابعيه ، تأخر عن الأوصاف الثلاثة التي لنفسه ، إذ البداءة بالأوصاف التي للنفس أهم ، ثم أتبع بهذا الوصف الرابع على سبيل التبشير بحال تابعيه في الدنيا ، ليكمل بذلك سروره بما أوتيهن ، وأوتى تابعوه من الخير . {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } هذا إخبار بالحشر والبعث ، والمعنى ثم إلى حكمي ، وهذا عندي من الالتفات ، لأنه سبق ذكر مكذبيه : وهم اليهود ، وذكر من آمن به ؛ وهم الحواريون . وأعقب ذلك قوله :{ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } فذكر متبعيه والكافرين ، فلو جاء على نمط هذا السابق لكان التركيب : ثم إليّ مرجعهم ، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ، ليكون الإخبار أبلغ في التهديد ، وأشد زجراً لمن يزدجر . ثم ذكر لفظة : إليّ ، ولفظة : فأحكم ، بضمير المتكلم ، ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية ، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم ، وأتى بالحكم مبهماً ، ثم فصل المحكوم بينهم إلى : كافر ومؤمن ، وذكر جزاء كل واحد منهم . و قال ابن عطية : مرجعكم ، الخطاب لعيسى ، والمراد الإخبار بالقيامة والحشر ، فلذلك جاء اللفظ عاماً من حيث الأمر في نفسه لا يخص عيسى وحده ، فخاطبه كما يخاطب الجماعة ، إذ هو أحدها ، وإذ هي مرادة في المعنى . إنتهى كلامه . والأولى عندي أن يكون من الالتفات كما ذكرته . ٥٦فأما الذين كفروا . . . . . {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ } قيل : يحتمل أن يكون خاصاً ، أي : كفروا بك وجحدوا نبوّتك ، والظاهر العموم ، ويجوز أن يكون الذين ، مبتدأ ويجوز أن يكون منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال . {فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } وصف العذاب بالشدّة لتضاعفه وازدياده . وقيل : لاختلاف أجناسه . {فِى الدُّنْيَا } بالأسر والقتل والجزية والذل ، ومن لم ينله شيء من هذا فهو على وجل ، إذ يعلم أن الإسلام يطلبه . {وَالاْخِرَةِ } بعذاب النار . وهذا إخبار منه تعالى بما يفعل بالكافر من أول أمره في دنياه إلى آخر أمره في عقباه . {وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ } تقدّم تفسير هذه الجملة في هذه السورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . ٥٧وأما الذين آمنوا . . . . . {وَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ } بدأ أولاً بقسم الكفار ، لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار ، والإخبار بجزائهم ، فناسبت البداءة بهم ، ولأنهم أقرب في الذكر بقوله :{ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وبكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى وراموا قتله ، ثم أتى ثانياً بذكر المؤمنين ، وعلق هناك العذاب على مجرَّد الكفر ، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيهاً على درجة الكمال في الإيمان ، ودعاء إليها . والتوفية : دفع الشيء وافياً من غير نقص ، والأجور : ثواب الأعمال ، شبهه بالعامل الذي يوفى أجره عند تمام عمله . وتوفية الأجور هي : قسم المنازل في الجنة بحسب الأعمال على ما رتبها تعالى ، وفي الآية قبلها قال :{ فَأُعَذّبُهُمْ } أسند الفعل إلى ضمير المتكلم وحده ، وذلك ليطابق قوله :{ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } وفي هذه الآية قال : فيوفيهم ، بالياء على قراءة حفص ، ورويس ، وذلك على سبيل الالتفات والخروج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة . وقرأ الجمهور : فنوفيهم ، بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ، ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الإخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن ، كما خالف في الفعل ، ولأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند اللّه ، فناسبه الإخبار عن المجازي بنون العظمة . ويجوز أن يكون : الذين آمنوا ، مبتدأ ، ويجوز انتصابه على إضمار فعل يفسر ما بعده ، ويكون ذلك من باب الإشتغال ، كقوله :{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } فيمن نصب الدال . {وَاللّه لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } تقدّم تفسير ما يشبه هذا ، وهو قوله :{ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } واحتج المعتزلة بهذا على أنه تعالى لا يريد الكفر والمعاصي ، لأن مريد الشيء محب له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال ، وإنما تخالف المحبة الإرادة إذا علقتا بالأشخاص ، فيقال : أحب زيداً ، ولا يقال : أريده ، وأمّا الأفعال فهما فيها واحد ، فقوله : لا يحب : لا يريد ظلم الظالمين ، هكذا قرره عبد الجبار ، وعند أصحابنا المحبة عبارة عن إرادة إيصال الخير له ، فهو تعالى ، وإن أراد كفر الكافر ، لا يريد إيصال الثواب إليه . ٥٨ذلك نتلوه عليك . . . . . {ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ } ذلك : إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما ، و : نتلوه ، نسرده ونذكره شيئاً بعد شيء ، وأضاف التلاوة إلى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفاً له ، جعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر ، وفي : نتلوه ، التفات ، لأن قبله ضمير غائب في قوله : لا يحب ، ونتلوه : معناه تلوناه ، كقوله :{ وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّياطِينِ } ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال ، لأن قصة عيسى لم يفرغ منها ، ويكون : ذلك ، بمعنى : هذا . والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن ، ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات ، أي : نأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا ، وبسبب تلاوتنا ، وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب ، فهي آيات لنبوتك . قالن ابن عباس ، والجمهور : والذكر : القرآن والحكيم أي : الحاكم ، أتى بصيغة المبالغة فيه ، ووصف بصفة من هو من سببه وهو اللّه تعالى ، أو : كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه . قال الزجاج : لأنه ذو حكمة في تأليفه ونظمه ، ويجوز أن يكون بمعنى المحكم ، قاله الجمهور ، أحكم عن طرق الخلل ، ومنه قوله :{ الر كِتَابٌ } ويكون : فعيل ، بمعنى : مفعل ، وهو قليل ، ومنه : أعقدت العسل فهو معقد وعقيد ، وأحبست فرساً في سبيل اللّه فهو محبس وحبيس . وقيل : المراد بالذكر هنا اللوح المحفوظ الذي منه نقلت جميع كتب اللّه المنزلة على الأنبياء ، أخبر أنه أنزل هذه القصص مما كتب هناك . و : ذلك ، مبتدأ ، و : نتلوه ، خبر و : من الآيات ، متعلق بمحذوف لأنه في موضع الحال ، أي : كائناً من الآيات . و : من ، للتبعيض لأن هذا المتلو بعض الآيات والذكر ، وجوّزوا أن يكون : من الآيات ، خبراً بعد خبر ، وذلك على رأي من يجيز تعداد الأخبار بغير حرف عطف ، إذا كان لمبتدأ واحد ، ولم يكن في معنى خبر واحد ، وجوّزوا أن يكون : من ، لبيان الجنس ، وذلك على رأي من يجيز أن تكون : من ، لبيان الجنس . ولا يتأتى ذلك هنا من جهة المعنى إلاَّ بمجاز ، لأن تقدير : من ، البيانية بالموصول . ولو قلت : ذلك نتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم ، لاحتيج إلى تأويل ، لأن هذا المشار إليه من نبأ من تقدم ذكره ليس هو جميع الآيات ، والذكر الحكيم إنما هو بعض الآيات ، فيحتاج إلى تأويل أنه جعل بعض الآيات ، والذكر هو الآيات ، والذكر على سبيل المجاز . وممن ذهب إلى أنها لبيان الجنس : أبو محمد بن عطية ، وبدأ به ، ثم قال : ويجوز أن تكون للتبعيض وجوّزوا أن يكون ذلك منصوباً بفعل محذوف يفسره ما بعده ، فيكون من باب الإشتغال ، أي : نتلو ذلك نتلوه عليك ، والرفع على الإبتداء أفصح لأنه عرى من مرجح النصب على الإشتغال ؛ فزيدٌ ضربته ، أفصح من : زيداً ضربته ، وإن كان عربياً ، وعلى هذا الإعراب يكون : نتلوه ، لا موضع له من الإعراب ، لأنه مفسر لذلك الفعل المحذوف ، ويكون : من الآيات ، حالاً من ضمير النصب في : نتلوه . وأجاز الزمخشري أن يكون : ذلك ، بمعنى : الذي ، و : نتلوه ، صلته . و : الآيات ، الخبر . وقاله الزجاج قبله ، وهذه نزعة كوفية ، يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة ، ولا يجوز ذلك عند البصريين ، إلاَّ في : ذا ، وحدها إذا سبقها : ما ، الإستفهامية باتفاق ، أو : من ، الإستفهامية باختلاف . وتقرير هذا في علم النحو . وجوّزوا أيضاً أن يكون : ذلك ، مبتدأ و : من الآيات ، خبر . و : نتلوه ، حال . وأن يكون : ذلك ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك . و : نتلوه ، حال . والظاهر في قوله : { وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ } أنه معطوف على الآيات ، ومن جعلها للقسم وجواب القسم :{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } فقد أبعد . ٥٩إن مثل عيسى . . . . . {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّه كَمَثَلِ ءادَمَ } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى اللّه عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد اللّه ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه} . فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا ، فنزلت . وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله فنزلت . وروي وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : { كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما للّه ولد . قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه . فأنزل { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم :{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً} وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال . وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله :{ مَّثَلُ الْجَنَّةِ } وفي هذا إقرار الكاف في قوله :{ كَمَثَلِ ءادَمَ } على معناها التشبيهي . و قال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن اللّه تعالى خلقه من تراب من غير فحل . وكذلك { مَّثَلُ الْجَنَّةِ } عبارة عن المتصوّر منها . وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى . والكاف في { كَمَثَلِ ءادَمَ } اسم على ما ذكرناه من المعنى . إنتهى كلامه . ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال . أو بمعنى الصفة ، وفي { ري الظمآن} قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه . على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه . والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال . إنتهى . ومن جعل المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه . قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره . وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة . وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال . وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب اللّه المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان . وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات . والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب . وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين } آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب اللّه منها الدنيا . وفي العبودية ، وفي النبوّة . وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى اللّه . وفي الصورة ، وفي الرفع إلى بالسماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد للّه . وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال :{ إِنّى عَبْدُ اللّه } وفي العلم ، قال :{ وَعَلَّمَ ءادَمَ الاسْمَاء } وقال :{ وَيُعَلّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } وفي نفخ الروح فيهما { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى }{ فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند اللّه أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو . أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه . والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده اللّه خارجاً عما استقروا واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى :{ رَّحِيمٌ يأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى } والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له . قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له . قالوا : كان يحيي الموتى . قال : فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف . فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص . قال : فجر جيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً . إنتهى . وصح أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ اللّه نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ اللّه له بصره . وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ اللّه عليه بصره . {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } هي من تسمية الشيى باسم أصله . كقوله { اللّه الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم . كما قال :{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مّن طِينٍ } وقال تعالى :{ إِنّى خَالِقٌ بَشَراً مّن طِينٍ } وقال :{ قَالَ أَءسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب . وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه . قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه . قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل . إنتهى كلامه . وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } أي أنشأه بشراً ، قاله الزمشخري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم . قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء . لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله :{ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى { ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن } عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار . فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره . قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر . و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك . وقال الراغب : ومعنى : كن . بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروج . وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً . إنتهى . والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي . ٦٠الحق من ربك . . . . . {الْحَقُّ مِن رَّبّكَ } جملة من مبتدأ وخبر ، أخبر تعالى أن الحق ، وهو الشيء الثابت الذي لا شك فيه هو وارد إليك من ربك ، فجميع ما أنبأك به حق ، فيدخل فيه قصة عيسى وآدم وجميع أنبائه تعالى ، ويجوز أن يكون : الحق ، خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو . أي : خبر عيسى في كونه خلق من أم فقط هو الحق ، و : من ربك ، حال أو : خبر ثان وأخبر عن قصة عيسى بأنها حق . ومع كونها حقاً فهي إخبار صادر عن اللّه . {فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ } قيل : الخطاب بهذا لكل سامع قصة عيسى ، والأخبار الواردة من اللّه تعالى . وقيل : المراد به أمّة من ظاهر الخطاب له . قال الزمخشري : ونهيه عن الامتراء وجل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يكون ممترياً ، من باب التهييج لزيادة الثبات والطمأنينة ، وأن يكون لطفاً لغيره . وقال الراغب : الامتراء استخراج الرأي للشك العارض ، ويجعل عبارة عن الشك ، وقال : فلا تكن من الممترين ولم يكن ممترياً ليكون فيه ذمّ من شك في عيسى . ٦١فمن حاجك فيه . . . . . {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ } أي : من نازعك وجادلك ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين ، وكان الأمر كذلك بينه صلى اللّه عليه وسلم وبين وفد نجران . والضمير في : فيه ، عائد على عيسى ، لأن المنازعة كانت فيه ، ولأن تصدير الآية السابقة في قوله :{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى } وما بعده جاء من تمام أمره ، وقيل : يعود على الحق ، وظاهر من العموم في كل من يحاجّ في أمر عيسى . وقيل : المراد وفد نجران . و : من ، يصح أن تكون موصولة ، ويصح أن تكون شرطية ، و : العلم هنا : الوحي الذي جاء به جبريل ، وقيل : الآيات المتقدّمة في أمر عيسى ، الموجبة للعمل . و : ما ، في : ما جاءك ، موصولة بمعنى : الذي ، وفي : جاءك ، ضمير الفاعل يعود عليها . و : من العلم ، متعلق بمحذوف في موضع الحال ، أي : كائناً من العلم . وتكون : من ، تبعيضية . ويجوز أن تكون لبيان الجنس على مذهب من يرى ذلك ، قال بعضهم ، ويخرج على قول الأخفش : أن تكون : ما ، مصدرية ، و : من ، زائدة ، والتقدير : من بعد مجيء العلم إياك . {فَقُلْ تَعَالَوْاْ } قرأ الجمهور بفتح اللام وهو الأصل والقياس ، إذا التقدير تفاعل ، وألفة منقلبة عن ياء وأصلها واو ، فإذا أمرت الواحد قلت : تعال ، كما تقول : إخش واسعَ . وقرأ الحسن ، وأبو واقد ، وأبو السمال : بضم اللام ، ووجههم أن أصله : تعاليوا ، كما تقول : تجادلوا ، نقل الضمة من الياء إلى اللام بعد حذف فتحتها ، فبقيت الياء ساكنة وواو الضمير ساكنة فخذفت الياء لإلتقاء الساكنين ، وهذا تعليل شذوذ . {نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } أي : يدعُ كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إلى المباهلة . وظاهر هذا أن الدعاء والمباهلة بين المخاطب : بقل : وبين من حاجه ، وفسر على هذا الوجه : الأبناء بالحسن والحسين ، و : بنسائه : فاطمة ، و : الأنفس بعلىّ . قال الشعبي : ويدل على أن ذلك مختص بالنبي صلى اللّه عليه وسلم مع حاجة ما ثبت في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص ، قال : لما نزلت هذه الآية :{ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ } دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : فاطمة وحسناً وحسيناً ، فقال : { اللّهم هؤلاء أهلي} . وقال قوم : المباهلة كانت عليه وعلى المسلمين ، بدليل ظاهر قوله ندع أبناءنا وأبناءكم على الجمع ، ولما دعاهم دعا بأهله الذين في حوزته ، ولو عزم نصارى نجران على المباهلة وجاؤا لها ، لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم المسلمين أن يخرجوا بأهاليهم لمباهلته . وقيل : المراد : بأنفسنا ، الإخوان ، قاله ابن قتتيبة . قال تعالى : { وَلاَ تَلْمِزُواْ أَنفُسَكُمْ } أي : إخوانكم . وقيل : أهل دينه ، قاله أبو سليمان الدمشقي . وقيل : الأزواج ، وقيل : أراد القرابة القريبة ، ذكرهما عليّ بن أحمد النيسابوري . {ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي : ندع بالالتعان . وقيل : نتضرّع إلى اللّه ، قاله ابن عباس . وقال مقاتل : نخلص في الدعاء . وقال الكلبي : نجهد في الدعاء . وقيل : نتداعى بالهلاك . {فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللّه عَلَى الْكَاذِبِينَ } أي : يقول كل منا : لعن اللّه الكاذب منا في أمر عيسى ، وفي هذا دليل على جواز اللعن لمن أقام على كفره ، وقد لعن صلى اللّه عليه وسلم اليهود . قال أبو بكر الرازي : وفي الآية دليل على أن الحسن والحسين ابنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقال أبو أحمد بن علان : كانا إذ ذاك مكلفين ، لأن المباهلة عنده لا تصح إلاَّ من مكلف . وقد طوّل المفسرون بما رووا في قصة المباهلة ، ومضمونها أنه دعاهم إلى المباهلة ، وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعليّ إلى الميعاد ، وأنهم كفوا عن ذلك ، ورضوا بالإقامة على دينهم وأن يؤدّوا الجزية ، وأخبرهم أحبارهم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وأخبر هو صلى اللّه عليه وسلم أنهم إن باهلوا عذبوا ، وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بنبوّته شاهد عظيم على صحة نبوّته . قال الزمخشري : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاَّ لتبيين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء ؟ . قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله ، واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة . وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل ، وألصقهم بالقلوب . وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثم كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم ، وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس يفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السلام ، وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لأنه لم ير واحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك . إنتهى كلامه . و قال ابن عطية : وما رواه الرواة من أنهم تركوا الملاعنة لعلمهم بنبوّته أحج لنا على سائر الكفرة ، وأليق بحال محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ودعاء النساء والأبناء للملاعنة أهز للنفوس وأدعى لرحمة اللّهأو لغضبه على المبطلين ، وظاهر الأمر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جاءهم بما يخصه ، ولو عزموا استدعى المؤمنين بأبنائهم ونسائهم ، ويحتمل أنه كان يكتفي بنفسه وخاصته فقط . إنتهى . وفي الآية دليل على المظاهرة بطريق الإعجاز على من يدعي الباطل بعد وضوح البرهان بطريق القياس ، ومن أغرب الاستدلال ما استدلّ به من الآية محمد بن عليّ الحمصي . وكان متكلماً على طريق الإثنى عشرية . على : أن علينا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم. قال : وذلك أن قوله تعالى :{ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ } ليس المراد نفس محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأن الإنسان لا يدعو نفسه ، بل المراد غيره . وأجمعوا على أن الذي هو غيره : عليّ ، فدلت الآية على أن نفسه نفس الرسول ، ولا يمكن أن يكون عينها ، فالمراد مثلها ، وذلك يقتضي العموم إلاَّ أنه ترك في حق النبوّة الفضل لقيام الدليل ودل الإجماع على أنه كان صلى اللّه عليه وسلم أفضل من سائر الأنبياء ، فلزم أن يكون عليّ كذلك . قال : ويؤكد ذلك الحديث المنقول عنه من الموافق والمخالف : { من أراد أن يرى آدم في علمه ، ونوحاً في طاعته ، وإبراهيم في حلمه ، وموسى في قومه ، وعيسى في صفوته فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب} . فيدل ذلك على أنه اجتمع فيه ما كان متفرقاً فيهم . قال : وذلك يدل على أنه أفضل من جميع الأنبياء والصحابة . وأجاب الرازي : بأن الإجماع منعقد على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم أفضل ممن ليس بنبي ، وعليّ لم يكن نبياً ، فلزم القطع بأنه مخصوص في حق جميع الأنبياء . وقال الرازي : استدلال الحمصي فاسد من وجوه . منها قوله : إن الإنسان لا يدعو نفسه بل يجوز للإنسان أن يدعو نفسه ، تقول العرب : دعوت نفسي إلى كذا فلم تجبني ، وهذا يسميه أبو علي بالتجريد . ومنها قوله : وأجمعوا على أن الذي هو غيره هو عليّ ، ليس بصحيح ، بدليل الأقوال التي سيقت في المعنى بقوله : وأنفسنا . ومنها قوله : فيكون نفسه مثل نفسه ، ولا يلزم من المماثلة أن تكون في جميع الأشياء ، بل تكفي المماثلة في شيء مّا ، هذا الذي عليه أهل اللغة ، لا الذي يقوله المتكلمون : من أن المماثلة تكون في جميع صفات النفس ، هذا اصطلاح منهم لا لغة . فعلى هذا تكفي المماثلة في صفة واحدة ، وهي كونه من بني هاشم ، والعرب تقول : هذا من أنفسنا ، أي : من قبيلتنا . وأما الحديث الذي استدل به فموضوع لا أصل له . وهذه النزغة التي ذهب إليها هذا الحمصي من كون علي أفضل من الأنبياء عليهم السلام سوى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وتلقفها بعض من ينتحل كلام الصوفية ، ووسع المجال فيها ، فزعم أن الولي أفضل من النبي ، ولم يقصر ذلك على وليّ واحد ، كما قصر ذلك الحمصي ، بل زعم : أن رتبة الولاية التي لا نبوة معها أفضل من رتبة النبوة . قال : لأن الولي يأخذ عن اللّه بغير واسطة ، والنبي يأخذ عن اللّه بواسطة ومن أخذ بلا واسطة أفضل ممن أخذ بواسطة . وهذه المقالة مخالفة لمقالات أهل الإسلام . نعوذ باللّه من ذلك ، ولا أحد أكذب ممن يدعي أن الولي يأخذ عن اللّه بغير واسطة ، لقد يقشعرّ المؤمن من سماع هذا الافتراء وحكى لي من لا أتهمه عن بعض المنتمين ، إلى أنه من أهل الصلاح ، أنه رؤي في يده كتاب ينظر فيه ، فسئل عنه . فقال : فيه ما أخذته عن رسول اللّه ، وفيه ما أخذته عن اللّه شفاهاً ، أو شافهني به ، الشك من السامع . فانظر إلى جراءة هذا الكاذب على اللّه حيث ادعى مقام من كلمه اللّه : كموسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء قيل : وفي هذه الآية ضروب من البلاغة : منها إسناد الفعل إلى غير فاعله ، وهو : { إِذْ قَالَ اللّه ياعِيسَى عِيسَى } واللّه لم يشافهه بذلك ، بل بإخبار جبريل أو غيره من الملائكة . والاستعارة في :{ مُتَوَفّيكَ } وفي :{ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } والتفصيل لما أجمل في :{ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ } بقوله : فأما ، وأمّا ، والزيادة لزيادة المعنى في { مّن نَّاصِرِينَ } أو : المثل في قوله { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى} والتجوز بوضع المضارع موضع الماضي في قوله { نَتْلُوهُ } وفي { فَيَكُونُ } وبالجمع بين أداتي تشبيه على قول في { كَمَثَلِ ءادَمَ } وبالتجوز بتسمية الشيء باسم أصله في { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} وخطاب العين ، والمراد به غيره ، في { فَلاَ تَكُن مّنَ} والعام يراد به الخاص في { تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا } الآية والتجوز بإقامة ابن العم مقام النفس على أشهر الأقوال ، والحذف في مواضع كثيرة . ٦٢إن هذا لهو . . . . . {إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } هذا خبر من اللّه جزم مؤكد فصل به بين المختصمين ، والإشارة إلى القرآن على قول الجمهور ، والظاهر أنه إشارة إلى ما تقدم من أخبار عيسى ، وكونه مخلوقاً من غير أب ، قاله ابن عباس ، وابن جريج ، وابن زيد ، وغيرهم . أي : هذا هو الحق لا ما يدعيه النصارى فيه من كونه إلهاً أو ابن اللّه ، ولا ما تدعيه اليهود فيه ، وقيل : هذا إشارة إلى ما بعده من قوله { وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللّه } ويضعف بأن هذه الجملة ليست بقصص وبوجود حرف العطف في قوله : وما قال بعضهم إلاَّ إن أراد بالقصص الخبر ، فيصح على هذا ، ويكون التقدير : إن الخبر الحق أنه ما من إله إلاَّ اللّه . انتهى . لكن يمنع من هذا التقدير وجود واو العطف واللام في : لهو ، دخلت على الفصل . والقصص خبر إن ، والحق صفة له ، والقصص مصدر ، أو فعل بمعنى مفعول ، أي : المقصوص كالقبض ، بمعنى المقبوض ، ويجوز أن يكون : هو ، مبتدأ و : القصص ، خبره ، والجملة ، في موضع خبر إن ووصف القصص بالحق إشارة إلى القصص المكذوب الذي أتى به نصارى نجران ، وغيرهم ، في أمر عيسى وإلا هيته . {وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللّه} أي : المختص بالإلهية هو اللّه وحده ، وفيه ردّ على الثنوية والنصارى ، وكل من يدعي غير اللّه إلهاً . و : من ، زائدة لاستغراق الجنس ، و : إله ، مبتدأ محذوف الخبر ، و : اللّه ، بدل منه على الموضع ، ولا يجوز البدل على اللفظ ، لأنه يلزم منه زيادة : من ، في الواجب ، ويجوز في العربية في نحو هذا التركيب نصب ما بعد : إلاَّ ، نحو ما من شجاع إلاَّ زيداً ، ولم يقرأ بالنصب في هذه الآية ، وإن كان جائزاً في العربية النصب على الاستثناء . {وَإِنَّ اللّه لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } إشارة إلى وصفي الإلهية وهما : القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء ، والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والإتقان لما اخترع ، فلا يخفي عنه شيء . وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى . ويجوز في : لهو ، من الإعراب ما جاز في : لهو القصص ، وتقديم ذكر فائدة الفصل . ٦٣فإن تولوا فإن . . . . . {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} قال مقاتل : فإن تولوا عن الملاعنة . وقال الزجاج : عن البيان الذي أبانه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال أبو سليمان الدمشقي : عن الإقرار بالوحدانية والتنزيه عن الصاحبة والولد وقال المرسيّ : عن هذا الذكر وقيل : عن الإيمان . و : تولوا ، ماضٍ أو مضارع حذفت تاؤه ، وجواب الشرط في الظاهر الجملة من قوله : { فَإِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } ، والمعنى : ما يترتب على علمه بالمفسدين من معاقبته لهم ، فعبر عن العقاب بالعلم الذي ينشأ عنه عقابهم ، ونبه على العلة التي توجب العقاب ، وهي الإفساد ، ولذلك أتى بالاسم الظاهر دون الضمير ، وأتى به جمعاً ليدل على العموم الشامل لهؤلاء الذين تولوا ولغيرهم ، ولكونه رأس آية ، ودل على أن توليهم إفساد أي إفساد . ٦٤قل يا أهل . . . . . {قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } نزلت في وفد نجران ، قاله الحسن ، والسدي ، ومحمد بن جعفر بن الزبير قال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك ، وهي الكلمة السواء وقال ابن عباس : نزلت في القسيسين والرهبان ، بعث بها النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة ، فقرأها جعفر ، والنجاشي جالس وأشراف الحبشة وقال قتادة ، والربيع ، وابن جريج : في يهود المدينة ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم . وقيل : نزلت في اليهود والنصارى ، قالوا : يا محمد ما تريد إلاَّ أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير ؟ ولفظ : يا أهل الكتاب ، يعم كل من أوتي كتاباً ، ولذلك دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم اليهود بالآية ، والأقرب حمله على النصارى لأن الدلالة وردت عليهم ، والمباهلة معهم ، وخاطبهم : بيا أهل الكتاب ، هزاً لهم في استماع ما يلقى إليهم ، وتنبيهاً على أن من كان أهل كتاب من اللّه ينبغي أن يتبع كتاب اللّه ، ولما قطعهم بالدلال الواضحة فلم يذعنوا ، ودعاهم إلى المباهلة فامتنعوا ، عدل إلى نوع من التلطف ، وهو : دعاؤهم إلى كلمة فيها إنصاف بينهم . وقرأ أبو السمال : كلمة ، كضربة ، و : كلمة ، كسدرة ، وتقدّم هذا عند قوله :{ مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ } والكلمة هي ما فسرت به بعد . وقال أبو العالية :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللّه } ، وهذا تفسير المعنى . وعبر بالكلمة عن الكلمات ، لأن الكلمة قد تطلقها العرب على الكلام ، وإلى هذا ذهب الزجاج ، إما لوضع المفرد موضع الجمع ، كما قال : بها جيفُ الحسرى ، فأما عظامها فبيض ، وأما جلدها فصليب وإما لكون الكلمات مرتبطة بعضها ببعض ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة إذا اختلّ جزء منها اختلت الكلمة ، لأن كلمة التوحيد : لا إله إلا اللّه ، هي كلمات لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في اللّه إلا بمجموعها . وقرأ الجمهور : سواء ، بالجر على الصفة . وقرأ الحسن : سواء ، بالنصب ، وخرجه الحوفي والزمخشري على أنه مصدر . قال الزمخشري : بمعنى استوت استواء ، فيكون : سواء ، بمعنى استواء ، ويجوز أن ينتصب على الحال من : كلمة ، وإن كان نكرة ذو الحال ، وقد أجاز ذلك سيبويه وقاسه ، والحال والصفة متلاقيان من حيث المعنى ، والمصدر يحتاج إلى إضمار عامل ، وإلى تأويل : سواء ، بمعنى : استواء ، والأشهر استعمال : سواء ، بمعنى اسم الفاعل ، أي : مستو ، وقد تقدّم الكلام على سواء في أول سورة البقرة ، وقال قتادة ، والربيع ، والزجاج : هنا يعني بالسواء العدل ، وهو من : استوى الشيء ، وقال زهير : أروني خطة لا ضيم فيها يسوي بيننا فيها السواء والمعنى : إلى كلمة عادلة بيننا وبينكم . وقال أبو عبيدة : تقول العرب : قد دعاك فلان إلى سواء فاقبل منه . وفي مصحف عبد اللّه : إلى كلمة عدل بيننا وبينكم . وقال ابن عباس : أي كلمة مستوية ، أي مستقيمة . وقيل : إلى كلمة قصد . قال ابن عطية : والذي أقوله في لفظة : سواء ، أنها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع ، وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً ، فلم يكونوا على استواء حال ، فدعاهم بهذه الآية إلى ما يألف النفوس من حق لا يتفاضل الناس فيه ، فسواء على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مالً سواء بيني وبينه ، والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير لفظة : العدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، على هذا الحد جاءت لفظة : سواء ، في قوله تعالى { فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء } على بعض التأويلات ، وإن دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حرّاً مقاسماً لك . في عيشك لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو استواء الحال على ما فسرته واللفظة على كل تأويل فيها معنى العدل ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، واللّه الموفق للصواب . انتهى كلامه ، وهو تكثير لا طائل تحته ، والظاهر انتصاب الظرف بسواء . {أَن لا نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه} موضع : أن ، جر على البدل من : كلمة ، بدل شيء من شيء ، ويجوز أن في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هي أن لا نعبد إلاَّ اللّه . وجوّزوا أن يكون الكلام تم عند قوله : سواء ، وارتفاع : أن لا نعبد ، على الابتداء والخبر قوله : بيننا وبينكم . قالوا : والجملة صفة للكلمة ، وهذا وهم لعرو الجملة من رابط يربطها بالموصوف ، وجوزوا أيضاً ارتفاع : أن لا نعبد ، بالظرف ، ولا يصح إلاَّ على مذهب الأخفش والكوفيين حيث أجازوا إعمال الظرف من غير اعتماد ، والبصريون يمنعون ذلك ، وجوز علي بن عيسى أن يكون التقدير : إلى كلمة مستو بيننا وبينكم فيها الامتناع من عبادة غير اللّه ، فعلى هذا يكون : أن لا نعبد ، في موضع رفع على الفاعل بسواء ، إلاَّ أن فيه إضمار الرابط ، وهو فيها ، وهو ضعيف . والمعنى : أن نفرد اللّه وحده بالعبادة ولا نشرك به شيئاً ، أي : لا نجعل له شريكاً . وشيئاً يحتمل أن يكون مفعولاً به ، ويحتمل أن يكون مصدراً أي شيئاً من الإشراك ، والفعل في سياق النفي ، فيعم متعلقاته من مفعول به ومصدر وزمان ومكان وهيئة . {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مّن دُونِ اللّه} أي لا نتخذهم أرباباً فنعتقد فيهم الإلهية ونعبدهم على ذلك : كعزير وعيسى ، قاله مقاتل ، والزجاج ، وعكرمة . وقيل عنه : إنه سجود بعضهم لبعض أو لا نطيع الأساقفة والرؤساء فيما أمروا به من الكفر والمعاصي ونجعل طاعتهم شرعاً . قاله ابن جريج ، كقوله تعالى { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ } وعن عدي بن حاتم : ما كنا نعبدهم يا رسول اللّه . قال : { أليس كانوا يحلون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم } ؟ قال : نعم . قال : { هو ذاك} . وفي قوله : بعضنا بعضاً ، إشارة لطيفة ، وهي أن البعضية تنافي الإلهية إذ هي تماثل في البشرية ، وما كان مثلك استحال أن يكون إلهاً ، وإذا كانوا قد استبعدوا اتباع من شاركهم في البشرية للاختصاص بالنبوّة في قولهم :{ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا }{ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ }{ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } فادعاء الإلهية فيهم ينبغي أن يكونوا فيه أشد استبعاداً : وهذه الأفعال الداخل عليها أداة النفي متقاربة في المعنى ، يؤكد بعضها بعضاً ، إذ اختصاص اللّه بالعبادة يتضمن نفي الاشتراك ونفي اتخاذ الأرباب من دون اللّه ، ولكن الموضع موضع تأكيد وإسهاب ونشر كلام ، لأنهم كانوا مبالغين في التمسك بعبادة غير اللّه ، فناسب ذلك التوكيد في انتفاء ذلك ، والنصارى جمعوا بين الأفعال الثلاثة : عبدوا عيسى ، وأشركوا بقولهم : ثالث ثلاثة واتخذوا أحبارهم أرباباً في الطاعة لهم في تحليلٍ وتحريمٍ وفي السجود لهم . قال الطبري : في قوله :{ أَرْبَابًا مّن دُونِ اللّه } أنزلوهم منزلة ربهم في قبول التحريم والتحليل لما لم يحرمه اللّه ، ولم يحله . وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي ، كتقديرات دون مستند ، والقول بوجوب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي ، كما ذهب إليه الرّوافض . انتهى . وفيه بعض اختصار . {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي : فإن تولوا عن الكلمة السواء فأشهدوهم أنكم منقادون إليها ، وهذا مبالغة في المباينة لهم ، أي : إذا كنتم متولين عن هذه الكلمة ، فإنا قابلون لها ومطيعون . وعبر عن العلم بالشهادة على سبيل المبالغة ، إذ خرج ذلك من حيز المعقول إلى حيز المشهود ، وهو المحضر في الحسّ . قال ابن عطية : هذا أمر بإعلام بمخالفتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف يكون . انتهى . وقال الزمخشري : أي لزمتكم الحجة ، فوجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم ، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع ، أو غيرهما : اعترف بأني أنا الغالب ، وسلم لي الغلبة ، ويجوز أن يكون من باب التعريض ، ومعناه : اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره . انتهى . وهذه الآية في الكتاب الذي وجه به رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم دحية إلى عظيم بصرى ، فدفعه إلى هرقل . ٦٥يا أهل الكتاب . . . . . {قُلْ ياأَهْلَ أَيُّهَا الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْراهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} عن ابن عباس وغيره . أن اليهود قالوا : كان إبراهيم يهودياً ، وأن النصارى قالوا : كان نصرانياً . فأنزلها اللّه منكراً عليهم . وقال ابن عباس ، والحسن : كان إبراهيم سأل اللّه أن يجعل له { لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاْخِرِينَ } فاستجاب اللّه دعاءه حتى ادعته كل فرقة . و : ما ، في قوله : لمَ ، استفهامية حذفت ألفها مع حرف الجر ، ولذلك علة ذكرت في النحو ، وتتعلق : اللام بتحاجون ، ومعنى هذا الاستفهام الإنكار ، ومعنى : في إبراهيم ، في شرعه ودينه وما كان عليه ، ومعنى : المحاجة ، ادعاء من الطائفتين أنه منها وجدالهم في ذلك ، فرد اللّه عليهم ذلك بأن شريعة اليهود والنصارى متأخرة عن إبراهيم ، وهو متقدم عليهما ، ومحال أن ينسب المتقدم إلى المتأخر ، ولظهور فساد هذه الدعوى قال :{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي : هذا كلام من لا يعقل ، إذ العقل يمنع من ذلك . ولا يناسب أن يكون موافقاً لهم ، لا في العقائد ولا في الأحكام . أمّا في العقائد فعبادتهم عيسى وادعاؤهم أنه اللّه ، أو ابن اللّه ، أو ثالث ثلاثة . وادعاء اليهود أن عزيراً ابن اللّه ، ولم يكونا موجودين في زمان إبراهيم . وأما الأحكام فإن التوراة والإنجيل فيهما أحكام مخالفة للأحكام التي كانت عليها شريعة إبراهيم ، ومن ذلك قوله { فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } وقوله :{ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ } وغير ذلك فلا يمكن أن يكون إبراهيم على دين حدث بعده بأزمنة متطاوله . ذكر المؤرخون أن بين إبراهيم وموسى ألف سنة ، وبينه وبين عيسى ألفان . وروي أبو صالح عن ابن عباس : أنه كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وسبعون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف سنة وستمائة واثنان وثلاثون سنة . وقال ابن إسحاق : كان بين إبراهيم وموسى خمسمائة سنة وخمس وستون سنة ، وبين موسى وعيسى ألف وتسعمائة سنة وخمس وعشرون . والواو في :{ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ } لعطف جملة على جملة ، هكذا ذكروا . والذي يظهر أنها للحال كهي في قوله تعالى :{ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللّه وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } وقوله { لِمَ تَلْبِسُونَ } ثم قال { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } وقوله :{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنتُمْ أَمْواتًا فَأَحْيَاكُمْ } أنكر عليهم ادّعاء أن إبراهيم كان على شريعة اليهود أو النصارى ، والحال أن شريعتيهما متأخرتان عنه في الوجود ، فكيف يكون عليها مع تقدمه عليها ؟ وأمّا الحنيفية والإسلام فمن الأوصاف التي يختص بها كل ذي دين حق ، ولذلك قال تعالى :{ إِنَّ الدّينَ عِندَ اللّه الإِسْلَامُ } إذ الحنيف هو المائل للحق ، والمسلم هو المستسلم للحق ، وقد أخبر القرآن بأن إبراهيم { كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا} وفي قوله :{ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } توبيخ على استحالة مقالتهم ، وتنبيه على ما يظهر به غلطهم ومكابرتهم . ٦٦ها أنتم هؤلاء . . . . . {هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجوداً في كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه . قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وغيرهم . وهو الظاهر لما حف به من قبله ، ومن بعده من الحديث في إبراهيم ، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ، لأنهم يجدونه عند محمد صلى اللّه عليه وسلم كما كان هنالك على حقيقته . وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهم وجدوا نعته في كتبهم ، فجادلوا بالباطل . والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم . والظاهر في قوله : { فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ } إثبات العلم لهم . و قال ابن عطية : فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي يرد عليكم . وقال قتادة أيضاً : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا ؟ وقال الرازي :{ ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء } الآية . أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ؟ وهو ادّعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟ ويحتمل أن يكون قوله { لَكُم بِهِ عِلمٌ } أي : تدعون علمه لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به ألبتة . وقرأ الكوفيون ، وابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم ، محققة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفاً محضة لورش : ها ، للتنبيه لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولاً بينها وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن تباشر إسم الإشارة ، لكن اعتني بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها أناذا قائماً ، و : ها أنت ذا تصنع كذا . و : ها هوذا قائماً . ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب اللّه المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك ؟ وتكون الجملة خبرية وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيداً ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف على :{ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ } يا أيه بالسكون وليس الحذف فيها يقوى في القياس . وقال أبو عمرو ابن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم . فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء . لأنها أختها . واستحسنه النحاس . وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ من كلامهم : هتضرب زيداً ، بمعنى : زيداً إلاَّ في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل همزة الاستفهام ، وهو : وأتت صواحبها وقلن هذا الذي منح المودّة غيرنا وجفانا ثم فصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وهمزة : أنت ، لا يناسب ، لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى : هاء ، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه ؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه . وقد وجهوا قراءة قنبل على أن : الهاء ، بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وبين همزة : أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم ، وأمّا من سهل فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في : هيأه . وأمّا تحقيقها فهو الأصل ، وأمّا إبدالها ألفاً فقد تقدّم الكلام في ذلك في قوله { أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ} و : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء . الخبر . و : حاججتم ، جملة حالية . كقول : ها أنت ذا قائماً . وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله :{ ثُمَّ أَنتُمْ هَاؤُلاء تَقْتُلُونَ } على أحسن الوجوه في إعرابه . وقال الزمخشري : أنتم ، مبتدأ ، و : هؤلاء ، خبره ، و : حاججتم ، جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقي ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ، ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟ انتهى . وأجازوا أن يكون : هؤلاء ، بدلاً ، وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون هؤلاء ، موصولاً بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم ، صلته . وهذا على رأي الكوفيين . وأجازوا أيضاً أن يكون منادي أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء ، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين ، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيء : إن أُلالى وصفوا قومي لهم فهم هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولاً وقال : لا يغرّنكم أولاء من القو م جنوح للسلم فهو خداع يريد : يا هذا اعتصم ، و : يا أولاء . {وَاللّه يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة . والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : واللّه يعلم ، استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : إسمع فإني أعلم ما لا تعلم . {مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ٦٧ما كان إبراهيم . . . . . أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان ، وبدأ بانتفاء اليهودية ، لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى ، وكرر ، لا ، لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينين ، ثم استدرك ما كان عليه بقوله { وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا } ووقعت لكن هنا أحسن موقعها ، إذ هي واقعة بين النقضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل . ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى ، كان الاستدارك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما ، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين ، وهم : عبدة الأصنام ، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم ، وكالمجوس عبدة النار ، وكالصابئة عبدة الكواكب ، ولم ينص على تفصيلهم ، لأن الإشراك يجمعهم . وقيل : أراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم به عزيراً والمسيح ، فتكون هذه الجملة توكيداً لما قبلها من قوله { مَا كَانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا } وجاء : من المشركين ، ولم يجىء : وما كان مشركاً ، فيناسب النفي قبله ، لأنها رأس آية . و قال ابن عطية : نفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ؛ ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية . وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفي نفس الملل ، وقرر الحال الحسنة ، ثم نفي نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً ، بل حفظته . وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ . انتهى كلامه . وتلخص بما تقدم أن قوله .{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ثلاثة أقوال : أحدهما : أن المشركين عبدة الأصنام والنار والكواكب والثاني : أنهم اليهود والنصارى و الثالث : عبدة الأوثان واليهود والنصارى . وقال عبد الجبار : معنى { مَا كَانَ يَهُودِيّا وَلاَ نَصْرَانِيّا } لم يكن على الدين الذي يدين به هؤلاء المحاجون ، ولكن كان على جهة الدين الذي يدين به المسلمون . وليس المراد أن شريعة موسى وعيسى لم تكن صحيحة . وقال علي بن عيسى : لا يوصف إبراهيم بأنه كان يهودياً ولا نصرانياً لأنهما صفتا دمّ لاختصاصهما بفرقتين ضالتين ، وهما طريقان محرّفان عن دين موسى وعيسى ، وكونه مسلماً لا يوجب أن يكون على شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، بل كان على جهة الإسلام . والحنيف : اسم لمن يستقبل في صلاته الكعبة ، ويحج إليها ، ويضحي ويختتن . ثم سمي من كان على دين إبراهيم حنيفاً . انتهى . وفي حديث زيد بن عمرو بن نفيل : أنه خرج إلى الشام يسأل عن الدين ، وأنه لقي عالماً من اليهود ، ثم عالماً من النصارى ، فقال له اليهودي : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب اللّه . وقال له النصراني : لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة اللّه . فقال زيد : ما أفرّ إلاَّ من غضب اللّه ، ومن لعنته . فهل تدلاني على دين ليس فيه هذا ؟ قالا : ما نعلمه إلاَّ أن تكون حنيفاً . قال : وما الحنيف ؟ قال : دين إبراهيم ، لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، وكان لا يعبد إلاَّ اللّه وحده ، فلم يزل رافعاً يديه إلى السماء . وقال : اللّهم إني أشهدك أني على دين إبراهيم . وقال الرازي ما ملخصه : إن النفي إن كان في الأصول ، فتكون في الموافقة ليهود زمان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ونصاراه . لأنهم غيروا فقالوا : المسيح ابن اللّه ، وعزير ابن اللّه . لا في الأصول التي كان عليها اليهود والنصارى الذين كانوا على ما جاء به موسى وعيسى ، وجميع الأنبياء متوافقون في الأصول ، وإن كان في الفروع فلأن اللّه نسخ شريعة إبراهيم بشريعة موسى وعيسى ، وأما موافقته لشريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم فإن كان في الأصول فظاهر ، وإن كان في الفروع فتكون الموافقة في الأكثر ، وإن خالف في الأقل فلم يقدح في الموافقة . {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ وَاللّه وَلِىُّ الْمُؤْمِنُونَ} ٦٨إن أولى الناس . . . . . قال ابن عباس : قالت رؤساء اليهود : واللّه يا محمد ، لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وإنه كان يهودياً ، وما بك إلاَّ الحسد . فنزلت . وروي حديث طويل في اجتماع جعفر وأصحابه ، وعمرو بن العاص ، وأصحابه . بالنجاشي ، وفيه : أن النجاشي قال : لا دهورة اليوم على حزب إبراهيم . أي : لا خوف ولا تبعة ، فقال عمرو : من حزب إبراهيم ؟ فقال النجاشي : هؤلاء الرهط وصاحبهم ، يعني : جعفراً وأصحابه . ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليي منهم أبي ، وخليل ربي إبراهيم} . ثم قرأ هذه الآية . ومعنى : أولى الناس : أخصهم به وأقربهم منه من الولي ، وهو القرب . والذين اتبعوه يشمل كل من اتبعه في زمانه وغير زمانه ، فيدخل فيه متبعوه في زمان الفترات . وعنى بالأتباع أتباعه في شريعته . وقال عليّ بن عيسى : أحقهم بنصرته أي : بالمعونة وبالحجة ، فمن تبعه في زمانه نصره بمعونته على مخالفته . ومحمد والمؤمنون نصروه بالحجة له أنه كان محقاً سالماً من المطاعن ، وهذا النبي : يعني به محمداً صلى اللّه عليه وسلم ، وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة ، كقوله { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} {وَالَّذِينَ ءامَنُواْ } قيل : آمنوا من أمّة محمد ، وخصوا أيضاً بالذكر تشريفاً لهم ، إذ هم أفضل الأتباع للرسل ، كما أن رسولهم أفضل الرسل . وقيل : المؤمنون في كل زمان وعطف { وَهَاذَا النَّبِىُّ } على خبر إن ، ومن أعرب { وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ } مبتدأ والخبر : هم المتبعون له ، فقد تكلف إضماراً لا ضرورة تدعو إليه . وقرىء : وهذا النبيّ ، بالنصب عطفاً على : الهاء ، في اتبعوه ، فيكون متبعاً لا متبعاً : أي : أحق الناس بإبراهيم من اتبعه ، ومحمداً صلى اللّه عليهما وسلم ، ويكون : والذين آمنوا ، عطفاً على خبر : إن ، فهو في موضع رفع . وقرىء : وهذا النبي ، بالجر ، ووجه على أنه عطف على : إبراهيم ، أي : إن أولى الناس بإبراهيم وبهذا النبي للذين اتبعوا إبراهيم . و : النبي ، قالوا : بدل من هذا ، أو : نعت ، أو : عطف بيان . ونبه على الوصف الذي يكون به اللّه ولياً لعباده ، وهو : الإيمان . فقال : وليّ المؤمنين ، ولم يقل : وليهم . وهذا وعد لهم بالنصر في الدنيا ، وبالفوز في الآخرة . وهذا كما قال تعالى :{ اللّه وَلِيُّ الَّذِينَ ءامَنُواْ} قيل : وجمعت هذه الآيات من البلاغة : التنبيه والإشارة والجمع بين حرفي التأكيد ، وبالفصل في قوله : { إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ } وفي :{ وَإِنَّ اللّه لَهُوَ الْعَزِيزُ } والإختصاص في :{ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ } وفي :{ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ } والتجوز بإطلاق اسم الواحد على الجمع في :{ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء } وباطلاق اسم الجنس على نوعه في :{ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } إذا فسر باليهود . والتكرار في : إلا اللّه ، و : إنّ اللّه ، وفي : يا أهل الكتاب تعالوا ، يا أهل الكتاب لم . وفي : إبراهيم ، و : ما كان إبراهيم ، و : إن أولى الناس بإبراهيم . والتشبيه في : أرباباً ، لما أطاعوهم في التحليل والتحريم ، وأذعنوا إليهم أطلقب عليه : أرباباً تشبيهاً بالرب المستحق للعبادة والربوبية ، والإجمال في الخطاب في : يا أهل الكتاب ، تعالوا يا أهل الكتاب ، لم تحاجون ، كقول إبراهيم : يا أبت . وكقول الشاعر : مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفوناً وقول الآخر : بني عمنا لا تنبشوا الشر بيننا فكم من رماد صار منه لهيب والتجنيس المماثل في : أولى وولي {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللّه وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ٦٩ودت طائفة من . . . . . {وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } أجمع المفسرون على أنها نزلت في : معاذ ، وحذيفة ، وعمار . دعاهم يهود : بني النضير ، وقريظة ، وقينقاع ، إلى دينهم . وقيل : دعاهم جماعة من أهل نجران ومن يهود وقال ابن عباس : هم اليهود ، قالوا لمعاذ وعمار تركتما دينكما واتبعتما دين محمد ، فنزلت . وقيل : عيرتهم اليهود بوقعة أحد . وقال أبو مسلم الأصبهاني : ودّ بمعنى : تمنى ، فتستعمل معها : لو ، و : أن ، وربما جمع بينهما ، فيقال : وددت أن لو فعل ، ومصدره : الودادة ، والأسم منه : وُدّ ، وقد يتداخلان في المصدر والأسم . قال الراغب : إذا كان : ودّ ، بمعنى أحبّ لا يجوز إدخال : لوغ فيه أبداً . وقال عليّ بن عيسى : إذا كان : ودّ ، بمعنى : تمنى ، صلح للماضي والحال والمستقبل ، وإذا كان بمعنى المحبة والإرادة لم يصلح للماضي لأن الإرادة كاستدعاء الفعل . وإذا كان للحال والمستقبل جاز : أن ولو ، وإذا كان للماضي لم يجز : أن ، لأن : أن ، للمستقبل . وما قال فيه نظر ، ألا ترى أن : أن ، توصل بالفعل الماضي نحو : سرّني أن قمت ؟ . {مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } في موضع الصفة لطائفة ، والطائفة رؤساؤهم وأحبارهم . و قال ابن عطية : ويحتمل : من ، أن تكون لبيان الجنس ، وتكون الطائفة جميع أهل الكتاب ، وما قاله يبعد من دلالة اللفظ ، ولو ، هنا قالوا بمعنى : أن فتكون مصدرية ، ولا يقول بذلك جمهور البصريين ، والأولى إقرارها على وضعها . ومفعول : ودّ ، محذوف ، وجواب : لو ، محذوف ، حذف من كلَ من الجملتين ما يدل المعنى عليه ، التقدير : ودّوا إضلالكم لو يضلونكم لسرّوا بذلك ، وقد تقدم لنا الكلام في نظير هذا مشبعاً في قوله :{ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ } فيطالع هناك . ومعنى : يضلونكم ، يردّونكم إلى كفركم ، قاله ابن عباس . وقيل : يهلكونكم ، قاله ابن جرير ، والدمشقي . قال ابن عطية : واستدل يعني ابن جرير الطبري ببيت جرير كنت القذى في موج أخضر مزيد قذف الأتىّ به فضلّ ضلالا وبقول النابغة : فآب مضلُّوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل وهو تفسير غير مخلص ولا خاص باللفظة ، وإنما اطرد له ، لأن هذا الضلال في الآية في البيتين اقترن به هلاك ، وأمّا أن يفسر لفظة الضلال بالهلاك فغير قويم . إنتهى . وقال غير ابن عطية أضلّ الضلال في اللغة الهلاك من قولهم : ضل اللبن في الماء ، إذا صار مستهلكاً فيه . وقيل : معناه يوقعونكم في الضلال ، ويلقون إليكم ما يشككونكم به في دينكم ، قاله أبو علي . {وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنفُسَهُمْ } إن كان معناه الإهلاك فالمعنى أنهم يهلكون أنفسهم وأشياعهم ، لاستحقاقهم بإيثارهم إهلاك المؤمنين سخط اللّه وغضبه ، وإن كان المعنى الإخراج عن الدين فذلك حاصل لهم بجحد نبوّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وتغيير صفته صاروا بذلك كفاراً ، وخرجوا عن ملة موسى وعيسى . وإن كان المعنى الإيقاع في الضلال ، فذلك حاصل لهم مع تمكنهم من اتباع الهدى بإيضاح الحجج وإنزال الكتب وإرسال الرسل . و قال ابن عطية : إعلام أن سوء فعلهم عائد عليهم ، وأنه يبعدهم عن الإسلام . وقال الزمخشري : وما يعود وبال الضلال إلاَّ عليهم ، لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم ، أو : وما يقدرون على إضلال المسلمين ، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم . إنتهى . {وَمَا يَشْعُرُونَ } إن ذلك الضلال هو مختص بهم أي : لا يفطنون لذلك لما دق أمره وخفي عليهم لما اعترى قلوبهم من القساوة ، فهم لا يعلمون أنهم يضلون أنفسهم . ودل ذلك على أن من أخطأ الحق جاهلاً كان ضالاً ، أو { وَمَا يَشْعُرُونَ } أنهم لا يصلون إلى إضلالكم ، أو : لا يفطنون بصحة الإسلام ، وواجب عليهم أن يعلموا لظهور البراهين والحجج ، ذكره القرطبي . أو : ما يشعرون أن اللّه يدل المسلمين على حالهم ، ويطلعهم على مكرهم وضلالتهم ، ذكره ابن الجوزي . وفي قوله : ما يشعرون ، مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم . ٧٠يا أهل الكتاب . . . . . {ياأَهْلَ ِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللّه} قال ابن عباس : هي التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى اللّه عليه وسلم ، والإيمان به ، كما بين في قوله :{ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ } قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وابن جريح . أو : القرآن من جهة قولهم :{ إِنَّمَا يُعَلّمُهُ }{ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ }{ أَسَاطِيرُ الاْوَّلِينَ } والآيات التي أظهرها على يديه من : انشقاق القمر ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وغير ذكل . أو : محمد والإسلام ، قاله قتادة ، أو : ما تلاه من أسرار كتبهم وغريب أخبارهم ، قاله ابن بحر أو : كتب اللّه ، أو : الآيات التي يبين لهم فيها صدق محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وصحة نبوّته ، وأمروا فيها باتباعه ، قاله أبو علي . {وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } جملة حالية أنكر عليهم كفرهم بآيات اللّه وهم يشهدون أنها آيات اللّه ، ومتعلق الشهادة محذوف ، يقدّر على حسب تفسير الآيات ، فيقدّر بما يناسب ما فسرت به ، فلذلك قال قتادة ، والسدي ، والربيع : وأنتم تشهدون بما يدل على صحتها من كتابكم الذي فيه البشارة . وقيل : تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي تقرون بها ، وقيل : بما عليكم فيه من الحجة . وقيل : إن كتبكم حق ، ولا تتبعون ما أنزل فيها . وقيل : بصحتها إذا خلوتم . فيكون : تشهدون ، بمعنى : تقرون وتعترفون . وقال الراغب : أو عنى ما يكون من شهادتهم { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} وقيل : تكفرون بآيات اللّه : تنكرون كون القرآن معجزاً ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم أنه معجز . {ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ٧١يا أهل الكتاب . . . . . تقدّم تفسير مثل هذا في قوله : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ } وفسر : اللبس ، بالخلط والتغطية ، وتكلم المفسرون هنا ، ففسروا الحق بما يجدونه في كتبهم من صفة الرسول ، والباطل الذي يكتبونه بأيديهم ويحرفونه : قال معناه الحسن ، وابن زيد . وقيل : إظهار الإسلام وإبطال اليهودية والنصرانية ، قال قتادة ، وابن جرير والثعلبي . وقيل : الإيمان بموسى وعيسى ، والكفر بالرسول . وقال أبو علي : يتأولون الآيات التي فيها الدلالة على نبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم على خلاف تأويلها ، ليظهر منها للعوامّ خلاف ما هي عليه ، وأنتم تعلمون بطلان ما تقولون . وقيل : هو ما ذكره تعالى بعد ذلك من قوله :{ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى } وقيل : إقرارهم ببعض أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم. والباطل : كتمانهم لبعض أمره ، وهذان القولان عن ابن عباس . وقيل : إقرارهم بنبوته ورسالته ، والباطل قول أحبارهم : ليس رسولاً ألينا ، بل شريعتنا مؤبدة . وقرأ يحيى بن وثاب : تلبسون ، بفتح الباء مضارع : لبس ، جعل الحق كأنه ثوب لبسوه ، والباء في : بالباطل ، للحال أي : مصحوباً بالباطل . وقرأ أبو مجلز : تلبسون ، بضم التاء وكسر الباء المشدّدة ، والتشديد هنا للتكثير ، كقولهم : جرّحت وقتلت ، وأجاز الفراء ، والزجاج في : ويكتمون ، النصب ، فتسقط النون من حيث العربية على قولك : لم تجمعون ذاوذاً ؟ فيكون نصباً على الصرف في قول الكوفيين ، وبإضمار : أن ، في قول البصريين . وأنكر ذلك أبو علي ، وقال : الإستفهام وقع على اللبس فحسب . وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاَّ الرفع بمعنى أنه ليس معطوف على : تلبسون ، بل هو استئناف ، خبر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق ، و قال ابن عطية : قال أبو علي : الصرف ها هنا يقبح ، وكذلك إضمار : أن ، لأن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، وإنما استفهم عن السبب في اللبس ، واللبس موجب ، فليست الآية بمنزلة قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن ، وبمنزلة ، قولك : أتقوم فأقوم ؟ والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب ، إلاَّ في ضرورة شعر ، كما روي : والحق بالحجاز فاستريحا وقد قال سيبويه : في قولك : أسرت حتى تدخلها ، الا يجوز إلاَّ النصب ، في : تدخل ، لأن السير مستفهم عنه غير موجب . وإذا قلنا : أيهم سار حتى يدخلها ، رفعت ، لأن السير موجب ، والاستفهام إنما وقع عن غيره . إنتهى ما نقله ابن عطية عن أبي علي . والظاهر تعارض ما نقل مع ما قبله ، لأن ما قبله فيه : أن الأستفهام وقع على اللبس فحسب ، وأما : يكتمون ، فخبر حتماً لا يجوز فيه إلاّ الرفع ، وفيما نقله ابن عطية أن : يكتمون ، معطوف على موجب مقرر ، وليس بمستفهم عنه ، فيدل العطف على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين ، وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون : ويكتمون ، إخباراً محضاً لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب ، وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه ، تبعه في ذلك ابن مالك . فقال في { التسهيل} حين عد ما يضمر : أن ، لزوماً في الجواب ، فقال : أو لإستفهام لا يتضمن وقوع الفعل ، فإن تضمن وقع الفعل لم يجز النصب عنده ، نحو : لم ضربت زيداً ، فيجازيك ؟ لأن الضرب قد وقع ولم نر أحداً من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي ، وتبعه فيه ابن مالك في الاستفهام ، بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله ، إما لكونه ليس ثم فعل ، ولا ما في معناه ينسبك منه ، وإما لإستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل مضي الفعل ، فإنما يقدر فيه مصدر استقباله مما يدل عليه المعنى ، فإذا قال : لم ضربت زيداً فأضربك . أي : ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا ، وما ردّ به أبو عليّ على أبي إسحاق ليس بمتجه . لأن قوله : { لِمَ تَلْبِسُونَ } ليس نصاً على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة ، إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره ، لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله . ولو فرضنا أنه ماض حقيقة ، فلا ردّ فيه على أبي إسحاق ، لأنه كما قررنا قبل : إذا لم يمكن سبك مصدر مستقبل من الجملة ، سبكناه من لازم الجملة . وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع ، نحو : أين ذهب زيد فنتبعه ؟ وكذلك في : كم مالك فنعرفه ؟ و : من أبوك فنكرمه ؟ لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير : ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا . و : ليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا . و : ليكن منك إعلام بأبيك فاكرام منا له . وقرأ عبيد بن عمير : لم تلبسوا ، وتكتموا ، بحذف النون فيهما ، قالوا : وذلك جزم ، قالوا : ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في إلحاق : لِمَ بلم في عمل الجزم . وقال السجاوندي : ولا وجه له إلاَّ أن : لم ، تجزم الفعل عند قوم كلم . إنتهى . والثابت في لسان العرب أن : لَم ، لا ينجزم ما بعدها ، ولم أر أحداً من النحويين ذكر أن لِمَ تجري مجرى : لَمُ في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا ، وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع ، وقد جاء ذلك في النثر قليلاً جداً ، وذلك في قراءة أبي عمر ، ومن بعض طرقه قالوا : ساحران تظاهران ، تتشديد الطاء ، أي أنتما ساحران تتظاهرن فأدغم التاء في الظاء وحذف النون ، وأما في النظم ، فنحو : قول الراجز : أبيت أسرى وتبيتي تدلكي يريد : وتبيتين تدلكين . وقال : فإن يك قوم سرهم ما صنعتمو ستحتلبوها لاقحاً غير باهل والظاهر أنه أنكر عليهم لبس الحق بالباطل ، وكتم الحق ، وكأن الحق منقسم إلى قسمين : قسم خلطوا فيه الباطل حتى لا يتميز ، وقسم كتموه بالكلية حتى لا يظهر . {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } جملة حالية تنعي عليهم ما التبسوا به من لبس الحق بالباطل وكتمانه ، أي : لا يناسب من علم الحق أن يكتمه ، ولا أن يخلطه بالباطل ، والسؤال عن السبب سؤال عن المسبب ، فإذا أنكر السبب فبالأولى أن ينكر المسبب ، وختمت الآية قبل هذه بقوله :{ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ } وهذه بقوله :{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } لأن المنكر عليهم في تلك هو الكفر بآيات اللّه ، وهي أخص من الحق ، لأن آيات اللّه بعض الحق ، والشهادة أخص من العلم ، فناسب الأخص الأخص ، وهنا الحق أعم من الآيات وغيرها ، والعلم أعم من الشهادة ، فناسب الأعم الأعم . وقالوا في قوله : { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : أنه نبي حق ، وأن جاء به من عند اللّه حق . وقيل : قال :{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ليتبين لهم الأمر الذي يصح به التكليف ، ويقوم عليهم به الحجة . وقيل :{ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } الحق بما عرفتموه من كتبكم وما سمعتموه من ألسنة أنبيائكم . وفي هذه الآيات أنواع من البديع . الطباق في قوله : الحق بالباطل ، والطباق المعنوي في قوله : لم تكفرون وأنتم تشهدون ، لأن الشهادة إقرار وإظهار ، والكفر ستر . والتجنيس المماثل في : يضلونك وما يضلون والتكرار في : أهل الكتاب والحذف في مواضع قد بينت . {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِيأُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ٧٢وقالت طائفة من . . . . . قال الحسن ، والسدي : تواطأ اثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عرينة ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الإعتقاد ، واكفروا به في آخر النهار ، وقولوا إنا نظرنا في كتبنا ، وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمداً ليس كذلك ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم ، وقالوا : هم أهل الكتاب فهم أعلم منا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، فنزلت . وقال مجاهد ، ومقاتل ، والكلبي : هذا في شأن القبلة ، لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود ، فقال كعب بن الأشرف وأصحابه : صلوا إليها أول النهار ، وارجعوا إلى كعبتكم الصخرة آخره ، فنزلت . وقال ابن عباس ، ومجاهد : صلوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم صلاة الصبح ، ثم ارجعوا آخر النهار فصلوا صلاتها ليرى الناس أنه قد بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه ، فنزلت . وقال السدي : قالت اليهود لسفلتهم : آمنوا بمحمد أول النهار ، فإذا كان بالعشي قولوا : قد عرفنا علماؤنا أنكم لستم على شيء ، فنزلت . وحكى ابن عطية ، عن الحسن : أن يهود خيبر قالت ذلك ليهود المدينة . انتهى . جعلت اليهود هذا سبباً إلى خديعة المسلمين . والمقول لهم محذوف ، فيحتمل أن يكون بعض هذه الطائفة لبعض ، ويحتمل أن يكون المقول لهم ليسوا من هذه الطائفة ، والمراد : بآمنوا ، أظهروا الإيمان ، ولا يمكن أن يراد به التصديق ، وفي قوله : { بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ } حذف أي : على زعمهم ، وإلاَّ فهم يكذبون ، ولا يصدقون أن اللّه أنزل شيئاً على المؤمنين . وانتصب : وجه النهار ، على الظرف ومعناه : أول النهار ، شبه بوجه الإنسان إذ هو أول ما يواجه منه . وقال الربيع بن زياد العبسي في مالك بن زهير بن خزيمة العبسي : من كان مسروراً بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار والضمير في : آخره ، عائد على النهار ، أي : آخر النهار . والناصب للظرف الأول : آمنوا ، وللآخر : اكفروا . وقيل : الناصب لقوله : وجه النهار ، أنزل . أي : بالذي أنزل على الذين آمنوا في أول النهار ، والضمير في : آخره ، يعود على الذي أنزل ، أي : واكفروا آخر المنزل ، وهذا فيه بعد ومخالفة لأسباب النزول ، ومتعلق الرجوع محذوف أي : يرجعون عن دينهم . وظاهر الآية الدلالة على هذا القول ، وأما امتثال الأمر ممن أمر به فسكوت عن وقوعه ، وأسباب النزول تدل على وقوعه ، وهذا القول طمعوا أن ينخدع العرب به ، أو يقول قائلهم : هؤلاء أهل الكتاب القديم وجودة النظر والإطلاع ، دخلوا في هذا الأمر ورجعوا عنه ، وفيه تثبيت أيضاً لضعفائهم على دينهم . ٧٣ولا تؤمنوا إلا . . . . . {وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } اللام في : لمن ، قيل : زائدة للتأكيد ، كقوله { عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } أي ردفكم ، وقال الشاعر : ما كنت أخدع للخليل بخلة حتى يكون لي الخليل خدوعاً أراد : ما كنت أخدع الخليل ، والأجود أن لا تكون : اللام ، زائدة بل ضمن ، آمن معنى : أقر واعترف ، فعدى باللام . وقال أبو علي : وقد تعدّى آمن باللام في قوله { فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرّيَّةٌ }{ وَءامَنتُمْ لَهُ }{ وَيُؤْمِن بِاللّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } انتهى . والأجود ما ذكرناه من جملة قول طائفة اليهود ، لأنه معطوف على كلامهم ، ولذلك قال ابن عطية : لا خلاف بين أهل التأويل أن هذا القول من كلام الطائفة . انتهى . وليس كذلك ، بل من المفسرين من ذهب إلى أن ذلك من كلام اللّه ، يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم ، فأما إذا كان من كلام طائفة اليهود ، فالظاهر أنه انقطع كلامهم إذ لا خلاف ، ولا شك أن قوله :{ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه } من كلام اللّه مخاطباً لنبيه صلى اللّه عليه وسلم ، وما بعده يظهر أنه من كلام اللّه ، وأنه من جملة قوله لنبيه وأن يؤتى مفعول من أجله ، وتقدير الكلام : قل يا محمد لأولئك اليهود الذين قالوا : إن الهدى هدى اللّه ، لا ما رمتم من الخداع بتلك المقالة ، وذاك الفعل ، لمخافة { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } قلتم ذلك القول ودبرتم تلك المكيدة ، أي : فعلتم ذلك حسداً وخوفاً من أن تذهب رئاستكم ، ويشارككم أحد فيما أوتيتم من فضل العلم ، أو يحاجوكم عند ربكم ، أي : يقيمون الحجة عليكم عند اللّه إذ كتابكم طافح ، بنبوّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وملزم لكم أن تؤمنوا به وتتبعوه ، ويؤيد هذا المعنى قوله :{ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } إلى آخره ، ويؤيد هذا المعنى أيضاً قراءة ابن كثير أن يؤتي على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ والاستفهام الذي معناه الإنكار هو مثبت من حيث المعنى ، أي ألمخافة أن يؤتى أحد . مثل ما أوتيتم ؟ أو يحاجوكم عند ربكم قلتم ذلك وفعلتموه ؟ ويكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على : يؤتى ، وأو : للتنويع ، وأجازوا أن يكون : هدى اللّه ، بدلاً من : الهدى . لا خبراً لأن . والخبر قوله :{ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } أي أن هدى اللّه إيتاء أحد مثل ما أوتيتم من العلم ، ويكون : أو يحاجوكم ، منصوباً بإضمار : أن ، بعد أو بمعنى : حتى ، أي : حتى يحاجوكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند اللّه ، لأنكم تعلمون صحة دين الإسلام ، وأنه يلزمكم اتباع هذا النبي ، ولا يكون : أو يحاجوكم ، معطوفاً على : يؤتى ، وداخلاً في خبر إن ، و : أحد ، في هذين القولين ليس الذي يأتي في العموم مختصاً به ، لأن ذلك شرطه أن يكون في نفي ، أو في خبر نفي ، بل : أحد ، هنا بمعنى : واحد ، وهو مفرد ، إذ عنى به الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وإنما جمع الضمير في : يحاجوكم ، لأنه عائد على الرسول وأتباعه ، لأن الرسالة تدل على الأتباع . وقال بعض النحويين : إن ، هنا للنفي بمعنى : لا ، التقدير : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ونقل ذلك أيضاً عن الفراء ، وتكون : أو ، بمعنى إلاَّ ، والمعنى إذ ذاك : لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ أن يحاجوكم ، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم ومحاجتكم عند ربكم ، لأن من آتاه اللّه الوحي لا بد أن يحاجهم عند ربهم في كونهم لا يتبعونه ، فقوله : أو يحاجوكم ، حال من جهة المعنى لازمة ، إذ لا يوحي اللّه إلى رسول إلاَّ وهو محاج مخالفيه . وفي هذا القول يكون ، أحد ، هو الذي للعموم . لتقدّم النفي عليه ، وجمع الضمير في : يحاجوكم ، حملاً على معنى : أحد ، كقوله تعالى { فَمَا مِنكُم مّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } جمع حاجزين حملاً على معنى : أحد ، لا على لفظه ، إذ لو حمل على لفظه لأفرد . لكن في هذا القول القول بأن : أن ، المفتوحة تأتي للنفي بمعنى لا ، ولم يقم على ذلك دليل من كلام العرب . والخطاب في : أو يتتم ، وفي : يحاجوكم ، على هذه الأقوال الثلاثة للطائفة السابقة ، القائلة :{ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى } وأجاز بعض النحويين أن يكون المعنى : أن لا يؤتى أحد ، وحذفت : لا ، لأن في الكلام دليلاً على الحذف . قال كقوله :{ يُبَيّنُ اللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } أي : لا تضلوا . وردّ ذلك أبو العباس ، وقال : لا تحذف : لا ، وإنما المعنى : كراهة أن تضلوا ، وكذلك هنا : كراهة أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم ، أي : ممن خالف دين الإسلام ، لأن اللّه لا يهدي من هو كاذب كفار ، فهدى اللّه بعيد من غير المؤمنين . والخطاب في : أوتيتم ، و : يحاجوكم ، لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فعلى هذا : أن يؤتى مفعول من أجله على حذف كراهة ، ويحتاج إلى تقديره عامل فيه ، ويصعب تقديره ، إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها بكراهة الإيتاء المذكور . و قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : أن يؤتى ، بدلا من قوله : هدى اللّه ، ويكون المعنى : قل إن الهدى هدى اللّه وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن . ويكون قوله : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو فليحاجوكم ، فإنهم يغلبونكم . انتهى هذا القول . وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلاَّ في الضرورة . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينتصب : أن يؤتى ، بفعل مضمر يدل عليه قوله { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } كأنه قيل :{ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه } فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا . انتهى كلامه . وهو بعيد ، لأن فيه حذف حرف النهي ومعموله ، ولم يحفظ ذلك من لسانهم . وأجازوا أن يكون قوله { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } ليس داخلاً تحت قوله : قل ، بل هو من تمام قول الطائفة ، متصل بقوله :{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ويكون قوله :{ هَلْ أُنَبّئُكُمْ الْهُدَى هُدَى اللّه } جملة اعتراضية بين ما قبلها وما بعدها . ويحتمل هذا القول وجوها : أحدهما : أن يكون المعنى : ولا تصدّقوا تصديقاً صحيحاً وتؤمنوا إلاَّ لمن جاء بمثل دينكم ، مخافة أن يؤتى أحد من النبوّة والكرامة مثل ما أوتيتم ، ومخافة أن يحاجوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم يستمروا عليه ، وهذا القول ، على هذا المعنى ، ثمرة الحسد والكفر مع المعرفة بصحة نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم. الثاني : أن يكون التقدير : أن لا يؤتى ، فحذفت : لا ، لدلالة الكلام ، ويكون ذلك منتفياً داخلاً في حيز : إلاَّ ، لا مقدراً دخوله قبلها ، والمعنى : ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلاَّ لمن تبع دينكم ، بانتفاء أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، وانتفاء أن يحاجوكم عند ربكم أي : إلاَّ بانتفاء كذا . الثالث : أن يكون التقدير : بأن يؤتى ، ويكون متعلقاً بتؤمنوا ، ولا يكون داخلاً في حيز إلاَّ ، والمعنى : ولا تؤمنوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لمن تبع دينكم ، وجاء بمثله ، وعاضداً له ، فإن ذلك لا يؤتاه غيركم . ويكون معنى : {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم ، كما تقول : أنا لا أتركك أو تقضيني حقي ، وهذا القول على هذا المعنى ثمرة التكذيب لمحمد صلى اللّه عليه وسلم ، على اعتقاد أن النبوّة لا تكون إلاَّ في بني إسرائيل . الرابع : أن يكون المعنى : لا تؤمنوا بمحمد وتقروا بنبوّته إذ قد علمتم صحتها إلاَّ لليهود الذين هم منكم ، و { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } صفة لحال محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فالمعنى : تستروا بإقراركم أن قد أوتي أحد مثل أوتيتم ، أو فإنهم يعنون العرب ، يحاجونكم بالإقراب عند ربكم . وقال الزمخشري في هذا الوجه ، وبدأ به ما نصه : ولا تؤمنوا ، متعلق بقوله : أن يؤتى أحد ، و : ما بينهما اعتراض ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلاَّ لأهل دينكم دون غيرهم ، أرادوا : أسِرُّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا لأشياعكم وحدهم دون المسلمين ، لئلا يزتدهم ثباتاً ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام :{أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } عطف على { أَن يُؤْتَى } والضمير في : يحاجوكم ، لأحدَ لأنه في معنى الجميع بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ، ويغالبونكم عند اللّه بالحجة . انتهى كلامه . وأما : أحد ، على هذه الأقوال فإن كان الذي للعموم ، وكان ما قبله مقدراً بالنفي ، كقول بعضهم إن المعنى : لا يؤتى ، أو : إن المعنى : أن لا يؤتى أحد ، فهو جار على المألوف في لسان العرب من أنه لا يأتي إلاَّ في النفي أو ما أشبه النفي : كالنهي ، وإن كان الفعل مثبتاً يدخل هنا لأنه تقدم النفي في أول الكلام ، كما دخلت من في قوله :{ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مّنْ خَيْرٍ } للنفي قبله في قوله :{ مَّا يَوَدُّ} ومعنى الاعتراض على هذه الأوجه أنه أخبر تعالى بأن ما راموا من الكيد والخداع بقولهم :{ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى } الآية ، لا يجدي شيئاً ، ولا يصدّ عن الإيمان من أراد اللّه إيمانه ، لأن الهدى هو هدى اللّه ، فليس لأحد أن يحصله لأحد ، ولا أن ينفيه عن أحد . وقرأ ابن كثير : أن يؤتى أحد ؟ بالمدّ على الاستفهام ، وخرجه أبو عليّ على أنه من قول الطائفة ، ولا يمكن أن يحمل على ما قبله من الفعل ، لأن الإستفهام قاطع ، فيكون في موضع رفع على الإبتداء وخبره محذوف تقديره تصدّقون به ، أو تعترفون ، أو تذكرونه لغيركم ، ونحوه مما يدل عليه الكلام . و : يحاجوكم ، معطوف على : أن يؤتى . قال أبو علي : ويجوز أن يكون موضع : أن ، نصباً ، فيكون المعنى : أتشيعون ، أو : أتذكرون أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ؟ ويكون بمعنى : أتحدّثونهم بما فتح اللّه عليكم ؟ فعلى كلا الوجهين معنى الآية توبيخ من الأحبار للاتباع على تصديقهم بأن محمداً نبي مبعوث ، ويكون : أو يحاجوكم ، في تأويل نصب أن بمعنى : أو تريدون أن يحاجوكم ؟ . قال أبو عليّ وأحد ، على قراءة ابن كثير هو الذي لا يدل على الكثرة ، وقد منع الإستفهام القاطع من أن يشيع لامتناع دخوله في النفي الذي في أول الكلام ، فلم يبق إلاَّ أنه : أحد ، الذي في قولك : أحد وعشرون ، وهو يقع في الإيجاب ، لأنه في معنى : واحد ، وجمع ضميره في قوله :أو يحاجوكم ، حملاً على المعنى ، إذ : لأحد ، المراد بمثل النبوّة أتباع فهو في المعنى للكثرة قال أبو عليّ : وهذا موضع ينبغى أن ترجح فيه قراءة غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأن الأسماء المفردة ليس بالمستمر أن يدل على الكثرة . انتهى تخريج أبي علي لقراءة ابن كثير ، وقد تقدم تخريج قراءته على أن يكون قوله : أن يؤتيى ، مفعولاً من أجله ، على أن يكون داخلاً تحت القول من قول الطائفة ، وهو أظهر من جعله من قول الطائفة . وقد اختلف السلف في هذه الآية ، فذهب السدّي وغيره إلى أن الكلام كله من قوله :{ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه } إلى آخر الآية مما أمر اللّه به محمداً صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله لأمّته . وذهب قتادة ، والربيع : إلى أن هذا كله من قول اللّه ، أمره أن يقوله للطائفة التي قالت :{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وذهب مجاهد وغيره إلى أن قوله { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } كله من قول الطائفة لأتباعهم ، وقوله { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه } اعتراض بين ما قبله وما بعده من قول الطائفة لأتباعهم . وذهب ابن جريج إلى أن قوله : { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ } داخل تحت الأمر الذي هو : قل ، يقوله الرسول لليهود ، وتم مقوله في قوله : أوتيتم . وأما قوله :{أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبّكُمْ } فهو متصل بقول الطائفة { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وعلى هذه ، الانحاء ترتيب الأوجه السابقة . وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي يؤتى ، بكسر الهمزة بمعنى : لم يعط أحد مثل ما أعطيتم من الكرامة ، وهذه القراءة يحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة ؟ ويكون قولها : أو يحاجوكم ، بمعنى : أو ، فليحاجوكم ، وهذا على التصميم على أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتى ، أو يكون بمعنى : إلاَّ أن يحاجوكم ، وهذا على تجويز : أن يؤتى ، أحد ذلك إذا قامت الحجة له . هذا تفسير ابن عطية لهذه القراءة ، وهذا على أن يكون من قول الطائفة . وقال أيضاً في تفسيرها : كأنه صلى اللّه عليه وسلم يخبر أمّته أن اللّه لا يعطي أحداً ، ولا أعطى فيما سلف مثل ما أعطى أمّة محمد من كونها وسطاً ، فهذا التفسير على أنه من كلام محمد صلى اللّه عليه وسلم لأمّته ، ومندرج تحت : قل . وعلى التفسير الأول فسرها الزمخشري ، قال : وقرىء : إن يؤتى أحد على : إن ، النافية وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي : ولا تؤمنوا إلاَّ لمن تبع دينكم وقولوا ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم ، أي : ما يؤتون مثله فلا يحاجوكم . قال ابن عطية : وقرأ الحسن : ان يؤتى أحدٌ ، بكسر التاء على اسناد الفعل إلى : أحد ، والمعنى أن إنعام اللّه لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وأظهر ما في هذه القراءة أن يكون خطاباً من محمد صلى اللّه عليه وسلم لأمته ، والمفعول محذوف تقديره : ان يؤتى أحد أحداً . انتهى . ولم يتعرّض ابن عطية للفظ : ان ، في هذه القراءة : أهي بالكسر أم بالفتح . وقال السجاوندي : وقرأ الأعمش : ان يؤتى ، و : الحسن : ان يؤتى أحداً ، جعلا : أن ، نافية ، وإن لم تكن بعد إلاَّ كقوله تعالى :{ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ كَمْ فِيهِ } و : أو ، بمعنى : إلاَّ إن ، وهذا يحتمل قول اللّه عز وجل ، ومع اعتراض : قل ، قول اليهود . انتهى . وفي معنى : الهدى ، هنا قولان : أحدهما : ما أوتيه المؤمنون من التصديق برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. والثاني : التوفيق والدلالة إلى الخير حتى يسلم ، أو يثبت على الإسلام . ويحتمل : عند ربكم ، وجهين : أحدهما : أن ذلك في الآخرة . والثاني : عند كتب ربكم الشاهدة عليكم ولكم ، وأضاف ذلك إلى الرب تشريفاً ، وكان المعنى : أو يحاجوكم عند الحق ، وعلى هذين المعنيين تدور تفاسير الآية ، فيحمل كل منها على ما يناسب من هذين المعنيين . {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء } هذا توكيد لمعنى { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه } وفي ذلك تكذيب لليهود حيث قالوا : شريعة موسى مؤبدة ولن يؤتى اللّه أحداً مثل ما أوتي بنو إسرائل من النبوّة ، فالفضل هو بيد اللّه . أي : متصرّف فيه كالشيء في اليد ، وهذه كناية عن قدرة التصرّف والتمكن فيها والباري تعالى منزه عن الجارحة . ثم أخبر بأنه يعطيه من أراد ، فاختصاصه بالفضل من شاء ، إنما سببه الإرادة فقط ، وفسر : الفضل ، هنا بالنبوّة دهواكم والنبوة أشرف أفراده . {وَاللّه واسِعٌ عَلِيمٌ } تقدّم تفسيره . ٧٤يختص برحمته من . . . . . {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } قال الحسن ، ومجاهد ، والربيع : يفرد بنبوّته من يشاء . وقال ابن جريج : بالإسلام والقرآن . وقال ابن عباس ، ومقاتل : الإسلام . وقيل : كثرة الذكر للّه تعالى . {وَاللّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } تقدّم تفسير هذا وتفسير ما قبله في آخر آية :{ مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } وتضمنت هذه الآيات من البديع : التجنيس المماثل ، والتكرار في : آمنوا وآمنوا ، وفي الهدى ، هدى اللّه وفي : يؤتى وأوتيتم ، وفي : ان افضل ، وذو الفضل والتكرار أيضاً في : اسم اللّه ، في أربعة مواضع . والطباق : في آمنوا واكفروا ، وفي وجه النهار وفي آخره ، والإختصاص . في : وجه النهار ، لأنه وقت اجتماعهم بالمؤمنين يراؤونهم ، وآخره لأنه وقت خلوتهم بأمثالهم من الكفار ، والحذف في مواضع . ٧٥ومن أهل الكتاب . . . . . الدينار : معروف وهو أربعة وعشرون قيراماً ، والقيراط : ثلاث حبات من وسط الشعير ، فمجموعه : اثنتان وسبعون حبة ، وهو مجمع عليه . وفاؤه بدل من نون ، يدل على ذلك الجمع ، قالوا : دنانير ، وأصله : دنار ، أبدل من أول المثلين ، كما أبدلوا من النون في ثالث الأمثال ياءً في : تظنيت . أصله تظننت ، لأنه من الظن ، وهو بدل مسموع ، والدينار : لفظ أعجمي تصرّفت فيه العرب وألحقته بمفردات كلامها . دام : ثبت ، والمضارع : يدوم ، فوزنه ، فعل نحو قال : يقول ، قال الفراء : هذه لغة الحجاز وتميم ، تقول : دِمت ، بكسر الدال . قال : ويجتمعون في المضارع ، يقولون : يدوم . وقال أبو إسحاق يقول : دمت تدام ، مثل : نمت تنام ، وهي لغة ، فعلى هذا يكون وزن دام ، فعل بكسر العين ، نحو : خاف يخاف . والتدويم الاستدارة حول الشيء . ومنه قول ذي الرمة : والشمس حيرى لها في الجوّ تدويم وقال علقمة في وصف خمر : تشفي الصداع ولا يؤذيك صالبها ولا يخالطها في الرأس تدويم والدوام : الدوار ، يأخذ في رأس الإنسان فيرى الأشياء تدور به . وتدويم الطائر في السماء ثبوته إذا صف واستدار ومنه : الماء الدائم ، كأنه يستدير حول مركزه . لوى الحبل والتوى : فتله ثم استعمل في الإراغة في الحجج والخصومات ، ومنه : ليان الغريم : وهو دفعه ومطله ، ومنه : خصم ألوى : شديد الخصومة ، شبهت المعاني بالأجرام . اللسان : الجارحة المعروفة . قال أبو عمرو : اللسان يذكر ويؤنث ، فمن ذكر جمعه ألسنة ومن أنث أجمعه ألسنا . وقال الفراء : اللسان بعينه لم نسمعه من العرب إلاَّ مذكراً . انتهى . ويعبر باللسان عن الكلام ، وهو أيضاً يذكر ويؤنث إذا أريد به ذلك . الرباني : منسوب إلى الرب ، وزيدت الألف والنون مبالغة . كما قالوا : لحياني ، وشعراني ، ورقباني . فلا يفردون هذه الزيادة عن ياء النسبة . وقال قوم : هو منسوب إلى ربان ، وهو معلم الناس وسائسهم ، والألف والنون فيه كهي في : غضبان وعطشان ، ثم نسب إليه فقالوا : رباني ، فعلى هذا يكون من النسب في الوصف ، كما قالوا : أحمري في أحمر ، و : دواري في دّوار ، وكلا القولين شاذ لا يقاس عليه . درس الكتاب يدرسه : أدمن قراءته وتكريره ، ودرس المنزل : عفا ، وطلل دارس : عافٍ . {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا } الجمهور على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى أخبر اللّه تعالى بذم الخونة منهم ، فظاهره أن في اليهود والنصارى من يؤتمن فيفي ومن يؤتمن فيخون . وقيل : أهل الكتاب عنى به أهل القرآن ، قاله ابن جريج . وهذا ضعيف حداً لما يأتي بعده من قولهم :{ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ } وقيل : المراد بأهل الكتاب : اليهود ، لأن هذا القول { لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ } لم يقله ولا يعتقده إلاَّ اليهود . وقيل :{ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم . و :{ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ } هم اليهدو لغلبة الخيانة عليهم . وعين منهم كعب بن الأشرف وأصحابه . وقيل :{ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } هم من أسلم من أهل الكتاب . و :{ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ } من لم يسلم منهم . وروي أنه بايع بعض العرب بعض اليهود وأودعوهم فخانوا من أسلم ، وقالوا : قد خرجتم عن دينكم الذي عليه بايعناكم ، وفي كتابنا : لا حرمة لأموالكم ، فكذبهم اللّه تعالى . قيل : وهذا سبب نزول هذه الآية . وعن ابن عباس :{ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدّهِ } هو عبد اللّه بن سلام ، استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية ذهباً ، فأدّاه إليه . و :{ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ } فنحاص بن عازوراء ، استودعه رجل من قريش ديناراً فجحده وخانه . انتهى . ولا ينحصر الشرط في ذينك المعينين ، بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت : من . ألا ترى كيف جمع في قوله :{ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا } قالوا والمخاطب بقوله : تأمنه ، هو النبي صلى اللّه عليه وسلم بلا خلاف ، ويحتمل أن يكون السامع من أهل الإسلام ، وبيّنه قولهم :{ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ } فجمع الأمّيين وهم اتباع النبي الأمي . وقرأ أبي بن كعب : تأمنه ، في الحرفين ، و : تئمنا ، في يوسف . وقرأ ابن مسعود ، والأشهب العقيلي ، وابن وثاب : تيمنه ، بتاء مكسورة وياء ساكنة بعدها ، قال الداني : وهي لغة تميم . وأما إبدال الهمزة ياء في : تئمنه ، فلكسرة ما قبلها كما أبدلوا في بئر . وقد ذكرنا الكلام على حروف المضارعة من : ي فعل ، ومن : ما أوله همزة وصل عند الكلام على قوله { نَسْتَعِينُ } فأغنى عن إعادته . وقال : ابن عطية ، حين ذكر قراءة أبي : وما أراها إلاَّ لغة : قرشية ، وهي كسر نون الجماعة : كنستعين ، وألف المتكلم ، كقول ابن عمر : لا إخاله ، وتاء الخاطب كهذه الآية ، ولا يكسرون الياء في الغائب ، وبها قرأ أبي في : تئمنه . انتهى . ولم يبين ما يكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي ، وما ظنه من أنها لغة قرشية ليس كما ظنّ . وقد بينا ذلك في { نَسْتَعِينُ } وتقدّم تفسير : القنطار ، في قوله :{ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ} وقرأ الجمهور : يؤده ، بكسر الهاء ووصلها بياء . وقرأ قالون باختلاس الحركة ، وقرأ أبو عمرو ، وأبو بكر ، وحمزة ، والأعمش بالسكون . قال أبو إسحاق : وهذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن ، لأن الهاء لا ينبغي أن تجزم ، وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تسكن في الوصل . وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسرة ، فغلطب عليه كما غلط عليه في : بارئكم ، وقد حكى عنه سيبويه ، وهو ضابط لمثل هذا ، أنه كان يكسر كسراً خفيفاً . انتهى كلام ابن إسحاق . وما ذهب إليه أبو إسحاق من أن الإسكان غلط ليس بشيء ، إذ هي قراءة في السبعة ، وهي متواترة ، وكفى أنها منقولة من إمام البصريين أبي عمرو بن العلاء . فإنه عربي صريح ، وسامع لغة ، وإمام في النحو ، ولم يكن ليذهب عنه جواز مثل هذا . وقد أجاز ذلك الفراء وهو إمام في النحو واللغة . وحكى ذلك لغة لبعض العرب تجزم في الوصل والقطع . وقد روى الكسائي أن لغة عقيل وكلاب : أنهم يختلسون الحركة في هذه الهاء إذا كانت بعد متحرك ، وأنهم يسكنون أيضاً . قال الكسائي : سمعت أعراب عقيل وكلاب يقولون :{ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } بالجزم ، و : لربه لكنود ، بغير تمام وله مال وغير عقيل وكلاب لا يوجد في كلامهم اختلاس ولا سكون في : له ، وشبهه إلاَّ في ضرورة نحو قوله . له زجل كأنه صوت حاد وقال : إلا لأن عيونه سيل واديها ونص بعض أصحابنا على أن حركة هذه الهاء بعد الفعل الذاهب منه حرف لوقف أو جزم يجوز فيها الإشباع ، ويجوز الاختلاس ، ويجوز السكون . وأبو إسحاق الزجاج ، يقال عنه : إنه لم يكن إماماً في اللغة ، ولذلك أنكد على ثعلب في كتابه : { الفصيح } مواضع زعم أن العرب لا تقولها ، وردّ الناس على أبي إسحاق في إنكاره ، ونقلوها من لغة العرب . وممن ردّ عليه : أبو منصور الجواليقي ، وكان ثعلب إماماً في اللغة وإماماً في النحو على مذهب الكوفيين ، ونقلوا أيضاً قراءتين : إحداهما ضم الهاء ووصلها بواو ، وهي قراءة الزهري ، والأخرى : ضمها دون وصل ، وبها قرأ سلام . والباء في : بقنطار ، وفي : بدينارد قيل : للإلصاق . وقيل : بمعنى على ، إذا الأصل أن تتعدى بعلى ، كما قال مالك : { لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ } وقال :{ هَلْ امَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ } وقيل : بمعنى في أي : في حفظ قنطار ، وفي حفظ دينار . والذي يظهر أن القنطار والدينار مثالان للكثير والقليل ، فيدخل أكثر من القنطار وأقل . وفي الدينار أقل منه . قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد طبقه يعني في الدينار لا يجوز إلاَّ في دينار فما زاد ، ولم يعن بذكر الخائنين في : أقل ، إذ هم طغام حثالة . انتهى . ومعنى :{ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا } قال قتادة ، ومجاهد ، والزجاج ، والفراء ، وابن قتيبة : متقاضياً بأنواع التقاضي من : الخفر ، والمرافعة إلى الحكام ، فليس المراد هيئة القيام ، إنما هو من قيام المرء على أشغاله : أي اجتهاده فيها . وقال السدي وغيره : قائماً على رأسه وهي الهيئة المعروفة وذلك نهاية الخفر ، لأن معنى ذلك الخفر ، لأن معنى ذلك أنه في صدد شغل آخر يريد أن يستقبله . وذهب إلى هذا التأويل جماعة من الفقهاء ، وانتزعوا من الآية جواز السجن ، لأن الذي يقوم عليه غريمه هو يمنعه من تصرفاته في غير القضاء ، ولا فرق بين المنع من التصرفات وبين السجن . وقيل : قائماً بوجهك فيها بك ويستحي منك . وقيل : معنى : دمت عليه قائماً ، أي : مستعلياً ، فإن استلان جانبك لم يؤدّ إليك أمانتك . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ، ويحيى بن وثاب ، والأعمش ، وابن أبي ليلى ، والفياض بن غزوان ، وطلحة ، وغيرهم : دمت بكسر الدال ، وتقدم أنها لغة تميم وتقدم الخلاف في مضارعه . و : ما ، في : ما دمت ، مصدرية ظرفية . و : دمت ، ناقصة فخبرها : قائماً ، وأجاز أبو البقاء أن تكون : ما ، مصدرية فقط لا ظرفية ، فتتقدر بمصدر ، وذلك المصدر ينتصب على الحال ، فيكون ذلك استثناءً من الأحوال لا من الأزمان . قال : والتقدير : إلاَّ في حال ملازمتك له . فعلى هذا يكون : قائماً ، منصوباً على الحال ، لا خبراً لدام ، لأن شرط نقص : دام ، أن يكون صلة لما المصدرية الظرفية . {ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ } روي أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال . العرب لكونهم أهل أوثان ، فلما جاء الإسلام ، وأسلم من أسلم من العرب ، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد ، فنزلت الآية مانعة من ذلك . وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : كل شيء من أمر الجاهلية فهو تحت قدمي ، إلاَّ الأمانة فإنها مؤادّة إلى البر والفاجر . } والإشارة بذلك إلى ترك الأداء الذي دل عليه لا يؤدّه ، أي : كونهم لا يؤدّون الأمانة كان بسبب قولهم . والضمير في : بأنهم ، قيل : عائد على اليهود وقيل : عائد على لفيف بني إسرائيل . والأظهر أنه عائد على : من ، في قوله :{ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } وجمع حملاً على المعنى ، أي : ترك الأداء في الدّينا فما دونه وفما فوقه كائن بسبب قول المانع للأداء الخائن :{ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ } وهم الذين ليسوا من أهل الكتاب ، وهم العرب . وتقدّم كونهم سموا أمّيين في سورة البقرة . والسبيل ، قيل : العتاب والذم وقيل : الحجة على ، نحو قول حميد بن ثور : وهل أنا إن عللت نفسي بسرحة من السرح موجود عليّ طريق وقوله : فأولئك ما عليهم من سبيل من هذا المعنى ، وهو كثير في القرآن وكلام العرب وقيل : السبيل هنا الفعل المؤدّي إلى الإثم . والمعنى : ليس عليهم طريق فيما يستحلون من أموال المؤمنين الأمّيين . قال : وسبب استباحتهم لأموال الأمّيين أنهم عندهم مشركون ، وهم بعد إسلامهم باقون على ما كانوا عليه ، وذلك لتكذيب اليهود للقرآن وللنبي e وقيل : لأنهم انتقض العهد الذي كان بينهم بسبب إسلامهم ، فصاروا كالمحاربين ، فاستحلوا أموالهم وقيل : لأن ذلك مباح في كتابهم أخذ مال من خالفهم . وقال الكلبي : قالت اليهود : الأموال كلها كانت لنا ، فما في أيدي العرب منها فهو لنا ، وأنهم ظلمونا وغصبونا ، فلا سبيل علينا في أخذ أموالنا منهم وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن صعصعة ، أن رجلاً قال لابن عباس : أنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمّة : الشاة والدجاجة ، ويقولون : ليس علينا بذلك بأس ، فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب :{ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ } أنهم إذا أدّوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلاَّ عن طيب أنفسهم . وذكر هذا الأثر الزمخشري ، وابن عطية ، وفيه بعد ذكر الشاة أو الدجاجة ، قال : فيقولون ماذا قال ؟ يقول : ليس علينا في ذلك بأس . {وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ } أي القول الكذب يفترونه على اللّه بادعائهم أن ذلك في كتابهم . قال السدّي ، وابن جريج ، وغيرهما : ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلالاً لهم أموال الأمّيين كذباً منها وهي عالمة بكذبها ، فيكون الكذب المقول هنا هو هذا الكذب المخصوص في هذا الفصل . والظاهر أنه أعم من هذا ، فيندرج هذا فيه ، أي : هم يكذبون على اللّه في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق . وجوّزوا أن يكون : علينا ، خبر : ليس ، وأن يكون الخبر : في الأمّيين ، وذهب قوم إلى عمل : ليس ، في الجار ، فيجوز على هذا أن يتعلق بها . قيل : ويجوز أن يرتفع : سبيل ، بعلينا ، وفي : ليس ، ضمير الأمر ، ويتعلق : على اللّه ، بيقولون بمعنى : يفترون . قيل : ويجوز أن يكون حالاً من الكذب مقدماً عليه ولا يتعلق بالكذب . قيل : لأن الصلة لا تتقدّم على الموصول . {وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملة حالية تنعى عليهم قبيح ما يرتكبون من الكذب ، أي : إن العلم بالشيء يبعد ويقبح أن يكذب فيه ، فكذبهم ليس عن غفلة ولا جهل ، إنما هو عن علم . ٧٦بلى من أوفى . . . . . {بَلَى } جواب لقولهم :{ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الامّيِينَ سَبِيلٌ } وهذا مناقض لدعواهم ، والمعنى : بلى عليهم في الأمّيين سبيل ، وقد تقدّم القول في : بلى ، في قوله { بَلَى مَن كَسَبَ سَيّئَةً } فأغنى عن إعادته هنا . {مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } أخبر تعالى بأن من أوفى بالعهد واتقى اللّه في نقضه فهو محبوب عند اللّه وقال ابن عباس : اتقى هنا معناه اتقى الشرك ، وهذه الجملة مقررة للجملة المحذوفة بعد بلى ، و : من ، يحتمل أن تكون موصولة ، والأظهر أنها شرطية ، و : أوفى ، لغة الحجاز و : وفى ، خفيفة لغة نجد و : وفى ، مشدّدة لغة أيضاً . وتقدّم ذكر هذه اللغات . والظاهر في : بعهده ، أن الضمير عائد على : من وقيل : يعود على اللّه تعالى ، ويدخل في الوفاء بالعهد ، العهد الأعظم من ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، سواء أضيف العهد إلى : من ، أو : إلى اللّه ، والشرائط للجملة الخبرية أو الجزائية بمن هو العموم الذي في المتقين ، أو ما قبله ، فرد من أفراده ، ويحتمل أن يكون الخبر محذوفاً لدلالة المعنى عليه ، التقدير : يحبه اللّه ، ثم قال { فَإِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } وأتى بلفظ : المتقين ، عاماً تشريفاً للتقوى وحظاً عليها . ٧٧إن الذين يشترون . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّه وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا } نزلت في أحبار اليهود : أبي رافع ، وكنانة بن أبي الحقيق ، وكعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، قاله عكرمة . أو : فيمن حرّف نعته صلى اللّه عليه وسلم من اليهود ، قاله الحسن . أو : في خصومة الأشعث بن قيس مع يهودي ، أو مع بعض قرابته . أو : في رجل حلف على سلعة مساءً لأعطي بها أول النهار كذا ، يميناً كاذبة ، قاله مجاهد ، والشعبي . والإضافة في { بِعَهْدِ اللّه } إما للفاعل وإما للمفعول ، أي : بعهد اللّه إياه من الإيمان بالرسول الذي بعث مصدّقاً لما معهم ، وبأيمانهم التي حلفوها لنؤمنن به ولننصرنه ، أو بعهد اللّه . والاشتراء هنا مجاز ، والثمن القليل : متاع الدنيا من الرشى والتراؤس ونحو ذلك ، والظاهر أنها في أهل الكتاب لما احتف بها من الآيات التي قبلها والآيات التي بعدها . {أُوْلَائِكَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاْخِرَةِ } أي : لا نصيب لهم في الآخرة ، اعتاضوا بالقليل الفاني عن النعيم الباقي ، ونعني : لا نصيب له من الخير ، نفي نصيب الخير عنه . {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّه} قال الطبري : أي بما يسرهم وقال غيره : لا يكلمهم جملة وإنما تحاسبهم الملائكة ، قاله الزّجاج . وقال قوم : هو عبارة عن الغضب ، أي : لا يحفل بهم ، ولا يرضى عنهم ، وقاله ابن بحر . وقد تقدّم في البقرة شرح :{ وَلاَ يُكَلّمُهُمُ اللّه} {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قال الزمخشري : ولا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، يريد نفي اعتداده به ، واحسانه إليه . فإن قلت أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه . قلت أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثَمّ نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرداً لمعنى الإحسان مجازاً عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر . انتهى كلامه . وقال غيره : ولا ينظر أي : لا يرحم قال : فقلت انظري يا أحسن الناس كلهم لذي غلة صديان قد شفه الوجدُ {وَلاَ يُزَكّيهِمْ } ولا يثني عليهم أو لا ينمي أعمالهم ، فهي تنمية لهم ، أو لا يطهرهم من الذنوب . أقوال ثلاثة ، وتقدّم شرحه في البقرة . {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } تقدّم شرحه أيضاً . ٧٨وإن منهم لفريقا . . . . . {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا } أي : من اليهود ، قاله الحسن : أو : من أهل الكتابين ، قاله ابن عباس . وعن ابن عباس أيضاً : هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيّروا التوراة . وكتبوا كتاباً بدلوا فيه صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم . {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ } أي : يفتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف ، قاله الزمخشري و قال ابن عطية : يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها ، ومثال ذلك قولهم : راعنا ، وأسمع غير مسمع ، ونحو ذلك وليس التبديل المحض . انتهى . والذي يظهر أن الليّ وقع بالكتاب أي : بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس ، بل التحريف والتبديل وقع في الألفاظ ، والمعاني تبع للألفاظ ، ومن طالع التوراة علم يقيناً أن التبديل في الألفاظ والمعاني ، لأنها تضمنت أشياء يجزم العاقل أنها ليست من عند اللّه ، ولا أن ذلك يقع في كتاب إلهي من كثرة التناقض في الإخبار والأعداد ونسبة أشياء إلى اللّه تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك ، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر من الخمر والزنا ببناتهم . وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها ، فضلاً عن منصب النبوة . وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي ، رحمه اللّه تعالى ، كتاباً في { السؤالات على ألفاظ التوراة ومعانيه} ومن طالع ذلك الكتاب رأى فيه عجائب وغرائب ، وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها ، هذا مع خلوها من ذكر : الآخرة ، والبعث ، والحشر ، والنشر ، والعذاب والنعيم الأخرويين ، والتبشير برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وأين هذا من قوله تعالى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِىَّ الامّىَّ الَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ } وقوله تعالى وقد ذكر رسوله وصحابته .{ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِى التَّوْرَاةِ} وقد نص تعالى في القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة ، قال تعالى :{ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِى جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } وقال تعالى { يَصْنَعُونَ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ، ودل بمفهوم الصفة أن الذي أبدوه من الكتاب قليل . وقرأ الجمهور : يلوون ، مضارع : لوى وقرأ أبو جعفر بن القعقاع ، وشيبة بن نصاح ، وأبو حاتم عن نافع : يلوون بالتشديد ، مضارع : لوّى ، مشدّداً . ونسبها الزمخشري لأهل المدينة ، والتضعيف للمبالغة والتكتير في الفعل لا للتعدية وقرأ حميد : يلون ، بضم اللام ، ونسبها الزمخشري إلى أنها رواية عن مجاهد ، وابن كثير ، ووجهت على أن الأصل : يلوون ، ثم أبدلت الواو همزة ، ثم نقلت حركتها إلى الساكن قبلها ، وحذفت هي . والكتاب : هنا التوراة ، والمخاطب في : لتحسبوه ، المسلمون وقرىء : ليحسبوه ، بالياء وهو يعود على الذين يلوون ألسنتهم لهم ، أي : ليحسبه المسلمون ، والضمير المفعول في : ليحسبوه ، عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ، أي ليحسبوا المحرف من الكتاب . ويحتمل أن يكون قوله : بالكتاب ، على حذف مضاف أي : يلوون ألسنتهم بشبه الكتاب ، فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف ، كقوله تعالى : {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجّىّ يَغْشَاهُ } أي : أو كذي ظلمات ، فأعاد المفعول في : يغشاه ، على : ذي ، المحذوف . {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : وما المحرف والمبدل الذي لووه بألسنتهم من التوراة ، فلا تظنوا ذلك أنه من التوراة . {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} تأكيد لما قصدوه من حسبان المسلمين أنه من الكتاب ، وافتراء عظيم على اللّه ، إذ لم يكتفوا بهذا الفعل القبيح من التبديل والتحريف حتى عضدوا ذلك بالقول ليطابق الفعل القول ، ودل ذلك على أنهم لا يعرضون ، ولا يودّون في ذلك ، بل يصرحون بأنه في التوراة هكذا ، وقد أنزله اللّه على موسى كذلك ، وذلك لفرط جرأتهم على اللّه ويأسهم من الآخرة . {وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} رد عليهم في إخبارهم بالكذب ، وهذا تأكيد لقوله { وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ } نفي أولاً أخص ، إذ التعليل كان لأخص ، ونفي هنا أعم ، لأن الدعوى منهم كانت الأعم ، لأن كونه من عند اللّه أعم من أن يكون في التوراة أو غيرها . قال أبو بكر الرازي : هذه الآية فيها دلالة على أن المعاصي ليست من عند اللّه ولا من فعله ، لأنها لو كانت من فعله كانت من عنده وقد نفى اللّه تعالى نفياً عامّاً لكون المعاصي من عنده . انتهى . وهذا مذهب المعتزلة ، وكان الرازي يجنح إلى مذهبهم . وقال ابن عطية { وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّه } نفي أن يكون منزلاً كما ادّعوا ، وهو من عند اللّه بالخلق والاختراع والإيجاد ، ومنهم بالتكسب . ولم تعن الآية إلاَّ معنى التنزيل ، فبطل تعلق القدرية بظاهر قوله :{ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} {وَيَقُولُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } تقدّم تفسير مثل هذا آنفاً . ٧٩ما كان لبشر . . . . . {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يَأْتِيهِ اللّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللّه} روي أن أبا رافع القرظي قال للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، حين اجتمت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلهاً كما عبدت النصارى عيسى فقال الرئيس من نصارى نجران : أَوَ ذاك تريد يا محمد واليه تدعونا ؟ فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { معاذ اللّه ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت } ، فنزلت . وقيل : قال رجل : يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : { لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللّه ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله} . واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله :{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } فقال ابن عباس ، والربيع ، وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وذكروا سبب النزول المذكور . وقال النقاش ، وغيره : الإشارة إلى عيسى ، والآية رادّة على النصارى الذين قالوا : عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللّه } وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين . أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله :{ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا }{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه} والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول أبي بكر الصديق ، رضي اللّه عنه : ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدّم أن يصلى بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذين النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أنه اللّه لا يعطي الكَذَبُة والمدَّعين النبوّة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام . والكتاب : هنا اسم جنس ، والحكم : قيل بمعنى الحكمة ، ومنه : { إن من الشعر لحكماً} . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولاً بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوّة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس . أتى بلفظ : ثم ، التي هي للمهلة تعظيماً لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم . {كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللّه } عباداً جمع عبد . قال ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدّي . قال بعض اللغويين : هذه الجموع كلها بمعنى . وقال قوم : العباد للّه والعبيد للبشر . وقال قوم : العبدي إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضى الاستغراق في العبودية . والذي استقرئت في لفظة : العباد ، أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن فانظر قوله تعالى :{ وَاللّه رَءوفٌ بِالْعِبَادِ }{ وَعِبَادُ مُّكْرَمُونَ }{ قُلْ ياعِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض { إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وأما : العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول امرىء القيس : قولاً لدودان عبيد العصا ما غركم بالأسد الباسل ومنه قول حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلاَّ عبيد لأبي ، ومنه { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ } لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله :{ قُلْ ياأَهْلَ عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ } فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله :{ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ اللّه } اعبدوني واجعلوني إلهاً . انتهى كلام ابن عطية . وفيه بعض مناقشة . أما قوله : ومن جموعه : عبيد وعبدي ، أما عبيد فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، و : أما عبدبي فاسم جمع ، وألفاء للتأنيث . وأما ما استقرأه أن عباداً يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت أمرىء القيس ، وقول حمزة وقوله تعالى { بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ } فليس باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال : عباد ، دون : عبيد ، لأن فعالاً في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد . قال سيبويه : وربما جاء فعيلاً وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد . انتهى . فلما كان فعال هو المقيس في جمع : عبد ، جاء : عباد ، كثيراً . وأما { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ } فحسن مجيئه هنا وإن لم يكن مقيساً أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله { أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } وبعده { قَالُواْ ءاذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } فحسن مجيئه بلفظ العبيد مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق :{ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ } لأن قبله { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَىَّ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } وبعده { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } وأما مدلوله فمدلول : عباد ، سواء . وأما بيت امرىء القيس فلم يفهم التحقير من لفظ : عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول حمزة إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقول حمزة على أحد الجائزين . وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفاً على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن ابن كثير ، ومحبوب عن أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول . وقرأ الجمهور : عباداً لي ، بتسكين ياء الإضافة . وقرأ عيسى بن عمر : بفتحها . {وَلَاكِن كُونُواْ } هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني الحكيم العالم ، قاله قتادة ، وأبو رزين . أو : الفقيه ، قاله علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد . أو : العالم الحليم ، قاله قتادة وغيره . أو : الحكيم الفقيه ، قاله ابن عباس . أو : الفقيه العالم ، قاله الحسن ، والضحاك . أو : والي الأمر يربيهم ويصلحهم ، قاله ابن زيد . أو : الحكيم التقي ، قاله ابن جبير . أو : المعلم ، قاله الزجاج . أو : العالم ، قاله المبرد . أو : التائب لربه ، قاله المؤرج . أو : الشديد التمسك بدين اللّه وطاعته ، قاله الزمخشري . أو : العالم الحكيم الناصح للّه في خلقه ، قاله عطاء . أو : العالم العامل بعلمه ، قاله ابن جبير . أو : العالم المعلم ، قاله بعضهم . وهذه أقوال متقاربة . وللصوفية في تفسيره أقوال كثيرة غير هذه ، وقال مجاهد : الرباني فوق الحبر ، لأن الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دينهم ودنياهم . وفي البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره . قال ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى . ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية : اليوم مات رباني هذه الآمة . {رَبَّانِيّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } الباء للسبب ، و : ما ، الظاهر أنها مصدرية ، و : تعلمون ، متعدٍ لواحد على قراءة الحرميين وأبي عمرو إذ قرؤوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء وفتح العين وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدّى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب . وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدّم أني لا أرى شيئاً من هذه التراجيح ، لأنها كلها منقولة متواترة قرآناً ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى . وقرأ مجاهد ، والحسن : تعلمون ، بفتح التاء والعين واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما . وقرأ أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء . وروي عنه : تدرّسون ، بضم التاء وفتح الدال وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية . وقرىء : تدرسون ، منن أدرس بمعنى درّس نحو : أكرم وكرّم ، و : أنزل نزّل ، وقال الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوّة التمسك بطاعة اللّه مسببة عن العلم والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعى من جهد نفسه وكد روحه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضاً ، بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ولم يعمل به فليس من اللّه في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلاَّ للمتمسكين بطاعته . انتهى كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه : لا يكون مؤمناً عالماً إلاَّ بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان . {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } ٨٠ولا يأمركم أن . . . . . {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيّيْنَ أَرْبَابًا } قرأ الحرميان ، والنحويان ، والأعشى والبرجمي : برفع الراء على القطع ، ويختلس أبو عمرو الحركة على أصله ، والفاعل ضمير مستكن في يأمر عائد على اللّه ، قاله سيبويه ، والزجاج . وقال ابن جريج : عائد على : بشر ، الموصوف بما سبق ، وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والمعنى على هذه القراءة : أنه لا يقع من بشر موصوف بما وصف به أن يجعل نفسه رباً فيعبد ، ولا هو أيضاً يأمر باتخاذ غيره من ملائكة وأنبياء أرباباً ، فانتفى أن يدعو لنفسه ولغيره . وإن كان الضمير عائداً على اللّه فيكون إخباراً من اللّه أنه لم يأمر بذلك ، فانتفى أمر اللّه بذلك ، وأمر أنبيائه . وقرأ عاصم وابن عامر ، وحمزة ولا يأمركم ، بنصب الراء ، وخرجه أبو علي وغيره على أن يكون المعنى : ولا له أن يأمركم ، فقدروا : أن ، مضمرة بعد : لا ، وتكون : لا ، مؤكدة معنى النفي السابق ، كما تقول : ما كان من زيد إتيان ولا قيام . وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد ، فلا للتوكيد في النفي السابق ، وصار المعنى : ما كان من زيد إتيان ولا منه قيام . وقال الطبري قوله : ولا يأمركم ، بالنصب معطوف على قوله : ثم يقول : قال ابن عطية : وهذا خطأ لا يلتئم به المعنى . انتهى كلامه . ولم يبين جهة الخطأ ولا عدم التئام المعنى به ، ووجه الخطأ انه إذا كان معطوفاً على : ثم يقول ، وكانت لا لتأسيس النفي ، فلا يمكن إلاَّ أن يقدر العامل قبل : لا ، وهو : أن ، فينسبك من : ان ، والفعل المنفي مصدرٍ منتف فيصير المعنى : ما كان لبشر موصوف بما وصف به انتفاء امره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، وإذا لم يكن له الأنتفاء كان له الثبوت ، فصار آمراً باتخاذهم أرباباً وهو خطأ ، فإذا جعلت لا لتأكيد النفي السابق كان النفي منسحباً على المصدرين المقدر ثبوتهما ، فينتفي قوله : { كُونُواْ عِبَادًا لّى } وأمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً ، ويوضح هذا المعنى وضع : غير ، موضع : لا ، فإذا قلت : ما لزيد فقه ولا نحو ، كانت : لا ، لتأكيد النفي ، وانتفى عنه الوصفان ، ولو جعلت : لا ، لتأسيس النفي كانت بمعنى : غير ، فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه وثبوت النحو له ، إذ لو قلت : ما لزيد فقه وغير نحو ، كان في ذلك إثبات النحو له ، كأنك قلت : ماله غير نحو . ألا ترى أنك إذا قلت : جئت بلا زاد ، كان المعنى : جئت بغير زاد ، وإذا قلت : ما جئت بغير زاد ، معناه : أنك جئت بزاد ؟ لأن : لا ، هنا لتأسيس النفي ، وأن يكون من عطف المنفي بلا على الثبت الداخل عليه النفي ، نحو : ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم ، تريد : ما أريد أن لا تتعلم . وأجاز الزمخشري أن أن تكون : لا ، لتأسيس النفي ، فذكر أولاً كونها زائدة لتأكيد معنى النفي ، ثم قال : والثاني أن يجعل : لا ، غير مزيده ، والمعنى : أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح ، فلما قالوا له : أنتخذك رباً ، قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه ، ثم يأمر الناس بعبادته وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء . قال : والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر ، وينصرها قراءة عبد اللّه : ولن يأمركم ، انتهى كلام الزمخشري . {أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ } هذا استفهام إنكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح ، إذ الأمر بالكفر على كل حال منكر ، ومعناه : أنه لا يأمر بكفر لا بعد الأسلام ولا قبله ، سواء كان الآمر اللّه أم الذي استنبأه اللّه . وفي هذه الآية دلالة على أن المخاطبين كانوا مسملمين ، ودلالة على أن الكفر ملة واحدة إذ الذين اتخذوا الملائكة أرباباً ثم الصابئة وعبدة الأوثان ، والذين اتخذوا النبيين أرباباً هم اليهود والنصارى والمجوس ، ومع هذا الاختلاف سمى اللّه الجميع : كفراً . و : بعد ، ينتصب بالكفر ، أو : بيأمركم ، وإذ ، مضافة للجملة الإسمية كقوله :{ وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ } وأضيف إليها : بعد ، ولا يضاف إليها إلاَّ ظرف زمان . {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ} ٨١وإذ أخذ اللّه . . . . . {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى : لما نفى عن أهل الكتاب قبائح أقوالهم وأفعالهم ، وكان مما ذكر أخيراً اشتراءهم بآيات اللّه ثمناً قليلاً ، وما يؤول أمرهم إليه في الآخرة ، وإن منهم من بدل في كتابه وغير ، وصف رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونزه رسوله عن الأمر بأن يعبد هو أو غيره ، بل تفرّد باللّه تعالى بالعبادة ، أخذ تعالى يقيم الحجة على أهل الكتاب وغيرهم ممن أنكر نبوّته ودينه ، فذكر أخذ الميثاق على أنبيائهم بالإيمان برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والتصديق له ، والقيام بنصرته ، وإقرارهم بذلك ، وشهادتهم على أنفسهم ، وشهادته تعالى عليهم بذلك ، وهذا العهد مذكور في كتبهم وشاهد بذلك أنبياؤهم . وقرأ أبي ، وعبد اللّه : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، بدل : النبيين ، وكذا هو في مصحفيهما . وروي عن مجاهد أنه قال : هكذا هو القرآن ، وإثبات النبيين خطأ من الكاتب ، وهذا لا يصح عنه لأن الرواة الثقات نقلوا عنه أنه قرأ : النبيين كعبد اللّه بن كثير وغيره ، وإن صح ذلك عن غيره فهو خطأ مردود بإجماع الصحابة على مصحف عثمان . والخطاب بقوله : وإذ أخذ ، يجوز أن يكون للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، أمره أن يذكر أهل الكتاب بما هو في كتبهم من أخذ الميثاق على النبيين ، ويجوز أن يتوجه إلى أهل الكتاب أمروا أن يذكروا ذلك ، وعلى هذين التقديرين يكون العامل : أذكر ، أو : أذكروا ، ويجوز أن يكون العامل في : إذ ، قال من قوله : { قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ } وهو حسن ، إذ لا تكلف فيه . قيل : ويجوز أن يكون معطوفاً على ما تقدم من لفظ إذ ، والعامل فيها : اصطفى ، وهذا بعيد جداً . وظاهر الكلام يدل على أن اللّه هو الآخذ ميثاق النبيين فروي عن عليّ ، وابن عباس ، وطاووس ، والحسن ، والسدّي : أن الذين أخذ ميثاقهم هم الأنبياء دون أممهم ، أخذ عليهم أن يصدّق بعضهم بعضاً ، وأن ينصر بعضهم بعضاً ، ونصرة كل نبي لمن بعده توصية من آمن به أن ينصره إذا أدرك زمانه . وينبو عن هذا المعنى لفظ :{ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ } إلى آخر الكلام . وقال ابن عباس أيضاً فيما روى عنه : أخذ ميثاق النبيين وأممهم على الأيمان بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ونصره ، واجتزأ بذكر النبيين من ذكر أممها لأن الأمم أتباع للأنبياء ، ويدل عليه قول عليّ كرّم اللّه وجهه : ما بعث اللّه نبياً إلاَّ أخذ عليه العهد في محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وأمره بأخذ العهد على قومه فيه بأن يؤمنوا به وينصروه إن أدركوا زمانه . وروي عن ابن عباس أيضاً : أنه تعالى لما أخرج ذرية آدم من صلبه أخذ الميثاق على جميع المرسلين أن يقروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. وعلى هذين القولين يكون قوله :{ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ } عني به واحد وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولا يكون جنساً . ويبعد قول ابن عباس : أن الميثاق كان حين أخرجهم من ظهر آدم كالذر . قرأ حمزة : لما آتيناكم ، لأن الظاهر أن ذلك كان بعد إيتاء الكتاب والحكمة . و : ميثاق ، مضاف إلى النبيين ، فيحتمل أن يكون النبيون هم الموثقون للعهد على أممهم ، ويحتمل أن يكونوا هم الموثق عليهم ، والذي يدل عليه ما قبل الآية من قوله :{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللّه } الآية وما بعدها من قوله :{ وَمِنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا } أن المراد بقوله { ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ } هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولذلك جاء مصدقاً لما معكم . وكثيراً ما وصف بهذا الوصف في القرآن رسولنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ألا ترى إلى قوله { وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّه مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ } ؟ وكذلك وصف كتابه بأنه مصدق لما في كتبهم ، وإذا تقرر هذا كان المجاز في صدر الآية فيكون على حذف مضاف أي : وإذ أخذ اللّه ميثاق أتباع النبيين من أهل الكتاب ، أو ميثاق أولاد النبيين ، فيوافق صدر الآية ما بعدها ، وجعل ذلك ميثاقاً للنبيين على سبيل التعظيم لهذا الميثاق ، أو يكون المأخوذ عليهم الميثاق مقدّراً بعد النبيين ، التقدير : وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين على أممهم . ويبين هذا التأويل قراءة أبي ، وعبد اللّه : ميثاق الذين أوتوا الكتاب ، ويبين أيضاً أن الميثاق كان على الأمم قوله :{ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } ومحال هذا الفرض في حق النبيين ، وإنما ذلك في حق الأتباع . وقرأ جمهور السبعة : لما ، بفتح اللام وتخفيف الميم وقرأ حمزة : لما ، بكسر اللام وقرأ سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، بتشديد الميم . فأما توجيه قراءة الجمهور ففيه أربعة أقوال . أحدهما : أن : ما ، شرطية منصوبة على المفعول بالفعل بعدها ، واللام قبلها موطئة لمجيء : ما ، بعدها جواباً باللقسم ، وهو أخذ اللّه ميثاق . و : من ، في قوله : من كتاب ، كهي ، في قوله :{ مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ } والفعل بعد : ما ، ماضٍ معناه الاستقبال لتقدم ، ما ، الشرطية عليه . وقوله : ثم جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، فهو في حيز الشرط ، ويلزم أن يكون في قوله : ثم جاءكم ، رابط يربطها بما عطفت عليه ، لأن : جاءكم ، معطوف على الفعل بعد : ما ، و : لتؤمنن به ، جواب لقوله { أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ } ونظيره من الكلام في التركيب : أقسم لأيهم صحبت ، ثم أحسن إليه رجل تميمي لأحسنن إليه ، تريد لأحسنن إلى الرجل التميمي . فلأحسنن جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، وكذلك في الآية جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، والضمير في : به ، عائد على : رسول ، وهذا القول ، وهو أن : ما ، شرطية هو قول الكسائي . وسأل سيبويه الخليل عن هذه الآية فقال ما نصه : ما ، ههنا بمنزلة : الذي ، ودخلت اللام كما دخلت على : إن ، حين قلت : واللّه لئن فعلت لأفعلن ، فاللام في : ما ، كهذه التي في : أن ، واللام التي في الفعل كهذه التي في الفعل هنا انتهى ثم قال سيبويه : ومثل ذلك { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ } إنما دخلت اللام على نية اليمين انتهى . وقال أبو علي : لم يرد الخليل بقوله : بمنزلة الذي أنها موصولة ، بل أنها اسم ، كما أن الذي اسم وأقر أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً :{ وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفّيَنَّهُمْ } وفي قوله :{ وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ } انتهى . وتحصل من كلام الخليل وسيبويه أن : ما ، في : لما أتيتكم ، شرطية وقد خرجها على الشرطية غير هؤلاء : كالمازني ، والزجاج ، وأبي علي ، والزمخشري ، وابن عطية وفيه خدش لطيف جدّاً ، وهو أنه : إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه ، وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ، ومتعلقاته متعلقاته ، فإذا قلت : واللّه لمن جاءني لأكرمنه ، فجواب : مَنْ ، محذوف ، التقدير : من جاءني أكرمه . وفي الآية اسم الشرط : ما ، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم ، وهو الفعل المقسم عليه ، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بواسطة حرف الجر لا ضمير : ما ، المقدّر ، فجواب : ما ، المقدّر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك ، لأنه تعد . والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط ، وإن كان من غير جنس جواب القسم فيكف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلاَّ إذا كان من جنس جواب القسم ؟ ألا ترى أنك لو قلت : واللّه لئن ضربني زيد لأضربنه ؟ فكيف تقدره : إن ضربني زيد أضربه ؟ ولا يجوز أن يكون التقدير : واللّه إن ضربني زيد أشكه لأضربنه ، لأن : لأضربنه ، لا يدل على : أشكه ، فهذا ما يرد على قول من خرج : ما ، على أنها شرطية . وأما قول الزمخشري : ولتؤمنن ، ساد مسد جواب القسم ، والشرط جميعاً فقول ظاهره مخالف لقول من جعل : ما ، شرطية ، لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ، اللّهم إن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب يسد مسدهما ، فيمكن أن يقال ؛ وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح ، لأن كلاًّ منهما ، أعني : الشرط والقسم ، يطلب جواباً على حدة ، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما ، لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه ، فيكون في موضع جزم ، والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه ، فلا موضع له من الإعراب . ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب . والقول الثاني : قاله أبو علي الفارسي وغيره ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مبتدأة ، وصلتها : آتيناكم ، والعائد محذوف تقديره : آتيناكموه ، و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والعائد منها على الموصول محذوف تقديره : ثم جاءكم رسول به ، فحذف لدلالة المعنى عليه ، هكذا خرجوه ، وزعموا أن ذلك على مذهب سيبويه ، وخرجوه على مذهب الأخفش : أن الربط لهذه الجملة العارية عن الضمير حصل بقوله : لما معكم ، لأنه هو الموصول ، فكأنه قيل : ثم جاءكم رسول مصدق له ، وقد جاء الربط في الصلة بغير الضمير ، إلاَّ أنه قليل : روي من كلامهم : أبو سعيد الذي رويت عن الخدري ، يريدون : رويت عنه وقال : فيا رب ليلى أنت في كل موطن وأنت الذي في رحمة اللّه أطمع يريد في رحمته أطمع . وخبر المبتدأ ، الذي هو : ما ، الجملة من القسم المحذوف وجوابه ، وهو : لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على الموصول المبتدأ ، ولا يعود على : رسول ، لئلا تخلو الجملة التي وقعت خبراً عن المبتدأ من رابط يربطها به ، والجملة الابتدائية التي هي : لما آتيناكم ، إلى آخره هي الجملة المتلقى بها ما أجرى مجرى القسم ، وهو قوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ النَّبِيّيْنَ} والقول الثالث : قاله بعض أهل العلم ، وهو : أن تكون : ما ، موصولة مفعولة بفعل جواب القسم ، التقدير : لتبلغن ما آتيناكم من كتاب وحكمة ، قال : إلاَّ أنه حذف : لتبلغن ، لدلالة عليه ، لأن لام القسم إنما تقع على الفعل ، فلما دلت هذه اللام على هذا الفعل حذف ، ثم قال تعالى :{ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ } وهو محمد صلى اللّه عليه وسلم { لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } وعلى هذا التقدير يستقيم النظم ، انتهى . ويعني : يكون : لتؤمنن به ، جواب قسم محذوف ، وهذا بعيد جداً لا يحفظ من كلامهم ، واللّه لزيداً تريد ليضربن زيداً . والقول الرابع : قاله ابن أبي إسحاق ، وهو : أن يكون : لما ، تخفيف لما ، والتقدير : حين آتيناكم ، ويأتي توجيه قراءة التشديد . وأمّا توجيه قراءة حمزة : فاللام هي للتعليل ، و : ما ، موصولة : بآتيناكم ، والعائد محذوف . و : ثم جاءكم ، معطوف على الصلة ، والرابط لها بالموصول إما إضمار : به ، على ما نسب إلى سيبويه ، وإما هذا الظاهر الذي هو : لما معكم ، لأنه في المعنى هو الموصول على مذهب أبي الحسن . وقول الزمخشري : فجواب : أخذ اللّه ميثاق النبيين هو لتؤمنن به ، والضمير في : به ، عائد على رسول ، ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور ، لو قلت : أقسمت للخبر الذي بلغني عن عمر ولأحسنن إليه ، جاز . وأجاز الزمخشري ، في قراءة حمزة ، أن تكون : ما ، مصدرية ، وبدأ به في توجيه هذه القراءة ، قال : ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ، على أن : ما ، مصدرية ، والفعلان معها أعني : آتيناكم وجاءكم ، في معنى المصدرين ، واللام داخلة للتعليل على معنى : أخذ اللّه ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة ، وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف . انتهى كلامه . إلاَّ أن ظاهر هذا التعليل الذي ذكره ، وهذا التقدير الذي قدره ، أنه تعليل للفعل المقسم عليه ، فإن عنى هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية ، لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخذ الميثاق لا لمتعلقة ، وهو الإيمان . فاللام متعلقة بأخذ ، وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله : لتؤمنن به ، ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها . تقول : واللّه لأضربن زيداً ، فلا يجوز : واللّه زيداً لاضربن ، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في : لما ، بقوله : لتؤمنن به . وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب ، إذا كان ظرفاً أو مجروراً ، تقدّمه ، وجعل من ذلك عوض لا نتفرق ، وقوله تعالى :{ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } فعلى هذا يجوز أن تتعلق بقوله : لتؤمنن به ، وفي هذه المسألة تفصيل يذكر في علم النحو . وذكر السجاوندي ، عن صاحب النظم : أن هذه اللام في قراءة حمزة هي بمعنى : بعد ، كقول النابغة : توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع فعلى ذا لا تكون اللام في : لما ، للتعليل . وأمّا توجيه قراءة سعيد بن جبير ، والحسن : لما ، فقال أبو إسحاق : أي لما آتاكم الكتاب والحكمة أخذ الميثاق ، وتكون : لما ، تؤول إلى الجزاء كما تقول : لما جئتني أكرمتك . انتهى كلامه . قال ابن عطية : ويظهر أن : لما ، هذه هي الظرفية ، أي : لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق ، إذ على القادة يؤخذ ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزة . وقال الزمخشري : لما ، بالتشديد بمعنى : حين آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق وجب عليكم الإيمان به ونصرته . انتهى . فاتفق ابن عطية والزمخشري على أن : لما ظرفية ، واختلفا في تقدير الجواب العامل في : لما ، على زعمهما . فقدّره ابن عطية من القسم ، وقدّره الزمخشري من جواب القسم ، وكلا قوليهما مخالف لمذهب سيبويه في : لما ، المقتضية جواباً ، فإنها عند سيبويه حرف وجواب لوجوب ، وليست ظرفية بمعنى : حين ، ولا بمعنى غيره ، وإنما ذهب إلى ظرفيتها أبو علي الفارسي . وقد تكلمنا على ذلك كلاماً مشبعاً في كتاب { التكميل لشرح التسهيل} وبينا أن الصحيح مذهب سيبويه . وذهب ابن جني في تخريج هذه القراءة إلى أن أصلها : لمن ما ، وزيدت : من ، في الواجب على مذهب الأخفش ، ثم أدغمت كما يجب في مثل هذا ، فجاء : لمما ، فثقل اجتماع ثلاث ميمات ، فحذفت الميم الأولى فبقي : لما . قال ابن عطية : وتفسير هذه القراءة على هذا التوجيه الملحق تفسير : لما ، بفتح الميم مخففة ، وقد تقدّم . انتهى . وظاهر كلامه أن : من ، في قوله : لمن ما ، زائدة في الواجب على مذهب الأخفش ، وقد ذكر هذا التقدير في توجيه قراءة : لما ، بالتشديد الزمخشري ولم ينسبه إلى أحد ، فقال : وقيل أصله : لمن مّا ، فاستثقلوا اجتماع ثلاث ميمات وهي : الميمان والنون المنقلبة ميماً بإدغامها في الميم ، فحذفوا إحداها ، فصارت : لما ، ومعناه : لمن أجل ما آتيناكم لتؤمنن به ، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى . انتهى كلامه . وهو مخالف لكلام ابن جني في : من ، المقدّر دخولها على : ما ، فإن ظاهر كلام ابن جني أنها زائدة ، وظاهر كلام الزمخشري أنها ليست بزائدة ، لأنه جعلها للتعليل . وفي قول الزمخشري : فحذفوا إحداهما ، إبهام في المحذوف ، وقد عينها ابن جني : بأن المحذوفة هي الأولى ، وهذا التوجيه في قراءة التشديد في غاية البعد ، وينزه كلام العرب أن يأتي فيه مثله ، فكيف كلام اللّه تعالى ؟ وكان ابن جني كثير التحمل في كلام العرب . ويلزم في : لما ، على ما قرره الزمخشري أن تكون اللام في : لمن ما آتيناكم ، زائدة ، ولا تكون اللام الموطئة ، لأن اللام الموطئة إنما تدخل على أدوات الشرط لا على حرف الجر ، لو قلت : أقسم باللّه لمن أجلك لأضربن عمراً ، لم يجز ، وإنما سميت موطئة لأنها توطىء ما يصلح أن يكون جواباً للشرط للقسم ، فيصير جواب الشرط إذ ذاك محذوفاً لدلالة جواب القسم عليه . وقرأ نافع : آتيناكم ، على التعظيم وتنزيل الواحد منزلة الجمع ، وقرأ الجمهور : آتيتكم ، على الإفراد وهو الموافق لما قبله وما بعده ، إذ تقدّمه { وَإِذْ أَخَذَ اللّه } وجاء بعده { إِصْرِى} وقرأ عبد اللّه : رسول مصدّقاً ، نصبه على الحال ، وهو جائز من النكرة ، وإن تقدّمت النكرة . وقد ذكرنا أن سيبويه قاسه ، ويحسن هذه القراءة أنه نكرة في اللفظ معرفة من حيث المعنى ، لأن المعني به محمد صلى اللّه عليه وسلم على قول الجمهور ، وقوله : لما آتيتكم ، إن أريد جميع الأنبياء ، وهو ظاهر اللفظ ، فإن أريد بالإيتاء الإنزال فليس كلهم أنزل عليهم ، فيكون من خطاب الكل بخطاب أشرف أنواعه ، ويكون التعميم في الأنبياء مجازاً ، وإن أريد بالإيتاء كونه مهتدى به وداعياً إلى العمل به صح ذلك في جميع الأنبياء ، ويكون التعميم حقيقة . وكذلك إن أريد بالأنبياء المجاز ، وهو : أممهم ، يكون إيتاؤهم الكتاب كونه تعالى جعله هادياً لهم وداعياً . {ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ } أي : ثم جاء في زمانكم . ومعنى التصديق كونه موافقاً في التوحيد والنبوّات وأصول الشرائع ، وجميعهم متفقون على أن الحق في زمان كل نبي شرعه وفي قول : رسول ، دلالة على أن الميثاق المأخوذ هو ما قرر في العقول من الدلائل التي توجب الإنقياد لأمر اللّه ، وفي قوله :{ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ } دلالة على أن الميثاق هو شرحه لصفات الرسول في كتب الأنبياء ، فهذان الوجهان محتملان ، وأوجب الإيمان أولاً ، والنصرة ثانياً ، وهو ترتيب ظاهر . {قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى } ظاهره أن الضمير في : قال ، عائد على اللّه تعالى ، وفي : أقررتم ، خوطب به الأنبياء المأخوذ عليهم الميثاق على الخلاف ، أهو على ظاهره ؟ أم هو على حذف مضاف ؟ أم هو مما حذف بعد النبيين وتقديره ميثاق النبيين على أممهم ؟ لم يكتف بأخذ الميثاق حتى استنطقه بالإقرار بالإيمان به والنصرة له . قيل : ويحتمل أن يكون الضمير في : قال ، على كل فرد فرد من النبين ، أي : قال كل نبي لأمته : أأقررتم ، ومعنى هذا القول على هذا الاحتمال الإثبات والتأكيد ، لم يقتصروا على أخذ الميثاق على الأمم ، بل طالبوهم بالإقرار بالقول . ويكون : إصري ، على الظاهر مضافاً إلى اللّه تعالى ، وعلى هذا القول الثاني يكون مضافاً إلى النبي والإصر : العهد لأنه مما يؤصر أي يشدّ ويعقد . وقرىء بضم الهمزة ، وهي مروية عن أبي بكر عن عاصم ، فيحتمل أن يكون ذلك لغة في : اصر ، كما قالوا : اناقة أسفار عبر ، وعبر أسفار ، وهي المعدّة للأسفار . ويحتمل أن يكون جمعاً لإصار ، كإزار وأزر ومعنى الأخذ هنا : القبول . {قَالُواْ أَقْرَرْنَا } معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته ، وقبلنا ذلك والتزمناه . وثم جملة محذوفة أي : أقررنا وأخذنا على ذلك الإصر ، وحذفت لدلالة ما تقدم عليها . {قَالَ فَاشْهَدُواْ } الظاهر أنه تعالى قال للنبيين المأخوذ عليهم الميثاق : فاشهدوا ، ومعناه من الشهادة أي : ليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأخذ الإصر ، قاله مقاتل . وقيل : فاشهدوا هو خطاب لملائكة ، قاله ابن المسيب . وقيل : معنى : فاشهدوا ، بينوا هذا الميثاق للخاص والعام لكيلا يبقى لأحد عذر في الجهل به ، وأصله : أن الشاهد هو الذي يبين صدق الدعوى ، قاله الزجاج ، ويكون : اشهدوا ، بمعنى : أدّوا ، لا يمعنى : تحملوا . وقيل : معناه استيقنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له ، قاله ابن عباس . وقيل : فاشهدوا ، خطاب للأنبياء إذا قلنا : إن أخذ الميثاق كان على أتباعهم أمروا بأن يكونوا شاهدين على أممهم ، وروي هذا عن عليّ بن أبي طالب . وعلى القول : بأن المعنى في : قال أأقررتم ، أي : قال كل نبي ، يكون المعنى على بكل نبي لأمّته فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضكم على بعض . وقوله : فاشهدوا ، معطوف على محذوف التقدير ، قال : أأقرتم فاشهدوا ، فالفاء دخلت للعطف . ونظير ذلك قوله : ألقيت زيداً ؟ قال : فأحسن إليه . التقدير : لقيت زيداً فاحسن إليه ، فما فيه الفاء بعض المقول ، ولا يجوز أن يكون كل المقول لأجل الفاء ، ألا ترى قال : أأقررتم ، وقوله : قالوا أقررنا ؟ لما كان كل المقول لم تدخل بالفاء . {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشَّاهِدِينَ } يحتمل الاسئناف على سبيل بالتوكيد ، ويحتمل أن يكون جملة حالية {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ٨٢فمن تولى بعد . . . . . أي : من أعرض عن الإيمان بهذا الرسول ، وعن نصرته بعد أخذ الميثاق والإقرار والتزام العهد ، قاله عليّ بن أبي طالب وغيره . و قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بعد الشهادة عند الأمم بهذا الميثاق ، على أن قوله تعالى : فاشهدوا ، أمر بالأداء . و : من ، الظاهر أنها شرط ، والجملة من : فأولئك وما بعده جزاء ، ويحتمل أن تكون موصولة ، وأعاد الضمير في : تولى ، مفرداً على لفظ : من وجمع في : فأولئك ، حملاً على المعنى ، وهذه : ذلك الجملة تدل عل أن الذين أخذ منهم الميثاق هم أتباع الأنبياء ، لأنه حكم تعالى بالفسق على من تولى بعد ذلك ، وهذا الحكم لا يليق إلاَّ بأمم الأنبياء ، وأيضاً فالأنبياء ، عليهم السلام ، كانوا أمواتاً عند مبعثه صلى اللّه عليه وسلم ، يعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق هم أممهم . وذكروا في هذه الآية أنواعاً من الفصاحة . منها : الطباق : في : بقنطار وبدينار ، إذ أريد بهما القليل والكثير ، وفي : يؤدّه ولا يؤدّه ، لأن الأداء معناه الدفع وعدمه معناه المنع ، وهما ضدان ، وفي قوله : بالكفر ومسلمون ، والتجنيس المغاير في : اتقى والمتقين ، وفي : فاشهدوا والشاهدين ، والتجنيس المماثل في : ولا يأمركم أيأمركم ، وفي : أقررتم وأقررنا . والإشارة في قوله : ذلك بأنهم ، وفي أولئك لا خلاق لهم . والسؤال والجواب ، وهو في : قال أأقررتم ؟ ثم : قالوا أقررنا . والاختصاص في : يحب المتقين ، وفي يوم القيامة ، اختصه بالذكر لأنه اليوم الذي تظهر فيه مجازاة الأعمال . والتكرار في : يؤدّه ولا يؤده ، وفي اسم اللّه في مواضع ، وفي : من الكتاب وما هو من الكتاب . والاستعارة في : يشترون بعهد اللّه . والالتفات في : لما آتيتكم ، وهو خطاب بعد قوله : النبيين ، وهو لفظ غائب . والحذف في عدة مواضع تقدمت . ٨٣أفغير دين اللّه . . . . . الملء : مقدار ما يملأ ، وهو اسم يثنى ويجمع يقال : ملء القدح ، وملآه ، وثلاثة أملائه ، وبفتح الميم المصدر ، يقال : ملأت الشيء املأه ملأ ، والملاءة التي تلبس ، وهي الملحفة بضم الميم والهمز . وتقدمت هذه المادة في شرح : الملأ . {أَفَغَيْرَ دِينِ اللّه يَبْغُونَ } روي عن ابن عباس : اختصم أهل الكتاب فزعمت كل فرقة أنها أولى بدين إبراهيم ، فقال النبي كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم ، فغضبوا . وقالوا : واللّه ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك . فنزلت هذه الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهر جداً . والهمزة في : أفغير ؟ للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض ، وأضيف الدين إلى اللّه لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق ، ومعنى : تبغون ، تطلبون ، وهو هنا بمعنى : تدينون لأنهم متلبسون بدين غير دين اللّه لا طالبوه ، وعبر بالطلب إشعاراً بأنهم في كل الوقت باحثون عنه ومستخرجوه ومبتغوه . وقال الماتريدي : فإن قيل كل عاقل يبتغي دين اللّه ويدعي أنّ الذي هو عليه دين اللّه . قيل : الجواب من وجهين . أحدهما : أنه لما قصر في الطلب جعل في المعنى كأنه باغ غير دين اللّه ، إذ لو كان باغياً لبالغ في الطلب من الوجه الذي يوصل إليه منه ، فكأنه ليس باغياً من حيث المعنى ، ولكنه من حيث الصورة . والثاني : أنه قد بان للبعض في الابتغاء ما هو الحق لظهور الحجج والآيات ، ولكن أبى إلاَّ العناد ، فهو باغ غير دين اللّه ، فتكون الآية في المعاندين . انتهى كلامه . وقرأ أبو عمرو ، وحفص ، وعياش ، ويعقوب ، وسهل : يبغون ، بالياء على الغيبة ، وينسبها ابن عطية لأبي عمرو ، وعاصم بكماله . وقرأ الباقون : بالتاء ، على الخطاب ، فالياء على نسق : هم الفاسقون ، والتاء على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ، والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها ، وقدمت الهمزة اعتناء بالاستفهام . والتقدير : فأغير ؟ وجوّز هذا الوجه الزمخشري ، وهو قول جميع النحاة قبله . قال : ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره : أيتولون فغير دين اللّه يبغون . انتهى . وقد تقدم ذكر هذا والكلام على مذهبه في ذلك ، وأمعنا الكلام عليه في كتاب { التكميل} من تأليفنا . وانتصب : غير ، على أنه مفعول يبغون ، وقدم على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل ، قاله الزمخشري . ولا تحقيق فيه ، لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات ، إنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات ، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين اللّه ، وانما جاء تقديم المفعول هنا من باب الاتساع ، وشبه : يبغون ، بالفاصلة بآخر الفعل . {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا } أسلم عند الجمهور : استسلم وانقاد ، قال ابن عباس : أسلم طوعاً بحالته الناطقة عند أخذ الميثاق عليه ، وكرهاً عند دعاء الأنبياء لهم إلى الإسلام . وقال مجاهد : سجود ظل المؤمن طائعاً وسجود ظل الكافر كاره . كما قال تعالى :{ وَللّه يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوّ وَالاْصَالِ } وقال مجاهد أيضاً ، وأبو العالية ، والشعبي : ما يقار معناه : أسلم أقرّ بالخالقية والعبودية ، وإن كان فيهم من أشرك في العبادة ، فمن أشرك أسلم كرهاً . ومن أخلص أسلم طوعاً . وقال الحسن : أسلم قوم طوعاً وقوم خوف السيف . وقال مطر الوراق : أسلم من في السموات طوعاً وكذلك الأنصار ، وبنو سليم ، وعبد القيس ، وأسلم سائر الناس كرهاً حذر القتال والسيف . وأسلم على هذا القول في ضمنه الإيمان . وقال قتادة : الإسلام كرهاً هو إسلام الكافر عند الموت والمعاينة حيث لا ينفعه . و قال ابن عطية : ويلزم على هذا أن كل كافر يفعل ذلك ، وهذا غير موجود إلاَّ في أفراد . انتهى . وقال عكرمة : طوعاً باضطرار الحجة . وقال الزمخشري : طوعاً بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه ، وكرهاً و بالسيف ، أو بمعاينة ما يلجىء إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل ، وإدراك الغرق فرعون ، والإشفاء على الموت { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللّه وَحْدَهُ} انتهى . فلفق الزمخشري تفسير : طوعاً ، من قول عكرمة وتفسير قوله : وكرهاً ، من قول مطر الوراق وقول قتادة . وقال الكلبي : طوعاً بالولادة على الإسلام ، وكرهاً بالسيف . وقال ابن كيسان : المعنى : وله خضع من في السموات والأرض فيما صورهم فيه ودبرهم عليه ، وما يحدث فيهم فهم لا يمتنعون عليه كرهوا ذلك أو أحبوه ، رضوا بذلك أو سخطوه ؛ وهذا معنى قول الزجاج : إن الأسلام هنا الخضوع لنفوذ أمره في جبلته ، لا يقدر أحد أن يمتنع مما جبل عليه ولا أن يغيره والذي يظهر عموم من في السموات ، وخصوص من في الأرض . والطوع هو الذي لا تكلف فيه ، والكره ما فيه مشقة ، فإسلام من في السموات طوع صرف إذ هم خالون من الشهوات الداعية إلى المخالفة ، وإسلام من في الأرض ، من كان منهم معصوماً كان طوعاً ، ومن كان غير معصوم كان كرهاً ، بمعنى أنه في مشقة ، لأن التكاليف جاءت على مخالفة الشهوات النفسانية ، فلو لم يأت رسول من اللّه مبشر بالثواب ومنذر بالعقاب لم يلتزم الإنسان شيئاً من التكاليف . وهذه الأقوال لا تخرج : أسلم ، فيها عن أن يحمل على الاستسلام ، وعلى الإعتقاد ، وعلى الإقرار باللسان ، وعلى التزام الأحكام . وقد قيل بهذا كله . والجملة من قوله :{ وَلَهُ أَسْلَمَ } حالية . و : طوعاً وكرهاً ، مصدران في موضع الحال ، أي : طائعين وكارهين . وقيل : هما مصدران على خلاف الصدر . وقرأ الأعمش : كرهاً ، بضم الكاف ، والجمهور بفتحها . {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } تهديد عظبم لمن اتبع وابتغى غير دين اللّه ، وتقدّم معنى الرجوع إليه ، ويحتمل أن يكون قد عطف على قوله :{ وَلَهُ أَسْلَمَ } فيكون مشاركاً له في الحالية ، وكأنه نعى عليهم ابتغاء غير دين من انقاد إليه المكلفون كلهم ومن إليه مرجعهم ، فيجازيهم على أعمالهم . والمعنى : أن من كان بهاتين الصفتين لا يبتغي ديناً غير دينه ، ويحتمل أن يكون اسئتنافاً وإخباراً بأنه تعالى إليه مصيرهم ومنقلبهم فيجازيهم بأعمالهم . وقرأ حفص ، وعباس ، ويعقوب ، وسهل : يرجعون ، بالياء على الغيبة ، فيحتخمل أن يكون عائداً على من أسلم ، ويحتمل أن يكون عائداً على غير ضمير يبغون ، فيكون على سبيل الالتفات على قراءة من قرأ : تبغون ، بالتاء إذ يكون قد انتقل من خطاب إلى غيبة . وقرأ الباقون : بالتاء ، فإن عاد الضمير على من كان التفاتاً ، أو على ضمير : تبغون ، كان التفاتاً على قراءة من قرأ : يبغون ، بالياء ، أو يكون قد انتقل من غيبة إلى خطاب . ٨٤قل آمنا باللّه . . . . . {قُلْ ءامَنَّا بِاللّه وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْراهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاْسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ } هذه الآية موافقة لما في البقرة إلاَّ في : قل ، وفي : علينا ، وفي : عيسى والنبيون ، وقد تقدّم شرح ما في البقرة فأغنى عن إعادته هنا ، إلاَّ ما وقع فيه الخلاف ، فنقول : الظاهر في : قل ، أنه خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، أمر أن يخبر عن نفسه وعن أمته بقوله : آمنا به ، ويقوي أنه إخبار عنه وعن أمته قوله أخيراً : ونحن له مسلمون . وأفرده بالخطاب بقوله : قل ، لأنه تقدّم ذكره في أخذ الميثاق في قوله : ثم جاءكم رسول ، فعينه في هذا التكليف ليظهر فيه كونه مصدّقاً لما مع الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق . وقال : آمنا ، تنبيهاً على أن هذا التكليف ليس من خواصه ، بل هو لازم لكل المؤمنين . قال تعالى : ، كل آمن باللّه} بعد قوله : بعد قوله :{ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ} قال الزمخشري ويجوز أن يؤمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من اللّه لقدر نبيه و قال ابن عطية : المعنى قل يا محمد ، أنت وأمتك : آمنا باللّه ، فيظهر من كلام ابن عطية أن ثم معطوفاً حذف ، وأن ثم الأمر متوجه إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وأمته . وأما تعدية أنزل ، هنا : بعلى ، وفي البقرة بإلى ف قال ابن عطية : الإنزال على نبي الأمة إنزال عليها . وقال الزمخشري : فإن قلت لم عدَّى أنزل في هذه الآية بحرف الاستعلاء ، وفيما تقدّم من مثلها بحرف الانتهاء ؟ . قلت لوجود المعنيين جميعاً ، لأن الوحي ينزل من فوق وينتهى إلى الرسل ، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر . وقال الراغب : إنما قال هنا : على ، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشر كان لفظ على المختص بالعلوّ أولى به ، وهناك ، لما كان خطاباً للأمة ، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، كان لفظ : إلى ، المختص بالإيصال أولى ، ويجوز أن يقال : أنزل عليه إنما على ما أمر المنزل عليه أن يبلغ غيره ، وأنزل إليه على ما خص به في نفسه . وإليه نهاية الإنزال ، وعلى ذلك قال :{أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } وقال :{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ } خص هنا : بإلى ، لما كان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل ، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب . انتهى كلامه . وذكر الزمخشري أن : من قال هذا الفرق فقد تعسف ، قال : ألا ترى إلى قوله :{ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ }{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ } وإلى قوله :{ وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ } ؟ انتهى . وأما إعادة لفظ : وما أوتي ، فلأنه لما كان لفظ الخطاب عاماً ، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز ، ولما كان الخطاب هنا خاصاً اكتفى فيه بالإيجاز . ٨٥ومن يبتغ غير . . . . . {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } الإسلام هنا قيل هو الاستسلام إلى اللّه والتفويض إليه ، وهو مطلوب في كل زمان ومكان وشريعة ، ولذلك فسره الزمخشري بالتوحيد ، وإسلام الوجه للّه . وقيل : المراد بالإسلام شريعة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، بيَّن تعالى أن من تحرّى بعد مبعثه شريعة غير شريعته فغير مقبول منه ، وهو الدين الذي وافق في معتقداته دين من ذكر من الأنبياء . قيل : وعن ابن عباس لما نزلت : { إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى } الآية أنزل اللّه بعدها :{ وَمَن يَبْتَغِ } الآية . وهذا إشارة إلى نسخ { إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ} وعن عكرمة : لما نزلت قالوا للنبي صلى اللّه عليه وسلم : قد أسلمنا قبلك ونحن المسلمون ، فقال اللّه له : حجهم يا محمد ، وأنزل { وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } فحج المسلمون وقعد الكفار . وقيل : نزلت في الحارث بن سويد ، وستأتي قصته بعد هذا . وقبول العمل هو رضاه وإثابة فاعله عليه . وانتصب : ديناً على التمييز : لغير ، لأن : غير ، مبهمة ، ففسرت بدين ، كما أن مثلاً مبهمة فتفسر أيضاً . وهذا كقولهم : لنا غيرها إبلاً وشاء ، ومفعول : يبتغ هو : غير ، وقيل : ديناً ، مفعول ، و : غير ، منصوب على الحال لأنه لو تأخر كان نعتاً وقيل : ديناً ، بدل من : غير ، والجمهور على إظهار الغينين وروي عن أبي عمرو الإدغام . {وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } الخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب شبه في تضييع زمانه في الدنيا باتباع غير الإسلام بالذي خسر في بضاعته ، ويحتمل أن تكون هذه الجملة قد عطفت على جواب الشرط ، فيكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً عدم القبول والخسران ، ويحتمل أن لا تكون معطوفة عليه بل هي استئناف إخبار عن حاله في الآخرة . و : في الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده ، أي : وهو خاسر في الآخرة ، أو : بإضمار أعني ، أو : بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل للتعريف ، كهي في : الرجل ، أو : به على أنها موصولة ، وتسومح في الظرف والمجرور لأنه يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما ، وكلُّ منقول ، وقد تقدّم لنا نظير . ٨٦كيف يهدي اللّه . . . . . {كَيْفَ يَهْدِى اللّه قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّه لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } نزلت في أهل الكتاب آمنوا بالتوراة والإنجيل وفيهما ذكر محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فغيروه وكفروا بعد إيمانهم بنبوّته ، قاله الحسن وروى عطية قريباً منه عن ابن عباس وقال مقاتل : في عشرة رهط ارتدوا فيهم الحارث بن سويد الأنصاري ، فندم ورجع ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وذكر مجاهد ، والسدّي : أن الحارث كان يظهر الإسلام ، فلما كان يوم أحد قتل المجدر بن زياد بدم كان له عليه ، وقتل زيد بن قيس ، وارتد ولحق بالمشركين ، فأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عمر أن يقتله إن ظفر به ، ففاته ، ثم بعث إلى أخيه من مكة يطلب التوبة ، فنزلت إلى قوله :{ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } فكتب بها قومه ، إليه فرجع تائباً . ورواه عكرمة عن ابن عباس ، ولم يسمه ، ولم يذكر سوى أنه رجل من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين ، وخرجه النسائي عن ابن عباس مطولاً وقيل : لحق بالروم وقيل : ارتد الحارث في أحد عشر رجلاً ، وسمى منهم الزمخشري : طعمة بن أبيرق ، والحارث بن سويد بن الصامت ، ووحوح بن الأسلت ، وذكر عكرمة أنهم كانوا اثني عشر ، وسمى منهم : أبا عامر الراهب ، والحارث ووجوهاً . وقال النقاش : نزلت في طعمة بن أبيرق . ألفاظ الآية تعم كل من ذكر وغيرهم . وقيل : هي في عامة المشركين وقال مجاهد : حمل الآيات إلى الحارث رجل من قومه فقرأها عليه فقال له الحارث : إنك واللّه ما علمت لصدوق ، وإن رسول اللّه لأصدق منك ، وإن اللّه تعالى لأصدق الثلاثة . قال فرجع الحارث فأسلم وحسن إسلامه . كيف : سؤال عن الأحوال ، وهي هنا للتعجيب والتعظيم لكفرهم بعد الإيمان ، أي : كيف يستحق الهداية من أتى بما ينافيها بعد التباسه بها ووضوحها ؟ فاستبعد حصولها لهم مع شدّة الجرائم ، كما قال صلى اللّه عليه وسلم : { كيف تفلح أمة أدمت وجه نبيها } ؟ . وقال الزمخشري : كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف لما علم اللّه من تصميمهم على كفرهم ؟ انتهى . وهذه نزعة إعتزالية ، إذ ليس المعنى عنده : إن اللّه يخلق الهداية فيهم كما لا يخلق الضلال فيهم ، بل هما مخلوقان للعبد . وقيل : الاستفهام هنا يراد به الجحد ، والمعنى : ليس يهدي ، ونظيره قول الشاعر : فهذي سيوف ، يا صديّ بن مالك كثير ، ولكن : أين بالسيف ضارب ؟ وقول الآخر : كيف نَومي على الفراش ولما يشمل الشام غارة شعواء ؟ والهداية هنا هي إلى الإيمان واتباع الحق ، وأبعد من زعم أن المعنى : لا يهديهم إلى الجنة إلاَّ إن تجوَّز ، فأطلق المسبب على السبب ، لأن دخول الجنة مسبب عن الإيمان ، فيعود إلى القول الأول . وشهدوا : ظاهره أنه معطوف على قوله كفروا ، وبه قال الحوفي ، وابن عطية ، ورده مكي وقال : لا يجوز عطف : شهدوا ، على : كفروا ، لفساد المعنى ، ولم يبين من أي جهة فساد المعنى ، وكأنه توهم الترتيب ، فلذلك فسد المعنى عنده و قال ابن عطية : المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكفر ، و : الواو ، لا ترتب ، وأجاز قوم منهم : مكي ، والزمخشري : أن يكون معطوفاً على : ما في إيمانهم ، من معنى الفعل ، إذ المعنى : بعد أن آمنوا وشهدوا . وأجاز الزمخشري وغيره أن تكون : الواو ، للحال لا للعطف ، التقدير : كفروا بعد إيمانهم وقد شهدوا ، والعامل فيه : كفروا . والرسول هنا : محمد صلى اللّه عليه وسلم ، قاله الجمهور ، وجوّز أن يكون الرسول هنا بمعنى الرسالة ، وفيه بعد . والبينات : هي شواهد القرآن ، والمعجزات التي تأتي بمثلها الأنبياء . {وَاللّه لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أي : لا يخلق في قلوبهم الهداية . و : الظالمين ، عام معناه الخصوص أي : لا يهدي من قضى عليه بأنه يموت على الكفر قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد الإخبار عن أن الظالم في ظلمه ليس على هدى من اللّه ، فتجيء الآية عامة تامة العموم . انتهى . وهذا المعنى الذي ذكره ينبو عنه لفظ الآية وقال الزمخشري : الظالمين ، المعاندين الذين علم اللّه أن اللطف لا ينفعهم . انتهى . وتفسيره على طريقته الإعتزالية . ٨٧انظر تسفير الآية:٨٨ ٨٨أولئك جزاؤهم أن . . . . . {أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّه وَالْمَلَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } تقدم تفسير مثل هذه الجملة . وتوجيه قراءة الحسن : والناس أجمعون ، في سورة البقرة ، فأغنى عن إعادته ، إلاَّ أن هنا { أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ } أي : جزاء كفرهم ، وهناك { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّه } ، لأن هناك جاء الإخبار عن من مات كافراً ، فلذلك تحتمت اللعنة عليهم ، وهنا ليس كذلك ، ألا ترى إلى سبب النزول ؟ وأن أكثر الأقوال إنها نزلت في قوم ارتدوا ثم راجعوا الإسلام ؟ ولذلك جاء الاستثناء وهو قوله ٨٩إلا الذين تابوا . . . . . : {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ } وهو استثناء متصل ، ولذلك قال { مِن بَعْدِ ذالِكَ } أي : من بعد ذلك الكفر العظيم . {وَأَصْلَحُواْ } أي : ما أفسدوا ، أو : دخلوا في الصلاح ، كما تقول : أمسى زيد أي : دخل في المساء وقيل : معنى أصلحوا أظهروا أنهم كانوا على ضلال ، وتقدم تفسير هذه اللفظة في البقرة في قوله { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} {فَإِنَّ اللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفور أي لكفرهم ، رحيم لقبول توبتهم ، وهما صيغتان مبالغة دالتان على سعة رحمته . ٩٠إن الذين كفروا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ } نزلت في اليهود ، كفروا بعيسى وبالإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته ، قاله قتادة ، والحسن وقيل : في اليهود كفروا بمحمد صلى اللّه عليه وسلم بعد إيمانهم بصفاته ، وإقرارهم أنها في التوراة ، ثم ازدادوا كفراً بالذنوب التي أصابوها في خلاف النبي صلى اللّه عليه وسلم من الافتراء والبهت والسعى على الاسلام ، قاله أبو العالية . أو : معنى : ثم ازدادوا كفراً ، تموا على كفرهم وبلغوا الموت به ، فيدخل فيه اليهود والمرتدون ، قاله مجاهد ، وقال نحوه السدي وقيل : نزلت فيمن مات على الكفر من أصحاب الحارث بن سويد ، فإنهم قالوا : نقيم ببكة ونتربص بمحمد صلى اللّه عليه وسلم ريب المنون ، قاله الكلبي . ويفسر بهذه الأقوال معنى ازدياد الكفر ، وهو بحسب متعلقاته ، إذ الإيمان والكفر في التحقيق لا يزدادان ولا ينقصان ، وإنما تحصل الزيادة والنقصان للمتعلقات ، فينسب ذلك إليهما على سبيل المجاز . وازدادوا افتعلوا من الزيادة ، وانتصاب : كفراً ، على التمييز المنقول من الفاعل ، المعني : ثم ازداد كفرهم ، والدال الأولى بدل من تاء الافتعال . ويحتمل قوله { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } وجهين : . أحدهما : أنه تكون منهم توبة ولا تقبل ، وقد علم أن توبة كل كافر تقبل سواء كفر بعد إيمان وازداد كفراً ، أم كان كافراً أول مرة . فاجتيج في ذلك إلى تخصيص ، فقال الحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والسدي : نفي توبتهم مختص بالحشرجة والغرغرة والمعاينة قال النحاس : وهذا قول حسن ، كقوله :{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ } الآية . وقال أبو العالية : لن تقبل توبتهم من الذنوب التي أصابوها مع إقامتهم على الكفر بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال ابن عباس : لن تقبل توبتهم لأنها توبة غير خالصة ، إذ هم مرتدون ، وعزموا على إظهار التوبة لستر أحوالهم وفي ضمائرهم الكفر وقال مجاهد : لن تقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر وقيل : لن تقبل توبتهم التي تابوها قبل أن كفروا ، لأن الكفر قد أحبطها . وقيل : لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفر إلى كفر ، وإنما تقبل إذا تابوا إلى الاسلام . وفاصل هذا التخصيص أنه تخصيص بالزمان ، أو يوصف في التوبة . والوجه الثاني : أن يكون المعنى : لا توبة لهم فتقبل ، فنفى القبول ، والمراد نفي التوبة فيكون من باب قوله . على لا حبٍ لا يهتدي لمناره أي : لا منار له فيهتدي به ، ويكون ذلك في قوم بأعيانهم ، حتم اللّه عليهم بالكفر أي : ليست لهم توبة فهم لا محالة يموتون على الكفر . وقد أشار إلى هذا المعنى الزمخشري ، وابن عطية . ولم تدخل : الفاء ، في : لن تقبل ، هنا ، ودخلت في : فلن تقبل ، لأن الفاء مؤذنة بالإستحقاق بالوصف السابق ، وهناك قال : وماتوا وهم كفار وهنا لم يصرح بهذا القيد . وقال الزمخشري : فإن قلت فحين كان معنى :{ لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } بمعنى الموت على الكفر فهلا جعل الموت على الكفر مسبباً عن ارتدادهم وازديادهم الكفر لما في ذلك من قساوة القلوب ، وركوب الرين ، وجره إلى الموت على الكفر ؟ . قلت لأنه : كم من مرتدٍ ازداد الكفر يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر ؟ . فإن قلت : فأي فائدة في هذه الكناية : أعني : إن كنى عن الموت على الكفر بامتناع قبول التوبة ؟ . قلت الفائدة فيها جليلة ، وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار ، وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال ، وأشدّها . ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف من أجل اليأس من الرحمة ؟ انتهى كلامه . وقرأ عكرمة : لن تقبل ، بالنون ، توبتهم ، بالنصب ، والضالون المخطئون طريق الحق والنجاة في الآخرة ، أو : الها لكون ، من : ضل اللبن في الماء إذا صار هالكاً . والواو في : وأولئك ، للعطف إما على خبر إن ، فتكون الجملة في موضع رفع ، وإما على الجملة من : إن ومطلوبيها ، فلا يكون لها موضع من الأعراب . وذكر الراغب قولاً : إن الواو في : وأولئك ، واو الحال ، والمعنى : لن تقبل توبتهم من الذنوب في حال أنهم ضالون ، فالتوبة والضلال متنافيان لا يجتمعان . انتهى هذا القول . وينبوعن هذا المعنى هذا التركيب ، إذ لو أريد هذا المعنى لم يؤت باسم الإشارة ، ويجوز في : هم ، الفصل ، والابتداء ، والبدل . ٩١إن الذين كفروا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا } قرأ عكرمة : فلن نقبل ، بالنون و : ملء ، بالنصب . وقرىء : فلن يقبل بالياء مبنياً للفاعل ، أي فلن يقبل اللّه . و : ملء ، بالنصب . وقرأ أبو جعفر ، وأبو السمال : مل الأرض ، يدون همز . ورويت عن نافع ، ووجهه أنه نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبل ، وهو اللام ، وحذفت الهمزة ، وهو قياس في كل ما كان نحو هذا ، وأتى بلفظ : أحدهم ، ولم يأت بلفظ : منهم ، لأن ذلك أبلغ وأنص في المقصود ، إذ كان : منهم ، يحتمل أن يكون يفيد الجميع . وانتصاب : ذهباً ، على التمييز ، وفي ناصب التمييز خلاف ، وسماه الفراء : تفسيراً ، لأن المقدار معلوم ، والمقدّر به مجمل . وقال الكسائي : نصب على إضمار : من ، أي : من ذهب ، كقوله :{أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً } أي : من صيام . وقرأ الأعمش : ذهب ، بالرفع . قال الزمخشري : ردّ على : ملء ، كما يقال عندي عشرون نفساً رجال . انتهى . ويعني بالردّ : البدل ، ويكون من بدل النكرة من المعرفة ، لأن : ملء الأرض ، معرفة ولذلك ضبط الحذاق قوله : لك الحمد ملء السموات والأرض بالرفع على بالصفة للحمد ، واستعفوا نصبه على الحال لكونه معرفة . {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } قرأ ابن أبي عبلة : لو افتدى به ، دون واو ، و : لو ، هنا هي بمعنى : إن ، الشرطية لا : لو ، التي هي لما كان سيقع لوقوع غيره ، لأن : لو ، هنا معلقة بالمستقبل ، وهو : فلن يقبل ، وتلك معلقة بالماضي . فأما قراءة ابن أبي عبلة فإنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول فلم يتعمم نفي وجود القبول ، وأما قراءة الجمهور بالواو ، فقيل : الواو زائدة ، وهو ضعيف ، ويكون المعنى إذ ذاك معنى قراءة ابن أبي عبلة . وقيل : ليست بزائدة . قال الزمخشري : فإن قلت : كيف موقع قوله { لَوْ افْتَدَى بِهِ } ؟ قلت : هو كلام محمول على المعنى ، كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . انتهى . وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله ، والذي يقتضيه هذا التركيب ، وينبغي أن يحمل عليه ، أن اللّه تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ، ولو في حالة افتداء به من العذاب ، لأن حالة الافتداء هي حال لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه ، إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي ، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن : لو ، تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء ، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها ، كقوله :{ أعطوا السائل ولو جاء على فرس وردوا السائل ولو بظلف محرق } كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها ، لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً ، لكنه لا يقبل . ونظيره قوله تعالى : { وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال ، حتى في حالة صدقهم ، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها . فلفظ : ولو ، هنا لتعميم النفي والتأكيد له . وقد ذكرنا فائدة مجيئها . وذهب الزجاج إلى أن المعنى : لن يقبل من أحدهم إنفاقه وتقرباته في الدنيا ، ولو أنفق ملء الأرض ذهباً ، ولو افتدى أيضاً به في الآخرة لم يقبل منه . قال : فأعلم اللّه أنه لا يثيبهم على أعمالهم من الخير ، ولا يقبل منهم الافتداء من العذاب . قال ابن عطية : وهذا قول حسن . انتهى . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فلن يقبل من أحدهم ملء الأض ذهباً كان قد تصدّق به ، ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . انتهى . وهذا معنى قول الزجاج ، إلاَّ أنه لم يقيد الافتداء بالآخرة . وحكى صاحب { ري الظمآن} وغيره عن الزجاج أنه قال : معنى الآية : لو افتدى به في الدنيا مع إقامته على بالكفر لن يقبل منه ، والذي يظهر أن انتفاء القبول ، ولو على سبيل الفدية ، إنما يكون ذلك في الآخرة . وبينه ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس : أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : { يحاسب الكافر يوم القيامة ، فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به ؟ فيقول : نعم ، فيقال له : قد كنت سئلت أيسر من ذلك} . وهذا الحديث يبين أن قوله :{ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الاْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } هو على سبيل الفرض والتقدير أي : لو أن الكافر قدر على أعز الأشياء ، ثم قدر على بذله ، لعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من عذا اللّه . والمعنى : أنهم آيسون من تخليص أنفسهم من العذاب . فهو نظير { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً } الآيتين ، وعلى هذا يبعد ما قاله الزجاج من أن يكون المعنى : أنهم لو أنفقوا في الدنيا ملء الأرض ذهباً لم يقبل ذلك ، لأن الطاعة مع الكفر لا تكون مقبولة . وافتدى : افتعل من الفدية . قيل : وهو بمعنى فعل ، كشوى واشتوى ، ومفعوله محذوف ، ويحتاج في تعدية افتدى إلى سماع من العرب ، والضمير في : به ، عائد على : ملء الأرض ، وهو : مقدار ما يملؤها ، ويوجد في بعض التفاسير أنه عائد على : الملء ، أو : على الذهب . فقيل : على الذهب غلط . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد : ولو افتدى بمثله ، لقوله :{ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا فِى الاْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } والمثل يحذف كثيراً في كلامهم ، كقولك : ضربت ضرب زيد ، تريد : مثل ضربه ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، تريد : مثله . ولا هيثم الليلة للمطي و : قضية ولا أبا حسن لها تريد : ولا هيثم ، و : لا مثل أبي حسن ، كما أنه يراد في نحو قولهم : مثلك لا يفعل كذا ، تريد : أنت : وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر ، فكانا في حكم شيء واحد . انتهى كلامه . ولا حاجة إلى تقدير : مثل ، في قوله { وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } وكان الزمخشري تخيل أن ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به ، وليس كذلك ، لأن ذلك كما ذكرناه هو على سبيل الفرض ، والتقدير : إذ لا يمكن عادة أن أحداً يملك ملء الأرض ذهباً بحيث لو بذله على أي جهة بذله لم يقبل منه ، بل لو كان ذلك ممكناً لم يحتج إلى تقدير مثل ، لأنه نفي قبوله حتى في حالة الافتداء ، وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به ، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ، ولا معنى له ، ولا في الفظ ولا المعنى ما يدل عليه ، فلا يقدر . وأما فيما مثل به من : ضربت ضرب زيد ، وأبو يوسف أبو حنيفة ، فبضرورة العقل نعلم أنه لا بد من تقدير : مثل ، إذ ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد ، وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة . وأما : لا هيثم الليلة للمطي . يدل على حذف : مثل ما تقرر في اللغة العربية أن : لا ، التي لنفي الجنس لا تدخل على الأعلام فتؤثر فيها ، فاحتاج إلى إضمار : مثل ، لتبقى على ما تقرر فيها ، إذ تقرر أنها لا تعمل إلاَّ فى الجنس ، لأن العلمية تنافي عموم الجنس . وأما قوله : كما أن يزاد في : مثلك لا يفعل كذا ، تريد ، أنت ، فهذا قول قد قيل ، ولكن المختار عند حذاق النحويين أن الأسماء لا تزاد ، ولتقرير أن مثلك لا يفعل كذا ، ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا . {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هذا إخبار ثان عمن مات وهو كافر ، لما بيَّن تعالى في الإخبار الأول أنه لا يقبل منه شيء حتى يخلص به نفسه ، بيَّن في هذا الإخبار ما له من العذاب الموصوف بالمبالغة في الآلام له ، إذ الافتداء ، وبذل الأموال إنما يكون لما يلحق المفتدى من الآلام حتى يبذل في الخلاص من ذلك أعز الأشياء . كما قال : { يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ } الآية ، وارتفاع : عذاب ، على أنه فاعل بالجار والمجرور قبله ، لأنه قد اعتمد على أولئك ، لكونه خبراً عنه ويجوز ارتفاعه على الإبتداء . {وَمَا لَهُم مّن نَّاصِرِينَ } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وهذا إخبار ثالث لما بيَّن أنه لا خلاص له من العذاب ببذل المال ، بيَّن أيضاً أنه لا خلاص له منه بسبب النصرة ، واندرج فيها النصرة بالمغالبة ، والنصرة بالشفاعة . وتضمنت هذه الآية من أصناف البديع : الطباق : في قوله : طوعا وكرها . وفي : كفروا بعد إيمانهم في موضعين . والتكرار : في : يهدي ولا يهدي . وفي : كفروا بعد إيمانهم . والتجنيس المغاير : في كفروا وكفروا . والتأكيد : بلفظ : هم ، في قوله : وأولئك هم الضالون . قيل : والتشبيه في : ثم ازدادوا كفراً ، شبه تماديهم على كفرهم وإجرامهم بالأجرام التي يزاد بعضها على بعض ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . والعدول من مفعل إلى فعيل ، في : عذاب أليم ، لما في : فعيل ، من المبالغة . والحذف في مواضع . {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللّه بِهِ عَلِيمٌ } ٩٢لن تنالوا البر . . . . . النيل : حوق الشيء وإدراكه ، الفعل منه : نال ينال . قيل : والنَّيل : العطية . الوضع : الإلقاء . وضع الشيء ألقاه ، ووضعت ما في بطنها ألقته ، والفعل : وضع يضع وضعاً وضِعَة ، والموضع : محل إلقاء الشيء . وفلان يضع الحديث أي : يلقيه من قبل نفسه من غير نقل ، يختلفه . . بكة : مرادف لمكة ، قاله مجاهد ، والزجاج . والعرب تعاقب بين الباء والميم ، قالوا : لازم ، وراتم . والنميط ، وبالباء فيها . وقيل : اسم لبطن مكة ، قاله أبو عبيدة . وقيل : اسم لمكان البيت ، قاله النخعي وقيل : اسم للمسجد خاصة ، قاله ابن شهاب . قيل : ويدل عليه أن البك هو دفع الناس بعضهم بعضاً وازدحامهم ، وهذا إنما يحصل في المسجد عند الطواف لا في سائر المواضع ، وسيأتي الكلام على لفظ مكة إن شاء اللّه . البركة : الزيادة ، والفعل منه : بارك ، وهو متعد ، ومنه { أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ } ويضمن معنى ما تعدى بعلى ، لقوله : وبارك على محمد ، و : تبارك ، لازم . العوج : الميل ، قال أبو عبيدة : في الدين والكلام والعمل . وبالفتح في : الحائط والجذع . وقال الزجاج بمعناه . قال : فيما لا نرى له شخصاً ، وبالفتح فيما له شخص . قال ابن فارس : بالفتح في كل منتصب كالحائط . والعوج : ما كان في بساط أو دين وأرض أو معاش . العصم : المنع ، واعتصم واستعصم : امتنع ، واعتصمت فلاناً هيأت له ما يعتصم به ، وكل متمسك بشيئ معتصم ، وكل مانع شيء عاصم ، ويرجع لهذا المعنى : الأعصم ، والمعصم ، والعصام . ويسمى الخبز عاصماً لأنه يمنع من الجوع . {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه لما أخبر عمن مات كافراً أنه لا يقبل ما أنفق في الدنيا ، أو ما أحضره لتخليص نفسه في الآخرة على الاختلاف الذي سبق ، حض المؤمن على الصدقة وبين أنه لن يدرك البر حتى ينفق مما يحب . والبر هنا . قال ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي ، وعمرو بن ميمون : البر الجنة . وقال الحسن ، والضحاك : الصدقة المفروضة . وقال أبو روف : الخير كله . وقيل : الصدق . وقيل : أشرف الدين ، قاله عطاء . و قال ابن عطية : الطاعة . وقال مقاتل بن حيان : التقوى . وقال الزجاج : كل ما تقرّب به إلى اللّه من عمل خير . وقال معناه ابن عطية . قال أبو مسلم : وله مواضع ، فيقال : الصدق البر ، ومنه : صدقت وبررت ، وكرام بررة ، والإحسان : ومنه بررت والدي ، واللطف والتعاهد : ومنه يبر أصحابه إذا كان يزورهم ويتعاهدهم ، والهبة والصدقة : برّة بكذا إذا وهبه له . وقال : ويحتمل لن تنالوا برّ اللّه بكم أي ، رحمته ولطفه . انتهى . وهو قول أبي بكر الوراق ، قال : معنى الآية لن تنالوا برّي بكم إلاَّ ببرّكم بإخوانكم ، والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم . وروي نحوه على ابن جرير . ويحتمل أن يريد : لن تنالوا درجة الكمال من فعل البر حتى تكونوا أبراراً إلاَّ بالإنفاق المضاف إلى سائر أعمالكم ، قاله ابن عطية . وقد تقدّم شرح البرّ في قوله :{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرّ } ولكن فعلنا ما قال الناس في خصوصية هذا الموضع . و : من ، في : مما تحبون ، للتبعيض ، ويدل على ذلك قراءة عبد اللّه : حتى تنفقوا بعض ما تحبون . و : ما ، موصولة ، والعائد محذوف . والظاهر : أن المحبة هنا هو ميل النفس وتعلقها التعلق التام بالمنفق ، فيكون إخراجه على النفس أشق وأصعب من إخراج ما لا تتعلق به النفس ذلك التعلق ، ولذلك فسره الحسن ، والضحاك : : بأنه محبوب المال ، كقوله :{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ } لذلك ما روي عن جماعة أنهم لهذه الآية تصدّقوا بأحب شيء إليهم ، فتصدّق أبو طلحة ببير حاء ، وتصدق زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، وابن عمر بالسكر واللوز لأنه كان يحبه ، وأبو ذر يفحل خير إبله وببرنس على مقرور ، وتلا الآية ، والربيع بن خيثم بالسكر لحبه له ، وأعتق عمر جارية أعجبته ، وابنه عبد اللّه جارية كانت أعجب شيء إليه . وقيل : معنى مما تحبون ، نفائس المال وطيبه لا رديئه وخبيثه . وقيل : ما يكون محتاجاً إليه . وقيل : كل شيء ينفقه المسلم من ماله يطلب به وجه اللّه . ولفظة : تحبون ، تنبو عن هذه الأقوال ، والذي يظهر أن الإنفاق هو في الندب ، لأن المزكي لا يجب عليه أن يخرج أشرف أمواله ولا أحبها إليه ، وأبعد من ذهب إلى أن هذه الآية منسوخة ، لأن الترغيب في الندب لوجه اللّه لا ينافي الزكاة . قال بعضهم : وتدل هذه الآية على أن الكلام يصير شعراً بأشياء ، منها : قصد المتكلم إلى أن يكون شعراً ، لأن هذه الآية على وزن بيت الرمل ، يسمى المجزؤ والمسبع ، وهو : يا خليليّ أربعا واستخبر ال منزل الدارس عن حيّ حلال رسماً بعسفان ولا يجوز أن يقال : إن في القرآن شعراً . {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ اللّه عَلِيمٌ } تقدّم تفسير مثل هذا . ٩٣كل الطعام كان . . . . . {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إِسْراءيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْراءيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ } قال أبو روق وابن السائب : نزلت حين قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { أنا على ملة إبراهيم } فقالت اليهود : فكيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم : { ذلك حلالٌ لأبي إبراهيم ونحن نحلُّه } فقالت اليهود : كلُّ شيء أصبحنا اليوم نحرِّمه فإنه كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ، فأنزل اللّه ذلك تكذيباً لهم . ومناسبة هذه الآية لما قبلها والجامع بينهما أنه تعالى أخبر أنه لا ينالُ المرء البرّ إلا بالإنفاق مما يحب . ونبي اللّه إسرائيل روي في الحديث : { أنه مرض مرضاً شديداً فطال سقمه فنذر للّه نذراً إنْ عافاه اللّه من سقمه أنْ يحرِّمَ ، أو ليحرمَنّ أحبَّ الطعام والشراب إليه ، وكان أحبُّ الطعام إليه لحوم الإبل ، وأحبُّ الشراب ألبانها ، ففعل ذلك تقرباً إلى اللّه . فقد اجتمعت هذه الآية وما قبلها في أنّ كلاًّ منهما فيما ترك ما يحبه الإنسان وما يؤثره على سبيل التقرب به للّه تعالى . وكلٌّ : من صيغ العموم . والطعام : أصلُه مصدرٌ أُقيم مقام المفعول ، وهو اسم لكل ما يطعم ويؤكل . وزعم بعض أصحاب أبي حنيفة أنه اسم للبر خاصة . قال الرازي : والآية تبطله لأنه استثنى منه ما حرم إسرائيل على نفسه . واتّفقوا على أنه شيء سوى الحنطة ، وسوى ما يتخذ منها . ومما يؤكد ذلك قوله في الماء ومن لم يطعمه . وقال : { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم } وأراد الذبائح انتهى . ويُجاب عن الاستثناء أنه منقطع ، فلا يندرجُ تحت الطعام . وقال القفال : لم يبلغنا أنّ الميتة والخنزير كانا مباحين لهم مع انّهما طعام ، فيحتملُ أنْ يكونَ ذلك على الأطعمة التي كانت اليهود في وقت الرسول صلى اللّه عليه وسلم تدَّعي أنها كانت محرمة على إبراهيم ، فيزول الإشكال يعني إشكال العموم . والحل : الحلال ، وهو مصدرُ حلَّ نحو عزّ عزاً ومنه { وأنت حل بهذا البلد} أي حلالُ به . وفي الحديث عن عائشة : { كنت أطيِّبُ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لحلِّه ولحرمه } ولذلك استوى فيه الواحدُ والجمعُ والمذكر والمؤنث . قال : { لا هنّ حلٌّ لهم } وهي كالحرم ، أي الحرام . واللُّبس ، أي اللباس . وإسرائيل : هو يعقوب ، وتقدم الكلام عليه ، وتقدّم أنّ الذي حرمه إسرائيل هو لحوم الإبل وألبانها ؛ ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، وهو قول : الحسن ، وعطاء ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعبد اللّه بن كثير في آخرين . وقيل : العروق . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس . وهو قول : مجاهد أيضاً ، وقتادة ، والضحاك ، والسِدي ، وأبي مجلز في آخرين . قال ابن عباس : عرضت له الآنساء فأضنته ، فجعل للّه إنْ شفاه من ذلك أنْ لا يطعم عرقاً . قال : فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم ، وليس في تحريم العروق قربة فيما يظهر . وروي عن ابن عباس أنَّه حرم العروق ولحوم الإبل . وقيل : زيادتا الكبد والكليتان والشحم إلا ما على الظهر قاله : عكرمة . وتقدَّم سببُ تحريمه لما حرمه . قال ابن عطية : ولم يختلف فيما علمت أنّ سبب التحريم هو بمرض أصابه ، فجعل تحريم ذلك شكراً للّه تعالى إنْ شفي . وقيل : هو وجع عرق النسا . وهذا الاستثناء يحتملُ الاتصال والانقطاع ، فإنْ كان متصلاً كان التقدير : إلاّ ما حرَّم إسرائيل على نفسه فحرم عليهم في التوراة ، فليست فيها الزوائد التي افتروها وادعوا تحريمها . وإنْ كان منقطعاً كان التقدير : لكنَّ إسرائيل حرم ذلك على نفسه خاصة ، ولم يحرمه اللّه على بني إسرائيل . والاتصال أظهر . وظاهر قوله : على نفسه ، أن ذلك باجتهاد منه لا بتحريم من اللّه تعالى . واستدل بذلك على أن للأنبياء أن يحرموا بالاجتهاد . وقيل : كان تحريمه بإذن اللّه تعالى . وقيل : يحتمل أنْ يكون التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا . وقال الأصم : لعل نفسه كانت مائلة إلى تلك الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس وطلباً لمرضاة اللّه كما يفعله كثيرٌ من الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم . واختلفوا في سبب التحريم للطعام الذي حرمه إسرائيل على بنيه ومن بعدهم من اليهود ، وهذا إذا قلنا : بأنّ الاستثناء متصل . أمّا إذا كان منقطعاً فلم يحرّم عليهم . و قال ابن عطية : حرمها عليهم بتحريم إسرائيل ، ولم يكن محرماً في التوراة ، وروي عن ابن عباس أن يعقوب قال : { إنْ عافاني اللّه لا يأكله لي ولد . وقال الضحاك : وافقوا أباهم في تحريمه ، لا أنه حرم عليهم بالشرع ، ثم أضافوا تحريمه إلى الشرع فأكذبهم اللّه تعالى . وقال ابن السائب : حرمه اللّه عليهم بعد التوراة لا فيها ، وكانوا إذا أصابوا ذنباً عظيماً حُرِّم به عليهم طعام طيب ، أو صبَّ عليهم عذاب ، ويؤكده } فبظلم { الآية . وقيل : لم يحرم عليهم قبل نزول التوراة ولا بعدها ، ولا بتحريم إسرائيل عليهم ، ولا لموافقته بل قالوا ذلك تحرضاً وافتراء . وقال السدي : لما أنزل اللّه التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمون على أنفسهم قيل نزولها . قال الزمخشري : والمعنى أنّ المطاعم كلها لم تزلْ حلالاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة ، وتحريم ما حرم عليهم منها لظلمهم وبغيهم ، لم يحرم منها شيء قبل ذلك غير المطعوم الواحد الذي حرمه أبوهم إسرائيل على نفسه ، فتبعوه على تحريمه وهو ردٌّ على اليهود وتكذيب لهم حيث أرادوا براءة ساحتهم بما نعى عليهم في قوله : { فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيّبَاتٍ } الآية . وجحودُ ما غاظهم واشمأزوا منه وامتغضوا . فما نطق به القرآن من تحريم الطيبات عليهم لبغيهم وظلمهم فقالوا : لسنا بأول مَن حرمت عليه ، وما هو إلا تحريم قديم كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعده من بني إسرائيل وهلم جرًّا ، إلى أن انتهى التحريم إلينا فحرمت علينا كما حرمت على من قبلنا . وغرضهم تكذيب شهادة اللّه عليهم بالبغي والظلم والصدّ عن سبيل اللّه ، وأكل الربا ، وأخذ أموال الناس بالباطل وما عدد من مساويهم التي كلما ارتكبوا منها كبيرة حُرِّم عليهم نوع من الطيبات عقوبة لهم انتهى كلامه . {من قبل أن تنزل التوراة} قال أبو البقاء : مِن متعلقة ب { حرم} ، يعني في قوله : إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه . ويبعد ذلك ، إذْ هو من الاخبار بالواضح ، لأنه معلوم أنّ ما حرم إسرائيل على نفسه هو من قبل إنزال التوراة ضرورة لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة . ويظهر أنه متعلق بقوله : كان حلاً لبني إسرائيل ، أي من قبل أن تنزل التوراة ، وفَصَلَ بالاستثناء إذ هو فصل جائز وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن : في جواز أن ، يعمل ما قبل إلاّ فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً نحو : ما حبس إلا زيد عندك ، وما أوى إلا عمرو وإليك ، وما جاء إلا زيد ضاحكاً . وأجاز الكسائي ذلك في منصوب مطلقاً نحو : ما ضرب إلا زيد عمراً وأجاز هو وابنُ الأنباري ذلك في مرفوع نحو : ما ضرب إلا زيداً عمرو ، وأما تخريجه على مذهب غير الكسائي وأبي الحسن فيقدر له عامل من جنس ما قبله تقديره هنا : حل من قبل أن تنزل التوراة . {قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} قل : خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : فأتوا محذوف تقديره : هذا الحق ، لا زعمُكُم معشر اليهود . فأتوا : وهذه أعظم محاجة أَن يُؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم ، فإنه ليس فيه ما ادّعوه بل هو مصدّق لما أخبر به صلى اللّه عليه وسلم : من أنّ تلك المطاعم كانت حلالاً لهم من قديم ، وأن التحريم هو حادث . وروي أنهم لم يتجاسروا على الإتيان بالتوراة لظهور افتضاحهم بإتيانها ، بل بهتوا وذلك كعادتهم في كثير من أحوالهم . وفي استدعاء التوراة منهم وتلاوتها الحجةُ الواضحة على صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إذ كان عليه السلام النبيّ الأميَّ الذي لم يقرأ الكتب ولا عرف أخبار الأمم السالفة ، ثم أخذ يحاجهم ويستشهد عليهم بما في كتبهم ولا يجدون من إنكاره محيصاً . وفي الآية دليل على جواز النسخ في الشرائع ، وهم ينكرون ذلك . وخرج قوله : إن كنتم صادقين مخرجَ الممكن ، وهم معلوم كذبهم . وذلك على سبيل الهزء بهم كقولك : إنْ كنت شجاعاً فالقني ، ومعلوم ، عندك أنَّه ليس بشجاع ، ولكن هزأت به إذ جعلت هذا الوصف مما يمكن أن يتصف به . ٩٤فمن افترى على . . . . . {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللّه الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } يحتمل أن يكون مندرجاً تحت القول ، ويحتمل أنْ يكون ابتداءَ إخبارٍ من اللّه بذلك ، وافتراؤه الكذب هو زعمه أن ذلك كان محرماً على بني إسرائيل قبل إنزال التوراة ، والإشارة بذلك قيل يحتمل ثلاثة أوجه . أحدها : أن يكون إلى التلاوة ، إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة البالغة القاطعة ، ويكونُ افتراء الكذب أنْ يُنسب إلى كتب اللّه ما ليس فيها . والثاني : أنْ يكون إلى استقرار التحريم في التوراة ، إذ المعنى : إلاّ ما حرّم إسرائيل على نفسه ، ثم حرمته التوراة عليهم عقوبة لهم . وافتراء الكذب أنْ يزيد في المحرمات ما ليس فيها . و الثالث : أنْ يكون إلى الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه وقبل نزول التوراة من سنن يعقوب . وشرع ذلك دون إذن من اللّه . ويؤيد هذا الاحتمال قوله :{ فَبِظُلْمٍ مّنَ الَّذِينَ } الآية . فنص على أنه كان لهم ظلم في معنى التحليل والتحريم ، وكانوا يشدّدون فيشدد عليهم اللّه كما فعلوا في أمر البقرة . وجاءت شريعتنا بخلاف هذا ، دين اللّه} يسر يسروا ولا تعسروا ، وابعثت بالحنيفية السمحة اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدّينِ مِنْ حَرَجٍ } والأظهر في من أنها شرطية ، ويجوز أن تكون موصولة . وجمع في فأولئك حملاً على المعنى . وهم : يحتمل أن تكون فصلاً ، ومبتدأً ، وبدلاً . والظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وقيل : هو هنا الكفر . ٩٥قل صدق اللّه . . . . . {قُلْ صَدَقَ اللّه} أمر تعالى نبيه أنْ يصدع بخلافهم ، أي الأمر الصدق هو ما أخبر اللّه به لا ما افتروه ومن الكذب . ونبّه بذلك على أنّ ما أخبر به من قوله :{ كُلُّ الطَّعَامِ } وسائر ما تقدم صدق ، وأنه ملة إبراهيم . والأحسنُ أن يكون قوله : { قل صدق اللّه } أي في جميع ما أخبر به في كتبه المنزلة . وقيل : في أنّ محمداً صلى اللّه عليه وسلم هو على ملة إبراهيم ، وإبراهيم كان مسلماً . وقيلفي قوله : { كل الطعام } الآية قاله ابن السائب . وقيل : في أنه ما كان يهودياً ولا نصرانياً قاله : مقاتل وأبو سليمان الدمشقي ، ثم أمرهم باتباع ملة إبراهيم فقال : {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } وهي ملة الإسلام التي عليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمؤمنون معه ، فيخلصون من ملة اليهودية . وعرض بقوله : وما كان من المشركين : إلى أنهم مشركون في اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللّه . وتقدّم الكلام على نظير هذه الجملة في سورة البقرة تفسيراً وإعراباً فأغنى عن إعادته . وقرأ أبان بن ثعلب قل صدق : بإدغام اللام في الصاد ، و } قل سيروا { بإدغام اللام في السين . وأدغم حمزة والكسائي وهشام أبل سولت} . قال ابنُ جني : علة ذلك فشوُّ هذين الحرفين في الفم وانتشار الصوت المثبت عنهما ، فقاربتا بذلك مخرج اللام ، فجاز إدغامها فيهما انتهى . وهو راجع لمعنى كلام سيبويه ، قال سيبويه : والإدغامُ يعني إدغام اللام مع الطاء والصاد وأخواتهما جائز ، وليس ككثرته مع الراء ، لأن هذه الحروف تراخين عنها وهي من الثنايا . قال : وجواز الإدغام لأنّ آخر مخرج اللام قريب من مخرجها انتهى كلامه . {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ } روي عن مجاهد : أنه تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود : بيتُ المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لأنّها مهاجرُ الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة . وقال المسلمون : بل الكعبة أفضلُ ، فنزلت . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة وهو : أنه لما أمر تعالى باتباع ملة إبراهيم وكان حج البيت من أعظم شعائر ملة إبراهيم ومن خصوصيات دينه ، أخذ في ذكر البيت وفضائله ليبني على ذلك ذكر الحج ووجوبه . وأيضاً فإنّ اليهود حين حولت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوّة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقالوا : بيت المقدس أفضل وأحق بالاستقبال لأنه وضع قبل الكعبة ، وهو أرض المحشر ، وقبله جميع الأنبياء ، فأكذبهم اللّه في ذلك بقوله : ٩٦إن أول بيت . . . . . {إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة} كما أكذبهم في دعواهم قبل : إنما حرم عليهم ما كان محرماً على يعقوب من قبل أن تنزل التوراة ، وأيضاً فإنّ كل فرقة من اليهود والنصارى زعمت أنها على ملة إبراهيم ، ومن شعائر ملته حجَّ الكعبة وهم لا يحجونها ، فأكذبهم اللّه في دعواهم تلك ، والأول هو الفرد السابق غيره . وتقدم الكلام على لفظ أول في قوله : { ولا تكونوا أول كافر به } ووضع جملة في موضع الصفة . واختلف في معنى كونه أول بيت وضع للناس . فقيل : هو أولُ بيت ظهر على وجه الماء حين خلقت السموات والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض تحته . وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض . وقيل : لما أهبط آدم قالت له الملائكة : طُفْ حول هذا البيت فلقد طفنا قبلك بألفي عام ، وكان في موضعه قبل آدم ببيت يقال له : الضراح ، فرفع في الطوفان إلى السماء الرابعة يطوف به ملائكة السموات . وذكر الشريف أبو البركات أسعد بن علي بن أبي الغنائم الحسيني الجواني النسابة : أن شيث بن آدم هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان اللّه وضعها لآدم من الجنة ، فعلى هذه الأقاويل يكون أول بيت وضع للناس على ظاهره ، وروي عن ابن عباس أنه أول بيت حج بعد الطوفان ، فتكون الأولية باعتبار هذا الوصف من الحج إذْ كان قبله بيوت ، وروي عن عليّ أنه سأله رجل : أهو أول بيت ؟ فقال عليّ : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً فيه الهدى والرحمة والبركة ، فأخذ الأولية بقيد هذه الحال . وقيل : أول من بناه إبراهيم ثم قوم من العرب من جرهم ، ثم هدم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبنته قريش . وقال أبو ذر : قلت يا رسول اللّه أي مسجد وضع أول ؟ قال : { المسجد الحرام } قلت ؛ ثم أي ؟ قال : { المسجد الأقصى } قلت : كم كان بينهما ؟ قال : { أربعون سنة } وظاهر هذا الحديث أنه من وضع إبراهيم ، وهو معارض لما ذكر في الأقوال السابقة : إلا إنّ حمل الوضع على التجديد فيمكن الجمع بينهما . وظاهر حديث أبي ذر يضعف قول الزجاج : إنّ بيت المقدس هو من بناء سليمان بن داود عليهما السلام ، بل يظهر منه أنه من وضع إبراهيم ، فكما وضع الكعبة وضع بيت المقدس . وقد بيَّن صلى اللّه عليه وسلم : { أن بين الوضعين أربعين سنة } وأين زمانُ إبراهيم من زمان سليمان ومعنى وضع للناس : أي متعبداً يستوي في التعبد فيه الناس ، إذ غيره من البيوت يختص بأصحابها ، والمشترك فيه الناس هو محل طاعتهم وعبادتهم وقبلتهم . وقرأ الجمهور { وُضع} مبنياً للمفعول . وقرأ عكرمة وابن السميقع وضع مبنياً للفاعل ، فاحتمل أنْ يعود على اللّه ، واحتمل أن يعودَ على إبراهيم ، وهو أقرب في الذكر وأليق وأوفقق لحديث أبي ذر . وللناس متعلق بوضع ، واللام فيه للتعليل ، وللذي ببكة خبر إنّ . والنعنى : للبيت الذي ببكة . وأكدت النسبة بتأكيدين : إنّ واللام . وأخبر هنا عن النكرة وهو أول بيت لتخصصها بالإضافة ، وبالصفة التي هي وضع إمالها ، وإمّا لما أضيفت إليه . إذْ تخصيصه تخصيصٌ لها بالمعرفة وهو للذي ببكة ، لأن المقصود الإخبار عن أول بيت وضع للناس ، ويحسن الإخبار عن النكرة بالمعرفة دخول إنّ . ومن أمثلة سيبويه : أنّ قريباً منك زيد . تخصص قريب بلفظ منك ، فحسن الإخبار عنه . وقد جاء بغير تخصيص وهو جائز في الاختيار قال : وإنّ حراماً أن أسب مجاشعا بآبائي الشم الكرام الخضارم والباء في ببكة ظرفية كقولك : زيد بالبصرة . ويضعفُ أن يكون بكة هي المسجد ، لأنه يلزم أن يكونَ الشيء ظرفاً لنفسه ، وهو لا يصحّ . {مُبَارَكاً وَهِىَ لّلْعَالَمِينَ } أمّا بركته فلما يحصلُ فيه من الثواب وتكفير السيئات لمن حجه واعتمره وطاف به وعكف عنده . وقال القفال : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : { يحيي إليه ثمرات كل شيء} . وقيل : بركتُهُ دوام العبادة فيه ولزومها ، لأنّ البركة لها معنيان : أحدهما : النمو ، والآخر : الثبوت ، ومنه البركة لثبوت الماء فيها . والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه ، والبراكاء الثبوت في القتال ، وتبارك اللّه ثبت ولم يزل . وقيل : بركته تضعيف الثواب فيه . روى ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { من طاف بالبيت لم يرفع قدماً ولم يضع أخرى إلا كتب اللّه بها له حسنة ورفع له بها درجة} . وقال الفراء : سمي مباركاً لأنه مغفرة للذنوب . وقال ابن جرير : بركته تطهيره من الذنوب . وقيل : بركته أنَّ مَن دخله أمن حتى الوحش ، فيجتمع فيه الظبي والكلب . وأما كونه هدى فلأنه لما كان مقوماً مصلحاً كان فيه إرشاد . وبولغ بكونه هدىً ، أو هو على حذف مضاف أي : وذا هدى . قيل : ومعنى هدى أي قبلة . وقيل : رحمة . وقيل : صلاح . وقيل : بيان ودلالة على اللّه بما فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره تعالى . و قال ابن عطية : يحتمل هنا هدى أن يكون بمعنى الدعاء ، أي من حيث دعى العالمون إليه ، وانتصاب مباركاً على الحال . وجوزوا أنْ يكون حالاً من الضمير الذي استكن في وضع ، والعامل فيها وضع أي أنَّ أول بيت مباركاً ، أي في هذه الحال للذي ببكة . وهذا التقدير ليس بجائز ، لأنك فصلت بين العامل في الحال وبين الحال بأجنبي وهو : الخبر ، لأنه معمول لأنَّ خبر لها ، فإنْ أضمرت وضع بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال ، وكان تقديره : للذي ببكة وضع مباركاً . وعلى هذا التقدير ينبغي أن يحمل تفسير علي بن أبي طالب السابق ذكره عند ذكر كون هذا البيت أولاً ، إذ كان قد لاحظ في هذا البيت كونه وضع أولاً بقيد هذه الحال . وجوزوا أيضاً أن يكون العامل في الحال العامل في ببكة ، أي استقر ببكة في حال بركته . وهو وجه ظاهر الجواز ، ولم يذكر الزمخشري غيره . وأما هدى فظاهره أنه معطوف على مباركاً ، والمعطوف على الحال حال . وجوَّز بعضهم أنْ يكون مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي وهو هدى ، ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار . ٩٧فيه آيات بينات . . . . . {فِيهِ ءايَاتٌ بَيّنَاتٌ } أي علامات واضحات منها : مقام إبراهيم ، والحجر الذي قام عليه ، والحجر الأسود وهو : من حجارة الكعبة ، وهو يمين اللّه في الأرض يشهد لمن مسه . والحطيم ، وزمزم ، وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس ، وأمر الفيل ، ورمى طير اللّه عنه بحجارة السجيل ، وكف الجبابرة عنه على وجه الدهر ، وإذعان نفوس العرب لتوفير هذه البقعة دون ناهٍ ولا زاجر ، وجباية الأرزاق إليه ، وهو { بواد غير ذي زرع} وحمايته من السيول . ودلالةُ عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض ، فإنْ كان المطر من جانب أخصب الأفق الذي يليه . وذكر مكي وغيره : أنّ من آياته كون الطير لا يعلوم عليه . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، والطير يعاين يعلوه ، وقد علته العقاب التي أخذت الحية المشرفة على جداره ، وتلك كانت من آياته انتهى . وأي عبد علا عليه عتق . وتعجيلُ العقوبة لمن عتا فيه ، وإجابة دعاء من دعا تحت الميزاب ، ومضاعفة أجر المصلي ، وغير ذلك من الآيات . وقوله : فيه آيات بينات ، الضمير في فيه عائد على البيت ، فينبغي أن لا يذكر من الآيات إلا ما كان في البيت . لكنهم توسعوا في الظرفية ، إذ لا يمكن حملها على الحقيقة لأنه كان يلزم أن الآيات تكون داخل الجدران . ووجهُ التوسع أنّ البيت وضع بحرمه وجميع فضائله ، فهي فيه على سبيل المجاز . ولذلك عدَّ المفسرون آياتٍ في الحرم وأشياء مما التزمت في شريعتنا من : تحريم قطع شجره ومنع الاصطياد فيه . والذي تعرضت له الآية هو مقام إبراهيم ، لأنه آية باقية على مر الأعصار . وذلك أنّه لمّا قام إبراهيم على حجر المقام وقت رفعه القواعد من البيت طال له البناء ، فكلما علا الجدار ارتفع الحجر به في الهواء ، فما زال يبني وهو قائم عليه وإسماعيل يناوله الحجارة والطين حتى كمل الجدار . ثم أراد اللّه إبقاء ذلك آية للعالمين ليّن الحجر فغرقت فيه قدما إبراهيم كأنها في طين ، فذلك الاثر باق إلى اليوم . وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الاعصار . وقال في ذلك أبو طالب : وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل فما حفظ أن أحداً من الناس نازع في هذا القول . وقيل : سبب أثر قدميه في هذا الحجر أنه وافى مكة زائراً من الشام فقالت له زوجة إسماعيل : انزل . حتى اغسلَ رأسك ، فأبى أن ينزل ، فجاءت بهذا الحجر من جهة شقه الأيمن ، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ، ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر ، فبقي أثر قدميه فيه . وارتفاعُ آيات على الفاعلية بالمجرور قبله ، فيكون المجرور في موضع الحال ، والعامل فيها محذوف ، وذلك المحذوف هو الحال حقيقة . ونسبة الحالية إلى الظرف والمجرور مجاز ، كنسبة الخبر إليها . إذا قلت : زيد في الدار ، أو عندك . ولذلك قال بعض أصحابنا : وما يعزى للظرف من خبرية وعمل ، فالأصح كونه لعامله . وكون فيه في موضع حال مقدّرة ، سواء كان العامل فيها هو العامل في ببكة ، أم كان العامل فيها هو وضع على ما أعربوه ، أو على ما أعربناه . ويجوز أو يكون جملة مستأنفة . أخبر اللّه تعالى أن فيه آيات بينات . {مَّقَامِ إِبْراهِيمَ } مقام : مفعل من القيام . وقرأ الجمهور : آيات بينات على الجمع . وقرأ أبيّ وعمرو بن عباس ومجاهد وأبو جعفر في رواية قتيبة { آية بينة} على التوحيد . فعلى قراءة الجمهور أعربوا مقام إبراهيم بدلاً ، وهو بدل كل من كل ، من قوله : آيات ، وأعربوه خبر مبتدأ محذوف . أي هنّ مقام إبراهيم . وعلى ما أعربوه فكيف يبدل المفرد من الجمع ، أو يخبر به عن الجمع ؟ وأجيب بوجهين : أحدهما : أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة اللّه ونبوّة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْراهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا} والثاني : اشتماله على آيات ، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لابراهيم خاصة ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنين آية . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد فيه { آيات بينات مقام إبراهيم} وأمن من دخله ، لأن الآيتين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة . و قال ابن عطية : والمترجح عندي أنّ المقام وأمن الداخل جعلا مثالاً مما في حرم اللّه من الآيات ، وخصّا بالذكر لعظمهما ، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار ؛ إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم . فظاهرُ كلامه وكلام الزمخشري قبله : أن مقام إبراهيم وأمن الداخل تفسير للآيات وهي جمع ، ولكن لم يذكر أمن الداخل في الآية تفسيراً صناعياً ، إنما جاء { ومن دخله كان آمناً} جملة من شرط وجزاء ، أو مبتدأ أو خبر ، لا على سبيل أن يكون اسماً مفرداً يعطف على قوله : مقام إبراهيم ، فيكون ذلك تفسيراً صناعياً . بل لم يأت بعد قوله : { بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ } سوى مفرد وهو : مقام إبراهيم فقال . فإن قلت : كيف أجزت أنْ يكون مقام إبراهيم والا من عطف بيان وقوله : ومن دخله كان آمناً جملة مستأنفة : إما ابتدائية ، وإما اشترطية ؟ قلت : أجزت ذلك من حيث المعنى . ولأن قوله : { ومن دخله كان آمناً } دل على أمن داخله ، فكأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم ، وأمن داخله . ألا ترى أنك لو قلت فية آية بينة من دخله كان آمناً صحّ ، لأنه في معنى فيه آية بينة أمن مَن دخله انتهى سؤاله وجوابه وليس بواضح . لأن تقديره وأمن الداخل ، هو مرفوع عطفاً على مقام إبراهيم ، وفسر بهما الآيات . والجملة من قوله : ومن دخله كان آمناً لا موضع لها من الإعراب ، فتدافعا إلا أنْ اعتقد أنّ ذلك معطوف محذوف يدل عليه ما بعده ، فيمكن التوجيه . فلا يجعل قوله : ومن دخله كان آمناً في معنى : وأمن داخله ، إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير الإعراب . قال الزمخشري : ويجوز أن يذكر هاتين الآيتين ويطوي ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات ، كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما . ونحوه في طي الذكر قول جرير : كانت حنيفة أثلاثاً فثلثهم من العبيد وثلث من مواليها ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم : { حبب إليّ من دنياكم ثلاث : الطيب ، والنساء ، وقرة عيني في الصلاة } انتهى كلامه . وفيه حذف معطوفين ، ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله : آيات بينات . ورد عليه ذلك ، لأن آيات نكرة ، ومقام إبراهيم معرفة ، ولا يجوز التخالف في عطف البيان . وقوله مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين ، فلا يلتفت إليه . وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت ، فتتبع النكرة النكرة والمعرفة المعرفة ، وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أنْ يكونا معرفتين ، ولا يجوز أنْ يكونا نكرتين . وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم : عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله ، أعربه البصريون بدلاً ، ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة ، فينبغي أن لا يجوز . والأولى والأصوب في إعراب مقام إبراهيم أنْ يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : أحدها : أي أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم . أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها : أي من الآيات البينات مقام إبراهيم . ويكون ذكر المقام لعظمه ولشهرته عندهم ، ولكونه مشاهداً لهم لم يتغير ، ولاذ كاره إياهم دين أبيهم إبراهيم . وأما على قراءة من قرأ : آية بينة بالتوحيد ، فإعرابه بدل ، وهو بدل معرفة من نكرة موصوفة ، كقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِراطِ اللّه } ويكون اللّه تعالى قد أخبر عن هذه الآية العظيمة وحدها وهي مقام إبراهيم لما ذكرنا ، وإنْ كان في البيت آيات كثيرة . واختلفوا في تفسير مقام إبراهيم . فقال الجمهور : هو الحجر المعروف . وقال قوم : البيت كله مقام إبراهيم ، لأنه بناه ، وقام في جميع أقطاره . وقال قوم : مكة كلها مقام إبراهيم . وقال قوم : الحرم كله . والحرم مما يلي المدينة نحواً من أربعة أميال إلى منتهى التنعيم ، ومما يلي العراق نحواً من ثمانية أميال يقال له المقطع ، ومما يلي عرفة تسعة أميال إلى منتهى الحديبية . {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } : الضمير في { ومن دخله} عائد على البيت : إذْ هو المحدث عنه ، والمقيد بتلك القيود من البركة والهدى والآيات البينات من مقام إبراهيم وغيره . ولا يمكن أنْ يعود على مقام إبراهيم إذا فسّرناه بالحجر . وظاهر الآية وسياق الكلام أنّ هذه الجملة هي مفسرة لبعض آيات البيت ، ومذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت ، وأمن من دخله من ذوي الحرائم . وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل ، وأخذ الأموال ، وأنواع الظلم ، إلا في الحرم كقوله تعالى : {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام { رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا بَلَدًا آمِنًا } فأما في الإسلام فمن أصاب حدًّا فإن الحرم لا يعيذُه وإلى هذا ذهب : عطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة وغيره . فمن زنى ، أو سرق ، أو قتل ، أقيم عليه الحدّ واستحسن كثير ممن قال هذا القول : أن يخرج من وجب عليه القتل إلى الحل فيقتل فيه . وقال ابن عباس : من أحدث حدثاً واستجار بالبيت فهو آمن . والأمر في الإسلام على ما كان في الجاهلية ، فلا يعرض أحد لقاتل وليه . إلا أنه يجب على المسلمين أن لا يبايعوه ، ولا يكلموه ، ولا يؤووه حتى يتبرم فيخرج من الحرم فيقام عليه الحد . وقال بمثل هذا عطاء أيضاً ، والشعبي ، وعبيد بن عمير ، والسدي ، وابن جبير ، وغيرهم إلا أن أكثرهم قالوا : هذا فيمن يقتل خارج الحرم ثم يعوذ بالحرم ، أمّا من قتل فيه فيقام عليه الحد فيه . واختلف فقهاء الأمصار : إذا جنى في غير الحرم ثم التجأ إليه فقال أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد ، وزفر ، والحسن بن زياد ، وأحمد في رواية حنبل عنه : إن كانت الجناية في النفس لم يقتص منه ولا يخالط ، أو فيما دون النفس اقتص منه في الحرم . وقال مالك في رواية : لا يقتص منه فيه ، لا بقتل ولا فيما دون النفس ، ولا يخالط . قالوا : وانعقد الإجماع على أنّ من جنى فيه لا يؤمن ، لأنه هتك حرمة الحرم وردّ الأمان . فبقي حكم الآية فيمن جنى صار خارجاً منه ثم التجأ إليه . وقالوا : هذا خبر معناه الأمر . أي ومَن دخله فأمّنوه . وهو عام فيمن جنى فيه أو في غيره ثم دخله ، لكنْ صدَّ الإجماع عن العمل به فيمن جنى فيه وبقي حكم الآية مختصاً بمن جنى خارجاً منه ثم دخله . وقال يحيى بن جعدة في آخرين : آمناً من النار ، ولا بد من قيد في . ومن دخله كان آمناً : أي ومن دخله حاجًّا ، أو من دخله مخلصاً في دخوله . وقيل المعنى : ومن دخله عام عمرة القضاء مع النبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله :{ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللّه ءامِنِينَ} وقال جعفر الصادق : منْ دخله ورقى على الصفا أمن أمن الأنبياء . وظاهرُ الآية ما بدأنا به أولاً ، وكلّ هذه الأقوال سواه متكلفات ، وينبو اللفظ عنها ، ويخالف بعضها ظواهر الآيات وقواعد الشريعة { وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } روى عكرمة : أنه لما نزلت : { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً قالت اليهود : نحن على الإسلام فنزلت : وللّه على الناس حج البيت الآية ، قيل له : حجهم يا محمد . إن كانوا على ملة إبراهيم التي هي الإسلام ، فليحجوا إن كانوا مسلمين فقالت اليهود : لا نحجه أبداً . ودلت هذه الآية على تأكيد فرض الحج ، إذ جاء ذلك بقوله : وللّه ، فيشعر بأن ذلك له تعالى ، وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء ، وجاء متعلقاً بالناس بلفظ العموم وإن كان المراد منه الخصوص ليكون من وجب عليه ذكر مرتين . قال الزمخشري : وفي هذا الكلام أنواع من التأكيد والتشديد . فمنها قوله : { وَللّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } يعني أنه حق واجب للّه في رقاب الناس لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عهدته . ومنها أنه ذكر الناس ثم أبدل منه ، . من استطاع إليه سبيلاً وفيه ضربان من التأكيد : أحدهما : أن الإبدال تنبيه للمراد وتكرير له . والثاني : أن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين انتهى كلامه ، وهو حسن . وقرأ حمزة والكسائي وحفص حج بكسر الحاء ، والباقون بفتحها . وهما لغتان : الكسر لغة نجد ، والفتح لغة أهل العالية . وجعل سيبويه الحج بالكسر مصدراً نحو : ذكر ذكراً . وجعله الزجاج اسم العمل . ولم يختلفو في الفتح أنه مصدر ، وحج مبتدأ وخبره في المجرور الذي هو وللّه وعلى الناس متعلق بالعامل في الجار والمجرور الذي هو خبر . وجوز أنْ يكونَ على الناس حالاً ، وأنْ يكون خبر الحج . ولا يجوز أن يكون { وللّه} حالاً ، لما يلزم في ذلك من تقدّمها على العامل المعنوي . وحج مصدر أضيف إلى المفعول الذي هو البيت ، والألف واللام فيه للعهد . إذ قد تقدّم { أنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة} هذا الأصل ثم صار علماً بالغلبة . فمتى ذكر البيت لا يتبادر إلى الذهن إلا أنه الكعبة ، وكأنه صار كالنجم للثريا وقال الشاعر : لعمري لأنت البيت أكرم أهله وأقعد في أفنائه بالأصائل ولم يشترط في هذه الآية في وجوبه إلا الاستطاعة . وذكروا أن شروطه : العقل ، والبلوغ ، والحرية ، والإسلام ، والاستطاعة . وظاهر قوله : { وَللّه عَلَى النَّاسِ } وجوبه على العبد ، وهو مخاطب به ، وقال بذلك داود . وقال الجمهور : ليس مخاطباً به ، لأنه غير مستطيع ، إذ السيد يمنعه عن هذه العبادة لحقوقه . قالوا : وكذلك الصغير . فلو حج العبد في حال رقِّه ، والصبي قبل بلوغه ، ثم عتق وبلغ فعليهما حجة الإسلام . وظاهره الاكتفاء بحجة واحدة ، وعليه انعقد إجماع الجمهور خلافاً لبعض أهل الظاهر إذ قال : يجب في كل خمسة أعوام مرة ، والحديث الصحيح يرد عليه . والظاهر أنَّ شرطه القدرة على الوصول إليه بأي طريق قدر عليه من : مشي ، وتكفف ، وركوب بحر ، وإيجاز نفسه للخدمة . الرجال والنساء في ذلك سواء ، والمشروط مطلق الاستطاعة . وليست في الآية من المجملات فتحتاج إلى تفسير . ولم تتعرض الآية لوجوب الحج على الفور ، ولا على التراخي ، بل الظاهر أنه يجب في وقت حصول الاستطاعة . والقولان عن الحنفية والمالكية . وقال أبو عمر بن عبد البر : ويدل على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام الواجب عليه في وقته ، بخلاف من فوّت صلاة حتى خرج وقتها فقضاها . وأجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته أنت قاض . وكل من قال بالتراخي لا يجد في ذلك حدًّا إلا ما روي عن سحنون : أنه إذا زاد على الستين وهو قادر وترك فسق ، وروي قريب من هذا عن ابن القاسم . وفي إعراب مَنْ خلاف ، ذهب الأكثرون إلى أنه بدل بعض من كل ، فتكون مَن موصولة في موضع جر ، وبدل بعض من كل لا بد فيه من الضمير ، فهو محذوف تقديره ، من استطاع إليه سبيلاً منهم . وقال الكسائي وغيره : من شرطية ، فتكون في موضع رفع بالابتداء . ويلزم حذف الضمير الرابط لهذه الجملة بما قبلها ، وحذف جواب الشرط ، إذ التقدير من استطاع إليه سبيلاً منهم فعليه الحج ، أو فعلية ذلك . والوجه الأوّل أولى لقلة الحذف فيه وكثرته في هذا . ويناسب الشرط مجيءُ الشرط بعده في قوله :{ وَمَن كَفَرَ } وقيل : مَنْ موصولة في موضع رفع خبر مبتدأ محذوف تقديره : هم من استطاع إليه سبيلاً . وقال بعض البصريين : مَنْ موصولة في موضع رفع على أنه فاعل بالمصدر الذي هو حج ، فيكون المصدر قد أضيف إلى المفعول ورفع به الفاعل نحو : عجبت من شرب العسل زيد ، وهذا القول ضعيف من حيث اللفظ والمعنى . أمّا من حيث اللفظ فإنّ إضافة المصدر للمفعول ورفع الفاعل به قليل في الكلام ، ولا يكاد يحفظ في كلام العرب إلا في الشعر ، حتى زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا في الشعر . وأمّا من حيث المعنى فإنه لا يصح ، لأنّه يكون المعنى : إنّ اللّه أوجب على الناس مستطيعهم وغير مستطيعهم أنْ يحج البيت المستطيع . ومتعلق الوجوب إنما هو المستطيع لا الناس على العموم ، والضمير في إليه يعود على البيت ، وقيل : على الحج . وإليه متعلق باستطاع ، وسبيلاً مفعول بقوله استطاع لأنه فعل متعد . قال تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ } وكل موصل إلى شيء ، فهو سبيل إليه . وظاهر الآية يدل على وجوب الحج على من استطاع إلى البيت سبيلاً ، وليست الاستطاعة من باب المجملات كما قدّمنا . وقال عمر ، وابنه ، وابن عباس ، وعطاء ، وابن جبير : هي حال الذي يجد زاداً وراجلة ، وعلى هذا أكثر العلماء . وقال ابن الزبير والضحاك : إذا كان مستطيعاً غير شاق على نفسه وجب عليه . قال الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك ؛ فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة ، أكان يتركه ، بل كان ينطلق إليه ؟ ولو حبوا فكذلك يجب عليه الحج . وقال الحسن : مَنْ وجد شيئاً يبلغه فقد وجب عليه . وقال عكرمة : استطاعةَ السبيل الصحة . ومذهب مالك : أنَّ الرجل إذا وثق بقوته لزمه ، وعنه ذلك على قدر الطاقة . وقد يجد الزاد والراحلة من لا يقدر على السفر ، وقد يقدر عليه من لا راحلة ولا زاد . وقال ابن عباس : من ملك ثلاثمائة درهم فهو السبيل إليه . وقال الشافعي : الاستطاعة على وجهين بنفسه : أولاً : فمن منعه مرض أو عذر وله مال فعليه أن يجعل من يحج عنه وهو مستطيع لذلك . واختلف قول مالك فيمن سأل ذاهباً وآيباً ممن ليست عادته ذلك في إقامته . فروى عنه ابن وهب : لا بأس بذلك . وروي عنه ابن القاسم : لا أرى ذلك ، ولا يخرج إلى الحج والغزو سائلاً . وكره مالك أن تحج النساء في البحر . واختلف عنه في حج النساء ماشيات إذا قدرن على ذلك . ولا حج على المرأة إلا إذا كان معها ذو محرم ، واختلف إذا عدمته . فقال الحسن ، والنخعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق : المحرم من السبيل ولا حج عليها إلا مع ذي محرم . قال أبو حنيفة : إذا كان بينها وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام فصاعداً ، وإذا وجدت محرماً فهل لزوجها أن يمنعها في الفرض ؟ قال الشافعي : له أن يمنعها وعن مالك روايتان : المنع ، وعدمه . والمحرم من لا يجوز له نكاحها على التأبيد بقرابة ، أو رضاع ، أو صهر ، والحرّ والعبد والمسلم والذمي في ذلك سواء ، إلا أنّ يكونَ مجوسياً يعتقد إباحة نكاحها أو مسلماً غير مأمون ، فلا تخرج ولا تسافر معه . وقال مالك : تخرج مع جماعة نساء . وقال الشافعي : مع حرة ثقة مسلمة . وقال ابن سيرين : مع رجل ثقة من المسلمين . وقال الأوزاعي : مع قوم عدول ، وتتخذ سلماً تصعد عليه وتنزل ، ولا يقربها رجل . واختلفوا في وجوب الحج مع وجود المكوس والغرامة . فقال سفيان الثوري : إذا كان المكس ، ولو درهماً سقط فرض الحج عن الناس . وقال عبد الوهاب : إذا كانت الغرامة كثيرة مجحفة سقط الفرض . فظاهر كلامه هذا أنّها إذا كانت كثيرة غير مجحفة به لسعة ماله فلا يسقط ، وعلى هذا جماعة أهل العلم ، وعليه مضت الأعصار . وأجمعوا على أن المريض والمعضوب لا يلزمهما المسير إلى الحج . فقال مالك : يسقط عن المعضوب فرض الحج ، ولا يحج عنه في حال حياته . فإن وصى أن يحج عنه بعد موته حج من الثلث ، وكان تطوّعاً . وقال الثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، وابن المبارك ، وأحمد ، وإسحاق : إذا كان قادراً على مال يستأجر به لزمه ذلك ، وإذا بذل أحد له الطاعة والنيابة لزمه ذلك ببذل الطاعة عند الشافعي وأحمد وإسحاق . وقال أبو حنيفة : لا يلزمه الحج ببذل الطاعة ، ولو بذل له مالاً فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله . ومسائلُ فروع الاستطاعة كثيرة مذكورة في كتب الفقه . {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } قال ابن عباس : بوجوب الحج ، فمن زعم أنه ليس بفرض عليه فقد كفر . وقال مثله : الضحاك ، وعطاء ، والحسن ، ومجاهد ، وعمران القطان . وقال ابن عمر وغيره : ومن كفر باللّه واليوم الآخر . وقال ابن زيد : ومن كفر بهذه الآيات التي في البيت . وقال السدي وجماعة : ومَنْ كفر بأنْ وجد ما يحج به فلم يحج ، فهذا كفر معصية ، بخلاف القول الأول فإنه كفر جحود . ويصير على قول السدي لقوله : { من ترك الصلاة فقد كفر لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} . على أحد التأويلين . وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد والتشديد قوله : ومن كفر ، مكان ومَن لم يحج تغليظاً على تارك الحج ، ولذلك قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً } ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر ، انتهى كلامه ، وهو من معنى كلام السدي . وقال سعيد بن المسيب : ومَن كفر بكون البيت قبله الحق ، فعلى هذا يكون راجعاً إلى اليهود الذين قالوا حين حوّلت القبلة : { مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا } وكفروا بها وقالوا : لا نحج إليها أبداً . ومن شرطية وجواب الشرط الجملة المصدرة بالفاء ، والرابط لها بجملة الشرط هو العموم الذي في قوله :{ عَنِ الْعَالَمِينَ } إذْ مَن كفر فهو مندرج تحت هذا العموم . وفي هذا اللفظ وعيد شديد لمن كفر قال ابن عطية : والقصد بالكلام : فإن اللّه غني عنهم ، ولكنْ عمَّ اللفظ ليبرع المعنى ويتنبه الفكر على قدرة اللّه وسلطانه واستغنائه عن جميع الوجوه ، حتى ليس به افتقار إلى شيء ، لا ربَّ سواه انتهى . وقال الزمخشري : ومنها يعني من أنواع التأكيد ذكر الاستغناء عنه ، وذلك مما يدل على المقت والسخط والخذلان . ومنها قوله : عن العالمين ، ولم يقل عنه . وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان ، لأنّه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء عنه لا محالة . ولأنّه يدلُّ على الاستغناء الكامل ، فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : فإن اللّه غني عن حج العالمين . ٩٨قل يا أهل . . . . . {قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللّه وَاللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } : قال الطبري : سبب نزولها ونزول ما بعدها إلى قوله :{ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أن رجلاً من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه : شاس بن قيس ، وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين ، فرأى ائتلاف الأوس والخزرج ، فقال : ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملا بني قيلة ، فأمر شاباً من اليهود أنْ يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر ، ففعل ، فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة . فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم } ؟ ووعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضاً ، هذا ملخصه وذكروه مطولاً . وقال الحسن : وقتادة ، والسدي : نزلت في أحبار اليهود الذين كانوا يصدون المسلمين عن الإسلام بأن يقولوا لهم : إنّ محمداً ليس بالموصوف في كتابنا ، والظاهر نداء أهل الكتاب عموماً والعامة ، وإن لم يعلموا فالحجة قائمة عليهم كقيامها على الخاصة . وكأنهم بترك الاستذلال والعدول إلى التقليد بمنزلة مَنْ علم ثم أنكره . وقيل : المراد علماء أهل الكتاب الذين علموا صحة نبوّته ، واستدل بقوله : { وأنتم شهداء } انتهى هذا القول . وخصّ أهل الكتاب بالذكر دون سائر الكفار لأنهم هم المخاطبون في صدر هذه الآية المورد الدلائل عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والمجابون عن شبههم في ذلك . ولأن معرفتهم بآيات اللّه أقوى لتقدم اعترافهم بالتوحيد وأصل النبوّة ، ولمعرفتهم بما في كتبهم من الشهادة للرسول والبشارة به . ولما ذكر تعالى أنّ في البيت { بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ } وأوجب حجه ، ثم قال :{ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللّه غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } ناسب أنْ يُنكِرَ على الكفار كفرهم بآيات اللّه ، فناداهم بيا أهل الكتاب لينبههم على أنهم أهل الكتاب ، فلا يناسب مَنْ يعتزي إلى كتاب اللّه أنْ يكفر بآياته ، بل ينبغي طواعيته وإيمانه بها ، إذْ له مرجع من العلم يصير إليه إذا اعترته شبهة . والآيات : هي العلامات التي نصبها اللّه دلالة على الحق . وقيل : آيات اللّه هي آيات من التوراة فيها صفة محمد صلى اللّه عليه وسلم. ويحتمل القرآن ، ومعجزة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. { وَاللّه شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ } جملة حالية فيها تهديد ووعيد . أيْ إنّ مَن كان اللّه مطَّلعاً على أعماله مشاهداً له في جميع أحواله لا يناسبه أن يكفر بآياته ، فلا يجامع العلم بأن اللّه مطلع على جميع أعمال الكفر بآيات اللّه ، لأن من تيقن أن اللّه مجازيه لا يكاد يقع منه الكفر الذي هو أعظم الكبائر . وأتت صيغة { شهيد} لتدل على المبالغة بحسب المتعلق . لأن الشهادة يراد بها العلم في حق اللّه ، وصفاته تعالى من حيث هي هي لا تقبل التفاوت بالزيادة والنقصان . فإذا جاءت الصفة من أوصافة للمبالغة فذلك بحسب متعلقاتها . وتقدّم الكلام على { لم} وحذف الألف من ما الاستفهامية إذا دخل عليها الجار . وقوله : { على ما تعملون } متعلق بقوله : شهيد . وما موصولة . وجوزوا أنْ تكون مصدرية ، أي على عملكم . ٩٩قل يا أهل . . . . . {قُلْ ياأَهْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّه مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاء وَمَا اللّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } لمّا أنكر عليهم كفرهم في أنفسهم وضلالهم ، ولم يكتفوا حتى سعوا في إضلال مَنْ آمن ، أنكر عليهم تعالى ذلك ، فجمعوا بين الضلال والإضلال { مِن سُندُسٍ سَنَةٍ سَيّئَةٌ فَعَلَيْهِ} وصدّ : لازم ومتعد . يقال : صد عن كذا ، وصد غيره عن كذا . وقراءة الجمهور : يصدون ثلاثياً ، وهو متعد ومفعوله مَنْ آمن . وقرأ الحسن : تصدُّون من أصدّ ، عدى صدّ اللازم بالهمز ، وهما لغتان . وقال ذو الرّمة : أناس أصدُّوا الناس بالسيف عنهم ومعنى صد هنا : صرف . وسبيل اللّه : هو دين اللّه ، وطريق شرعه ، وقد تقدّم أنها تذكر وتؤنث . ومن التأنيث قوله : فلا تبعد فكل فتى أناس سيصبح سالكاً تلك السبيلا قال الراغب : وقد جاء { مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } دون قل ، وجاء هنا قل . فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق ، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد . ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهاً على أنهم غير مستأهلين أنْ يخاطبهم بنفسه ، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صلى اللّه عليه وسلم. وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة ، وعلى الذّم أخرى . وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح ، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل اللّه نحواً :{ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ } وقد يراد به ما أنزل اللّه . وأيضاً فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم ، كما لو قيل : يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه ، انتهى ما لخص من كلامه . والهاء في يبغونها عائدة على السبيل . قال الزجاج والطبري : يطلبون لها اعوجاجاً . تقول العرب : ابغني كذا بوصل الألف ، أي اطلبه . أي وأبغني بقطع الألف أعني على طلبه . قال الزمخشري: { فإن قلت } كيف يبغونها عوجاً وهو محال ؟ { قلت} فيه معنيان : أحدهما : أنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أنَّ فيها عوجاً بقولكم : إن شريعة موسى لا تنسخ ، وبتغييركم صفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن وجهها ، ونحو ذلك . والثاني : أنكم تتعبون أنفسكم في إخفاء الحق ، وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم انتهى . وقيل : يبغون هنا من البغي وهو التعدي . أي يتعدّون عليها ، أو فيها . ويكون عوجاً على هذا التأويل نصبه على الحال من الضمير في تبغون أي عوجاً منكم وعدم استقامة انتهى . وعلى التأويل الأول يكون عوجاً مفعولاً به ، والجملة من قوله : { تبغونها عوجاً تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون حالاً من الضمير في تصدُّون أو من سبيل اللّه ، لأن فيها ضميرين يرجعان إليهما . وأنتم شهداء أي بالعقل نحو : { وألقى السمع وهو شهيد } أي عارف بعقله ، وتارة بالفعل . نحو قال : { فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين } وتارة بإقامة ذلك ، أي شهدتم بنبوّة محمد صلى اللّه عليه وسلم قبل بعثه على ما في التوراة من صفته وصدقه . وقال الزمخشري : وأنتم شهداء أنها سبيل اللّه التي لا يصدّ عنها إلا ضال مضلٌّ . أو وأنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يثقون بأقوالكم ، ويستشهدون في عظام أمورهم ، وهم الأحبار انتهى . قيل : وفي قوله : وأنتم شهداء دلالة على أن شهادة بعضهم على بعض جائزة ، لأنه تعالى سماهم شهداء ، ولا يصدق هذا الإسم إلا على من يكون له شهادة . وشهادتهم على المسلمين لا تجوز بإجماع ، فتعين وصفهم بأن تجوز شهادة بعضهم على بعض ، وهو قول أبي حنيفة وجماعة . والأكثرون على أنَّ شهادتهم لا تقبل بحال ، وأنّهم ليسوا من أهل الشهادة . وما اللّه بغافل عما تعملون وعيد شديد لهم ، وتقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته . ١٠٠يا أيها الذين . . . . . {تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } لمّا أنكر تعالى عليهم صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيهاً على تباين ما بينهم وبين الكفار ، ولم يأت بلفظ { قل } ليكون ذلك خطاباً منه تعالى لهم وتأنيساً لهم . وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية ، لأنه لم تقع طاعتهم لهم . والإشارة ب يا أيها الذين آمنوا إلى الأوس والخزرج بسب ثائرة شاس بن قيس . وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل ، أي أنْ يصدرَ منك طواعية ما في أي شيء كان مما يحاولونه من إضلالكم ، ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول . والردّ هنا التَّصييرُ أي يصيرونكم . والكفر المشار إليه هنا ليس بكفر حقيقة ، لأن سبب النزول هو في إلقاء العداوة بين الأوس والخزرج . ولو وقعت لكانت معصية لا كفراً إلا أن يفعلوا ذلك مستحبين له . وقد يكون ذلك بتحسين أهل الكتاب لهم منهياً بعد منهي ، واستدراجهم شيئاً فشيئاً إلى أن يخرجوا عن الإسلام ويصيروا كافرين حقيقية . وانتصاب كافرين على أنه مفعول ثان ليردّ ، لأنها هنا بمعنى صير كقوله : فرد شعورهنّ السود بيضا وردّ وجوههنّ البيض سودا وقيل : انتصب على الحال ، والقول الأول أظهر . ١٠١وكيف تكفرون وأنتم . . . . . {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءايَاتُ اللّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } هذا سؤال استبعاد وقوع الكفر منهم مع هاتين الحالتين : وهما تلاوة كتاب اللّه عليهم وهو القرآن الظاهر الإعجاز ، وكينونةَ الرسول فيهم الظاهر على يديه الخوارق . ووجود هاتين الحالتين تنافي الكفر ولا تجامعه ، فلا يتطرّق إليهم كفر مع ذلك . وليس المعنى أنه وقع منهم الكفر فوبخوا على وقوعه لأنهم مؤمنون ، ولذلك نودوا بقوله : يا أيها الذين آمنوا . فليس نظيرُ قوله :{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّه وَكُنتُمْ أَمْواتًا } والرسول هنا : محمد صلى اللّه عليه وسلم بلا خلاف . والخطاب قال الزجاج : لأصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه . وقيل : لجميع الأمة ، لأن آثاره وسنته فيهم ، وإنْ لم يشاهدوه . قال قتادة : في هذه الآية علمان بينان : كتاب اللّه ، ونبي اللّه . فأما نبي اللّه فقد مضى ، وأما كتاب اللّه فأبقاه اللّه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة فيه ، حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته . وقيل : الخطاب للأوس والخزرج الذين نزلت هذه الآية فيما شجر بينهم على ما ذكره الجمهور . وقرأ الجمهور تتلى بالتاء . وقرأ الحسن والأعمش : يتلى بالياء ، لأجل الفصل ، ولأن التأنيث غير حقيقي ، ولأن الآيات هي القرآن . قال ابن عطية : وفيكم رسوله هي ظرفية الحضور والمشاهدة لشخصه صلى اللّه عليه وسلم وهو في أمّته إلى يوم القيامة بأقواله وآثاره . وقال الزمخشري : وكيف تكفرون معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجيب ، والمعنى : من أين يتطرّف إليكم الكفر ، والحال أن آيات اللّه وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية وبين أظهركم رسول اللّه ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم ؟ . {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّه فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مّسْتَقِيمٍ } قال ابن جريج : ومن يؤمن باللّه . ويناسب هذا القول قوله :{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} وقيل : يستمسك بالقرآن . وقيل : يلتجىء إليه ، فيكون على هذا القول حقاً على الالتجاء إلى اللّه في دفع شرور الكفار . وجواب من فقد هدى وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى ، ودخلت قد للتوقع ، لأن المعتصم باللّه متوقع للّهدى . وذكروا في هذه الآيات من فنون البلاغة والفصاحة : الاستفهام الذي يراد به الإنكار في { لِمَ تَكْفُرُونَ }{ لِمَ تَصُدُّونَ }{ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ } والتكرار : في يا أهل الكتاب ، وفي اسم اللّه في مواضع ، وفيما يعملون ، والطباق : في الإيمان والكفر ، وفي الكفر إذ هو ضلال والهداية ، وفي العوج والاستقامة ، والتجوز : بإطلاق اسم الجمع في فريقاً من الذين أوتوا الكتاب فقيل : هو يهودي غير معين . وقيل : هو شاس بن قيس اليهودي . وإطلاق العموم والمراد الخصوص : في يا أيها الذين آمنوا على قول الجمهور أنه خطاب للأوس والخزرج . والحذف في مواضع . ١٠٢يا أيها الذين . . . . . أصبح : من الأفعال الناقصة لاتصاف الموصوف بالصفة وقت الصباح . وقد تأتي بمعنى صار وهي ناقصة أيضاً ، وتأتي أيضاً لازمة تقول : أصبحت أي دخلت في الصباح . وتقول : أصبح زيد ، أي أقام في الصباح ومنه . إذا سمعت بسري القين فاعلم أنه مصبح ، أي مقيم في الصباح . شفا الشيء طرفه وحرفه ، وهو من ذوات الواو ، وتثنيته : شفوان ، وهو حرف كل جرم له مهوى كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار . ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى نحو : شفا جرف . وإلى الأسفل نحو : شفا حفرة . ويقال : أشفى على كذا أي أشرف . ومنه أشفى المريض على الموت . قال يعقوب : يقال للرجل عند موته وللقمر عند محاقه وللشمس عند غروبها ما بقي منه أو منها إلا شفا أي قليل . . الحفرة : معروفة وهي واحدة الحفر ، فعلة بمعنى مفعوله ، كغرفة من الماء . أنقذ خلص . الابيضاض والأسوداد معروفان ، ويقال : بيض فهو أبيض . وسود : فهو أسود ، ويقال : هما أصل الألوان . ذاق الشيء استطعمه ، وأصله بالفم ثم استعير لكل ما يحس ويدرك على وجه التشبيه بالذي يعرف عند الطعم . تقول العرب : قد ذقتَ من إكرام فلان ما يرغبني في قصده . ويقولون : ذقِ الفرقَ واعرف ما عنده . وقال تميم بن مقبل : أو كاهتزاز رديني تذاوقه أيدي التجار فزادوا متنه لينا وقال آخر : وإن اللّه ذاق حلوم قيس فلما راء حفتها قلاها يعنون بالذوق العلم ، إما بالحاسة ، وإما بغيرها . ثقفت الرجل غلبته وظفرت به . {مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ} لما حذرهم تعالى من إضلال مَنْ يريدُ إضلالهم ، أمرهم بمجامع الطاعات ، فرهبهم أولاً بقوله : اتقوا اللّه ، إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب اللّه ، ثم جعلها سبباً للأمر بالاعتصام بدين اللّه ، ثم أردف الرهبة بالرغبة ، وهي قوله :{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ } وأعقب الأمر بالتقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر هو من تمام الاعتصام . قال ابن مسعود ، والربيع ، وقتادة ، والحسن : حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر . وروي مرفوعاً . وقيل : حق تقاته اتقاء جميع معاصيه . وقال قتادة ، والسدي ، وابن زيد ، والربيع : هي منسوخة بقوله :{ فَاتَّقُواْ اللّه مَا اسْتَطَعْتُمْ } أمروا أولاً بغاية التقوى حتى لا يقع إخلال بشيء ثم نسخ . وقال ابن عباس ، وطاوس : هي محكمة .{ وَاتَّقُواْ اللّه مَّا اسْتَطَعْتُم } بيان لقوله : اتقوا اللّه حق تقاته . وقيل : هو أن لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو ابنه أو أبيه . وقيل : لا يتقي اللّه عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه . وقال ابن عباس : المعنى جاهدوا في اللّه حق جهاده . وقال الماتريدي : وفي حرف حفصة اعبدوا اللّه حق عبادته . وتقاة هنا مصدر ، وتقدم الكلام عليه في { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} قال ابن عطية : ويصح أن يكون التقاة في هذه الآية جمع فاعل وإنْ كان لم يتصرف منه ، فيكون : كرماة ورام ، أو يكون جمع تقي ، إذ فعيل وفاعل بمنزلة . والمعنى على هذا : اتقوا اللّه كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ، ولذلك أضيفوا إلى ضمير اللّه تعالى انتهى كلامه . وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ ، إذ الظاهر أنّ قوله : حقّ تقاته من باب إضافة إلى موصوفها ، كما تقول : ضربت زيداً شديد الضرب ، أي الضرب الشديد . فكذلك هذا أي اتقوا اللّه الاتقاء الحق ، أي الواجب الثابت . أما إذا جعلت التقاة جمعاً فإنَّ التركيب يصير مثل : اضرب زيداً حق ضرابه ، فلا يدل هذا التركيب على معنى : اضرب زيداً كما يحق أن يكون ضرابه . بل لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى ، والتقدير : اضرب زيداً ضرباً حقاً كما يحق أن يكون ضرب ضرابه . ولا حاجة تدعو إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقادير يصح بها معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ . {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ظاهره النهي عن أن يموتوا إلا وهم متلبسون بالإسلام . والمعنى : دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه . ونظيره ما حكى سيبويه من قولهم : لا أرينك ههنا ، وإنما المراد لا تكن هنا فتكون رؤيتي لك . وقد تقدم لنا الكلام على هذا المعنى مستوفى في سورة البقرة في قوله :{ إِنَّ اللّه اصْطَفَى لَكُمُ الدّينَ } الآية والجملة من قوله : وأنتم مسلمون حالية ، والاستثناء مفرع من الأحوال . التقدير : ولا تموتن على حال من الأحوال إلا على حالة الإسلام . ومجيئُها إسمية أبلغُ لتكرر الضمير ، وللمواجهة فيها بالخطاب . وزعم بعضهم أنَّ الأظهر في الجملة أن يكون الحال حاصلة قبل ، ومستصحبة . وأمّا لو قيل : مسلمين ، لدلَّ على الاقتران بالموت لا متقدماً ولا متأخراً . ١٠٣واعتصموا بحبل اللّه . . . . . {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً } أي استمسكوا وتحصّنوا . وحبل اللّه : العهْد ، أو القرآن ، أو الدين ، أو الطاعة ، أو إخلاص التوبة ، أو الجماعة ، أو إخلاص التوحيد ، أو الإسلام . أقوال للسلف يقرب بعضها من بعض . وروى أبو سعيد الخدري أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال : { كتاب اللّه هو حبل اللّه الممدود من السماء إلى الأرض} . وروي عنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال : { القرآن حبل اللّه المتين لا تنقضي عجائبه ولا تخلق على كثرة الردّ من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدي إلى صراط مستقيم } وقولهم : اعتصمت بحبل فلان يحتمل أن يكون من باب التمثيل ، مثل استظهاره به ووثوقه بإمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه . ويحتمل أن يكون من باب الاستعارة ، استعار الحبل للعهد والاعتصام للوثوق بالعهد ، وانتصاب جميعاً على الحال من الضمير في { وَاعْتَصِمُواْ }{ وَلاَ تَفَرَّقُواْ } نهوا عن التفرق في الدين والاختلاف فيه كما اختلف اليهود والنصارى . وقيل : عن المخاصمة والمعاداة التي كانوا عليها في الجاهلية . وقيل : عن إحداث ما يوجب التفرق ويزول معه الاجتماع . وقد تعلق بهذه الآية فريقان : نفاةُ القياس والاجتهاد كالنظام وأمثاله من الشيعة ، ومثبتو القياس والاجتهاد . قال الأولون ، غير جائز أن يكون التفرق والاختلاف ديناً للّه تعالى مع نهي اللّه تعالى عنه . وقال الآخرون : التفرق المنهى عنه هو في أصول الدين والإسلام .{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّه عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النَّارِ } الخطاب لمشركي العرب قاله : الحسن وقتادة يعني مَن آمن منهم ، إذ كان القويُّ يستبيحَ الضعيف . وقيل : للأوس والخزرج . ورجح هذا بأن العرب وقت تزول هذه الآية لم تكن مجتمعة على الإسلام ، ولا مؤتلفة القلوب عليه ، وكانت الأوس والخزرج قد اجتمعت على الإسلام وتألفت عليه بعد العداوة المفرطة والحروب التي كانت بينهم ، ولما تقدم أنه أمرهم بالاعتصام بحبل اللّه وهو الدين ونهاهم عن التفرق وهو أمر ونهي ، بديمومة ما هم عليه إذ كانوا معتصمين ومؤتلفين ذكرهم بأنَّ ما هم عليه من الاعتصام بدين الإسلام وائتلاف القلوب إنما كان سببه إنعام اللّه عليهم بذلك . إذ حصل منه تعالى خلق تلك الداعية في قلوبهم المستلزمة بحصول الفعل ، فذكر بالنعمة الدنيوية والأخروية . أما الدنيوية فتألف قلوبهم وصيرورتهم إخوة في اللّه متراحمين بعدما أقاموا متحاربين متقاتلين نحواً من مائة وعشرين سنة إلى أن ألف اللّه بينهم بالإسلام . وكان أعني الأوس والخزرج جداهم أخوان لأب وأم . وأما الأخروية فإنقاذهم من النار بعد أن كانوا أشفوا على دخولها . وبدأ أولاً بذكر النعمة الدنيوية لأنّها أسبق بالفعل ، ولاتصالها بقوله :{ وَلاَ تَفَرَّقُواْ } وصار نظير { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ } ومعنى فأصبحتم ، أي صرتم . وأصبح كما ذكرنا في المفردات تستعمل لاتصاف الموصوف بصفته وقت الصباح ، وتستعمل بمعنى صار ، فلا يلحظ فيها وقت الصباح بل مطلق الانتقال والصيرورة من حال إلى حال . وعليه قوله : أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير أن نفرا قال ابن عطية : فأصبحتم عبارة عن الاستمرار ، وإنْ كانت اللفظة مخصوصة بوقت مّا ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبتدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال . فالحال التي يحسبها المرء من نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع : أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا وهذا الذي ذكره : من أن أصبح للاستمرار ، وعللّه بما ذكره لا أعلم أحداً من النحويين ذهب إليه ، إنما ذكروا أنها تستعمل على الوجهين اللذين ذكرتهما . وجوز الحوفي في { إذ } أن ينتصب باذكروا ، وجوز غيره أن ينتصب بنعمة . أي إنعام اللّه ، وبالعامل في عليكم . إذ جوزوا أن يكون حالاً من نعمة ، وجوزا أيضاً تعلق عليكم بنعمة ، وجوزوا في أصبحتم أن تكون ناقصة والخبر بنعمته والباء ظرفية وإخواناً حال يعمل فيها أصبح ، أو ما تعلق به الجار والمجرور . وأن يكون إخواناً خبر أصبح والجار حال يعمل فيه أصبح ، أو حال من إخواناً لأنه صفة له تقدمت عليه ، أو العامل فيه ما فيه من معنى تآخيتم بنعمته . وأن يكون أصبحتم تامة ، وبنعمته متعلق به ، أو في موضع الحال من فاعل أصبحتم أو من إخواناً ، وإخواناً حال . والذي يظهر أن أصبح ناقصة وإخواناً خبر ، وبنعمته متعلق بأصبحتم ، والباء للسبب لا ظرفية . وقال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، ومن النسب إخوة ، هكذا كثر استعمالهم . وفي كتاب اللّه تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } والصحيح أنهما يقالان من النسب . وفي الدين : وجمع أخ على أخوة لا يراه سيبويه ، بل أخوة عنده اسم جمع ، لأن فعلاً لا يجمع على فعله . وابن السراج يرى فعلة إذا فهم منه الجمع اسم جمع ، لأن فعلة لم يطرد جمعاً لشيء . والضمير في منها عائد على النار ، وهو أقرب مذكور ، أو على الحفرة . وحكى الطبري أن بعض الناس قال : يعود على الشفا ، وأنت من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث . كما قال جرير : أرى مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال قال ابن عطية : وليس الأمر كما ذكروا ، لأنه لا يحتاج في الآية إلى هذه الصناعة إلا لو لم يجد معاداً للضمير إلا الشفا . وهنا معنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة انتهى . وأقول : لا يحسن عوده إلا على الشفا ، لأنّ كينونتهم على الشفا هو أحد جزأي الإسناد ، فالضمير لا يعود إلا عليه . وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ، ألا ترى أنك إذا قلت : كان زيد غلام جعفر ، لم يكن جعفر محدثاً عنه ، وليس أحد جزأي الإسناد . وكذلك لو قلت : ضرب زيد غلام هند ، لم تحدث عن هند بشيء ، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً مخصصاً للمحدث عنه . أمّا ذكر النار . فإنما جيء بها لتخصيص الحفرة ، وليست أيضاً أحد جزأي الإسناد ، لا محدثاً عنها . وأيضاً فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، لأن الإنقاذ منه يستلزم الإنقاذ من الحفرة ومن النار ، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا . فعودُهُ على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى . ومثلت حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها . وقيل : شبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدينة من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم اللّه بالإسلام . وقال السدي : بمحمد صلى اللّه عليه وسلم. وقال أعرابي لابن عباس وهو يفسر هذه الآية : واللّه ما أنقذهم منها ، وهو يريد أن يوقعهم فيها . فقال ابن عباس : خذوها من غير فقيه . وذكر المفسرون هنا قصة ابتداء إسلام الأنصار وما شجر بينهم بعد الإسلام ، وزوال ذلك ببركات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. {كَذالِكَ يُبَيّنُ اللّه لَكُمْ ءايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } : تقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، إلا أنَّ آخر هذه مختتم بالهداية لمناسبة ما قبلها . وقال الزمخشري: { لعلكم تهتدون } إرادة أن تزدادوا هدىً . و قال ابن عطية : وقوله لعلكم تهتدون في حق البشر ، أي مَنْ تأمل منكم الحال رجاء الأهتداء . فالزمخشري جعل الترجي مجازاً عن إرادة اللّه زيادة الهدى ، وابن عطية أبقى الترجي على حقيقته ، لكنه جعل ذلك بالنسبة إلى البشر لا إلى اللّه تعالى ، إذ يستحيل الترجي من اللّه تعالى ، وفي كلا القولين المجاز . أما في قول الزمخشري فحيثُ جعل الترجي بمعنى إرادة اللّه ، وأمّا في قول ابن عطية فحيثُ أسند ما ظاهره الإسناد إليه تعالى إلى البشر . ١٠٤ولتكن منكم أمة . . . . . {وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الأمر متوجه لمت بتوجه الخطاب عليهم . قيل : وهو الأوس والخزرج على ما ذكره الجمهور . وأمرُه لهم بذلك أمرٌ لجميع المؤمنين ، ومن تابعهم إلى يوم القيامة ، فهو من الخطاب الخاص الذي يراد به العموم . ويحتمل أن يكونَ الخطاب عاماً فيدخل فيه الأوس والخزرج . والظاهرُ أنَّ قوله { مّنكُمْ } يدل على التبعيض ، وقاله : الضحاك والطبري . لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر ، وكيف يرتب الأمر في إقامته ، وكيف يباشر ؟ فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ، ونهى عن معروف ، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب غيره ، فينهى عن غير منكر ويأمر بغير معروف ، وقد يغلظ في مواضع اللين وبالعكس . فعلى هذا تكون مِنْ للتبعيض ، ويكون متعلق الأمر ببعض الأمة ، وهم الذين يصلحون لذلك . وذهب الزجاج إلى أن مِنْ لبيان الجنس ، وأتى على زعمه بنظائر من القرآن وكلام العرب ، ويكون متعلق الأمر جميع الأمة يكونون يدعون جميع العالم إلى الخير ، الكفار إلى الإسلام ، والعصاة إلى الطاعة . وظاهر هذا الأمر الفرضية ، فالجمهور على أنه فرض كفاية ، فإذا قام به بعض سقط عن الباقين . وذهب جماعة ، من العلماء إلى أنه فرض عين ، فيتعين على كل مسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متى قدر على ذلك وتمكّن منه . واختلفوا في الذي يسقط الوجوب . فقال قوم : الخشية على النفس ، وما عدا ذلك لا يسقطه . وقال قوم : إذا تحقق ضرباً أو حبساً أو إهانة سقط عنه الفرض ، وانتقل إلى الندب والأمر والنهي وإن كانا مطلقين في القرآن فقد تقيّد ذلك بالسنَّة بقولِه صلى اللّه عليه وسلم : { من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده ، فإنْ لم يستطعْ فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } ولم يدفع أحد من علماء الأمة سَلَفها وخلَفها وجوب ذلك الأقوم من الحشوية وجهَّال أهل الحديث ، فإنّهم أنكروا فعال الفئة الباغية ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح ، مع ما سمعوا من قوله تعالى : { فَقَاتِلُواْ الَّتِى تَبْغِى حَتَّى تَفِىء إِلَى أَمْرِ اللّه } وزعموا أنّ السلطان لا يُنكرُ عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم اللّه ، وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح . وقد ذكر أبو بكر الرازي في أحكامه فصلاً مشبعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ذكر فيه أنّ دماء أصحابِ الضرائب والمكوس مباحة ، وأنه يجب على المسلمين قتلهم ، ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار له ولا تقدم بالقول . يدعون إلى الخير هو الإسلام قاله مقاتل ، أو العمل بطاعة اللّه قاله أبو سليمان الدمشقي ، أو الجهاد والإسلام . وقرأ الجمهور : ولْتكن بسكون اللام . وقرأ أبو عبد الرحمن ، والحسن ، والزهري ، وعيسى بن عمر ، وأبو حيوة : بكسرها ، وعلَّةُ بنائها على الكسر مذكورة في النحو . وجوزوا في { ولتكن } أن تكون تامة ، فيكون منكم متعلقاً بها ، أو بمحذوف على أنه حال ، إذ لو تأخر لكان صفة لأمّة . وأن تكون ناقصة ، ويدعون الخبر ، وتعلق من على الوجهين السابقين . وجوزوا أيضاً أنْ يكونَ منكم الخبر ، ويدعون صفة . ومحط الفائدة إنما هو في يدعون فهو الخبر . و { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ذكر أولاً الدعاء إلى الخير وهو عام في التكاليف من الأفعال والتروك ، ثم جيء بالخاص إعلاماً بفضله وشرفه لقوله :{ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} و { الصَّلَواةِ الْوُسْطَى } وفسر بعضهم المعروف بالتوحيد ، والمنكر بالكفر . ولا شك أن التوحيد رأس المعروف ، والكفر رأس المنكر . ولكنَّ الظاهر العموم في كل معروف مأمور به في الشرع ، وفي كل منهي نهي عنه في الشرع . وذكر المفسرون أحاديث مروية في فضل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، وفي إثم من ترك ذلك ، وآثاراً عن الصحابة وغيرهم في ذلك ، وما طريق الوجوب هل السمع وحده كما ذهب إليه أبو هاشم ؟ أم السمع والعقل كما ذهب إليه أبوه أبو علي ؟ وهذا على آراء المعتزلة . وأما شرائط النهي والوجوب ، ومن يباشر ، وكيفية المباشرة ، وهل ينهى عما يرتكبه ، لم تتعرض الآية لشيء من ذلك ، وموضوع هذا كله علم الفقه . وقرأ عثمان ، وعبد اللّه ، وابن الزبير : وينهون عن المنكر ، ويستعينون اللّه على ما أصابهم . ولم تثبت هذه الزيادة في سواد المصحف ، فلا يكون قرآناً . وفيها إشارة إلى ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأذى كما قال تعالى :{ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } وأولئك هم المفلحون : تقدم الكلام على هذه الجملة في أول البقرة . وهو تبشير عظيم ، ووعد كريم لمن اتصف بما قبل هذه الجملة . ١٠٥ولا تكونوا كالذين . . . . . {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيّنَاتُ } هذه والآية قبلها كالشرح لقوله تعالى :{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } فشرح الإعتصام بحبل اللّه بقوله :{ وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ } ولا سيما على قول الزجاج . وشرح { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } بقوله :{ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ } قال ابن عباس : هم الأمم السالفة التي افترقت في الدين . وقال الحسن : هم اليهود والنصارى اختلفوا وصاروا فرقاً . وقال : قتادة هم أصحاب البدع من هذه الأمة . زاد الزمخشري : وهم المشبهة ، والمجبرة ، والحشوية ، وأشباههم . وقال أبو أمامة : هم الحرورية ، وروي في ذلك حديث : قال بعض معاصرينا : في قول قتادة وأبي أمامة نظر ، فإنّ مبتدعة هذه الأمة والحرورية لم يكونوا إلا بعد موت النبي صلى اللّه عليه وسلم بزمان ، وكيف نهى اللّه المؤمنين أن يكونوا كمثل قوم ما ظهر تفرقهم ولا بدعهم إلا بعد انقطاع الوحي وموت النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ فإنّك لا تنهى زيداً أنْ يكونَ مثلَ عمرو إلا بعد تقدّم أمر مكروه جرى من عمرو ، وليس لقوليهما وجه إلا أن يكون تفرقوا واختلفوا من الماضي الذي أراد به المستقبل ، فيكون المعنى : ولا تكونوا كالذين يتفرقون ويختلفون ، فيكون ذلك من إعجاز القرآن وإخباره بما لم يقع ثم وقع . انتهى كلامه . والبيِّناتُ على قول ابن عباس : آياتُ اللّه التي أنزلت على أهل كل ملة . وعلى قول الحسن : التوراة . وعلى قول قتادة وأبي أمامة : القرآن { وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يتّصفُ عذابُ اللّه بالعظيم ، إذ هو أمر نسبي يتفاوت فيه رتب المعذَّبين ، كعذاب أبي طالب وعذاب العصاة من أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم. ١٠٦يوم تبيض وجوه . . . . . {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } الجمهور على أن ابيضاض الوجوه واسودادها على حقيقة اللون . والبياض من النور ، والسواد من الظلمة . قال الزمخشري : فمن كان من أهل نور الدين وُسمَ ببياض اللون وإسفاره وإشراقه ، وابيضت صحيفته وأشرقت ، وسعى النور بين يديه وبيمينه . ومن كان من أهل ظلمة الباطل وُسمَ بسواد اللون وكسوفه وكمده واسودت صحيفته وأظلمت ، وأحاطت به الظلمة من كل جانب . انتهى كلامه . و قال ابن عطية : وبياض الوجوه عبارة عن إشراقها واستنارتها وبشرها برحمة اللّه قاله الزجاج وغيره . ويحتمل عندي أن تكون من آثار الوضوء كما قال صلى اللّه عليه وسلم : { أأنتم الغر المحجلون} من آثار الوضوء . وأما سوادُ الوجوه ف قال المفسرون : هو عبارة عن ارتدادها وأظلامها بغمم العذاب . ويحتملُ أنْ يكونَ ذلك تسويداً ينزله اللّه بهم على جهة التشويه والتمثيل بهم ، على نحو حشرهم زرقاً ، وهذه أقبح طلعة . ومن ذلك قول بشار : وللبخيل على أمواله علل زرق العيون عليها أوجه سود انتهى كلامه . وقال قوم : البياض والسواد مثلان عبر بهما عن السرور والحزن لقوله تعالى : { ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا } وكقول العرب لمن نال أمنيته : ابيض وجهه . ولمن جاء خائباً : جاء مسودّ الوجه . وقال أبو طالب : وأبيض يستسقي الغمام بوجهه وقال امرؤ القيس : وأوجههم عند المشاهد غران وقال زهير : وأبيض فياض يداه غمامة وبدأ بالبياض لشرفه ، وأنه الحالة المثلى . وأسند الابيضاضَ والإسوداد إلى الوجوه وإنْ كان جميع الجسد أبيض أو أسود ، لأن الوجه أول ما يلقاك من الشخص وتراه ، وهو أشرف أعضائه . والمراد : وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين قاله أبيُّ بن كعب . وقيل : وجوه المهاجرين والأنصار ، ووجوه بني قريظة والنضير . وقيل : وجوه أهل السنة ، ووجوه أهل البدعة . وقال عطاء : وجوه المخلصين ، ووجوه المنافقين . وقيل : وجوه المؤمنين ، ووجوه أهل الكتاب والمنافقين . وقيل : وجوه المجاهدين ، ووجوه الفرار من الزحف . وقيل : تبيض بالقناعة ، وتسودّ بالطمع . وقال الكلبي : تسفر وجوه من قدر على السجود إذا دعوا إليه ، وتسودّ وجوه مَنْ لم يقدر . واختلفوا في وقت ابيضاض الوجوه واسودادها ، فقيل : وقت البعث من القبور . وقيل : وقت قراءة الصحف . وقيل : وقت رجحان الحسنات والسيئات في الميزان . وقيل : عند قوله :{ وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} وقيل : وقت أنْ يُؤمَرَ كل فريق بأن يتبع معبوده والعامل في { يَوْمَ تَبْيَضُّ } ما يتعلق به . ولهم عذاب عظيم أيْ وعذابٌ عظيم كائن لهم يوم تبيض وجوه . وقال الحوفي : العامل ، فيه محذوف تدل عليه الجملة السابقة ، أي : يعذبون يوم تبيض وجوه . وقال الزمخشري : بإضمار اذكروا ، أو بالظرف وهو لهم . وقال قوم : العامل عظيم ، وضعف من جهة المعنى لأنه يقتضي أنّ عظمَ العذاب في ذلك اليوم ، ولا يجوز أنْ يعمل فيه عذاب ، لأنه مصدر قد وصف . وقرأ يحيى بن وثاب ، وأبو رزين العقيلي ، وأبو نهيك : تبيض وتسودّ بكسر التاء فيهما ، وهي لغة تميم : وقرأ الحسن ، والزهري ، وابن محيصن ، وأبو الجوزاء : تبياض وتسواد بألف فيهما . ويجوز كسر التاء في تبياض وتسواد ، ولم ينقل أنه قرىء بذلك . {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسودّ . وابتدىء بالذين اسودّت للاهتمام بالتحذير من حالهم ، ولمجاورة قوله : وتسودّ وجوه ، وللابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم . فيكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع ، ويشرح الصدر . وقد تقدّم الكلام على أما في أول البقرة وأنها حرف شرط يقتضي جواباً ، ولذلك دخلت الفاء في خبر المبتدأ بعدها ، والخبر هنا محذوف للعلم به . والتقدير : فيقال لهم : أكفرتم ؟ كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله :{ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ } أي يقولون : سلام عليكم . ولمّا حذف الخبر حذفت الفاء ، وإنْ كان حذفُها في غير هذا لا يكون إلا في الشعر نحو قوله : فأمّا القتال لا قتال لديكم ولكنّ سيرا في عرض المواكب يريد فلا قتال ، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد اللّه بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم بنهاية التأميل في أسرار التنزيل : قد اعترض على النحاة في قولهم : لما حذف . يقال : حذفت الفاء بقوله تعالى :{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ } تقديره فيقال لهم : أفلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف فيقال ، ولم تحذف الفاء . فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، فوقع ذلك جواباً له . ولقوله : أكفرتم ، ومن نظم العرب : إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً ثم يجعلون لهما جواباً واحداً ، كما في قوله تعالى :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مّنّى هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } فقوله : فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون جواب للشرطين ، وليس أفلم جواب أمّا ، بل الفاء عاطفة على مقدّر والتقدير : أأهملتكم ، فلم أتل عليكم آياتي . انتهى ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي . أمّا قوله : قد اعترض على النحاة فيكفي في بطلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة ، لأنه ما من نحوي إلا خرّج الآية على إضمار فيقال لهم : أكفرتم ، وقالوا : هذا هو فحوى الخطاب ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدّر لا يستغني المعنى عنه ، فالقول بخلافه مخالف للإجماع ، فلا التفات إليه . وأمّا ما اعترض به من قوله :{وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءايَاتِى } وأنهم قدروه فيقال لهم : أفلم تكن آياتي ، فحذف فيقال : ولم تحذف الفاء ، فدل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح ، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء ، فيقال التي هي جواب أمّا حتى يقال حذف ، فيقال : وبقيت الفاء ، بل الفاء التي هي جواب أمّا ، ويقال بعدها محذوف . وفاء أفلم تحتمل وجهين ، أحدهما أن تكون زائدة . وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قولَ الشاعر : يموت أناس أو يشيب فتاهم ويحدث ناس والصغير فيكبر يريد : يكبر وقول الآخر : لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي جلدها بتذبذب يريد : تركت . وقال زهير : أراني إذا ما بت بتّ على هوى فثم إذا أصبحت أصبحت غادياً يريد ثم . وقول الأخفش : وزعموا أنهم يقولون أخوك ، فوجد يريدون أخوك وجد . والوجه الثاني : أن تكون الفاء تفسيرية ، وتقدم الكلام فيقال لهم : ما يسوؤهم ، فالم تكن آياتي ، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فتقدمت على الفاء التفسيرية ، كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ } وهذا على مذهب من يثبت أن الفاء تكون تفسيرية نحو : توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء . فالفاء هنا ليست مرتبة ، وإنما هي مفسرة للوضوء . كذلك تكون في {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ أَفَلَمْ تَكُنْ } مفسرة للقول الذي يسوؤهم وقول هذا الرجل . فلما بطل هذا يعني أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان حذف ما قدره النحويون من قوله ، فيقال لهم لوجود هذا الفاء في أفلم تكن ، وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل ، وأنه سواء في الآيتين . وإذا كان كذلك فجواب أمّا هو ، فيقال في الموضعين ، ومعنى الكلام عليه . وأمّا تقديره : أأهملتكم ، فلم تكن آياتي ، فهذه نزعة زمخشرية ، وذلك أن الزمخشري يقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلاً يصح عطف ما بعدها عليه ، ولا يعتقد أن الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على الهمزة ، لكنْ اعتنى بالاستفهام ، فقدم على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين . وقد رجع الزمخشري أخيراً إلى مذهب الجماعة في ذلك ، وبطلان قوله الأول مذكور في النحو . وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك . وعلى تقدير قول هذا الرجل : أأهملتكم ، فلا بدّ من إضمار القول وتقديره ، فيقال : أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ ، والفاء جواب أما . وهو الذي يدل عليه الكلام ، ويقتضيه ضرورة . وقول هذا الرّجل : فوقع ذلك جواباً له ، ولقوله : أكفرتم ، يعني أنْ فذوقوا العذاب جواب لأمّا ، ولقوله : أكفرتم ؟ والاستفهام هنا لا جواب له ، إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم . وأمّا قول هذا الرّجل : ومن نظم العرب إلى آخره ، فليس كلام العرب على ما زعم ، بل يجعل لكل جواب أنَّ لا يكن ظاهراً فمقدر ، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً ، وأما دعواه ذلك في قوله تعالى :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } الآية . وزعمه أن قوله تعالى :{ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } جواب للشرطين . فقولٌ روي عن الكسائي . وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره : فاتبعوه . والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول . وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله :{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } الآية . والهمزة في { أَكْفَرْتُمْ } للتقرير والتوبيخ والتعجيب من حالهم . والخطاب في أكفرتم إلى آخره يتفرع على الاختلاف في الذين اسودت وجوههم ، فإنْ كانوا الكفار فالتقدير : بعد أن آمنتم حين أخذ عليكم الميثاق وأنتم في صلب آدم الكذّر ، وإن كانوا أهل البدع فتكون البدعة المخرجة عن الإيمان . وإن كانوا قريظة والنضير فيكون إيمانهم به قبل بعثه ، وكفرهم به بعده ، أو إيمانهم بالتوراة وما جاء فيها من نبوته ووصفه والأمر باتباعه ، وإن كانوا المنافقين فالمراد بالكفر كفرهم بقلوبهم ، وبالإيمان الإيمان بألسنتهم . وإن كانوا الحرورية أو المرتدين فقد كان حصل منهم الإيمان حقيقة وفي قوله :{ أَكْفَرْتُمْ} قالوا : تلوين الخطاب وهو أحد أنواع الالتفات ، لأن قوله : فأما الذين اسودت غيبة ، وأكفرتم مواجهة بما كنتم ، الباء سببية وما مصدرية . ١٠٧وأما الذين ابيضت . . . . . {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللّه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } انظر تفاوت ما بين التقسيمين هناك جمع لمن اسودّت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب ، وهنا جعلهم مستقرّين في الرحمة ، فالرّحمة ظرف لهم وهي شاملتهم . ولما أخبر تعالى أنَّهم مستقرّون في رحمة اللّه بيَّن أنّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال ، وأشار بلفظ الرّحمة إلى سابق عنايته بهم ، وأن العبد وإنْ كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة اللّه تعالى . وقال ابن عباس : المراد بالرحمة هنا الجنة ، وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعاراً بأنَّ جانب الرحمة أغلب . وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه ، بل قال : { فَذُوقُواْ الْعَذَابَ } ولما ذكر العذاب عللّه بفعلهم ، ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة . وقرأ أبو الجوزاء وابن يعمر : فأما الذين اسوادت ، وأما الذين ابياضت بألف . وأصل افعلّ هذا افعلل يدل ، على ذلك اسوددت واحمررت ، وأن يكون للون أو عيب حسي ، كأسود ، وأعوج ، واعوز . وأن لا يكون من مضعف كاحم ، ولا معتل لام كألمى ، وأنْ لا يكون للمطاوعة . وندر نحو : انقضّ الحائط ، وابهار الليل ، وإشعار الرجل بفرق شعره ، وشذا رعوى ، لكونه معتل اللام بغير لون ولا عيب مطاوعاً لرعوته بمعنى كففته . وأما دخول الألف فالأكثر أن يقصد عروض المعنى إذا جيء بها ، ولزومه إذا لم يجأ بهما . وقد يكون العكس . فمن قصد اللزوم مع ثبوت الألف قوله تعالى :{ مَدَّ } ومن قصد العروض مع عدم الألف قوله تعالى :{ تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } واحمرّ خجلاً . وجواب أما ففي الجنة ، والمجرور خبر المبتدأ ، أي فمستقرون في الجنة . وهم فيها خالدون جملة مستقلة من مبتدأ وخبر ، لم تدخل في حيز أما ، ولا في إعراب ما بعده . دلّت على أنَّ ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود . وقال الزمخشري: { فإن قلت } كيف موقع قوله : هم فيها خالدون بعد قوله : ففي رحمة اللّه ؟ { قلت} : موقع الاستئناف . كأنه قيل : كيف يكونون فيها ؟ فقيل : هم فيها خالدون ، لا يظعنون عنها ولا يموتون انتهى . وهو حسن . وقيل : جواب أما ففي الجنة هم فيها خالدون ، وهم فيها خالدون ابتداء . وخبر وخالدون العامل في الظرفين ، وكرر على طريق التوكيد لما يدل عليه من الاستدعاء والتشويق إلى النعيم المقيم . ١٠٨تلك آيات اللّه . . . . . {تِلْكَ ءايَاتُ اللّه نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَمَا اللّه يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعَالَمِينَ } الإشارة بتلك قيل : إلى القرآن كله . وقيل : إلى ما أنزل من الآيات في أمر الأوس والخزرج واليهود الذين مكروا بهم ، والتقدم إليهم بتجنب الافتراق . وكشف تعالى للمؤمنين عن حالهم وحال أعدائهم بقوله :{ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } وقيل : تلك بمعنى هذه لما انقصت صارت كأنها بعدت . وقال الزمخشري : تلك آيات اللّه الواردة في الوعد والوعيد ، وكذا قال ابن عطية . قال الإشارة بتلك إلى هذه الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفارة وتنعيم المؤمنين . وقرأ الجمهور نتلوها بالنون على سبيل الالتفات ، لما في إسناد التلاوة للمعظم ذاته من الفخامة والشرف . وقرأ أبو نهيك بالياء . والأحسن أنْ يكون الضمير المرفوع في نتلوها في هذه القراءة عائد على اللّه ، ليتحد الضمير . وليس فيه التفات ، لأنه ضمير غائب عاد على اسم غائب . ومعنى التلاوة : القراءة شيئاً بعد شيء ، وإسناد ذلك إلى اللّه على سبيل المجاز ، إذ التالي هو جبريلٌ لما أمره بالتلاوة كان كأنه هو التالي تعالى . وقيل : يجوز أن يكون معنى يتلوها ينزلها متوالية شيئاً بعد شيء . وجوزوا في قراءة أبي نهيك أن يكون ضمير الفاعل عائداً على جبريل وإنْ لم يجر له ذكر للعلم به . ومعنى بالحق أي بإخبار الصدق . وقيل : المعنى متضمنة الأفاعيل التي هي أنفسها حق من كرامة قوم وتعذيب آخرين . وتلك مبتدأ أو آيات اللّه خبره ، ونتلوها جملة حالية . قالوا : والعامل فيها اسم الإشارة . وجوزوا أن يكون آيات اللّه بدلاً ، والخبر نتلوها . وقال الزجاج : في الكلام حذف تقديره تلك آيات القرآن المذكورة حجج اللّه ودلائله انتهى . فعلى هذا الذي قدره يكون خبر المبتدأ محذوف ، لأنّه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية . ولا حاجة إلى تقدير هذا المحذوف ، إذ الكلام مستغن عنه تام بنفسه . والباء في بالحق باء المصاحبة ، فهي في موضع الحال من ضمير المفعول أي : ملتبسة بالحق . وقال الزمخشري : ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه انتهى . فدسّ في قوله بما يستوجبانه دسيسة اعتزالية . ثم أخبر تعالى أنه لا يريد الظلم ، وهذا لم يرده لم يقع منه لأحد . فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم ، والظلم وضع الشيء في غير موضعه . روى أبو ذر أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال فيما يروى عن ربه عز وجل أنه قال : { يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا } وفي الحديث الصحيح أيضاً أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال :{ إِنَّ اللّه لاَ يَظْلِمُ الْمُؤْمِنُ حَسَنَةٌ يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا } وقيل : المعنى لا يزيد في إساءة المسيء ولا ينقص من إحسان المحسن ، وفيه تنبيه على أن تسويد الوجوه عدل انتهى . وللعالمين في موضع المفعول للمصدر الذي هو ظلم ، والفاعل محذوف مع المصدر التقدير : ظلمه ، والعائد هو ضمير اللّه تعالى أي : ليس اللّه مريداً أن يظلم أحداً من العالمين . ونكر ظلماً لأنّه في سياق النفي ، فهو يعم . وقيل : المعنى أنه تعالى لا يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض . واللفظ ينبو عن هذا المعنى ، إذ لو كان هذا المعنى مراداً لكان من أحق به من الكلام ، فكان يكون التركيب : وما اللّه يريد ظلماً من العالمين . وقال الزمخشري : وما اللّه يريد ظلماً فيأخذ أحذاً بغير جرم ، أو يزيد في عقاب مجرم ، أو ينقص من ثواب محسن ، ثم قال : فسبحان من يحلم عن من يصفه بإرادة القبائح والرّضا بها ، انتهى كلامه جارياً على مذهبه الاعتزالي . ونقول له : فسبحان من يحلم عمن يصفه بأن يكون في ملكه ما لا يريد ، وإن إرادة العبد تغلب إرادة الرب تعالى اللّه عن ذلك ١٠٩وللّه ما في . . . . . {وَللّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِلَى اللّه تُرْجَعُ الامُورُ } لما ذكر أحوال الكافرين والمؤمنين ، وأنه يختص بعمل من آمن فيرحمهم به ، ويختص بعمل من كفر فيعذبهم ، نبه على أنَّ هذا التصرف هو فيما يملكه ، فلا اعتراض عليه تعالى . ودلت الآية على اتساع ملكه ومرجع الأمور كلها إليه ، فهو غني عن الظلم ، لأن الظلم إنما يكون فيما كان مختصاً به عن الظالم . وتقدم شرح هاتين الجملتين فأغنى ذلك عن إعادته . قالوا وتضمنت هذه الآيات الطباق : في تبيضّ وتسودّ ، وفي اسودّت وابيضّت ، وفي أكفرتم بعد إيمانكم ، وفي بالحق وظلماً . والتفصيل : في فأمّا وأمّا . والتجنيس : المماثل في أكفرتم وتكفرون . وتأكيد المظهر بالمضمر في : ففي رحمة اللّه هم فيها خالدون . والتكرار : في لفظ اللّه . ومحسنه : أنه في جمل متغايرة المعنى ، والمعروف في لسان العرب إذا اختلفت الجمل أعادت المظهر لا المضمر ، لأن في ذكره دلالة على تفخيم الأمر وتعظيمه ، وليس ذلك نظير . لا أرى الموت يسبق الموت شيء لاتحاد الجملة . لكنه قد يؤتى في الجملة الواحدة بالمظهر قصداً للتفخيم . والإشارة في قوله : تلك ، وتلوين الخطاب في فأمّا الذين اسودّت وجوههم أكفرتم ، والتشبيه والتمثيل في تبيض وتسودّ ، إذا كان ذلك عبارة عن الطلاقة والكآبة والحذف في مواضع . ١١٠كنتم خير أمة . . . . . {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه} قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبي بن كعب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، ومعاذ بن جبل ، وقد قال لهم بعض اليهود : ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل . وقيل : نزلت في المهاجرين . والذي يظهر أنها من تمام الخطاب الأول في قوله :{ مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللّه } وتوالت بعد هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواهٍ ، وكان قد استطرد من ذلك لذكر مَنْ يبيض وجهه ويسودّ ، وشيء من أحوالهم في الآخرة ، ثم عاد إلى الخطاب الأول ف قال تعالى : كنتم خير أمّة تحريضاً بهذا الإخبار على الانقياد والطواعية . والظاهر أنّ الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولاً وهم : أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فتكون الإشارة بقوله : أمة إلى أمةٍ معينة وهي أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فالصحابة هم خيرها . وقال الحسن ومجاهد وجماعة : الخطاب لجميع الأمة بأنهم خير الأمم ، ويؤيد هذا التأويل كونهم { شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } وقوله :{ نَحْنُ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ } الحديث وقوله :{ نَحْنُ} وطاهر كان هنا أنها الناقصة ، وخير أمة هو الخبر . ولا يراد بها هنا الدلالة على مضي الزمان وانقطاع النسبة نحو قولك : كان زيد قائماً ، بل المراد دوام النسبة كقوله :{ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً }{ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً } وكون كان تدل على الدوام ومرادفه لم يزل قولاً مرجوحاً ، بل الأصح أنها كسائر الأفعال تدل على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع . وقيل : كان هنا بمعنى صار ، أيْ صرتم خير أمة . وقيل : كان هنا تامة ، وخير أمة حال . وأبعد من ذهب إلى أنّها زائدة ، لأن الزائدة لا تكون أول كلام ، ولا عمل لها . وقال الزمخشري : كان عبارة عن وجود الشيء في من ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ، ولا على انقطاع طارىء . ومنه قوله تعالى :{ وَكَانَ اللّه غَفُوراً} ومنه قوله : كنتم خير أمة ، كأنه قيل : وجدتم خير أمة انتهى كلامه . فقوله : أنها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار ، فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق . فإذا قلت : كان زيد عالماً بمعنى صار ، دلت على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم . وقوله : ولا على انقطاع طارىء قد ذكرنا قبل أن الصحيح أنها كسائر الأفعال يدل لفظ المضي منها على الانقطاع ، ثم قد تستعمل حيث لا يكون انقطاع . وفرقٌ بين الدلالة والاستعمال ، ألا ترى أنك تقول : هذا اللفظ يدل على العموم ؟ ثم تستعمل حيث لا يراد العموم ، بل المراد الخصوص . وقوله : كأنه قال وجدتم خير أمة ، هذا يعارض أنها مثل قوله :{ وَكَانَ اللّه غَفُوراً رَّحِيماً } لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة ، وأن خير أمة حال . وقوله : وكان اللّه غفوراً لا شك أنها هنا الناقصة فتعارضا . وقيل : المعنى : كنتم في علم اللّه . وقيل : في اللوح المحفوظ . وقيل : فيما أخبر به الأمم قديماً عنكم . وقيل : هو على الحكاية ، وهو متصل بقوله :{ فَفِى رَحْمَةِ اللّه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي فيقال لهم في القيامة : كنتم في الدنيا خير أمة ، وهذا قول بعيد من سياق الكلام . وخير مضاف للنكرة ، وهي أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها ، وإن كانت جارية على جمع . والمعنى : أن الأمم إذا فضلوا أمة أمة كانت هذه الأمة خيرها . وحكم عليهم بأنهم خيرُ أمة ، ولم يبين جهة الخيرية في اللفظ وهي : سبقهم إلى الإيما برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبدارهم إلى نصرته ، ونقلهم عنه علم الشريعة ، وافتتاحهم البلاد . وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل . وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها ، لأنّهم سببٌ في إيجادها ، إذْ هم الذين سنوها ، وأوضحوا طريقها { من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة } لا ينقص ذلك من أجرهم شيئاً . ومعنى أخرجت : أظهرت وأبرزت ، ومخرجها هو اللّه تعالى ، وحذف للعلم به . وقال ابن عباس : أخرجت من مكة إلى المدينة ، وهي جملة في موضع الصفة لأمة ، أي خير أمة مخرجة ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة لخير أمة ، فتكون في موضع نصب أي مخرجة . وعلى هذا الوجه يكون قد روعي هنا لفظ الغيبة ، ولم يراع لفظ الخطاب . وهما طريقان للعرب ، إذا تقدم ضمير حاضر لمتكلم أو مخاطب ، ثم جاء بعده خبره إسماً ، ثم جاء بعد ذلك ما يصلح أن يكون وصفاً ، فتارة يراعى حال ذلك الضمير فيكون ذلك الصالح للوصف على حسب الضمير فتقول : أنا رجل آمر بالمعروف ، وأنت رجل تأمر بالمعروف . ومنه { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } وأنك امرؤ فيك جاهلية : وأنت امرؤ قد كثأت لك لحية كأنك منها قاعد في جوالق وتارةً يراعى حال ذلك الاسم ، فيكون ذلك الصالح للوصف على حسبه من الغيبة . فتقول : أنا رجل يأمر بالمعروف ، وأنت امرؤ تأمر بالمعروف . ومنه : كنتم خير أمة أخرجت ولو جاء أخرجتم فيراعى ضمير الخطاب في كنتم لكان عربياً فصيحاً . والأولى جعله أخرجت للناس صفة لأمة ، لا لخير لتناسب الخطاب في كنتم خير أمة مع الخطاب في تأمرون وما بعده . وظاهر قوله : للناس أنه متعلق بأخرجت . وقيل : متعلق بخير . ولا يلزم على هذا التأويل أنها أفضل الأمم من نفس هذا اللفظ ، بل من موضع آخر . وقيل : بتأمرون ، والتقدير تأمرون الناس بالمعروف . فلما قدم المفعول جر باللام كقوله :{ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } أي تعبرون الرؤيا ، وهذا فيه بعد . تأمرون بالمعروف كلام خرج مخرج الثناء من اللّه قاله : الربيع . أو مخرج الشرط في الخيرية ، روى هذا المعنى عن : عمرو ، ومجاهد ، والزجاج . فقيل : هو مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . و قال ابن عطية : تأمرون وما بعده أحوال في موضع نصب انتهى . وقاله الراغب : والاستئناف أمكن وأمدح . وأجاز الحوفي في أن يكون تأمرون خبراً بعد خبر ، وأن كون نعتاً لخير أمة . قيل : وقدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان ، لأنّ الإيمان مشترك بين جميع الأمم ، فليس المؤثر لحصول هذه الزيادة ، بل المؤثر كونهم أقوى حالاً في الأمر والنهي . وإنا الإيمان شرط للتأثير ، لأنه ما لم يوجد لم يضر شيء من الطاعات مؤثراً في صفة الخيرية ، والمؤثر ألصق بالأثر من شرط التأثير . وإنما اكتفى بذكر الإيمان باللّه عن الإيمان بالنبوّة لأنه مستلزم له انتهى . وهو من كلام محمد بن عمر الرازي . وقال الزمخشري : جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيماناً باللّه ، لأن مَن آمن ببعض ، ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتد بإيمانه ، فكأنه غير مؤمن باللّه . ويقولون : نؤمن ببعض الآية انتهى . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي وتؤمنون برسول اللّه . والظاهر في المعروف ، والمنكر العموم . وقال ابن عباس : المعروف الرسول ، والمنكر عبادة الأصنام . وقال أبو العالية : المعروف التوحيد ، والمنكر الشرك . {وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي ولو آمن عامّتهم وسائرهم . ويعني الإيمان التام النافع . واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن كما يقول من صدق كان خيراً له ، أي لكان هو ، أي الإيمان . وعلّق كينونة الإيمان خيراً لهم على تقدير حصوله توبيخاً لهم مقروناً بنصحه تعالى لهم أنْ لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب اللّه . وخبر هنا أفعل التفضيل ، والمعنى : لكان خيراً لهم مما هم عليه ، لأنهم إما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً في الرئاسة واستتباع العوام ، فلهم في هذا خط دنيوي . وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام ، والحظ الأخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان من إيتائهم أجرهم مرتين . و قال ابن عطية : ولفظة خير صيغة تفضيل ، ولا مشاركة بين كفرهم وإيمانهم في الخير ، وإنما جاز ذلك لما في لفظة خير من الشياع وتشعب الوجوه ، وكذلك هي لفظة أفضل وأحب وما جرى مجراها انتهى كلامه . وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أولى إذا أمكن ذلك ، وقد أمكن إذ الخيرية مطلقة فتحصل بأدنى مشاركة . {مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } ظاهر اسم الفاعل التلبس بالفعل ، فأخبر تعالى أنَّ من أهل الكتاب من هو ملتبس بالإيمان كعبد اللّه بن سلام ، وأخيه ، وثعلبة بن سعيد ، ومن أسلم من اليهود . وكالنجاشي ، وبحيرا ، ومن أسلم من النصارى إذ كانوا مصدقين رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده . وهذا يدل على أنّ المراد بقوله :{ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } الخصوص ، أي باقي أهل الكتاب إذ كانت طائفة منهم قد حصل لها الإيمان . وقيل : المراد باسم الفاعل هنا الاستقبال . أي منهم من يؤمن ، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب العموم ، ويكون قوله : منهم المؤمنون إخباراً بمغيب وأنه سيقع من بعضهم الإيمان ، ولا يستمرون كلهم على الكفر . وأخبر تعالى أن أكثرهم الفاسقون ، فدل على أن المؤمنين منهم قليل . والألف واللام في المؤمنون وفي الفاسقون يدل على المبالغة والكمال في الوصفين ، وذلك طاهر لأن من آمن بكتابه وبالقرآن فهو كامل في إيمانه ، ومن كذب بكتابه إذ لم يتبع ما تضمنه من الإيمان برسول اللّه ، وكذب بالقرآن فهو أيضاً كامل في فسقه متمرد في كفره . ١١١لن يضروكم إلا . . . . . {لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } هاتان الجملتان تضمنتا الأخبار بمعنيين مستقبلين وهو : إنّ ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى ، أي شيئاً تتأذون به ، لا ضرراً يكون فيه غلبة واستئصال . ولذلك إن قاتلوكم خذلوا ونصرتم ، وكلا هذين الأمرين وقع لأصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ما ضرهم أحد من أهل الكتاب ضرراً يبالون به ، ولا قصدوا جهة كافر إلا كان لهم النصر عليهم والغلبة لهم . والظاهر أن قوله : إلا أذى استثناء متصل ، وهو استثناء مفرغ من المصدر المحذوف التقدير : لن يضرُّوكم ضرراً إلا ضرراً يسيراً لا نكاية فيه ، ولا إجحاف لكم . وقال الفراء والزجاج والطبري وغيرهم : هو استثناء منقطع ، والتقدير : لن يضروكم لكنْ أذى باللسان ، فقيل : هو سماع كلمة الكفر . وقيل : هو بهتهم وتحريفهم . وقيل : موعد وطعن . وقيل : كذب يتقوّلونه على اللّه قاله : الحسن ، وقتادة . ودلّت هذه الجملة على ترغيب المؤمنين في تصلبهم في دينهم وتثبيتهم عليه ، وعلى تحقير شأن الكفار ، إذ صاروا ليس لهم من ضرر المسلمين شيء إلاّ ما يصلون إليه من إسماع كلمة بسوء . {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاْدُبَارَ } ، هذه مبالغة في عدم مكافحة الكفار للمؤمنين إذا أرادوا قتالهم ، بل بنفس ما تقع المقابلة ولوا الأدبار ، فليسوا ممن يغلب ويقتل وهو مقبل على قرنه غير مدبر عنه . وهذه الجملة جاءت كالمؤكدة للجملة قبلها ، إذ تضمنت الإخبار أنهم لا تكون لهم غلبة ولا قهر ولا دولة على المؤمنين ، لأنّ حصول ذلك إنما يكون سببه صدق القتال والثبات فيه ، أو النصر المستمد من اللّه ، وكلاهما ليس لهم . وأتى بلفظ الإدبار لا بلفظ الظهور ، لما في ذكر الإدبار من الإهانة دون ما في الظهور ، ولأن ذلك أبلغ في الانهزام والهرب . ولذلك ورد في القرآن مستعملاً دون لفظ الظهور لقوله تعالى :{ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ }{ وَمَن يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } ثم لا ينصرون : هذا استئنافُ أخبار أنّهم لا ينصرون أبداً . ولم يشرك في الجزاء فيجزم ، لأنه ليس مرتباً على الشرط ، بل التولية مترتبة على المقاتلة . والنصر منفى عنهم أبداً سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا ، إذ منع النصر سببه الكفر . فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء ، كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على لن يضروكم إلا أذى . وليس امتناع الجزم لأجلهم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط . قال : وثم للتراخي ، فلذلك لم تصلح في جواب الشرط . والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ ، لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح كلام . قال تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم } فجزم المعطوف بثم على جواب الشرط . وثمَّ هنا ليست للمهلة في الزمان ، وإنما هي للتراخي في الإخبار . فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسرّ للنفس . ثم أخبر بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقاً . وقال الزمخشري : التراخي في المرتبة ، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليهم الإدبار . { فإن قلت} : ما موقع الجملتين ، أعني منهم : المؤمنون ولن يضروكم ؟ { قلت} : هما كلامان واردان على طريق الاستطراد عند إجراء ذكر أهل الكتاب ، كما يقول القائل : وعلى ذكر فلان فإن من شأنه كيت وكيت ، ولذلك جاء من غير عاطف . ١١٢ضربت عليهم الذلة . . . . . {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ } تقدم شرح هذه الجملة ، وهي وصف حال تقررت على اليهود في أقطار الأرض قبل مجيء الإسلام . قال الحسن : جاء الإسلام والمجوس تجبي اليهود الجزية ، وما كانت لهم غيرة ومنعه إلا بيثرب وخيبر وتلك الأرض ، فأزالها بالإسلام ولم تبق لهم راية في الأرض . {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } عام في الأمكنة . وهي شرط ، وما مزيدة بعدها ، وثقفوا في موضع جزم ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله ، ومن أجاز تقديم جواب الشرط قال : ضربت هو الجواب ، ويلزم على هذا أن يكون ضرب الذلة مستقبلاً . وعلى الوجه الأول هو ماض يدل على المستقبل ، أي ضربت عليهم الذلة ، وحيثما ظفر بهم ووجدوا تضرب عليهم ، ودل ذكر الماضي على المستقبل ، كما دل في قول الشاعر : وندمان يزيد الكأس طيبا سقيت إذا تغوّرت النجوم التقدير : سقيت ، وأسقية إذا تغوّرت النجوم . {إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ اللّه وَحَبْلٍ مّنَ النَّاسِ } هذا استثناء ظاهره الانقطاع ، وهو قول : الفراء ، والزجاج . واختيار ابن عطية ، لأن الذلة لا تفارقهم . وقدره الفراء : إلا أن يعتصموا بحبل من اللّه ، فحذف ما يتعلق به الجار كما قال : حميد بن نور الهلالي : رأتني بحبليها فصدت مخافة ونظره ابن عطية بقوله تعالى :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ } قال : لأن بادىء الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ . وأن الحبل من اللّه ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك . وإنما في الكلام محذوف يدركه فهم السامع الناظر في الأمر وتقديره : في أمتنا ، فلا نجاة من الموت إلا بحبل . نتهى كلامه . وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعاً ، لأنه مستثنى من جملة مقدّرة وهي قوله : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعاً من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعاً متصلاً . والاستثناء المنقطع كما قرر في علم النحو على قسمين منه : ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه ما لا يمكن فيه ذلك ، ومنه هذه الآية . على تقدير الانقطاع ، إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من اللّه وحبل من الناس ينجيهم من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال أموالهم . ويدل على أنه منقطع الأخبار بذلك في قوله تعالى في سورة البقرة :{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّه } فلم يستثن هناك . وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال : وهو استثناء من أعم عام الأحوال ، والمعنى : ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من اللّه وحبل من الناس ، يعني : ذمة اللّه وذمة المسلمين . أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة ، وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية انتهى كلامه . وهو متجه وشبَّه العهد بالحبل لأنه يصل قوماً بقوم ، كما يفعل الحبل في الإجرام . والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان ، وفسر حبل اللّه بالإسلام ، وحبل الناس بالعهد والذمة . وقيل : حبل اللّه هو الذي نص اللّه عليه من أخذ الجزية . والثاني : هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد . وقيل : المراد حبل واحد ، إذ حبل المؤمنين هو حبل اللّه وهو العهد . {وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ اللّه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ الاْنْبِيَاء بِغَيْرِ حَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ } تقدم تفسير نظائر هذه الجمل فأغنى ذلك عن إعادته هنا . ١١٣ليسوا سواء من . . . . . الآناء : الساعات . وفي مفردها لغات أني كمعي ، وأني كفتى ، وأني كنحي ، وأتى كظبي ، وانو كجرو الصر : البرد الشديد المحرق . وقيل : البارد بمعنى الصرصر كما قال : لا تعدلن إناء بين تضر بهم نكباء ضرّ بأصحاب المحلات وقالت ليلى الأخيلية : ولم يغلب الخصم الألد ويملأ الجفان سديفاً يوم منكباء صرصر وقال ابن كيسان : هو صوت لهب النار ، وهو اختيار الزجاج من الصرير . وهو الصوت من قولهم : صرَّ الشيء ، ومنه الريح الصرصر . وقال الزجاج : والصرُّ صوت النار التي في الريح . البطانة في الثوب بإزاء الظهارة ، ويستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار . يقال : بطن فلان من فلان بطوناً وبطانة إذا كان خاصاً به ، داخلاً في أمره . وقال الشاعر : أولئك خلصاني نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب ألوت في الأمر : قصرت فيه . قال زهير : سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يفعلوا ولم يليموا لم يألووا أي لم يقصروا . الخبال والخبل : الفساد الذي يلحق الحيوان . يقال : في قوائم الفرس خبل وخبال أي فساد من جهة الاضطراب . والخبل والجنون . ويقال : خبله الحب أي أفسده . البغضاء : مصدر كالسراء والبأساء يقال : بغض الرجل فهو بغيض ، وأبغضته أنا اشتدت كراهتي له . الأفواه معروفة ، والواحد منها في الأصل فوه . ولم تنطق به العرب بل قالت : فم . وفي الفم لغات تسع ذكرت في بعض كتب النحو . العض : وضع الأسنان على الشيء بقوة ، والفعل منه على فِعل بكسر العين ، وهو بالضاد . فأماعظ الزمان وعظ الحرب فهو بالظاء أخت الطاء قال : وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتا أو مجلف والعُض بضم العين علف أهل الأمصار مثل : الكسب والنوى المرضوض : يقال منه : أعض القوم إذا أكل إبلهم العض . وبعير عضاضيّ أي سمين ، كأنه منسوب إليه . والعِض بالكسر الداهية من الرجال . الأنامل جمع أنملة ، ويقال : بفتح الميم وضمها ، وهي أطراف الأصابع . قال ابن عيسى : أصلها النمل المعروف ، وهي مشبهة به في الدقة والتصرف بالحركة . ومنه رجل نمل : أي نمام . الغيض : مصدر غاضة ، وغيض اسم علم . الفرح : معروف يقال منه : فرح بكسر العين . الكيد : المكر كاده يكيده مكر به . وهو الاحتيال بالباطل . قال ابن قتيبة : وأصله المشقة من قولهم : فلان يكيد بنفسه ، أي يعالج مشقات النزع وسكرات الموت . {لَيْسُواْ سَوَاء مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ } سببت النزول إسلام عبد اللّه بن سلام وغيره من اليهود ، وقول الكفار من أحبارهم : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا خياراً ما تركوا دين آبائهم قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن جريج . والواو في ليسوا هي لأهل الكتاب السابق ذكرهم في قوله :{ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } والأصح : أن الواو ضمير عائد على أهل الكتاب ، وسواء خبر ليس . والمعنى : ليس أهل الكتاب مستوين ، بل منهم من آمن بكتابه وبالقرآن ممن أدرك شريعة الإسلام ، أو كان على استقامة فمات قبل أن يدركها . ومن أهل الكتاب أمة قائمة : مبتدأ وخبر . وقال الفراء : أمة مرتفعة بسواء ، أي ليس أهل الكتاب مستوياً من أهل الكتاب أمة قائمة موصوفة بما ذكر وأمة كافرة ، فحذفت هذه الجملة المعادلة ، ودل عليها القسم الأول كقوله : عصيت إليها القلب إني لأمره سميع فما أدري أرشد طلابها التقدير : أم غي فحذف لدلالة أرشد وقال : أراك فما أدري أهم ضممته وذو الهم قدماً خاشع متضائل التقدير : أم غيره . قال الفراء : لأن المساواة تقتضي شيئين : سواء العاكف فيه والبادي سواء محياهم ومماتهم . ويضعف قول الفراء من حيث الحذف . ومن حذف وضع الظاهر موضع المضمر ، إذ التقدير : ليس أهل الكتاب مستوياً منهم أمة قائمة كذا ، وأمة كافرة . وذهب أبو عبيدة : إلى أن الواو في ليسوا علامة جمع لا ضمير مثلها ، في قول الشاعر : يلومونني في شراء النخي ل قومي وكلهم ألوم واسم ليس : أمّة قائمة ، أي ليس سواء من أهل الكتاب أمّةً قائمة موصوفة بما ذكروا أمة كافرة . قال ابن عطية : وما قاله أبو عبيدة خطأ مردود انتهى . ولم يبين جهة الخطأ ، وكأنه توهم أن اسم ليس هو أمة قائمة فقط ، وأنه لا محذوف . ثمّ إذ ليس الغرضُ تفاوت الأمة القائمة التالية ، فإذا قدر ثم محذوف لم يكن قول أبي عبيدة خطأ مردوداً . قيل : وما قاله أبو عبيدة هو على لغة أكلوني البراغيث ، وهي لغة رديئة والعرب على خلافها ، فلا يحمل عليها مع ما فيه من مخالفة الظاهر انتهى . وقد نازع السهيلي النحويين في قولهم : إنها لغة ضعيفة ، وكثيراً ما جاءت في الحديث . والإعراب الأول هو الظاهر . وهو : أن يكون من أهل الكتاب أمةٌ قائمة مستأنف بيان لانتفاء التسوية كما جاء { يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } بياناً لقوله :{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } والمراد بأهل الكتاب واليهود والنصارى . وأمة قائمة أي مستقيمة من أقمت العود فقام ، أي استقام . قال مجاهد والحسن وابن جريج : عادلة . وقال ابن عباس وقتادة والربيع : قائمة على كتاب اللّه وحدوده مهتدية . وقال السدي : قانتة مطيعة ، وكلها راجع للقول الأوّل . وقال ابن مسعود والسدي : الضمير في ليسوا عائد على اليهود . وأمة محمد صلى اللّه عليه وسلم إذ تقدم ذكر اليهود وذكرُ هذه الأمة في قوله :{ كنتم خير أمة} . والكتاب على هذا القول جنسُ كتب اللّه ، وليس بالمعهود من التوراة والإنجيل فقط . والمراد بقوله : من أهل الكتاب أمة قائمة أهل القرآن . والظاهر عود الضمير على أهل الكتاب المذكورين في قوله :{ وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ } لتوالي الضمائر عائدة عليهم فكذلك ضمير ليسوا . وقال عطاء : من أهل الكتاب أمة قائمة الآية يريد أربعين رجلاً من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى وصدقوا محمداً صلى اللّه عليه وسلم. وكان ناس من الأنصار موحدين ويغتسلون من الجنابة ، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية قبل قدوم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، حتى جاءهم منه أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ومحمد بن مسلمة وقيس بن صرمة بن أنس .{ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللّه ءانَاء الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } وصف الأمة القائمة بأنها تالية آيات اللّه ، وعبَّر بالتلاوة في ساعات الليل عن التهجد بالقرآن . وقوله : وهم يسجدون جملة في موضع الصفة أيضاً معطوفة على يتلون ، وصفهم بالتلاوة للقرآن وبالسجود . فتلاوة القرآن في القيام ، وأما السجود فلم تشرع فيه التلاوة . وجاءت الصفة الثانية اسمية لتدل على التوكيد بتكرر الضمير وهو هم ، والواو في يسجدون إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . وأخبر عن المبتدأ بالمضارع ، وجاءت الصفة الأولى بالمضارع أيضاً لتدل على التجدد ، وعطفت الثانية على الأولى بالواو لتشعر بأن تلك التلاوة كانت في صلاة ، فلم تكن التلاوة وحدها ولا السجود وحده . وظاهر قوله : آناء الليل أنها جميع ساعات الليل . فيبعد صدور ذلك أعني التلاوة والسجود من كل شخص شخص ، وإنما يكون ذلك من جماعة إذْ بعضُ الناس يقوم أول الليل ، وبعضهم آخره ، وبعضهم بعد هجعة ثم يعود إلى نومه ، فيأتي من مجموع ذلك في المدن والجماعات استيعاب ساعات الليل بالقيام في تلاوة القرآن والسجود ، وعلى هذا كان صدر هذه الأمة . وعرف الناس القيام في أول الثلث الأخير من الليل ، أو قبله بقليل ، والقائم طول الليل قليل ، وقد كان في الصالحين مَنْ يلتزمه ، وقد ذكر اللّه القصد في ذلك في أول المزمل . وآناء الليل : ساعاته قاله الربيع وقتادة وغيرهما . وقال السدي : جوفه وهو من إطلاق الكل على الجزء ، إذ الجوف فرد من الجمع . وعن منصور : أنها نزلت في المصلين بين العشاءين ، وهو مخالف لظاهر قوله :{ يَتْلُونَ ءايَاتِ اللّه ءانَاء الَّيْلِ} وعن ابن مسعود : أنها صلاة العتمة . وذكر أنّ سبب نزولها هو احتباكُ النبي صلى اللّه عليه وسلم في صلاة العتمة وكان عند بعض نسائه فلم يأت حتى مضى الليل ، فجاء ومنّا المصلي ومنا المضطجع فقال : { أبشروا فإنه ليس أحد من أهل الكتاب يصلي هذه الصلاة } ولهذا السبب ذكر ابن مسعود أن قوله : ليسوا سواء عائد على اليهود وهذه الأمة ، وهو خلاف الظاهر . والظاهر من قوله : وهم يسجدون أنه أريد به السجود في الصلاة . وقيل : عبر بالسجود عن الصلاة تسمية للشيء بجزء شريف منه ، كما يعبر عنها بالركوع قاله : مقاتل ، والفراء ، والزجاج . لأن القراءة لا تكون في الركوع ولا في السجود ، فعلى هذا تكون الجملة في موضع الحال ، أي يتلون آيات اللّه متلبسين بالصلاة . وقيل : سجود التلاوة . وقيل : أريد بالسجود الخشوع والخضوع . وذهب الطبري وغيره إلى أنها جملة معطوفة من الكلام الأوّل ، أخبر عنهم أيضاً أنهم أهل سجود ، ويحسِّنُهُ أنْ كانت التلاوة في غير صلاة . ويكون أيضاً على هذا التأويل في غير صلاة نعتاً عدد بواو العطف ، كما تقول : جاءني زيد الكريم والعاقل . وأجاز بعضهم في قوله : وهم يسجدون أن يكون حالاً من الضمير في قائمة ، وحالاً من أمة ، لأنها قد وصفت بقائمة . فتلخص في هذه الجملة قولان : أحدهما : أنها لا موضع لها من الإعراب ، بأن تكون مستأنفة . والقول الآخر : أن يكون لها موضع من الإعراب ويكون رفعاً بأن يكون في موضع الصفة ، أو بأن يكون نصباً بأن يكون في موضع الحال ، إما من الضمير في يتلون ، أو من الضمير في قائمة ، أو من أمة . ودلت هذه الآية على الترغيب في قيام الليل ، وقد جاء في كتاب اللّه : { وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ }{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء الَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً }{ عَدَداً يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ} وفي الحديث : { يا عبد اللّه لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل فتركه وقبله ، نعم الرجل عبد اللّه إلا أنه لا يقوم من الليل } وغير ذلك كثير . وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال : إنا نجد كلاماً من كلام الرب عزّ وجل : أيحسب راعي إبل وغنم إذا جنه الليل انجدل كمن هو قائم وساجد الليل . ١١٤يؤمنون باللّه واليوم . . . . . {يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ وَالاْخِرُ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } تقدم تفسير مثل هذه الجمل . {وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْراتِ } المسارعةُ في الخير ناشئة عن فرط الرغبة فيه ، لأنّ مَنْ رغب في أمر بادر إليه وإلى القيام به ، وآثر الفور على التراخي . وجاء في الحديث : { اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وحياتك قبل موتك ، وغناك قبل فقرك} . وصفهم تعالى بأنهم إذا دعوا إلى خير من نصر مظلوم ، وإغاثة مكروب ، وعبادة اللّه ، بادروا إلى فعله . والظاهر في يؤمنون أن يكون صفة أي تالية مؤمنة . وجوزوا أنْ تكون الجملة مستأنفة ، أو في موضع الحال من الضمير في يسجدون ، وأن تكون بدلاً من السجود . قيل : لأن السجود بمعنى الإيمان . قال الزمخشري : وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات اللّه بالليل ساجدين ، ومن الإيمان باللّه ، لأن إيمانهم به كلا إيمان ، لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل دون بعض ، ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته ، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين ، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها انتهى لامه . وهو حسن . ولمّا ذكر تعالى هذه الأمة وصفها بصفات ست : إحداها : أنها قائمة ، أي مستقيمة على النهج القويم . ولمّا كانت الاستقامة وصفاً ثابتاً لها لا يتغير جاء باسم الفاعل . الثانية : الصلاة بالليل المعبر عنها بالتلاوة والسجود ، وهي العبادة التي يظهر بها الخلو لمناجاة اللّه بالليل . الثالثة : الإيمان باللّه واليوم الآخر ، وهو الحامل على عبادة اللّه وذكر اليوم الآخر لأنّ فيه ظهور آثار عبادة اللّه من الجزاء الجزيل . وتضمن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالأنبياء ، إذ هم الذين أخبروا بكينونة هذا الجائز في العقل ووقوعه ، فصار الإيمان به واجباً . الرابعة : الأمر بالمعروف . الخامسة : النهي عن المنكر ، لما كملوا في أنفسهم سعوا في تكميل غيرهم بهذين الوصفين . السادسة : المسارعة في الخيرات . وهي صفة تشمل أفعالهم المختصة بهم ، والأفعال المتعدية منهم إلى غيرهم . وهذه الصفات الثلاثة ناشئة أيضاً عن الإيمان ، فانظر إلى حسن سياق هذه الصفات حيث توسط الإيمان ، وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل ، وتأخرت عنه الصفتان المتعدّيتان والصفة المشتركة ، وكلها نتائج عن الإيمان . {وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ } هذه إشارة إلى من جمع هذه الصفات الست ، أي وأولئك الموصوفون بتلك الأوصاف من الذين صلحت أحوالهم عند اللّه . قال الزمخشري : ويجوز أن يريد بالصالحين المسلمين انتهى . ويشبه قوله قول ابن عباس من أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم. وفيما قاله الزمخشري بعد بل : الظاهر أنَّ في الوصف بالصلاح زيادة على الوصف بالإسلام ، ولذلك سأل هذه الرتبة بعض الأنبياء فقال تعالى حكاية عن سليمان على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم :{ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } وقال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام :{ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } وقال تعالى :{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } وقال تعالى بعد ذكر إسماعيل :{ وَإِدْرِيسَ وَذِى الْكِفْلِ كُلٌّ مّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مّنَ الصَّالِحِينَ} وقال :{ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ } ومن للتبعيض . و قال ابن عطية : ويحسن أن تكون لبيان الجنس انتهى . ولم يتقدم شيء فيه إبهام فيبين جنسه . ١١٥وما يفعلوا من . . . . . {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } قرأ نافع وابن عامر وابن كثير وأبو بكر بالتاء فيهما على الخطاب ، واختلفوا في المخاطب . فقال أبو حاتم : هو مردود إلى قوله :{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } فيكون من تلوين الخطاب ومعدوله . وقال مكي : التاء فيها عموم لجميع الأمة . والذي يظهر أنها التفات إلى قوله : أمة قائمة ، لما وصفهم بأوصاف جليلة اقبل عليهم تأنيساً لهم واستعطافاً عليهم ، فخاطبهم بأنّ ما تفعلون من الخير فلا تمنعون ثوابه . ولذلك اقتصر على قوله : من خير ، لأنه موضع عطف عليهم وترحم ، ولم يتعرض لذكر الشرّ . ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده . ويؤيد هذا الالتفات وأنه راجع إلى أمة قائمة قراءة الياء ، وهي قراءة : ابن عباس ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، واختيار أبي عبيد ، وباقي رواة أبي عمرو ، خير بين التاء والياء ، ومعلوم في هذه القراءة ، ومعلوم في هذه القراءة أن الضمير عائد على أمة قائمة ، كما عاد في قوله تعالى : يتلون وما بعده . وكفر : يتعدّى إلى واحد ، يقال : كفر النعمة ، وهنا ضمن معنى حرم ، أي : فلن تحرموا ثوابه ، ولما جاء وصفه تعالى بأنه شكور في معنى توفية الثواب ، نفى عنه تعالى نقيض الشكر وهو كفر الثواب ، أي حرمانه . {وَاللّه عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ } لما كانت الآية واردة فيمن اتصف بالأوصاف الجميلة ، وأخبر تعالى أنه يثيب على فعل الخير ناسب ختم الآية بذكر علمه بالمتقين ، وإن كان عالماً بالمتقين وبضدهم . ومعنى عليم بهم : أنه مجازيهم على تقواهم ، وفي ذلك وعد للمتقين ، ووعيد للمفرطين . ١١٦إن الذين كفروا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مّنَ اللّه شَيْئًا } تقدم تفسير هذه الجملة في أوائل هذه السورة . {وَأُوْلئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } تقدم تفسير نظير هذه الجملة في أوائل البقرة ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة . وأنه لما ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ذكر شيئاً من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبيلين . ١١٧مثل ما ينفقون . . . . . {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } لمّا ذكر تعالى أنَّ ما فعله المؤمنون من الخير فإنهم لا يحرمون ثوابه ، بل يجنون في الآخرة ثمرة ما غرسوه في الدنيا ، أخذ في بيان نفقة الكافرين ، فضرب لها مثلاً اقتضى بطلانها وذهابها مجاناً بغير عوض . قال مجاهد : نزلت في نفقات الكفار وصدقاتهم . وقال مقاتل : في نفقات سفلة اليهود على علمائهم . وقيل : في نفقة المشركين يوم بدر . وقيل : في نفقة المنافقين إذا خرجوا مع المسلمين لحرب المشركين . قال الزمخشري : شبّه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون به وجه اللّه بالزرع الذي حسَّه البرد فصار حطاماً . وقيل : هو ما يتقربون به إلى اللّه مع كفرهم . وقيل : ما أنفقوا في عداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لأنهم لم يبلغوا بإنفاقه ما أنفقوه لأجله انتهى . و قال ابن عطية : معناه المثال القائم في النفس من إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثاً ، ومن حبطة يوم القيامة وكونه هباء منثوراً ، وذهابه كالمثال القائم في النفس . مَنْ زرع قوم نبت واخصرَّ وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح صرّ محرق فأهلكته انتهى . والظاهر أن ما في قوله : مثل ما ينفقون موصولة ، والعائد محذوف ، أيْ ينفقونه . والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح ، والمعنى : تشبيهه بالحرث . فقيل : هو من التشبيه المركب لم يقابل فيه الإفراد بالإفراد ، وقد مر نظيره في قوله تعالى :{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً } ولذلك قال ثعلب : بدأ بالريح ، والمعنى على الحرث ، وهو اختيار الزمخشري . وقيل : وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ، وذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ، ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي يوازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ، ودل المذكوران على المتروكين . وهذا اختيار ابن عطية . قال : وهذه غاية البلاغة والإعجاز ، ومثل ذلك قوله تعالى :{ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ } انتهى . ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره : مثل مهلك ما ينفقون . أو من الثاني تقديره : كمثل مهلك ريح . وقيل : يجوز أن تكون ما مصدرية ، أي مثل إنفاقهم ، فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس ، إذ شبه الإنفاق بالريح . وظاهر قوله : ينفقون أنه من نفقة المال . وقال السدي : معناه ينفقون من أقوالهم التي يبطنون ضدها . ويضعف هذا أنّها في الكفار الذين يعلنون لا في المنافقين الذين يبطنون . وقيل : متعلق الإنفاق هو أعمالهم من الكفر ونحوه ، هي كالريح التي فيها صر أبطلت أعمالهم كل ما لهم من صلة رحم وتحنثٍ بعتق ، كما يبطل الريح الزرع . قال ابن عطية : وهذا قول حسن ، لولا بعد الاستعارة في الإنفاق انتهى . وقال الراغب : ومنهم من قال : ما ينفقون عبارة عن أعمالهم كلها ، لكنه خص الإنفاق لكونه أظهروا أكثر انتهى . وقرأ ابن هرمز والأعرج : تنفقون بالتاء على معنى قل لهم ، وأفرد ريحاً لأنّها مختصة بالعذاب ، كما أفردت في قوله :{ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ } ولئن أرسلنا ريحاً إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً الريح العقيم . كما أن الجمع مختص بالرحمة أن { يرسل الرياح مبشرات }{ وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ لَوَاقِحَ }{ يُرْسِلُ الرّيَاحَ بُشْرًاَ } ولذلك روي :{ اللّهمَّ بِئَايَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } وارتفاعُ صرّ على أنه فاعل بالمجرور قبله ، إذْ قد اعتمد بكونه وقع صفة للريح . فإنْ كان الصر البرد وهو قول : ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، أو صوت لهيب النار أو صوت الريح الشديدة . فظاهر كون ذلك في الريح . وإنْ كان الصرُّ صفةً للريح كالصرصر ، فالمعنى فيها قرةُ صرَ كما تقول : برد بارد ، وحذف الموصوف ، وقامت الصفة مقامه . أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة . كما قال : وفي الرحمن كاف للضعفاء . وقولهم : إن ضيعني فلان ففي اللّه كاف . المعنى الرحمن كاف ، واللّه كاف . وهذا فيه بعد . وقوله : أصابت حرث قوم في موضع الصفة لريح . بدأ أولاً بالوصف بالمجرور ، ثم بالوصف بالجملة . وقوله : ظلموا أنفسهم جملة في موضع الصفة لقوم . وظاهره أنهم ظلموا أنفسهم بمعاصيهم ، فكان الإهلاك أشد إذ كان عقوبة لهم . وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنّ مصائب الدنيا إنما هي بمعاصي العبد . ويستنبط ذلك من غير ما آية في القرآن ، فيستقيم على ذلك أن كل حرث تحرقه الريح فإنما هو لمن قد ظلم نفسه . وقيل : ظلموا أنفسهم معناه زرعوا في غير أوان الزراعة ، أي وضعوا أفعال الفلاحة غير موضعها من وقت أو هيئة عمل . وخص هؤلاء بالذكر لأن الحرث فيما جرى هذا المجرى أوعب وأشد تمكناً ، ونحا إلى هذا القول المهدوي . {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّه} جوز الزمخشري وغيره أنْ يعودَ الضمير على المنفقين ، أي : ما ظلمهم بأنْ لم تُقبل نفقاتهم . وأنْ يعودَ على أصحاب الحرث أي : ما ظلمهم بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي . و قال ابن عطية : الضمير في ظلمهم للكفار الذين تقدّم ضميرهم في ينفقون ، وليس هو للقوم ذوي الحرث ، لأنهم لم يذكروا ليردَّ عليهم ، ولا لتبين ظلمهم . وأيضاً قوله :{ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} يدل على فعل الحال في حاضرين انتهى . وهو ترجيح حسن . وقرىء شاذاً : ولكنَّ بالتشديد ، واسمها أنفسهم ، والخبر يظلمون . والمعنى : يظلمونها هم . وحسنٌ حذفُ هذا الضمير ، وإنْ كان الحذف في مثله قليلاً كون ذلك فاصلة رأس آية ، فلو صرَّح به لزال هذا المعنى . ولا يجوز أنْ يعتقدَ أنَّ اسم لكن ضمير الشأن . وحذف وأنفسهم مفعول بيظلمون ، لأن حذف هذا الضمير يختص بالشعر . ١١٨يا أيها الذين . . . . . {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالاً من يهود للجوار والحلف والرضاع قاله : ابن عباس . وقال أيضاً هو وقتادة والسدي والربيع : نزلت في المنافقين . نهى اللّه المؤمنين عنهم شبه الصديق الصدق بما يباشرُ بطن الإنسان من ثوبه . يقال : له بطانة ووليجة . وقوله : من دونكم في موضع الصفة لبطانة ، وقدّره الزمخشري : من دون أبناء جنسكم ، وهم المسلمون . وقيل : يتعلق من بقوله : لا تتخذوا . وقيل : مِنْ زائدة ، أي بطانة دونكم . والمعنى : أنهم نهوا أن يتخذوا أصفياء من غير المؤمنين . ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستبانه إليهم . وقد عتب عمر أبا موسى على استكتابه ذمياً ، وتلا عليه هذه الآية . وقد قيل لعمر في كاتب مجيد من نصارى الحيرة : ألا يكتب عنك ؟ فقال : إذن أتخذ بطانة . والجملة من قوله :{ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } لا موضع لها من الإعراب ، إذ جاءت بياناً لحال البطانة الكافرة ، هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة . ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال مما تعلقت به من ، فبعيد عن فهم الكلام الفصيح . لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ، ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الغوائل للمؤمنين ، وودادة مشقتهم ، وظهور بغضهم . والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهما . وألا متعد إلى واحد بحرف الجر ، يقال : ما ألوت في الأمر أي ما قصرت فيه . وقيل : انتصب خبالاً على التمييز المنقول من المفعول ، كقوله تعالى : { وَفَجَّرْنَا الاْرْضَ عُيُوناً } التقدير : لا يألونكم خبالكم ، أي في خبالكم . فكان أصل هذا المفعول حرف الجر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف ، التقدير : لا يألونكم في تخبيلكم . وقيل : انتصابه على أنه مصدر في موضع الحال . قال ابن عطية : معناه لا يقصرون لكم لكم فيما فيه الفساد عليكم . فعلى هذا يكون قد تعدى للضمير على إسقاط اللام ، وللخبال على إسقاط في . وقال الزمخشري : يقال : أَلا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدّي إلى مفعولين في قولهم : لا آلوك نصحاً ، ولا آلوك جهداً ، على التضمين . والمعنى : لا أمنعك نصحاً ولا أنقصكه انتهى . {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } قال ابن جرير : ودّوا إضلالكم . وقال الزجاج : مشقتكم . وقال الراغب : المعاندة والمعانتة يتقاربان ، لكن المعاندة هي الممانعة ، والمعانتة أن تتحرّى مع الممانعة المشقة انتهى . ويقال : عِنت بكسر النون ، وأصله انهياض العظم بعد جبره . وما في قوله : ما عنتم مصدرية ، وهذه الجملة مستأنفة كما قلنا في التي قبلها . وجوّزوا أن يكون نعتاً لبطانة ، وحالاً من الضمير في يألونكم ، وقد معه مرادة . {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْواهِهِمْ } وقرأ عبد اللّه : قد بدا ، لأنّ الفاعل مؤنث مجازاً أو على معنى البغض ، أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم . وذكر الأفواه دون الألسنة إشعاراً بأن ما تلفظوا به يملأ أفواههم ، كما يقال : كلمة تملأ الفم إذا تشدّق بها . وقيل : المعنى لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم وتحاملهم عليها أنْ ينفلتَ من ألسنتهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين انتهى . ولمّا ذكر تعالى ما انطووا عليه من ودادهم عنت المؤمنين ، وهو إخبار عن فعل قلبي ، ذكر ما أنتجه ذلك الفعل القلبي من الفعل البدني ، وهو : ظهور البغض منهم للمؤمنين في أقوالهم ، فجمعوا بين كراهة القلوب وبذاذة الألسن . ثم ذكر أنَّ ما أبطنوه من الشر والإيذاء للمؤمنين والبغض لهم أعظم مما ظهر منهم فقال : {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي أكثر مما ظهر منها . والظاهر أنَّ بدوَّ البغضاء منهم هو للمؤمنين ، أي اظهروا للمؤمنين البغض . وقال قتادة : قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك . وقيل : بدت بإقرارهم بعد الجحود ، وهذه صفة المجاهر . وأسند الإخفاء إلى الصدور مجازاً ، إذ هي محال القلوب التي تخفي كما قال :{ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ} {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ } أي الدالة على وجوب الإخلاص في الدين ، وموالاة المؤمنين ، ومعاداة الكفار . {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي ما بين لكم فعملتم به ، أو إنْ كنتم عقلاء وقد علم تعالى أنهم عقلاء ، لكن علقه على هذا الشرط على سبيل الهزّ للنفوس كقولك : إن كنت رجلاً فافعل كذا . وقال ابن جرير : معناه إن كنتم تعقلون عن اللّه أمره ونهيه . وقيل : إنْ كنتم تعقلون فلا تصافوهم ، بل عاملوهم معاملة الأعداء . وقيل : معنى إن معنى إذ أي إذ كنتم عقلاء . ١١٩ها أنتم أولاء . . . . . {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ } تقدّم لنا الكلام على نظيرها ، أنتم أولاء في قوله :{ هأَنتُمْ هَاؤُلاء حَاجَجْتُمْ } قراءة وإعراباً . وتلخيصه هنا أن يكونَ أولاء خبراً عن أنتم ، وتحبونهم مستأنف أو حال أو صلة ، على أن يكون أولاء موصولاً أو خبراً لأنتم ، وأولاء مناداً ، أو يكون أولاء مبتدأ ثانياً ، وتحبونهم خبر عنه ، والجملة خبر عن الأوّل . أو يكون أولاء في موضع نصب نحو : أنا زيداً ضربته ، فيكون من الاشتغال . واسم الإشارة في هذين الوجهين واقع على غير ما وقع عليه أنتم ، لأن أنتم خطاب للمؤمنين ، وأولاء إشارة إلى الكافرين . وفي الأوجه السابقة مدلوله ومدلول أنتم واحد . وهو : المؤمنون . وعلى تقدير الاستئناف في تحبونهم ، لا ينعقد مما قبله مبتدأ وخبر إلا بإضمار وصفٍ تقديره : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة غير المؤمنين إذ تحبونهم ولا يحبونكم . بيان لخطئهم في موالاتهم حيثُ يبذلون المحبة لمن يبغضهم ، وضمير المفعول في تحبونهم قالوا لمنافقي اليهود . وفي الزمخشري : لمنافقي أهل الكتاب . والذي يظهر أنّه عائد على بطانة من دون المؤمنين ، فهو كل منافق حتى منافق المشركين . والمحبة هنا : الميل بالطبع لموضع القرابة والرضاع والحلف قاله ابن عباس . أو لأجل إظهار الإيمان والإحسان إلى المؤمنين قاله : أبو العالية : أو الرحمة لهم لما يقع منهم من المعاصي قاله : قتادة . أو إرادة الإسلام لهم قاله : المفضل والزجاج . وهذا ليس بجيد ، لأنه لا يقع توبيخ على معنى إرادة إسلام الكافر ، أو المصافاة ، لأنها من ثمرة المحبة . وتؤمنون بالكتاب كله ، الكتاب : اسم جنس ، أي بالكتب المنزلة قاله : ابن عباس . والتوراة والإنجيل أو التوراة أقوال ثلاثة ، وثم جملة محذوفة تقديرها : ولا تؤمنون به كله بل يقولون : نؤمن ببعض ونكفر ببعض . يدلُّ عليها إثبات المقابل في تحبونهم ولا يحبونكم . والواو في وتؤمنون للعطف على تحبونهم ، فلها من الإعراب ما لها . وقال الزمخشري : والواو في وتؤمنون للحال ، وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم . والحال : إنكم تؤمنون بكتابهم كله ، وهم مع ذلك يبغضونكم ، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم ؟ وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحوه . فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من اللّه ما لا يرجون انتهى كلامه وهو حسن . إلا أنه فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه ، وهو : أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال ، وأنها منتصبة من لا يحبونكم . والمضارعُ المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واوٍ الحال تقول : جاء زيد يضحك ، ولا يجوز ويضحك . فأما قولهم : قمت وأصك عينه ففي غاية الشذوذ . وقد أوَّل على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه ، فتصير الجملة اسمية . ويحتمل هذا التأويل هنا ، أي : ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كلِّه ، لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف . قال ابن عطية : وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي أن الآية في منافقي اليهود ، لا منافقي العرب . ويعترضها : أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن ، كما كان المنافقون من العرب ، إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي . فلم يبق إلا أنَّ قولهم : آمنا ، معناه صدّقنا أنه نبي مبعوث إليكم . أي فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وأخوانكم لا نضمر لكم إلا المودّة ، ولهذا كان بعض المؤمنين يتخذهم بطانة . وهذا منزع قد حفظ أن كثيراً من اليهود كان يذهب إليه . ويدل على هذا التأويل أنَّ المعادل لقولهم : آمنا غض الأنامل من الغيظ ، وليس فيه ما يقتضي الارتداد كما في قوله : { وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ } بل هو ما يقتضي البغض وعدم المودّة . وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال : هم الأباضية . وهذه الصفة قد تترتب في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة انتهى كلامه . وما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيماناً مطلقاً ويكفرون في الباطن إلاَّ ما روي من أمر زيد فيه نظر ، فإنه قد روى أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ، ذكره البيهقي وغيره . ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك مذمة لهم بذلك ، إذ وجد ذلك في جنسهم . وكثيراً ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ، ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى :{ وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءامِنُواْ بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءاخِرَهُ} {وإذ لقوكم قالوا آمنا } هذا الإخبار جرى على منازعتهم في التوراة والستر والخبث ، إذ لم يذكروا متعلق الإيمان ، ولكنَّهم يوهمون المؤمنين بهذا اللفظ أنهم مؤمنون . {وَإِذَا خَلَوْاْ } أي خلا بعضهم ببعض وانفردوا دونكم . والمعنى : خلت مجالسهم ، منكم ، فأسند الخلو إليهم على سبيل المجاز . {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ } وظاهره فعل ذلك ، وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون . ومنه قول أبي طالب : وقد صالحوا قوماً علينا أشحة يعضون عضاً خلفنا بالأباهم وقال الآخر : إذا رأوني أطال اللّه غيظهم عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم وقال الآخر : وقد شهدت قيس فما كان نصرها قتيببة إلا عضها بالأباهم وقال الحرث بن ظالم المرّي : وأقتل أقواماً لئاماً أذلة يعضون من غيظ رؤوس الأباهم ويوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام . وهذا العض هو بالأسنان ، وهي هيئة في بدن الإنسان تتبع هيئة النفس الغاضبة . كما أن ضرب اليد على اليد يتبع هيئة النفس المتلهفة على فائت قريب الفوت . وكما أن قرع السن هيئة تتبع هيئة النفس النادمة ، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم ونحوه . ويحتمل أن لا يكون ثَمَّ عض أنامل ، ويكون ذلك من مجاز التمثيل عبر بذلك عن شدة الغيظ ، والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم . ونبه تعالى بهذه الآية على أن من كان بهذه الأوصاف من : بغض المؤمنين ، والكفر بالقرآن ، والرياء بإظهار ما لا ينطوي عليه باطنه ، جدير بأن لا يتخذ صديقاً . {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ } ظاهره : أنه صلى اللّه عليه وسلم أمر بأن يقول لهم ذلك . وهي صيغة أمر ، ومعناها الدّعاء أن : أذن اللّه لنبيه أن يدعو عليهم لمّا يئس من إيمانهم ، هذا قول الطبري . وكثير من المفسرين قالوا : فله أن يدعو مواجهة . وقيل : أمر هو وأمته أن يواجهوهم بهذا . فعلى هذا زال معنى الدعاء ، وبقي معنى التقريع ، قاله : ابن عطية . وقيل : صورته أمر ، ومعناه الخبر ، والباء للحال أي تموتون ومعكم الغيظ وهو على جهة الذم على قبيح ما عملوه . وقال الزمخشري : دعا عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به . والمراد بزيادة الغيظ ما يغيظهم من قوة الإسلام وعزة أهله ، وما لهم في ذلك من الذل والخزي والتبار انتهى كلامه . وليس ما فسر به ظاهر قوله : قل موتوا بغيظكم ، ويكون ما قاله الزمخشري يشبه قولهم : مت بدائك ، أي أبقى اللّه داءك حتى تموت به . لكنْ في لفظ الزمخشري زيادة الغيظ ، ولا يدل عليه لفظ القرآن . قال بعض شيوخنا : هذا ليس بأمر جازم ، لأنه لو كان أمراً لماتوا من فورهم كما جاء فقال لهم اللّه موتوا . وليس بدعاء ، لأنه لو أمره بالدعاء لماتوا جميعهم على هذه الصفة ، فإن دعوته لا ترد . وقد آمن منهم بعد هذه الآية كثير ، وليس بخبر لأنه لو كان خبر الوقع على حكم ما أخبر به يعني ولم يؤمن أحد بعد ، وإنما هو أمر معناه التوبيخ والتقريع كقوله : اعملوا ما شئتم ، إذا لم تستحي فاصنع ما شئت . قيل : ويجوز أن لا يكون ثم قول ، وإنْ يكون أمراً بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد اللّه أن يهلكوا غيظاً بإعزاز الإسلام وإذلالهم به ، كأنه قيل : حدث نفسك بذلك . {إِنَّ اللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } قيل : يجوز أن يكون من جملة المقول ، والمعنى : أخبرْهُم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم : إن اللّه عليم بما هو أخفى مما تسرّونه بينكم وهو مضمرات الصدور ، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه . ويجوز أنْ لا تدخل تحت القول ، ومعناه : قل لهم ذلك ، ولا تتعجب من اطلاعي إياك على ما يسرون ، فإني أعلم ما هو أخفى من ذلك وهو مضمرات صدورهم لم يظهروه بألسنتهم . والظاهر الأول أورد ذلك على أنّه وعيد مواجهون به . والذات لفظ مشترك ومعناه هنا أنه تأنيث ذي بمعنى صاحب . فاصله هنا عليم بالمضمرات ذوات الصدور ، ثم حذف الموصوف ، وغلبت إقامة الصفة مقامه . ومعنى صاحبة الصدور : الملازمة له التي لا تنفك عنه كما تقول : فلان صاحب فلان ، ومنه أصحاب الجنة أصحاب النار . واختلفوا في الوقف على ذات . فقال الأخفش والفراء وابن كيسان : بالتاء مراعاة لرسم المصحف . وقال الكسائي والجرمي : بالهاء لأنها تاء تأنيث . ١٢٠إن تمسسكم حسنة . . . . . {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } الحسنة هنا ما يسر من رخاء وخصب ونصرة وغنيمة ، ونحو ذلك من المنافع . والسيئة ضد ذلك . بين تعالى بذلك فرط عداوتهم حيث يسوءهم ما نال المؤمنين من الخير ، ويفرحون بما يصيبهم من الشدة . قال الزمخشري : المس مستعار لمعنى الإصابة ، فكان المعنى واحداً . ألا ترى إلى قوله :{ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } الآية { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ }{ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } و قال ابن عطية : ذكر اللّه تعالى المس في الحسنة ليبين أن بادني طروء الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ، ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة ، وهي عبارة عن التمكن . لأن الشيء المصيب لشيء هو متمكن منه ، أو فيه . فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة ، إذ هو حقد لا يذهب عند نزول الشدائد ، بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين انتهى كلامه . والنكرة هنا في سياق الشرط بأن تعم عموم البدل ، ولم يأت معرفاً لإيهام التعيين بالعهد ، ولإيهام العموم الشمولي . وقابل الحسنة بالسيئة ، والمساءة بالفرح وهي مقابلة بديعة . قال قتادة والربيع وابن جريج : الحسنة بظهوركم على العدو ، والغنيمة منهم ، والتتابع بالدخول في دينكم ، وخصب معاشكم . والسيئة بإخفاق سرية منكم ، أو إصابة عدو منكم ، أو اختلاف بينكم . وقال الحسن : الحسنة الألفة ، واجتماع الكلمة . والسيئة إصابة العدو ، واختلاف الكلمة . وقال ابن قتيبة : الحسنة النعمة . والسيئة المصيبة . وهذه الأقوال هي على سبيل التمثيل ، وليست على سبيل التعيين . {وَأَن تَصْبِرُواْ تَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } قال ابن عباس : وإن تصبروا على أذاهم ، وتتقوا اللّه ، ولا تقنطوا ، ولا تسأموا أذاهم وإن تكرر . وقال مقاتل : وإنْ تصبروا على أمر اللّه ، وتتقوا مباطنتهم . وقال ابن عباس أيضاً : وإنْ تصبروا على الإيمان وتتقوا الشرك . وقيل : وإنْ تصبروا على الطاعة وتتقوا المعاصي . وقيل : وإن تصبروا على حربهم . والذي يظهر أنه لم يذكر هنا متعلق الصبر ، ولا متعلق التقوى . لكنَّ الصبر هو حبس النفس على المكروه ، والتقوى اتخاذ الوقاية من عذاب اللّه . فيحسنُ أنْ يقدَّرَ المحذوف من جنس ما دل عليه لفظ الصبر ولفظ التقوى . وفي هذا تبشير للمؤمنين ، وتثبيت لنفوسهم ، وإرشاد إلى الاستعانة على كيد العدو بالصبر والتقوى . وقرأ الجمهور : أن تمسسكم بالتاء . وقرأ السلمي بالياء معجمة من أسفل ، لأن تأنيث الحسنة مجازى . وقرأ الحرميان وأبو عمرو وحمزة في رواية عنه : لا يضركم من ضار يضير . ويقال : ضار يضور ، وكلاهما بمعنى ضرَّ . وقرأ الكوفيون وابن عامر : لا يضرُّكم بضم الضاد والراء المشدّدة ، من ضرّ يَضُرُّ . واختلف ، أحركةُ الراء إعرابٌ فهو مرفوعٌ أم حركة اتباع لضمة الضاد وهو مجزوم كقولك : مدّ ؟ ونسب هذا إلى سيبويه ، فخرج الإعراب على التقديم . والتقدير : لا يضركم أن تصبروا ، ونسب هذا القول إلى سيبويه . وخرج أيضاً على أنّ لا بمعنى ليس ، مع إضمار الفاء . والتقدير : فليس يضركم ، وقاله : الفراء والكسائي . وقرأ عاصم فيما روى أبو زيد عن المفضل عنه : بضم الضاد ، وفتح الراء المشددة . وهي أحسن من قراءة ضم الراء نحو لم يرد زيد ، والفتح هو الكثير المستعمل . وقرأ الضحاك : بضم الضاد ، وكسر الراء المشدّدة على أصل التقاء الساكنين . و قال ابن عطية : فأما الكسر فلا أعرفه قراءة ، وعبارة الزجاج في ذلك متجوز فيها ، إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة انتهى . وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك . وقرأ أبيُّ لا يضرركم بفك الإدغام وهي لغة أهل الحجاز ، وعليها في الآية إن تمسَسْكم . ولغة سائر العرب الإدغام في هذا كله . {إِنَّ اللّه بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } من قرأ بالياء فهو وعيد ، والمعنى : محيط جزاؤه . وعبر بالإحاطة عن الاطلاع التام والقدرة والسلطان . ومن قرأ بالتاء وهو : الحسن بن أبي الحسن فعلى الالتفات للكفار ، أو على إضمار قل : لهم يا محمد . أو على أنه خطاب للمؤمنين تضمن توعدهم في اتخاذ بطانة من الكفار . قالوا : وتضمنت هذه الآيات ضروباً من البلاغة والفصاحة . منها : الوصل والقطع في ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة . والتكرار : في أصحاب النار هم . والعدول عن اسم الفاعل إلى غيره : في يتلون وما بعده ، وفي يظلمون . والاكتفاء بذكر بعض الشيء عن كله إذا كان فيه دلالة على الباقي في : يؤمنون باللّه واليوم الآخر . والمقابلة : في تأمرون وتنهون ، وفي المعروف والمنكر . ويجوز أن يكون طباقاً معنوياً ، وفي حسنة وسيئة ، وفي تسؤهم ويفرحوا . والاختصاص : وفي عليم بذات الصدور . والتشبيه : في مثل ما ينقون ، وفي بطانة ، وفي عضوا عليكم الأنامل من الغيظ على أحد التأويلين ، وفي تمسسكم حسنة وتصبكم سيئة . شبه حصولهما بالمس والإصابة ، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس ، والصحيح أن هذه استعارة . وفي محيط شبه القدرة على الأشياء والعلم بها بالشيء المحدق بالشيء من جميع جهاته ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . والتجنيس المماثل : في ظلمهم ويظلمون ، وفي تحبونهم ولا يحبونكم ، وفي تؤمنون وآمنا ، وفي من الغيظ وبغيظكم . والالتفات : في وما تفعلوا من خير فلن تكفرواه على قراءة من قرأ بالتاء ، وفي ما تعملون محيط على أحد الوجهين . وتسمية الشيء باسم محلة : في من أفواههم عبر بها عن الألسنة لأنها محلها . والحذف في مواضع . ١٢١وإذ غدوت من . . . . . غدا الرجل : خرج غدوة . والغدو يكون في أول النهار . وفي استعمال غدا بمعنى صار ، فيكون فعلاً ناقصاً خلاف . الهم : دون العزم ، والفعل منه هم يهمُّ . وتقول العرب : هممْتُ وهمَّتْ يحذفون أحد المضعفين كما قالوا : أمست ، وظلت ، وأحست ، في مسست وظللت وأحسست . وأوّلُ ما يمر الأمر بالقلب يسمى خاطراً ، فإذا تردد صار حديث نفس ، فإذ ترجَّح فعله صار هماً ، فإذا قوي واشتد صار عزماً ، فإذا قوي العزم واشتدّ حصل الفعل أو القول . الفشل في البدن : الإعياء . وفي الحرب : الجبن والخور ، وفي الرأي : العجز والفساد . وفعله : فشِل بكسر الشين . التوكل : تفعل من وكل أمره إلى فلان ، إذا فوَّضه له . قال ابن فارس : هو إظهار العجز والاعتماد على غيرك ، يقال : فلان وكلة تكلة ، أي عاجز بكل أمره إلى غيره . وقيل : هو من الوكالة ، وهو تفويض الأمر إلى غيره ثقة بحسن تدبيره . بدر في الآية : اسم علم لما بين مكة والمدينة . سمي بذلك لصفائه ، أو لرؤية البدر فيه لصفائه ، أو لاستدارته . قيل : وسمي باسم صاحبه بدر بن كلدة . قيل : بل بدر بن بجيل بن النضر بن كنانة . وقيل : هو بئر لغفار . وقيل : هو اسم وادي الصفراء . وقيل : اسم قرية بين المدينة والجار . الفور : العجلة والإسراع . تقول : اصنع هذا على الفور . وأصلُه من فارت القدر اشتد غليانها ، وبادر ما فيها إلى الخروج . ويقال : فار غضبه إذا جاش وتحرك . وتقول : خرج من فوره ، أي من ساعته ، لم يلبث استعير الفور للسرعة ، ثم سميت به الحالة التي لا ريب فيها ولا تعريج على شيء من صاحبها . الخمسة : رتبة من العدد معروفة ، ويصرف منها فعل يقال : خمست الأربعة أي صيرتهم في خمسة . الطرف : جانب الشيء الأخير ، ثم يستعمل للقطعة من الشيء وإنْ لم يكن جانباً أخيراً . الكبت : الهزيمة . وقيل : الصرع على الوجه أو إلى اليدين . وقال النقاش وغيره : التاء بدل من الدال . أصله : كبده ، أي فعل فعلاً يؤذي كبده . الخيبة : عدم الظفر بالمطلوب . {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوّىء الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } قال المسور بن مخرمة : قلت لعبد الرحمن بن عوف : أيْ خال أخبرني عن قصتكم يوم أحد ، فقال : اقرأ العشرين ومائة من آل عمران تجد :{ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ إِلَىَّ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم } ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانةٍ مِن الكفار ووعدهم أنّهم إنْ صبروا واتقوا فلا يضرُّكم كيدهم . ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية ، واتباع لبعض المنافقين ، وهو ما جرى يوم أحد لعبد اللّه بن أبي بن سلول حين انخذل عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من المنافقين وغيرهم من المؤمنين . والجمهور على أن ذلك كان في غزوة أحذ ، وفيها نزلت هذه الآيات كلها ، وهو قول : عبد الرحمن بن عوف ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وقتادة ، والزهري ، والسدي ، وابن إسحاق . وقال الحسن : كان هذا الغدو في غزوة الأحزاب . وهو قول : مجاهد ، ومقاتل ، وهو ضعيف . لأن يوم الأحزاب كان فيه ظفر المؤمنين ، ولم يجر فيه شيء مما ذكر في هذه الآيات بل قصتاهما متباينتان . وقال الحسن أيضاً : كان هذا الغدو يوم بدر . وذكر المفسرون قصة غزوة أحد وهي مستوعبة في كتب السير ، ونحن نذكر منها ما يتعلق بألفاظ الآية بعض تعلقٍ عند تفسيرها . وظاهر قوله : وإذ غدوت ، خروجه غدوة من عند أهله . وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة يوم الجمعة غدوة حين استشار الناس ، فمِنْ مشير بالإقامة وعدم الخروج إلى القتال . وأن المشركين إنْ جاؤا قاتلوهم بالمدينة ، وكان ذلك رأيه صلى اللّه عليه وسلم. ومن مشير بالخروج وهم : جماعة من صالحي المؤمنين فأتتهم وقعة بدر وتبوئة المؤمنين مقاعد للقتال ، على هذا القول هو أن يقسمَ أفطار المدينة على قبائل الأنصار . وقيل : غدوه هو نهوضه يوم الجمعة بعد الصلاة وتبوئته في وقت حضور القتال . وسماه غدواً إذ كان قد عزم عليه غدوة . وقيل : غدوه كان يوم السبت للقتال . ولما لم تكن تلك الليلة موافقة للغدو وكأنه كان في أهله ، والعامل في إذا ذكر . وقيل : هو معطوف على قوله :{ قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } أي وآية إذ غدوت ، وهذا في غاية البعد . ولولا أنه مسطور في الكتب ما ذكرته . وكذلك قولُ مَنْ جعل من في معنى مع ، أي : وإذ غدوت مع أهلك . وهذه تخريجات يقولها وينقلها على سبيل التجويز من لا بصر له بلسان العرب . ومعنى تبويّء تنزل ، من المباءة وهي المرجع ومنه { لَنُبَوّئَنَّهُمْ مّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً } فليتبوأ مقعده من النار ، وقال الشاعر : كم صاحب لي صالح بوّأته بيديّ لحدا وقال الأعشى : وما بوّأ الرحمن بيتك منزلا بشرقيّ أجياد الصفا والمحرم ومقاعد : جمع مقعد ، وهو هناك مكان القعود . والمعنى : مواطن ومواقف . وقد استعمل المقعد والمقام في معنى المكان . ومنه : { فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ }{ وَقَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} وقال الزمخشري : وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار انتهى . أمّا إجراء قعد مجرى صار فقال أصحابنا : إنما جاء في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى ، وهي في قولهم : شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة ، أي صارت . وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى :{ فَتَقْعُدَ مَلُومًا عَلَى } أن معناه : فتصير ، لأن ذلك عند النحويين لا يطرد . وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهد قال ابن الأعرابي : القعد الصيرورة ، والعرب تقول : قعد فلان أميراً بعدما كان مأموراً أي صار . وأمّا إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحداً عدّها في أخوات كان ، ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ، ولا ذكر لها خبراً إلا أبا عبد اللّه بن هشام الحضراوي فإنه قال في قول الشاعر : على ما قام يشتمني لئيم إنها من أفعال المقاربة و قال ابن عطية : لفظة القعود أدل على الثبوت ، ولا سيما أنّ الرماة إنما كانوا قعوداً ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولاً ، والمبارزة والسرعان يجولون . وجمع المقاعد لأنه عيّن لهم مواقف يكونون فيها : كالميمنة والميسرة ، والقلب ، والشاقة . وبيّن لكل فريق منهم موضعهم الذي يقفون فيه . خرج صلى اللّه عليه وسلم بعد صلاة الجمعة ، وأصبح بالشعب يوم السبت للنصف من شوال ، فمشى على رجليه ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح . إنْ رأى صدراً خارجاً قال : { تأخر } ، وكان نزوله في غدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد . وأمر عبد اللّه بنَ جبير على الرماة وقال لهم : { انصحوا عنا بالنبل } لا يأتونا من ورائنا { . وتبوىء جملة حالية من ضمير المخاطب . فقيل : هي حال مقدرة ، أي خرجت قاصد التبوئة ، لأن وقت الغدو لم يكن وقت التبوئة . وقرأ الجمهور تبوىء من بوّأ . وقرأ عبد اللّه : تبوِّىء من أبوأ ، عداه الجمهور بالتضعيف ، وعبد اللّه بالهمزة . وقرأ يحيى بن وثاب : تبوى بوزن تحيا ، عداه بالهمزة ، وسهل لام الفعل بإبدال الهمزة ياء نحو : يقرى في يقرىء . وقرأ عبد اللّه : للمؤمنين بلام الجر على معنى : ترتب وتهيىء . ويظهر أنَّ الأصل تعديته لواحد بنفسه ، وللآخر باللام لأن ثلاثيه لا يتعدى بنفسه ، إنما يتعدى بحرف جر . وقرأ الأشهب : مقاعد القتال على الإضافة ، وانتصاب مقاعد على أنه مفعول ثان لتبوى . ومَنْ قرأ للمؤمنين كان مفعولاً لتبوىء ، وعداه باللام كما في قوله :{ وَإِذْ بَوَّأْنَا أَنَاْ لإِبْراهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ } وقيل : اللام في لابراهيم زائدة ، واللام في للقتال لام العلة تتعلق بتبوىء . وقيل : في موضع الصفة لمقاعد . وفي الآية دليل على أن الأئمة هم الذين يتولون أمر العساكر ويختارون لهم المواضع للحرب ، وعلى الأجناد طاعتهم قاله : الماتريدي . وهو ظاهر . {وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع وقوالكم ، عليم بنياتكم . وجاءت هاتان الصفتان هنا لأنّ في ابتداء هذه الغزوة مشاورة ومجاوبة بأقوال مختلفة ، وانطواء على نيات مضطربة حبسما تضمنته قصة غزوة أُحد . ١٢٢إذ همت طائفتان . . . . . {إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } الطائفتان : بنو سلمة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وهما الجناحان قاله : ابن عباس ، وجابر ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، والربيع ، والسدي ، وجمهور المفسرين . وقيل : الطائفتان هما من الأنصار والمهاجرين . روي أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خرج في ألف . وقيل : في تسعمائة وخمسين ، والمشركون في ثلاثة آلاف . ووعدهم الفتح إن صبروا ، فانخذل عبد اللّه بن أبي بثلث الناس . وسببُ انخذاله أنه أشار على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالمدينة حين شاوره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يشاوره قبلها ، فأشار عليه بالمقام في المدينة فلم يفعل وخرج ، فغضب عبد اللّه وقال : أطاعهم ، وعصاني . وقال : يا قوم علامَ نقتل أنفسنا وأولادنا ، فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري . وفي رواية أبو جابر السلمي فقال : أنشدكم اللّه في نبيكم وأنفسكم . فقال عبد اللّه : لو نعلمُ قتالاً لاتبعناكم ، فهم الجبان باتباع عبد اللّه ، فعصمهم اللّه ومضوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. قال ابن عباس : أضمروا أن يرجعوا ، فعزم اللّه لهم على الرشد فثبتوا ، وهذا لهمّ غير مؤاخذ به ، إذ ليس بعزيمة ، إنما هو ترجيح من غير عزم . ولا شك أن النفس عندما تلاقى الحروب ومن يجالدها يزيد عليها مثلين وأكثر ، يلحقها بعض الضعف عن الملاقاة ، ثم يوطئها صاحبها على القتال فتثبت وتستقر . ألا ترى إلى قول الشاعر : وقولي : كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي وإذ همت : بدل من إذ غدوت . قال الزمخشري : أو عمل فيه معنى سميع عليم انتهى . وهذا غير محرر ، لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين ، فتحريره أن يقول : أو عمل فيه معنى سميع أو عليم ، وتكون المسألة من باب التنازع . وجوز أن يكون معمولاً لتبوى ، ولغدوت . وهمّ يتعدى بالباء ، فالتقدير : بأن تفشلا والمعنى : أن تفشلا عن القتال . وأما أحسن قول الشاعر في التحريض على القتال والنهي عن الفشل : قاتلوا القوم بالخداع ولا يأخذكم عن قتالهم فشل القوم أمثالكم لهم شعر في الرأس لا ينشرون إن قتلوا وأدغم السبعة تاء التأنيث في الطاء ، وعن قالون خلاف ذكرناه في عقد اللآلىء في القراءات السبع العوالي من إنشائنا . والظاهر أن هذا لهم كان عند تبوئة الرسول صلى اللّه عليه وسلم مقاعد للقتال وانخذال عبد اللّه بمن انخذل . وقيل : حين أشاروا عليه بالخروج وخالفوا عبد اللّه بن أبي . وفي قوله : طائفتان إشارة لطيفة إلى الكناية عن من يقع منه ما لا يناسب والستر عليه ، إذ لم يعين الطائفتين بأنفسهما ، ولا صح بمن هما منه من القبائل ستراً عليهما . {وَاللّه وَلِيُّهُمَا } معنى الولاية هنا التثبيت والنصر ، فلا ينبغي لهما أن يفشلا . وقيل : جعلها من أوليائه المثابرين على طاعته . وفي البخاري عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال : فينا نزلت { إِذْ هَمَّتْ طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّه وَلِيُّهُمَا } قال : نحن الطائفتان بنو حارثة ، وبنو سلمة . وما تحب أنها لم تنزل لقول اللّه : { وَاللّه وَلِيُّهُمَا } ، قال ذلك جابر لفرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء اللّه ، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية ، وأنّ تلك الهمة المصفوح عنها لكونها ليست عزماً ، كانت سبباً لنزولها . وقرأ عبد اللّه : واللّه وليهم أعاد الضمير على المعنى لا على لفظ التثنية ، كقوله :{ وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ }{ هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ } وهذه الجملة لا موضع لها من الإعراب ، بل جاءت مستأنفة لثناء اللّه على هاتين الطائفتين . {وَعَلَى اللّه فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } لما ذكر تعالى ما همت به الطائفتان من الفشل ، وأخبر تعالى أنه وليهما ، ومَنْ كان اللّه وليه فلا يفوض أمره لا إليه . أمرهم بالتوكل عليه ، وقدم المجرور للاعتناء بمن يتوكل عليه ، أو للاختصاص على مذهب من يرى ذلك . ونبّه على الوصف الذي يقتضي ذلك وهو الإيمان ، لأنَّ مَنْ آمن باللّه خير أن لا يكون اتكاله إلا عليه ، ولذلك قال :{ وَعَلَى اللّه فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } وأتى به عاماً لتندرج الطائفتان الهامّتان وغيرهم في هذا الأمر ، وأن متعلقة من قام به الإيمان . وفي هذا الأمر تحريض على التغبيط بما فعلته الطائفتان من اتباع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسير معه . ١٢٣ولقد نصركم اللّه . . . . . {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ } لمّا أمرهم بالتوكل عليه ذكّرهم بما يوجب التوكل عليه ، وهو ما سنى لهم ويسر من الفتح والنصر يوم بدر ، وهم في حال قلة وذلة ، إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به . والنصر المشار إليه ببدر بالملائكة ، أو بإلقاء الرعب ، أو بكف الحصى التي رمى بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،أو بإرادة اللّه لقوله :{ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّه } أقوال . والجملة من قوله : وأنتم أذلة حال من المفعول في نصركم ، والمعنى : وأنتم أذلة في أعين غيركم ، إذ كانوا أعزة في أنفسهم ، وكانوا بالنسبة إلى عدوهم ، وجميع الكفار في أقطار الأرض عند المتأمل مغلوبين . وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { اللّهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد} . والأذلة : جمع ذليل . وجمع الكثرة ذلان ، فجاء على جمع القلة ليدل أنهم كانوا قليلين . والذلة التي ظهرت لغيرهم عليهم هي ما كانوا عليه من الضعف وقلة السلاح والمال والمركوب . خرجوا على النواضح يعتقب النفر على البعير الواحد ، وما كان معهم من الخيل إلا فرس واحد ، ومع عدوهم مائة فرس . وكان عدد المسلمين ثلاثمائة رجل وثلاثة عشر رجلاً : سبعة وسبعون من المهاجرين وصاحب رايتهم علي بن أبي طالب ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار وصاحب رايتهم سعد بن عبادة . وقيل : ثلاثمائة وستة عشر رجلاً . وقيل : ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً . وفي رواية : ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً . وكان عدوهم في حال كثرة زهاء ألف مقاتل . وما أحسن قول الشاعر : وقائلة ما بال أسوة عاديا تفانت وفيها قلة وخمول تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش ، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام . وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان لثمانية عشر شهراً من الهجرة . {فَاتَّقُواْ اللّه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أمر بالتقوى مطلقاً . وقيل : في الثبات مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وترجيه الشكر إمّا على الأنعام السابق بالنصر يوم بدر ، أو على الأنعام المرجو أنْ يقع . فكأنه قيل : لعلكم ينعم عليكم نعمة أخرى فتشكرونها . وضع الشكر موضع الأنعام لأنه سبب له . ١٢٤إذ تقول للمؤمنين . . . . . {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَى } ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها ، وأنّها من قصة بدر ، وهو قول الجمهور ، فيكون إذ معمولاً لنصركم . وقيل : هذا من تمام قصة أحد ، فيكون قوله :{ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه بِبَدْرٍ } معترضاً بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال . وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف ، وهنا بثلاثة آلاف وخمسة آلاف . والكفار يوم بدر كانوا ألفاً ، والمسلمون على الثلث . فكان عدد الكفار ثلاثة آلاف ، فوعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة . وقال : ويأتوكم من فورهم ، أي الإمداد . ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم . قال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف يصح أن يقوله لهم يوم أُحد ، ولم ينزل فيه الملائكة ؟ { قلت} : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم . فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا حيث خالفوا أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فلذلك لم تنزل الملائكة ، ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت . وإنما قدّم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ، ويثقوا بنصر اللّه انتهى كلامه . وقوله : لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعاً عليه ، بل قال مجاهد : حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل ، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال . وقوله : قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم ، فلم يصبروا عن الغنائم ، ولم يتقوا إلى آخره المشروط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف . أمّا الإمداد الأوّل وهو بثلاثة آلاف فليس بمشروط ، ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لفوات شرطه أن لا ينزل ثلاثة آلاف ، ولا شيء منها ، وأجيب عن عدم إنزال ثلاثة آلاف : أنه وعدٌ من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم للمؤمنين الذين بوأهم مقاعد للقتال ، وأمرهم بالسكون والثبات فيها ، فكان هذا الوعد مشروطاً بالثبوت في تلك المقاعد . فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط انتهى . ولا خفاء بضعف هذا الجواب . قال الضحاك : كان هذا الوعد والمقالة للمؤمنين يوم أحد ، ففرّ الناس وولوا مدبرين فلم يهدهم اللّه ، وإنما مدوا يوم بدر بألف من الملائكة . وقال ابن زيد : لم يصبروا . وقال عكرمة : لم يصبروا ، ولم يتقوا يوم أحد ، فلم يمدوا . ولو مدوا لم ينهزموا . وكان الوعد بالإمداد يوم بدر ، ورجح أنه قال ذلك يوم بدر ، فظاهر اتصال الكلام . ولأن قلة العدد ، والعدد كان يوم بدر ، فكانوا إلى تقوية قلوبهم بالوعد أحوج . ولأنّ الوعد بثلاثة آلاف كان ، غير مشروط ، فوجب حصوله . وإنما حصل يوم بدر والجمع بين ألف وثلاثة آلاف كان غير مشروط ، فوجب حصوله ، وإنما حصل يوم بدر أنهم مدوا أولاً بألف ، ثم زيد فيهم ألفان ، وصارت ثلاثة آلاف . أو مدوا بألف أولاً ، ثم بلغهم إمداد المشركين بعدد كثير ، فوعد بالخمسة على تقدير إمداد الكفار . فلم يمد الكفار ، فاستغنى عن إمداد المسلمين . والظاهر في هذه الأعداد إدخال الناقص في الرائد ، فيكون وعدوا بألف ، ثم ضم إليه ألفان ، ثم ألفان ، فصار خمسة . ومن ضم الناقص إلى الزائد وجعل ذلك في قصة أحد ، فيكونون قد وعدوا بثمانية آلاف . أو في قصة بدر فيكونون قد وعدوا بتسعة آلاف . ولم تتعرض الآية الكريمة لنزول الملائكة ، ولا لقتالهم المشركين وقتلهم ، بل هو أمر مسكوت عنه في الآية . وقد تظاهرت الروايات وتظافرت على أن الملائكة حضرت بدراً وقاتلت . ذكر ذلك ابن عطية عن جماعة من الصحابة بما يوقف عليه في كتابه . ولما لم تتعرض له الآية لم نكثر كتابنا بنقله . وذكر ابن عطية أن الشعبي قال : لم تمد المؤمنون بالملائكة يوم بدر ، وكانت الملائكة بعد ذلك تحضر حروب النبي صلى اللّه عليه وسلم مدداً ، وهي تحضر حروب المسلمين إلى يوم القيامة . قال : وخالف الناس الشعبي في هذه المقالة ، وذكر أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي ما نصه وأجمع أهل التفسير والسير : على أن اللّه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار . ثم قال : وأما أبو بكر الأصم فإنه أنكر ذلك أشد الإنكار ، وذكر عنه حججاً ثم قال : وكل هذه الشبه تليق بمن ينكر القرآن والنبوّة ، لأن القرآن والسنة ناطقان بذلك ، يعني بإنزال الملائكة . ثم قال : واختلفوا في نصرة الملائكة . فقيل : بالقتال . وقيل : بتقوية نفوس المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب الكفار . والظاهر في المدد أنهم يشركون الجيش في القتال ، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً انتهى كلامه . ودخلت أداة الاستفهام على حرف النفي على سبيل الإنكار ، لانتفاء الكفاية بهذا العدد من الملائكة . وكان حرف النفي { لن} الذي هو أبلغ في الاستقبال من لا ، إشعاراً بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم وشوكتهم كالآيسين من النصرة . وبلى : إيجاب لما بعد لن ، يعني : بلى يكفيكم الإمداد بهم ، فأوجب الكفاية . وفي مصحف أبيّ : ألا يكفيكم انتهى . ومعظمه من كلام الزمخشري . و قال ابن عطية : ألن يكفيَكُم تقرير على اعتقادهم الكفاية في هذا العدد من الملائكة ؟ ومن حيث كان الأمر بيتاً في نفسه أن الملائكة كافية ، بادر المتكلم إلى جواب ليبني ما يستأنف من قوله عليه فقال : بلى ، وهي جواب المقررين . وهذا يحسن في الأمور البينة التي لا محيد في جوابها ، ونحوه قوله تعالى : { قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّه } انتهى . وقال أبو عبد اللّه محمد بن أبي الفضل المرسي : ألن يكفيكم جواب الصحابة حين قالوا : هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب . فقال لهم النبي صلى اللّه عليه وسلم : { ألن يكفيكم} . قال ابن عيسى : والكفاية مقدار سد الخلة ، والإمداد إعطاء الشيء حالاً بعد حال انتهى . وقرأ الحسن : بثلاثة آلاف يقف على الهاء ، وكذلك بخمسة آلاف . قال ابن عطية : ووجه هذه القراءة ضعيف ، لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان الاتصال ، إذ هما كالاسم الواحد ، وإنما الثاني كمال الأول . والهاء إنما هي أمارة وقف ، فتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال ، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع . فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون : أكلت لحما شاة ، يريدون لحم شاة ، فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف ، كما قالوا في الوقف قالا : يريدون . قال : ثم مطلوا الفتحة في القوافي ونحوها في مواضع الروية والتثبت . ومن ذلك في الشعر قول الشاعر : ينباع من زفرى غضوب جسرة زيانة مثل الغنيق المكرم يريد ينبع فمطل . ومنه قول الآخر : أقول إذ خرَّت على الكلكال يا ناقتا ما جلت من مجال يريد الكلكال فمطل . ومنه قول الآخر : فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح يريد بمنتزح . قال أبو الفتح : فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة ، جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه ، إذ هما في الحقيقة إثنان انتهى كلامه . وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب ، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوصل مجرى الوقف ، أبدلها هاء في الوصل ، كما أبدلوا لها هاء في الوقف ، وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف ، وإجراء الوقف مجرى الوصل . وأما قوله : لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع ، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة . وأشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاءً في الوصل ، وإنما هو نظير قولهم : ثلاثة أربعة ، أبدل التاء هاء ، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها ، وحذف الهمزة ، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال . ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل إلا في الوصل . وقرىء شاذاً بثلاثة آلاف بتكسين التاء في الوصل ، أجراه مجرى الوقف . واختلفوا في هذه التاء الساكنة أهي بدل من الهاء التي يوقف عليها أم تاء التأنيث هي ؟ وهي التي يوقف عليها بالتاء كما هي ؟ وهي لغة . وقرأ الجمهور منزلين بالتخفيف مبنياً للمفعول ، وابن عامر بالتشديد مبنياً للمفعول أيضاً ، والهمزة والتضعيف للتعدية فهما سيان . وقرأ ابن أبي عبلة : منزلين بتشديد الزاي وكسرها مبنياً للفاعل . وبعض القراء بتخفيفها وكسرها مبنياً للفاعل أيضاً ، والمعنى : ينزلون النصر . ١٢٥بلى إن تصبروا . . . . . {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ الْمَلَئِكَةِ مُسَوّمِينَ } رتب تعالى على مجموع الصبر والتقوى وإتيان العدد من فورهم إمداده تعالى المؤمنين بأكثر من العدد السابق وعلّقه على وجودها ، بحيث لا يتأخر نزول الملائكة عن تحليهم بثلاثة الأوصاف . ومعنى من فورهم : من سفرهم . هذا قاله ابن عباس . أو من وجههم هذا قاله : الحسن ، وقتادة ، والسدي . قيل : وهي لغة هذيل ، وقيس ، وغيلان ، وكنانة : أو من غصبهم هذا قاله : مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح مولى أم هانىء أو معناه في نهضتهم هذه قاله : ابن عطية . أو المعنى من ساعتهم هذه قاله الزمخشري . ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة . تقول : افعل هذا على الفور ، لا على التراخي . ومنه الفور في الحج والوضوء . وفي إسناد الإمداد إلى لفظة ربكم دون غيره من أسماء اللّه إشعارٌ بحسن النظر لهم ، واللطف بهم . وقرأ الصاحبان والأخوان مسوّمين بفتح الواو ، وأبو عمرو وابن كثير وعاصم : بكسرها . وقيل : من السوم ، وهي العلامة يكون على الشاة وغيرها ، يجعل عليها لون يخالف لونها لتعرف . وقيل : من السوم وهو ترك البهيمة ترعى . فعلى الأول روي أن الملائكة كانت بعمائم بيض ، إلا جبريل فبعمامة صفراء كالزبير قاله : ابن إسحاق ، والزجاج . وقيل : بعمائم صفر كالزبير قاله : عروة وعبد اللّه ابنا الزبير ، وعباد بن حمزة بن عبد اللّه بن الزبير ، والكلبي وزاد : مرخاة على أكتافهم . قيل : وكانوا على خيل بلق ، وكانت سيماهم قاله : قتادة ، والربيع . أو خيلهم مجزوزة النواصي والأذناب ، معلمتها بالصوف والعهن . قاله : مجاهد . فبفتح الواو ومعلمين ، وبكسرها معلمين أنفسهم أو خيلهم . ورجح الطبري قراءة الكسر ، بأنه عليه الصلاة والسلام قاله يوم بدر :{ سوّموا فإن الملائكة قد سوّمته } وعلى القول الثاني : وهو السوم . فمعنى مسوِّمين بكسر الواو : وسوّموا خيلهم أي أعطوها من الجري والجولان للقتال ، ومنه سائمة الماشية . وأما بفتح الواو فيصح فيه هذا المعنى أيضاً ، قاله : المهدوي وابن فورك . أي سوّمهم اللّه تعالى ، بمعنى أنه جعلهم يجولون ويجرون للقتال . وقال أبو زيد : سوّم الرجل خيله أي أرسلها في الغارة . وحكى بعض البصريين : سوّم الرجل غلامه أرسله وخلى سبيله . ولهذا قال الأخفش : معنى مسوّمين مرسلين . وفي الآية دليل على جواز اتخاذ العلامة للقبائل والكتائب لتتميز كل قبيلة وكتيبة عند الحرب . ١٢٦وما جعله اللّه . . . . . {وَمَا جَعَلَهُ اللّه إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } الظاهر أن الهاء في جعله عائدة على المصدر والمفهوم من يمددكم وهو الإمداد . وجوّز أن يعود على التسويم ، أو على النصر ، أو على التنزيل ، أو على العدد ، أو على الوعد . وإلاّ بشرى مستثنى من المفعول له ، أي : ما جعله اللّه لشيء إلا بشرى لكم . فهو استثناء فرغ له العامل ، وبشرى مفعول من أجله . وشروط نصبه موجودة وهو : أنه مصدر متحد الفاعل والزمان . ولتطمئن معطوف على موضع بشرى ، إذ أصله لبشرى . ولما اختلف الفاعل في ولتطمئن ، أتى باللام إذ فات شرط اتحاد الفاعل ، لأن فاعل بشرى هو اللّه ، وفاعل تطمئن هو قلوبكم . وتطمئن منصوب بإضمار أن بعد لام كي ، فهو من عطف الإسم على توهم . موضع اسم آخر ، وجعل على هذا التقدير متعدية إلى واحد . وقال الحوفي : إلا بشرى في موضع نصب على البدل من الهاء ، وهي عائدة على الوعد بالمدد . وقيل : بشرى مفعول ثان لجعله اللّه . فعلي هذين القولين تتعلق اللام في لتطمئن بمحذوف ، إذ ليس قبله عطف يعطف عليها . قالوا : تقديره ولتطمئن قلوبكم به بشركم . وبشرى : فعلى مصدر كرجعى ، وهو مصدر من بشر الثلاثي المجرد ، والهاء في به تعود على ما عادت عليه في جعله على الخلاف المتقدم . و قال ابن عطية : اللام في ولتطمئن متعلقة بفعل مضمر يدل عليه جعله . ومعنى الآية : وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به ، وتطمئن به قلوبكم انتهى . وكأنه رأى أنه لا يمكن عنده أن يعطف ولتطمئن على بشرى على الموضع ، لأن من شرط العطف على الموضع عند أصحابنا أن يكون ثم محزر للموضع ، ولا محرز هنا ، لأن عامل الجر مفقود . ومن لم يشترط المحرز فيجوز ذلك على مذهبه ، وإن لا فيكون من باب العطف على التوهم كما ذكرناه أولاً . وقال أبو عبد اللّه محمد بن عمر الرازي : قال بعضهم : الواو زائدة في ولتطمئن . وقال أيضاً في ذكر الإمداد : مطلوبان ، أحدهما : إدخال السرور في قلوبهم ، وهو المراد بقوله : ألا بشرى . والثاني : حصول الطمأنينة بالنصر ، فلا تجبنوا ، وهذا هو المقصود الأصلي . ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين ، فعطف الفعل على الإسم . ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة أدخل حرف التعليل انتهى . وفيه بعض ترتيب وتناقش في قوله : فعطف الفعل على الاسم ، إذ ليس من عطف الفعل على الاسم . وفي قوله : أدخل حرف التعليل ، وليس ذلك لما ذكر . {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّه الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } حصر كينونة النصر في جهته ، لا أنَّ ذلك يكون من تكثير المقاتلة ، ولا من إمداد الملائكة . وذكر الإمداد بالملائكة تقوية لرجاء النصر لهم ، وتثبيتاً لقلوبهم . وذكر وصف العزة وهو الوصف الدال على الغلبة ، ووصف الحكمة وهو الوصف الدال على وضع الأشياء مواضعها من : نصرٍ وخذلان وغير ذلك . ١٢٧ليقطع طرفا من . . . . . {لِيَقْطَعَ طَرَفاً مّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَائِبِينَ } الطرف : من قتل ببدر هم سبعون من رؤساء قريش ، أو من قتل بأحد وهم إثنان وعشرون رجلاً على الصحيح . وقال السدي : ثمانية عشر ، أو مجموع المقتولين في الوقعتين ثلاثة أقوال . وكنى عن الجماعة بقوله : طرفاً ، لأن من قتله المسلمون في حرب هم طرف من الكفار ، إذ هم الذين يلون القاتلين ، فهم حاشية منهم . فكان جميع الكفار رفقة ، وهؤلاء المقتولون طرفاً منها . قيل : ويحتمل أن يراد بقوله : طرفاً دابراً أي آخراً ، وهو راجع لمعنى الطرف ، لأن آخر الشيء طرف منه {أَوْ يَكْبِتَهُمْ } : أي ليخزيهم ويغيظهم ، فيرجعوا غير ظافرين بشيء مما أملوه . ومتى وقع النصر على الكفار ، فإما بقتل ، وإما بخيبة ، وإما بهما . وهو كقوله :{ وَرَدَّ اللّه الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} وقرأ الجمهور أو تكبتهم بالتاء . وقرأ لاحق بن حميد : أو يكبدهم بالدال مكان التاء ، والمعنى : يصيب الحزن كبدهم . وللمفسرين في يكبتهم أقوال : يهزمهم قاله : ابن عباس والزجاج ، أو يخزيهم قاله : قتادة ومقاتل ، أو يصرعهم قاله . أبو عبيدة واليزيدي ، أو يهلكهم قاله : أبو عبيدة . أو يلعنهم قاله : السدي . أو يظفر عليهم قاله : المبرد . أو يغيظهم قاله : النضر بن شميل ، واختاره ابن قتيبة . وأما قراءة لاحق فهي من إبدال الدال بالتاء كما قالوا . هوت الثوب وهرده إذا حرفه ، وسبت رأسه وسبده إذا حلقه ، فكذلك كبت العدو وكبده أي أصاب كبده . واللام في ليقطع يتعلق قيل : بمحذوف تقيديره أمدكم أو نصركم . وقال الحوفي : يتعلق بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّه } أي نصركم ليقطع . قال : ويجوز أن يتعلق بقوله :{ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّه} ويجوز أن تكون متعلقة بيمددكم . و قال ابن عطية : وقد يحتمل أن تكون اللام متعلقة بجعله ، وقيل : هو معطوف على قوله . ولتطمئن ، وحذف حرف العطف منه ، التقدير :{ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } ، وتكون الجملة من قوله : وما النصر إلا من عند اللّه اعتراضية بين المعطوف عليه والمعطوف . والذي يظهر أنْ تتعلق بأقرب مذكور وهو : العامل في من عند اللّه وهو خبر المبتدأ . كأنّ التقدير : وما النصر إلا كائن من عند اللّه ، لا من عند غيره . لأحد أمرين : إما قطع طرف من الكفار بقتل وأسر ، وإما بخزي وانقلاب بخيبة . وتكون الألف واللام في النصر ليست للعهد في نصر مخصوص ، بل هي للعموم ، أي : لا يكون نصر أي نصر من اللّه للمسلمين على الكفار إلا لأحد أمرين . ١٢٨ليس لك من . . . . . {خَائِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَىْء } اختلف في سبب النزول وملخصه : أنه لعن ناساً أو شخصاً عين أنه عتبة بن أبي وقاص ، أو أشخاصاً دعا عليهم وعينوا : أبا سفيان ، والحارث بن هشام ، وصفوان بن أمية . أو قبائل عين منها : لحيان ، ورعل ، وذكوان ، وعصية . أو هم بسبب الذين انهزموا يوم أحد ، أو استأذن ربه أن يدعو . ودعا يوم أحد حين شجَّ في وجهه ، وكسرت رباعيته ، ورمي بالحجارة ، حتى صرع لجنبه ، فلحقه ناس من فلاحهم ، ومال إلى أن يستأصلهم اللّه ويريح منهم ، فنزلت . فعلى هذه الأسباب يكون معنى الآية : التوقيف على أن جميع الأمور إنما هي للّه ، فيدخل فيها هداية هؤلاء وإقرارهم على حالة . وفي خطابه : دليل على صدور أمر منه أو هم به ، أو استئذان في الدعاء كما تقدّم ذكره ، وأن عواقب الأمور بيد اللّه . قال الكوفيون : نسخت هذه الآية القنوت على رعل وذكوان وعصية وغيرهم من المشركين . وقال السخاوي : ليس هذا شرط الناسخ ، لأنه لم ينسخ قرآناً . {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } قيل : هو عطف على ما قبله من الأفعال المنصوبة . ويكون قوله : ليس لك من الأمر شيء جملة اعتراضية ، والمعنى : أن اللّه مالك أمرهم ، فإما أنْ يهلكهم ، أو يهزمهم ، أو يتوب عليهم إن أسلموا ، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر . وقيل : أن مضمرة بعد أو ، بمعنى : إلا أن ، وهي التي في قولهم : لألزمنك أو تقضيني حقي ، والمعنى : أنه ليس له من أمرهم شيء إلا أن يتوب اللّه عليهم بالإسلام فيسر بهداهم ، أو يعذبهم بقتل وأسر في الدنيا ، أو بنار في الآخرة ، فيستشفى بذلك ويستريح . وعلى هذا التأويل تكون الجملة المنفية للتأسيس ، لا للتأكيد . وقيل :أو يتوب معطوف على الأمر . وقيل : على شيء . أي : ليس لك من الأمر ، أو من توبتهم ، أو تعذيبهم شيء . أو ليس لك من الأمر شيء ، أو تعذيبهم . والظاهر من هذه التخاريج الأربعة هو الأول . وأبعد من ذهب إلى أن قوله : ليس لك من الأمر ، أي أمر الطائفتين اللتين همتا أن تفشلا . وقال ابن بحر : من الأمر أي ، من هذا النصر ، وإنما هو من اللّه كما قال :{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } وقيل : المراد بالأمر أمر القتال . والظاهر الحمل على العموم ، والأمور كلها للّه تعالى . وقرأ أبي : أو يتوب عليهم أو يعذبهم برفعهما على معنى : أو هو يتوب عليهم ، ثم نبه على العلة المقتضية للتعذيب بقوله : فإنهم ظالمون ، وأتى بأنْ الدالة على التأكيد في نسبة الظلم إليهم . ١٢٩وللّه ما في . . . . . {وَللّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ} لمّا قدم ليس لك من الأمر شيء ، بيَّن أن الأمور إنما هي لمن له الملك ، والملك فجاء بهذه الجملة مؤكدة للجملة السابقة . وتقدم شرح هذه الجملة . وما : إشارة إلى جملة العالم وما هيأته ، فلذلك حسنت ما هنا . {يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء } لما تقدّم قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، أتى بهذه الجملة موضحةً أن تصرفاته تعالى على وفق مشيئته ، وناسب البداءة بالغفران ، والإرداف بالعذاب ما تقدم من قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم ، ولم يشرط في الغفران هنا التوبة . إذ يغفر تعالى لمن يشاء من تائب وغير تائب ، ما عدا ما استثناه تعالى من الشرك . وقال الزمخشري ما نصه عن الحسن رحمه اللّه : يغفر لمن يشاء بالتوبة ، ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين . ويعذب من يشاء ، ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب . وعن عطاء : يغفر لمن يتوب إليه ، ويعذب من لقيه ظالماً وأتباعه قوله : أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، تفسير بين لمن يشاء ، فإنهم المتوب عليهم أو الظالمون . ولكن أهل الأهواء والبدع يتصامون ويتعامون عن آيات اللّه تعالى ، فيخبطون خبط عشواء ، ويطيبون أنفسهم بما يفترون . عن ابن عباس من قولهم : يهب الذنب الكبير لمن يشاء ، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير . انتهى كلامه . وهو مذهب المعتزلة . وذلك أن من مات مصراً على كبيرة لا يغفر اللّه له . وما ذكره عن الحسن لا يصح ألبتّة . ومذهب أهل السنة ؛ أنّ اللّه تعالى يغفر لمن يشاء وإنّ مات مصرًّا على كبيرة غير تائب منها . {وَاللّه غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في هذه الجملة ترجيح لجهة الإحسان والإنعام { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} ١٣٠يا أيها الذين . . . . . قال ابن عطية : هذا النهي عن أكل الربا اعترض أثناء قصة أحد ، ولا أحفظ شيئاً في ذلك مروياً انتهى . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة : أنّه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم ، واستطرد لذكر قصة أحد . وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين ، وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار ، نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا قطعاً لمخالطة الكفار ومودّتهم ، واتخاذ إخلاء منهم ، لا سيما والمؤمنون في أول حال الإسلام ذوو إعسار ، والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار . وكان أيضاً أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية ، كما جاء في الحديث : { إن اللّه تعالى لا يستجيب لمن مطعمه حرام ومشربه حرام إذا دعا وأن آكل الحرام يقول إذا حج : لبيك وسعديك . فيقول اللّه له : لا لبيك ولا سعديك ، وحجك مردود عليك} فناسب ذكر هذه الآية هنا . وقيل : ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والإمداد مقروناً بالصبر والتقوى ، فبدأ بالأهم منها وهو : ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل ، وأمر بالتقوى ، ثم بالطاعة . وقيل : لما قال تعالى : { وَللّه مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ } وبيّن أنّ ما فيهما من الموجودات ملك له ، ولا يجوز أنْ يتصرّف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه . وآكلُ الربا متصرّف في ماله بغير الوجه الذي أمر ، نبَّه تعالى على ذلك ، ونهى عما كانوا في الإسلام مستمرّين عليه من حكم الجاهلية ، وقد تقدم الربا في سورة البقرة . وانتصب أضعافاً ، فانهوا عن الحالة الشنعاء التي يوقعون الربا عليها ، كان الطالب يقول : أتقضي أم تربي ، وربما استغرق بالنزر اليسير مال المدين ، لأنه إذا لم يجد وفاء زاد في الدين ، وزاد في الأصل . وأشار بقوله : مضاعفة ، إلى أنهم كانوا يكررون التضعيف عاماً بعد عام . والربا محرم جميع أنواعه ، فهذه الحال لا مفهوم لها ، وليست قيداً في النهي ، إذ ما لا يقع أضعافاً مضاعفة مساوٍ في التحريم لما كان أضعافاً مضاعفة . وقد تقدم الكلام في نسبة الآكل إلى الربا في البقرة . وقيل : المضاعفة منصرفة إلى الأموال . فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون ، ثم حقة ، ثم جذعة ، ثم رباع ، هكذا إلى فوق . وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين ، فإن لم يوفهما فأربعمائة . والأضعاف : جمع ضعف ، وهو من جموع القلة . فلذلك أردفه بالمضاعفة . { وَاتَّقُواْ اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لما نهاهم عن أمر صعب عليهم فراقه وهو الربا ، أمر بتقوى اللّه إذ هي الحاملة على مخالفة ما تعوده المرء مما نهي الشرع عنه . ثم ذكر أنّ التقوى سبب لرجاء الفلاح وهو الفوز ، وأمر بها مطلقاً لا مقيداً بفعل الربا ، لأنه لما نهى عن الربا كان المؤمنون أسرع شيء لطواعية اللّه تعالى ، فلم يأت واتقوا اللّه في أكل الربا بل أمروا بالتقوى ، لا بالنسبة إلى شيء خاص منعوه من جهة الشريعة .{ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ١٣١واتقوا النار التي . . . . . لما تقدم { واتقوا اللّه} والذوات لا تتقى ، فإنما المتقي محذوف أوضحه في هذه الآية . فقال : واتقوا النار . والألف واللام في النار للجنس ، فيجوز أن تكون النار التي وعد بها آكل الربا أخف من نار الكافر ، أي أعدّ جنسها للكافرين . ويجوز أنّ تكون للعهد ، فيكون آكل الربا قد توعد بالنار التي يعذب بها الكافر . وقيل : توعد أكلة الربا بنارالكفرة ، إذ النار سبع طبقات : العليا منها وهي جهنم للعصاة ، والخمس للكفار ، والدرك الأسفل للمنافقين . فأكلة الربا يعذبون بنار الكفار ، لا بنار العصاة . وقال ابن عباس : هذا تهديد للمؤمنين لئلا يستحلوا الربا . وقال الزجاج : والمعنى واتقوا أن تحلوا ما حرم اللّه فتكفروا . وقيل : اتقوا العمل الذي ينزع منكم الإيمان وتستوجبون به النار . وكان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية في القرآن ، حيث أوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه باجتناب محارمه . قال الزمخشري : وقد أمد ذلك أتبعه بما من تعليق رجاء المؤمن لرحمته بتوفرهم على طاعته وطاعة رسوله ، ومن تأمل هذه الآيات وأمثالها لم يحدث نفسه بالأطماع الفارغة ، والتمني على اللّه تعالى . وفي ذكره تعالى لعل وعسى في نحو هذه المواضع ، وإن قال الناس ما قالوا ما لا يخفى على العارف الفطن من دقة مسلك التقوى ، وصعوبة إصابة رضا اللّه عز وجل ، وعزّة التوصل إلى رحمته وثوابه انتهى . كلامه وهو جار على مذهبه من تقنيط العاصي غير التائب من رحمة ربه ، وولوعه بمذهبه يجعله يحمل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، أو ما هو بعيد عنها . وتقدم شرح أعدت للكافرين في أوائل البقرة . ١٣٢وأطيعوا اللّه والرسول . . . . . {وَأَطِيعُواْ اللّه وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } قيل : أطيعوا اللّه في الفرائض ، والرسول في السنن . وقيل : في تحريم الربا ، والرسول فيما بلغكم من التحريم . وقيل : وأطيعوا اللّه والرسول فيما يأمركم به وينهاكم عنه . فإن طاعة الرسول طاعة اللّه قال تعالى :{ مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه } وقال المهدوي : ذكر الرسول زيادة في التبيين والتأكيد والتعريف بأن طاعته طاعة اللّه . وقال ابن إسحاق : هذه الآية هي ابتداء المعاتبة في أمر أحد ، وانهزام من فرَّ ، وزوال الرماة من مركزهم . وقيل : صيغتها الأمر ومعناها العتب على المؤمنين فيما جرى منهم من أكل الربا ، والمخالفة يوم أحد . والرحمة من اللّه إرادة الخير لعبيده ، أو ثوابهم على أعمالهم . وقد تضمنت هذه الآيات ضروباً من الفصاحة والبديع . من ذلك العام المراد به الخاص : في من أهلك ، قال الجمهور : أراد به بيت عائشة . فالاختصاص في : واللّه سميع عليم ، وفي : فليتوكل المؤمنون ، وفي : ما في السموات وما في الأرض ، وفي : يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء خص نفسه بذلك كقوله : { وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّه } { نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم } وفي وفي { العَزِيزُ الحَكِيمُ } لأن العز من ثمرات النصر ، والتدبير الحسن من ثمرات الحكمة . والتشبيه : في ليقطع طرفاً ، شبه من قتل منهم وتفرّق بالشيء المقتطع الذي تفرقت أجزاؤه وانخرم نظامه ، وفي : ولتطمئن قلوبكم شبه زوال الخوف عن القلب وسكونه عن غليانه باطمئنان الرّجل الساكن الحركة . وفي : فينقلبوا خائبين شبه رجوعهم بلا ظفر ولا غنيمة بمن أمل خيراً من رجل فأمّه ، فأخفق أمله وقصده . والطباق : في نصركم وأنتم أذلة ، النصر إعزاز وهو ضد الذل . وفي : يغفر ويعذب ، الغفران ترك المؤاخذة والتعذيب المؤاخذة بالذنب . والتجوز بإطلاق التثنية على الجمع في : أن يفشلا . وبإقامة اللام مقام إلى في : ليس لك أي إليك ، أو مقام على : أي ليس عليك . والحذف والاعتراض في مواضع اقتضت ذلك والتجنيس المماثل في : أضعافاً مضاعفة . وتسمية الشيء بما يؤول إليه في : لا تأكلوا سمَّى الأخذ أكلاً ، لأنه يؤول إليه . ١٣٣وسارعوا إلى مغفرة . . . . . الكظم : الإمساك على غيظ وغم . والكظيم : الممتلىء أسفار ، وهو المكظوم . وقال عبد المطلب : فخضضت قومي واحتسبت قتالهم والقوم من خوف المنايا كظم وكظم الغيظ رده في الجوف إذا كان يخرج من كثرته ، فضبطه ومنعه كظم له . ويقال : كظم القربة إذا شدّها وهي ملأى . والكظام : السير الذي يشد به فمها . وكظم البعير : جرته ردها في جوفه ، أو حبسها قبل أن يرسلها إلى فيه ويقال : كظم البعير والناقة إذا لم يجترا ، ومنه قول الراعي : فأفضن بعد كظومهن بجرة من ذي الأباطح أذرعين حقيلا الحقيل : موضع ، والحقيل أيضاً نبت . ويقال : لا تمنع الإبل جرتها إلا عند الجهد والفزع ، فلا تجتر . ومنه قول أعشى باهلة يصف نحار الإبل : قد تكظم البزل منه حين تبصره حتى تقطع في أجوافها الجرر الإصرار : اعتزام الدوام على الأمر . وترك الإقلاع عنه ، من صرّ الدنانير ربط عليها . وقال أبو السمال : علم اللّه أنها مني صرى أي عزيمة . وقال الحطيئة يصف الخيل : عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا علاليها بالمحضرات أصرت أي ثبتت على عدوها . وقال آخر : يصر بالليل ما تخفى شواكله يا ويح كل مصر القلب ختار السنة : الطريقة . وقال المفضل : الأمة وأنشد : ما عاين الناس من فضل كفضلكم ولا رؤى مثله في سالف السنن وسنة الإنسان الشيء الذي يعمله ويواليه ، كقول خالد الهذلي لأبي ذؤيب : فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها وقال سليمان بن قتيبة : وإن الألى بألطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا وقال لبيد : من أمة سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها وقال الخليل : سن الشيء صورة . والمسنون المصور ، وسن عليهم شراً صبه ، والماء والدرع صبهما . واشتقاق السنة يجوز أن يكون من أحد هذين المعنيين ، أو من سن السنان والنصل حدهما على المسن ، أو من سن الإبل إذا أحسن رعيها . السير في الأرض : الذهاب . وهن الشيء ضعف ، ووهنه الشيء أضعفه . يكون متعدياً ولازماً . وفي الحديث : { وهنتهم حمى يثرب } والوهن الضعف . وقال زهير : فأصبح الحبل منها واهناً خلقاً القرح والقرح لغتان ، كالضعف والضعف ، والكره والكره : الفتحُ لغة الحجاز : وهو الجرح . قال حندج : وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة لعل منايانا تحولن أبؤسا وقال الأخفش : هما مصدران . ومن قال : القَرح بالفتح الجرح ، وبالضم المد ، فيحتاج في ذلك إلى صحة نقل عن العرب . وأصل الكلمة الخلوص ، ومنه : ماء قراح لا كدورة فيه ، وأرض قراح خالصة الطين ، وقريحة الرجل خالصة طبعه . المداولة : المعاودة ، وهي المعاهدة مرة بعد مرة . يقال : داولت بينهم الشيء فتداولوه . قال : يرد المياه فلا يزال مداويا في الناس بين تميل وسماع وأدلته جعلت له دولة وتصريفاً ، والدولة بالضم المصدر ، وبالفتح الفعلة الواحدة ، فلذلك يقال : في دولة فلان ، لأنها مرة في الدهر . والدور والدول متقاربان ، لكن الدور أعم . فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيوي . المحص كالفحص ، لكن الفحص يقال في إبراز الشيء عن خلال أشياء منفصلة عنه . والمحص عن إبرازه عن أشياء متصلة به . قال الخليل : التمحيص التخليص عن العيوب ، ويقال : محص الحبل إذا زال عنه بكثرة مره على اليد زبيره وأملس ، هكذا ساق الزجاج اللفظة الحبل . ورواها النقاش : محص الجمل إذا زال عنه وبره وأملس . وقال حنيف الحناتم : وقد ورد ماء اسمه طويلع ، إنك لمحص الرشاء ، بعيد المستقى ، مطل على الأعداء . المعنى : أنه لبعده يملس حبله بمر الأيدي . { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } قرأ ابن عامر ونافع : سارعوا بغير واو على الاستئناف ، والباقون بالواو على العطف . لما أمروا بتقوى النار أمروا بالمبادرة إلى أسباب المغفرة والجنة . وأمال الدوري في قراءة الكسائي : وسارعوا لكسرة الراء . وقرأ أبي وعبد اللّه : وسابقوا والمسارعة : مفاعلة . إذ الناس كل واحد منهم ليصل قبل غيره فبينهم في ذلك مفاعلة . ألا ترى إلى قوله :{ فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } والمسارعة إلى سبب المغفرة وهو الإخلاص ، قاله عثمان . أو أداء الفرائض قاله علي . أو الإسلام قاله : ابن عباس . أو التكبيرة الأولى من الصلاة مع الإمام قاله : أنس ومكحول . أو الطاعة قاله : سعيد بن جبير . أو التوبة قاله : عكرمة . أو الهجرة قاله : أبو العالية . أو الجهاد قاله : الضحاك . أو الصلوات الخمس قاله : يمان . أو الأعمال الصالحة قاله : مقاتل . وينبغي أن تحمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التعيين والحصر . قال الزمخشري : ومعنى المسارعة إلى المغفرة والجنة الإقبال على ما يستحقان به انتهى . وفي ذكر الاستحقاق دسيسة الاعتزال ، وتقدم ذكر المغفرة على الجنة لأنها السبب الموصل إلى الجنة ، وحذف المضاف من السموات أي : عرض السموات بعد حذف أداة التشبيه أي : كعرض . وبعد هذا التقدير اختلفوا ، هل هو تشبيه حقيقي ؟ أو ذهب به مذهب السعة العظيمة ؟ لما كانت الجنة من الاتساع والانفساح في الغاية القصوى ، إذ السموات والأرض أوسع ما علمه الناس من مخلوقاته وأبسطه ، وخص العرض لأنه في العادة أدنى من الطول للمبالغة ، فعلى هذا لا يراد عرض ولا طول حقيقة قاله : الزجاج . وتقول العرب : بلاد عريضة ، أي واسعة . وقال الشاعر : كأن بلاد اللّه وهي عريضة على الخائف المطلوب كفة حابل والقول الأول عن ابن عباس وغيره . قال ابن عباس وسعيد بن جبير : والجمهور تقرن السموات والأرض بعضها إلى بعض كما تبسط الثياب ، فذلك عرض الجنة ، ولا يعلم طولها إلا اللّه انتهى ولا ينكر هذا . فقد ورد في الحديث في وصف الجنة وسعتها ما يشهد لذلك . وأورد ابن عطية من ذلك أشياء في كتابه . والجنة على هذا القول أكبر من السموات ، وهي ممتدّة في الطول حيث شاء اللّه . وخص العرض بالذكر لدلالته على الطول ، والطول إذا ذكر لا يدل على سعة العرض ، إذ قد يكون العرض يسيراً كعرض الخيط . وقال قوم : معناه كعرض السموات والأرض طباقاً ، لا بأنْ تقرن كبسط الثياب . فالجنة في السماء وعرضها كعرضها ، وعرض ما وازاها من الأرضين إلى السابعة ، وهذه دلالة على العظيم . وأغنى ذكر العرض عن ذكر الطول . وقال ابن فورك : الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة ، وتقدم الكلام في الجنة أخلقت ؟ وهو ظاهر القرآن . ونص الآثار الصحيحة النبوية أم لم تخلق ؟ بعدُ وهو قول : المعتزلة ، ووافقهم من أهل بلادنا القاضي منذر بن سعيد . وأما قول ابن فورك أنه يزاد فيها فيحتاج إلى صحة نقل عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقال الكلبي : الجنان أربع : جنة عدن ، وجنة المأوى ، وجنة الفردوس ، وجنة النعيم . كل جنة منها كعرض السماء والأرض ، لو وصل بعضها ببعض ما علم طولها إلا اللّه . وقال ابن بحر : هو من عرض المتاع على البيع ، لا العرض المقابل للطول . أي لو عورضت بها لساوها نصيب كل واحد منكم ، وجاء إعدادها للمتقين فخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، وإعلاماً بأنهم الأصل في ذلك ، وغيرهم تبع لهم في إعدادها . وإن أريد بالمتقين متقو الشرك كان عاماً في كل مسلم طائع أو عاص . ١٣٤الذين ينفقون في . . . . . {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّاء وَالضَّرَّاء } قال ابن عباس والكلبي ومقاتل : السراء اليسر ، والضراء العسر . وقال عبيد بن عمير والضحاك : الرخاء والشدّة . وقيل : في الحياة ، وبعد الموت بأن يوصى . وقيل : في الفرح وفي الترح . وقيل : فيما يسرّ كالنفقة على الولد والقرابة ، وفيما يضر كالنفقة على الأعداء . وقيل : في ضيافة الغني والإهداء إليه ، وفيما ينفقه على أهل الضر ويتصدّق به عليهم . وقيل : في المنشط والمكره . ويحتمل التقييد بهاتين الحالتين ، ويحتمل أن يعني بهما جميع الأحوال ، لأن هاتين الحالتين لا يخلو المنفق أن يكون على إحداهما . والمعنى : لا يمنعهم حال سرور ولا حال ابتلاء عن بذل المعروف . وروي عن عائشة أنها تصدّقت بحبة عنب . وعن بعض السلف ببصلة . وابتدىء بصفة التقوى الشاملة لجميع الأوصاف الشريفة ، ثم جيء بعدها بصفة البذل ، إذ كانت أشق على النفس وأدل على الإخلاص . وأعظم الأعمال للحاجة إلى ذلك في الجهاد ، ومواساة الفقراء . ويجوز في الدين الاتباعُ والقطعُ للرفع والنصب . {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر ، ولا يظهر له أثر ، والغيظ : أصل الغضب ، وكثيراً ما يتلازمان ، ولذلك فسره بعضهم هنا بالغضب . والغيظ فعل نفساني لا يظهر على الجوارح ، والغضب فعل لها معه ظهور في الجوارح ، وفعل مّا ولا بد ، ولذلك أسند إلى اللّه تعالى إذ هو عبارة عن أفعاله في المغضوب عليهم ، ولا يسند الغيظ إليه تعالى . ووردت أحاديث في كظم الغيظ وهو من أعظم العبادة . وروي عنه صلى اللّه عليه وسلم : { من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأه اللّه أمناً وإيماناً } وعنه عليه السلام : { ما من جرعة يتجرعها العبد خير له وأعظم أجراً من جرعة غيظ في اللّه } وعن عائشة أن خادماً لها غاظها فقالت : للّه در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء وقال مقاتل : بلغنا أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في هذه الآية : { إن هذه في أمّتي لقليل وقد كانوا أكثر في الأمم الماضية} . وأنشد أبو القاسم بن حبيب : وإذا غضبت فكن وقوراً كاظما للغيظ تبصر ما تقول وتسمع فكفى به شرفاً تصبر ساعة يرضى بها عنك الإله ويدفع {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ } أي الجناة والمسيئين . وقال ابن عباس وأبو العالية والربيع : المماليك . وهذا مثال ، إذ الأرقاء تكثر ذنوبهم لجهلهم وملازمتهم ، وإنفاذ العقوبة عليهم سهل للقدرة عليهم . وقال الحسن : والكاظمين الغيظ عن الأرقاء ، والعافين عن الناس إذا جهلوا عليهم . ووردت أخبار نبوية في العفو منها : { ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على اللّه فليدخلوا الجنة ، فيقال : من ذا الذي أجره على اللّه فلا يقوم إلا من عفا} . ورواه أبو سفيان للرشيد وقد غضب على رجل فخلاه . ويجوز في الكاظمين والعافين القطع إلى النصب والاتباع ، بشرط اتباع الذين ينفقون { وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } الألف واللام للجنس ، فيتناول كل محسن . أو للعهد فيكون ذلك إشارة إلى من تقدّم ذكره من المتصفين بتلك الأوصاف . والأظهر الأول ، فيعم هؤلاء وغيرهم . وهذه الآية في المندوب إليه . ألا ترى إلى حديث جبريل عليه السلام : { ما الإيمان } فبين له العقائد { ما الإسلام} ؟ فبين له الفرائض . { ما الإحسان ؟} قال : { أن تعبد اللّه كأنك تراه } والمعنى : أن اللّه يحب المحسنين ، وهم الذين يوقعون الأعمال الصالحة ، مراقبين اللّه كأنهم مشاهدوه . وقال الحسن : الإحسان أن تعم ولا تخص ، كالريح والمطر والشمس والقمر . وقال الثوري : الإحسان أن تحسن إلى المسيء ، فإنَّ الإحسان إليه مناجزة كنقد السوق ، خذ مني وهات . ١٣٥والذين إذا فعلوا . . . . . {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّه فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ } نزلت في قول الجمهور بسبب منهال التمار ، ويكنى : أبا مقبل ، أتته امرأة تشتري منه تمراً فضمها وقبلها ثم ندم . وقيل : ضرب على عجزها . والعطف بالواو مشعر بالمغايرة . لمّا ذكر الصنف الأعلى وهم المتقون الموصوفون بتلك الأوصاف الجميلة ، ذكر مَنْ دونهم ممن قارف المعاصي وتاب وأقلع ، وليس من باب عطف الصفات واتحاد الموصوف . وقيل : أنه من عطف الصفات ، وأنه من نعت المتقين روى ذلك عن الحسن . قال ابن عباس : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة . وقال مقاتل : الفاحشة الزنا ، وظلم النفس سائر المعاصي . وقال النخعي : الفاحشة القبائح ، وظلم النفس من الفاحشة وهو لزيادة البيان . وقيل : جميع المعاصي وظلم النفس العمل بغير علم ولا حجة . وقال الباقر : الفاحشة النظر إلى الأفعال ، وظلم النفس رؤية النجاة بالأعمال . وقيل : الفاحشة الكبيرة ، وظلم النفس الصغيرة . وقيل : الفاحشة ما تظوهر به من المعاصي ، وقيل : ما أخفى منها . وقال مقاتل والكلبي : الفاحشة ما دون الزنا من قبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل ، وظلم النفس بالمعصية ، وقيل : الفاحشة الذنب الذي فيه تبعة للمخلوقين ، وظلم النفس ما بين العبد وبين ربه . وهذه تخصيصات تحتاج إلى دليل . وكثر استعمال الفاحشة في الزنا ، ولذلك قال جابر حين سمع الآية : زنوا ورب الكعبة . ومعنى ذكروا اللّه ذكروا وعيده قاله : ابن جرير وغيره . وقيل : العرض على اللّه قاله الضحاك . أو السؤال عنه يوم القيامة قاله : الكلبي ومقاتل والواقدي . وقيل : نهى اللّه . وقيل : غفرانه . وقيل : تعرضوا لذكره بالقلوب ليبعثهم على التوبة . وقيل : عظيم عفوه فطمعوا في مغفرته . وقيل : إحسانه فاستحيوا من إساءتهم . وهذه الأقوال كلها على أن الذكر هو بالقلب . وقيل : هو باللسان ، وهو الاستغفار . ذكروا اللّه بقلوبهم : اللّهم اغفر لنا ذنوبنا ، قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وعطاء في آخرين . وروي عن أبي هريرة { ما رأيت أكثر استغفاراً من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم} ولا بدّ مع ذكر اللسان من مواطأة القلب ، وإلاّ فلا اعتبار بهذا الاستغفار . ومن استغفر وهو مصرّفاً فاستغفاره يحتاج إلى استغفار . والاستغفار سؤال اللّه بعد التوبة الغفران . وقيل : ندموا وإن لم يسألوا . والظاهر الأول . ومفعول استغفروا اللّه محذوف لفهم المعنى ، أي فاستغفروه لذنوبهم . وتقدم الكلام على هذا الفعل وتعديته . {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّه} جملة اعتراض المتعاطفين ، أو بين ذي الحال والحال . وتقدم الكلام على نظير هذه الجملة إعراباً في قوله :{ وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترفيق للنفس ، وداعية إلى رجاء اللّه وسعة عفوه ، واختصاصه بغفران الذنب . قال الزمخشري : وصف ذاته بسعة الرحمة وقرب المغفرة ، وأنَّ التائب من الذنب عنده كمن لا ذنب له ، وأنّه لا مفزع للمذنبين إلا فضله وكرمه ، وأنّ عدله يوجب المغفرة للتائب ، لأنّ العبد إذا جاء في الاعتذار والتنصل بأقصى ما يقدر عليه وجب العفو والتجاوز . وفيه تطييب لنفوس العباد ، وتنشيط للتوبة وبعث عليها ، وردع عن اليأس والقنوط . وأنّ الذنوب وإنْ جلت فإنَّ عفوه أجل ، وكرمه أعظم . والمعنى : أنه وحده معه مصححات المغفرة انتهى . وهو كلام حسن ، غير أنه لم يخرج عن ألفاظ المعتزلة في قوله : وإنّ عدله يوجب المغفرة للتائب . وفي قوله : وجب العفو والتجاوز ، ولو لم نعلم أن مذهبه الاعتزال لتأولنا كلامه بأن هذا الوجوب هو بالوعد الصادق ، فهو من جهة السمع لا من جهة العقل فقط . {وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي ولم يقيموا على قبيح فعلهم . وهذه الجملة معطوفة على فاستغفروا ، فهي من بعض أجزاء الجزاء المترتب على الشرط . ويجوز أن تكون الواو للحال ويكون حالاً من الفاعل في فاستغفروا فهي من بعض أجزاء الجزاء ، أي : فاستغفروا لذنوبهم غير مصرّين . وما موصولة اسمية ، ويجوز أن تكون مصدرية . قال قتادة : الإصرار المضي في الذنب قدماً . وقال الحسن : هو إتيان الذنب حتى يتوب . وقال مجاهد : لم يصرّوا لم يمضوا . وقال السدي : هو ترك الاستغفار والسكوت عنه مع الذنب . والجملة من قوله : وهم يعلمون قال الزمخشري : حال من فعل الإصرار ، وحرف النفي منصب عليهما معاً ، والمعنى : وليسوا ممن يصرّ على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها ، لأنه قد يعذر من لم يعلم قبح القبيح . وفي هذه الآيات بيان قاطع أن الذين آمنوا على ثلاث طبقات : متقون ، وتائبون ، ومصرّون . وأن الجنة للمتقين والتائبين منهم دون المصرين ، ومن خالف في ذلك فقد كابر عقله وعاند ربه انتهى كلامه . وآخره على طريقته الاعتزالية من : أن من مات مصرًّا دخل النار ولا يخرج منها أبداً . وأجاز أبو البقاء أن يكون : وهم يعلمون حالاً من الضمير في فاستغفروا ، فإنْ أعربنا ولم يصرّوا جملة حالية من الضمير في فاستغفروا ، جاز أن يكون : وهم يعلمون حالاً منه أيضاً . وإن كان ولم يصروا معطوفاً على فاستغفروا كان ما قاله أبو البقاء بعيداً للفصل بين ذي الحال والحال بالجملة . وأما متعلق العلم فتقدم في كلام الزمخشري . وقال أبو البقاء : وهم يعلمون المؤاخذة بها ، أو عفو اللّه عنها . وقال ابن عباس والحسن : وهم يعلمون أن تركه أولى من التمادي . وقال مجاهد وأبو عمارة : يعلمون أن اللّه يتوب على من تاب . وقال السدي ومقاتل : يعلمون أنهم قد أذنبوا . وقيل : يذكرون ذنوبهم فيتوبون منها ، أطلق اسم العلم على الذكر لأنه من ثمرته . وقال ابن إسحاق : يعلمون ما حرمت عليهم . وقال الحسين بن الفضل : يعلمون أنّ لهم رباً يغفر الذنب . وقال ابن بحر : يعلمون بالذنب . وقيل : يعلمون العفو عن الذنوب وإن كثرت . ١٣٦أولئك جزاؤهم مغفرة . . . . . {أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مّن رَّبّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أولئك إشارة إلى الصنفين . وجوّز أن يكون مختصاً بالصنف الثاني ، ويكون : والذين إذا فعلوا مبتدأ ، وأولئك وما بعده خبره ، وجزاؤهم مغفرة مبتدأ وخبر في موضع خبر أولئك . وثم محذوف أي : جزاء أعمالهم مغفرة من ربهم لذنوبهم . و قال ابن عطية : أوجب على نفسه بهذا الخبر الصادق قبول توبة التائب ، وليس يجب عليه تعالى من جهة العقل شيء ، بل هو بحكم الملك لا معقب لأمره . وقال الزمخشري : قال أجر العاملين بعد قوله جزاؤهم ، لأنهما في معنى واحد ، وإنما خالف بين اللفظين لزيادة التنبيه على أن ذلك جزاء واجب على عمل ، وأجر مستحق عليه ، لا كما يقول المبطلون . وروى أن اللّه عزّ وجل أوحى إلى موسى عليه السلام : ما أقلَّ حياء من يطمعُ في جنتي بغير عمل ، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي ؟ وعن شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ، وانتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور ، وارتجاء الرحمة ممن لا يطاع حمق وجهالة . وعن الحسن يقول اللّه يوم القيامة : جوزوا الصراط بعفوي ، وادخلوا الجنة برحمتي ، واقتسموها بأعمالكم . وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد : ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس انتهى ما ذكره ، والبيت الذي كانت رابعة تنشده هو لعبد اللّه بن المبارك . وكلام الزمخشري جار على مذهبه الاعتزال من أن الإيمان دون عمل لا ينفع في الآخرة . {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } المخصوص بالمدح محذوف تقديره : ونعم أجر العاملين ذلك ، أي المغفرة والجنة ١٣٧قد خلت من . . . . . {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذّبِينَ } الخطاب للمؤمنين ، والمعنى : أنه إنْ ظهر عليكم الكفار يوم أحد فإن حسن العاقبة للمتقين ، وإنْ أديل الكفار فالعاقبة للمؤمنين . وكذلكم كفاركم هؤلاء عاقبتهم إلى الهلاك . وقال النقاش : الخطاب للكفار لقوله بعد { وَلاَ تَهِنُواْ } ولما ذكر تعالى الجمل المعترضة في قصة أحد عاد إلى كمالها ، فخاطبهم بأنه إنْ وقعت إدالة الكفار فالعاقبة للمؤمنين . والمعنى : قد تقدّمت ومضت . وقال الزجاج : أهل سنن أي طرائق أو أمم ، على شرح المفضل أنّ السنة الأمة . وقال الحسن : سنة أقضية في إهلاك الأمم السالفة عاد وثمود وغيرهم . وقال ابن زيد : أمثال . وقال ابن عباس : وقائع وطلب السير في الأرض ، وإن كانت أحوال من تقدّم تدرك بالأخبار دون السير . لأن الأخبار إنما تكون ممن سار وعاين ، وعنه ينقل : فطلب منه الوجه الأكمل إذ للمشاهدة أثر أقوى من أثر السماع . وقيل : السير هنا مجاز عن التفكر ، وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس . وقال الجمهور : النظر هنا من نظر العين . وقال قوم : هو بالفكر . والجملة الاستفهامية في موضع المفعول لانظروا لأنها معلقة وكيف في موضع نصب خبر كان . والمعنى : ما سنة اللّه في الأمم المكذبين من وقائعه كما قال تعالى :{ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ }{ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللّه فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} وفي هذه الآية دلالة على جواز السفر في فجاج الأرض للاعتبار ، ونظر ما حوت من عجائب مخلوقات اللّه تعالى ، وزيارة الصالحين وزيارة الأماكن المعظمة كما يفعله سياح هذه الملة ، وجواز النظر في كتب المؤرخين لأنها سبيل إلى معرفة سير العالم وما جرى عليهم من المثلاث . ١٣٨هذا بيان للناس . . . . . {هَاذَا بَيَانٌ لّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لّلْمُتَّقِينَ } قال الحسن وقتادة وابن جريج والربيع : الإشارة إلى القرآن . وقيل : الإشارة إلى قوله : قد خلت من قبلكم سنن قاله : ابن إسحاق ، والطبري ، وجماعة . أيْ هذا تفسير للناس إنْ قبلوه . وقال الشعبي : هذا بيان للناس من العمى . وقال الزمخشري : هذا بيان للناس ، إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب . يعني : حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم ، والاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم . وهدى وموعظة للمتقين يعني : أنه مع كونه بياناً وتنبيهاً للمكذبين فهو زيادة وتثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين . ويجوز أنْ يكون قد خلت جملة معترضة للبعث على الإيمان ، وما يستحق به ما ذكر من أجر العاملين . ويكون قوله : هذا بيان إشارة إلى ما لخص وبين من أمر المتقين والتائبين والمصرين انتهى كلامه . وهو حسن . ولما كان ظاهراً واضحاً قال : بيان للناس . ولما كانت الموعظة والهدى لا يكونان إلاّ لمَنْ اتقى خص بذلك المتقين ، لأن من عمى فكره وقسا فؤاده لا يهتدي ولا يتعظ ، فلا يناسب أن يضاف إليه العدى والموعظة . ١٣٩ولا تهنوا ولا . . . . . {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لمّا انهزَم مَن انهزم من المؤمنين أقبل خالدٌ يريد أنْ يعلوَ الجبل ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { لا يعلن علينا اللّهم لا قوة لنا إلا بك } فنزلت قاله : ابن عباس . وزاد الواقدي : أنّ رماة المسلمين صعدوا الجبل ورموا بحبل المشركين حتى هزموهم ، فذلك قوله : وأنتم الأعلون . وقال القرطبي : وأنتم الغالبون بعد أحد ، فلم يخرجوا بعد ذلك إلا ظفروا في كل عسكر كان في عهده عليه السلام ، وفي كل عسكر كان بعدُ ولو لم يكن فيه إلاّ واحدٌ من الصحابة . وقال الكلبي : نزلت بعد أحد حين أمروا بطلب القوم مع ما أصابهم من الجراح . وقال : لا يخرج إلاّ من شهد معنا أمس ، فاشتدّ ذلك على المسلمين فنزلت . نهاهم عن أن يضعفوا عن جهاد أعدائهم ، وعن الحزن على من استشهد من إخوانهم ، فإنّهم صاروا إلى كرامة اللّه قاله : ابن عباس . أو لأجل هزيمتهم وقتلهم يوم أحد قاله : مقاتل . أو لما أصاب النبي صلى اللّه عليه وسلم من شجّه وكسر رباعيته ذكره : الماوردي . أو لما فات من الغنيمة ذكره : أحمد النيسابوري . أو لمجموع ذلك . وآنسهم بقوله : وأنتم الأعلون ، أي الغالبون وأصحاب العاقبة . وهو إخبار بعلو كلمة الإسلام قاله : الجمهور ، وهو الظاهر . وقيل : { أَنتُمْ الاْعْلَوْنَ } ،أي قد أصبتم ببدر ضعف ما أصابوا منكم بأحد أسراً وقتلاً فيكونُ وأنتم الأعلون نصباً على الحال ، أي لاتحزنوا عالين أي منصورين على عدوكم انتهى . وأما كونُه من علوهم الجبل كما أشير إليه في سبب النزول فروي ذلك عن ابن عباس وابن جبير . قال ابن عطية : ومن كرم الخلق أن لا يهن الإنسان في حربه وخصامه ، ولا يلين إذا كان محقاً ، وأن يتقضى جميع قدرته ، ولا يضرع ولو مات . وإنما يحسن اللين في السلم والرضا ، ومنه قوله عليه السلام : { المؤمن هين لين والمؤمنون هينون لينون } وقال منذر بن سعيد : يجب بهذه الآية ألا يوادع العدو ما كانت للمسلمين قوة وشوكة ، فإن كانوا في قطر مّا على غير ذلك فينظر الإمام لهم في لا صلح انتهى . وفي قوله : وأنتم الأعلون دلالة على فضيلة هذه الأمة ، إذ خاطبهم مثل ما خاطب موسى كليمه صلى اللّه عليه وسلم على نبينا وعليه ، إذ قال له : لا تخف إنك أنت الأعلى . وتعلق قوله : إن كنتم مؤمنين بالنهي ، فيكون ذلك هزاً للنفوس يوجب قوة القلب والثقة بصنع اللّه ، وقلة المبالاة بالأعداء . أو بالجملة الخبرية : أي إنْ صدقتم بما وعدكم وبشركم به من الغلبة . ويكون شرطاً على بابه يحصل به الطعن على من ظهر نفاقه في ذلك اليوم ، أي : لا تكون الغلبة والعلو إلا للمؤمنين ، فاستمسكوا بالإيمان . ١٤٠إن يمسسكم قرح . . . . . {ءانٍ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } المعنى : إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ، ثم لم يضعفوا إنْ قاتلوكم بعد ذلك ، فلا تضعفوا أنتم . أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ونحوه ، فإنهم يألمون كما تألمون ، وترجون من اللّه ما لا يرجون . وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين والتأسي فيه أعظم مسلاة . وقالت الخنساء : ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي والمثلية تصدق بأدنى مشابهة . وقال ابن عباس والحسن : أصاب المؤمنين يوم أحد ما أصاب المشركين يوم بدر ، استشهد من المؤمنين يوم أحد سبعون . وقال الزمخشري : قتل يومئذ أي يوم أحد خلق من الكفار ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } فعلى قوله يكون مس القوم قرح مثله يوم بدر . وأبعد من ذهب إلى أن القوم هنا الأمم التي قد خلت ، أي نال مؤمنهم من أذى كافرهم مثل الذي نالكم من أعدائكم . ثم كانت العاقبة للمؤمنين ، فلكم بهم أسوة . فإنّ تأسيكم بهم مما يخفف ألمكم ، ويثبت عند اللقاء أقدامكم . وقرأ الأخوان وأبو بكر والأعمش من طريقة قُرح بضم القاف فيهما ، وباقي السبعة بالفتح ، والسبعة على تسكين الراء . قال أبو علي : والفتح أولى انتهى . ولا أولوية إذ كلاهما متواتر . وقرأ أبو السمال وابن السميقع قَرَح بفتح القاف والراء ، وهي لغة : كالطرد والطرد ، والشل والشلل . وقرأ الأعمش : إنْ تمسسكم بالتاء من فوق قروح بالجمع ، وجواب الشرط محذوف تقديره : فتأسوا فقد مس القوم قرح ، لأن الماضي معنى يمتنع أن يكون جواباً للشرط . ومن زعم أن جواب الشرط هو فقد مس ، فهو ذاهل . {وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } أخبر تعالى على سبيل التسلية أن الأيام على قديم الدهر لا تبقى لناس على حالة واحدة . والمراد بالأيام أوقات الغلبة والظفر ، يصرفها اللّه على ما أراد تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كما جاء الحرب سجال . وقال : فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر وسمع بعض العرب الأقحاح قارئاً يقرأ هذه الآية فقال : إنما هو نداولها بين العرب ، فقيل له : إنما هو بين الناس ، فقال : أنا اللّه ، ذهب ملك العرب ورب الكعبة . وقرىء شاذاً . يداولها بالياء . وهو جار على الغيبة قبله وبعده . وقراءة النون فيها التفات ، وإخبار بنون العظمة المناسبة لمداولة الأيام ، والأيام : صفة لتلك ، أو بدل ، أو عطف بيان . والخبر نداولها ، أو خبر لتلك ، ونداولها جملة حالية . {وَلِيَعْلَمَ اللّه الَّذِينَ ءامَنُواْ } هذه لام كي قبلها حرف العطف ، فتتعلق بمحذوف متأخر أي : فعلنا ذلك وهو المداولة ، أو نيل الكفار منكم . أو هو معطوف على سبب محذوف هو وعامله أي : فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت وليعلم . هكذا قدّره الزمخشري وغيره ، ولم يعين فاعل العلة المحذوفة إنما كنى عنه بكيت وكيت ، ولا يكنى عن الشيء حتى يعرف . ففي هذا الوجه حذف العلة ، وحذف عاملها ، وإبهام فاعلها . فالوجه الأول أظهر إذ ليس فيه غير حذف العامل . ويعلم هنا ظاهره التعدي إلى واحد ، فيكون كعرف . وقيل : يتعدّى إلى ثنين ، الثاني محذوف تقديره : مميزين بالإيمان من غيرهم . أي الحكمة في هذه المداولة : أنْ يصير الذين آمنوا متميزين عن من يدعي الإيمان بسبب صبرهم وثباتهم على الإسلام . وعلم اللّه تعالى لا يتجدد ، بل لم يزل عالماً بالأشياء قبل كونها ، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعْلَ مَنْ يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم من غير الثابت . وقيل : معناه ليظهر في الوجود إيمان الذين قد علم أزلاً أنهم يؤمنون ، ويساوق علمه إيمانهم ووجودهم ، وإلا فقد علمهم في الأزل . إذْ علمه لا يطرأ عليه التغير . ومثلُه أن يضرب حاكم رجلاً ثم يبين سبب الضرب ويقول : فعلت هذا التبيين لا ضرب مستحقاً معناه : ليظهر أن فعلي وافق استحقاقه . وقيل : معناه وليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء ، وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات . وقيل : العلم باق على مدلوله ، وهو على حذف مضاف التقدير : وليعلم أولياء اللّه ، فأسند ذلك إلى نفسه تفخيماً . { وَيَتَّخِذُ مِنْهُمْ شُهَدَاء } أي بالقتل في سبيله ، فيكرمهم بالشهادة . يعني يوم أحد . وقد ورد في فضل الشهيد غير ما آية وحديث . أو شهداء على الناس يوم القيامة أي وليتخذ منكم من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة بما يبتلي به صبركم على الشدائد من قوله تعالى :{ لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} والقول الأول أظهر وأليق بقصة أحد . {وَاللّه لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } أي لا يحب من لا يكون ثابتاً على الإيمان صابراً على الجهاد . وفيه إشارة إلى أن من انخذل يوم أحد كعبد اللّه بن أبي وأتباعه من المنافقين ، فإنهم بانخذالهم ، لم يطهر إيمانهم بل نجم نفاقهم ، ولم يصلحوا لاتخاذهم شهداء بأن يقتلوا في سبيل اللّه . وذلك إشارة أيضاً إلى أن ما فعل من ادالة الكفار ، ليس سببه المحبة منه تعالى ، بل ما ذكر من الفوائد من ظهور إيمان المؤمن وثبوته ، واصطفائه من شاء من المؤمنين للشهادة . وهذه الجملة اعترضت بين بعض العلل وبعض ، لما فيها من التشديد والتأكيد . وأ مناط انتفاء المحبة هو الظلم ، وهو دليل على فحاشته وقبحه من سائر الأوصاف القبيحة . ١٤١وليمحص اللّه الذين . . . . . {وَلِيُمَحّصَ اللّه الَّذِينَ ءامَنُواْ } أي يطهرهم من الذنوب ، ويخلصهم من العيوب ، ويصفيهم . قال ابن عباس والحسن ومجاهد والسدي ومقاتل وابن قتيبة في آخرين : التمحيص الابتلاء والاختبار . قال الشاعر : رأيت فضيلاً كان شيئاً ملففا فكشفه التمحيص حتى بداليا وقال الزجاج : التنقية والتخليص ، وذكره عن : المبرد ، وعن الخليل . وقيل : التطهير . وقال الفراء : هو على حذف مضاف ، أي وليمحص اللّه ذنوب الذين آمنوا . {وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } أي يهلكهم شيئاً فشيئاً . والمعنى : أن الدولة إن كانت للكافرين على المؤمنين كانت سبباً لتمييز المؤمن من غيره ، وسبباً لاستشهاد من قتل منهم ، وسبباً لتطهير المؤمن من الذنب . فقد جمعت فوائد كثيرة للمؤمنين ، وإن كان النصر للمؤمنين على الكافرين كان سبباً لمحقهم بالكلية واستئصالهم قاله : ابن عباس . وقال ابن عباس أيضاً : ينقصهم ويقللّهم ، وقاله : الفراء . وقال مقاتل : يذهب دعوتهم . وقيل : يحبط أعمالهم ، ذكره الزجاج ، فيكون على حذف مضاف . والظاهر أن المراد بالكافرين هنا طائفة مخصوصة ، وهم الذين حاربوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. لأنه تعالى لم يمحق كل كافر ، بل كثير منهم باق على كفره . فلفظة الكافرين عام أريد به الخصوص . قيل : وقابل تمحيص المؤمن بمحق الكافر ، لأن التمحيص إهلاك الذنوب ، والمحق إهلاك النفوس ، وهي مقابلة لطيفة في المعنى انتهى . وفي ذكر ما يلحق المؤمن عند إدالة الكفار تسلية لهم وتبشير بهذه الفوائد الجليلة ، وأن تلك الإدالة لم تكن لهوانٍ بهم ، ولا تحط من أقدارهم ، بل لما ذكر تعالى . وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من الفصاحة والبديع والبيان : من ذلك الاعتراض في : واللّه يحب المحسنين ، وفي : ومن يغفر الذنوب إلا اللّه ، وفي : واللّه لا يحب الظالمين . وتسمية الشيء باسم سببه في : إلى مغفرة من ربكم . والتشبيه في : عرضها السموات والأرض . وقيل : هذه استعارة وإضافة الحكم إلى الأكثر في أعدّت للمتقين ، وهي معدة لهم ولغيرهم من العصاة . والطباق في : السرّاء والضرّاء ، وفي : ولا تهنوا والأعلون ، لأن الوهن والعلو ضدان . وفي آمنوا والظالمين ، لأن الظالمين هنا هم الكافرون ، وفي : آمنوا ويمحق الكافرين . والعام يراد به الخاص في : والعافين عن الناس يعني من ظلمهم أو المماليك . والتكرار في : واتقوا اللّه ، واتقوا النار ، وفي لفظ الجلالة ، وفي واللّه يحب ، وذكروا اللّه ، وفي وليعلم اللّه ، واللّه لا يحب ، وليمحص اللّه ، وفي الذين ينفقون ، والذين إذا فعلوا . والاختصاص في : يحب المحسنين ، وفي : وهم يعلمون ، وفي : عاقبة المكذبين ، وفي : موعظة للمتقين ، وفي : إن كنتم مؤمنين ، وفي : لا يحب الظالمين ، وفي : وليمحص اللّه الذين آمنوا ، وفي : ويمحق الكافرين . والاستعارة في : فسيروا ، على أنه من سير الفكر لا القدم ، وفي : وأنتم الأعلون ، إذا لم تكن من علو المكان ، وفي : تلك الأيام نداولها ، وفي : وليمحص ويمحق ، والإشارة في هذا بيان . وفي : وتلك الأيام . وإدخال حرف الشرط في الأمر المحقق في : إن كنتم مؤمنين ، إذا علق عليه النهي والحذف في عدة مواضع . ١٤٢أم حسبتم أن . . . . . كائن : كلمة يكثر بها بمعنى كم الخبرية . وقلَّ الاستفهام بها . والكاف للتشبيه ، دخلت على أي وزال معنى التشبيه ، هذا مذهب سيبويه والخليل ، والوقف على قولهما بغير تنوين . وزعم أبو الفتح : أنّ أيا وزنه فعل ، وهو مصدر أوى يأوى إذا انضم واجتمع ، أصله : أوى عمل فيه ما عمل في طي مصدر طوي . وهذا كله دعوى لا يقوم دليل على شيء منها . والذي يظهر أنه اسم مبني بسيط لا تركيب فيه ، يأتي للتكثير مثل كم ، وفيه لغات : الأولى وهي التي تقدمت . وكائن ومن ادعى أن هذه اسم فاعل من كان فقوله بعيد . وكئن على وزن كعن ، وكأين وكيين ، ويوقف عليها بالنون . وأكثر ما يجيء تمييزها مصحوباً بمن . ووهم ابن عصفور في قوله : إنه يلزمه مِنْ ، وإذا حذفت انتصب التمييز سواء أوليها أم لم يليها ، نحو قول الشاعر : أطرد اليأس بالرجاء فكاين آلماً عم يسره بعد عسر وقول الآخر : وكائن لنا فضلاً عليكم ونعمة قديماً ولا تدرون ما من منعم الرعب : الخوف ، رعبته فهو مرعوب . وأصله من الملي . يقال : سيل راعب يملأ الوادي ، ورعبت الحوض ملأته . السلطان : الحجة والبرهان ، ومنه قيل للوالي : سلطان . وقيل : اشتقاق السلطان من السليط ، وهو ما يضيء به السراج من دهن السمسم . وقيل : السليط الحديد ، والسلاطة الحدة ، والسلاطة من التسليط وهو القهر . والسلطان من ذلك فالنون زائدة . والسليطة : المرأة الصخابة . والسليط : الرجل الفصيح اللسان . المثوى : مفعل من ثوى يثوى أقام . يكون للمصدر والزمان والمكان ، والثواء : الإقامة بالمكان . الحس : القتل الذريع ، يقال : حسه يحسه . قال الشاعر : حسسناهم بالسيف حساً فأصبحت بقيتهم قد شردوا وتبدّدوا وجراد محسوس قتله البرد ، وسنة حسوس أتت على كل شيء . التنازع : الاختلاف ، وهو من النزع وهو الجذب . ونزع ينزع جذب ، وهو متعد إلى واحد . ونازع متعد إلى اثنين ، وتنازع متعد إلى واحد . قال : فلما تنازعنا الحديث وأسمحت هصرت بغصن ذي شماريخ ميال {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ } هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد . واستفهم على سبيل الإنكار أنْ يظنَّ أحد أنْ يدخل الجنة وهو مخلّ بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه . والمراد بنفي العلم انتفاء متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه كما قال تعالى :{ وَلَوْ عَلِمَ اللّه فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ } المعنى : لم يكن فيهم خير ، لأنّ ما لم يتعلق به علم اللّه تعالى موجوداً لا يكون موجوداً أبداً . وأمْ هنا منقطعة في قول الأكثرين تتقدر ببل ، والهمزة على ما قرر في النحو . وقيل : هي بمعنى الهمزة . وقيل : أم متصلة . قال ابن بحر : هي عديلة همزة تتقدر من معنى ما تتقدم ، وذلك أنَّ قوله : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ وَتِلْكَ الاْيَّامُ نُدَاوِلُهَا } إلى آخر القصة يقتضي أن يتبع ذلك : أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك ، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمل مشقة وأن تجاهدوا فيعلم اللّه ذلك منكم واقعاً . انتهى كلامه . وتقدّم لنا إبطال مثل هذا القول . وهذا الاستفهام الذي تضمنته معناه الإنكار والإضراب الذي تضمنته أيضاً هو ترك لما قبله من غير إبطال وأخذ فيما بعده . وقال أبو مسلم الأصبهاني : أم حسبتم نهيٌ وقع بلفظ الاستفهام الذي يأتي للتبكيت . وتلخيصه : لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولما يقع منكم الجهاد . لما قال :{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا } كان في معنى : أتعلمون أن ذلك كما تؤمرون به ، أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر . وإنما استبعد هذا لأن اللّه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة ، وأوجب الصبر على تحمل مشاقها ، وبين وجوه مصالحها في الدين والدنيا . فلما كان كذلك كان من البعد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال هذه القاعدة انتهى كلامه . وظاهره : أن أم متصلة ، وخسبتم هنا بمعنى ظننتم الترجيحية ، وسدّ مسد مفعوليها أن وما بعدها على مذهب سيبويه ، وسد مسد مفعول واحد والثاني محذوف على مذهب أبي الحسن . ولما يعلم : جملة حالية ، وهي نفي مؤكد لمعادلته للمثبت المؤكد بقد . فإذا قلت : قد قام زيد ففيه من التثبيت والتأكيد ما ليس في قولك : قام زيد . فإذا نفيته قلت : لما يقم زيد . وإذا قلت : قام زيد كان نفيه لم يقم زيد ، قاله سيبويه وغيره . وقال الزمخشري : ولما بمعنى لم ، إلا أن فيه ضرباً من التوقع فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى ، وعلى توقعه فيما يستقبل . وتقول : وعدني أن يفعل كذا ، ولما تريد ، ولم يفعل ، وأنا أتوقع فعله انتهى كلامه . وهذا الذي قاله في لما أنَّها تدل على توقع الفعل المنهى بها فيما يستقبل ، لا أعلم أحداً من النحويين ذكره . بل ذكروا أنك إذا قلت : لما يخرج زيد دلَّ ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلاً نفيه إلى وقت الإخبار . أمّا أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا ، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يقارب ما قاله الزمخشري . قال : لما لتعريض الوجود بخلاف لم . وقرأ الجمهور بكسر الميم لالتقاء الساكنين . وقرأ ابن وثاب والنخعي بفتحها ، وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام وعلى إرادة النون الخفيفة وحذفها كما قال الشاعر : لا تهين الفقير علك أن تركع يوماً والدهر قد رفعه وقرأ الجمهور : { ويعلم } برفع الميم فقيل : هو مجزوم ، وأتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ : ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخريجين . وقيل : هو منصوب . فعلى مذهب البصريين بإضمار أن بعد واو مع نحو ، لا تأكل السمك وتشرب اللبن . وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف ، وتقرير المذهبين في علم النحو . وقرأ الحسن وابن يعمر وأبو حيوة وعمرو بن عبيد بكسر الميم عطفاً على ولما يعلم . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو ويعلم برفع الميم . قال الزمخشري : على أن الواو للحال كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون انتهى . ولا يصلح ما قال ، لأن واو الحال لا تدخل على المضارع ، لايجوز : جاء زيدو يضحك ، وأنت تريد جاء زيد يضحك ، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل . فكما لا يجوز جاء زيد وضاحكاً ، كذلك لا يجوز جاء زيد ويضحك . فإنْ أوّلَ على أن المضارع خبرُ مبتدأ محذوف أمكن ذلك ، التقدير : وهو يعلم الصابرين كما أولوا قوله : نجوت وأرهنهم مالكاً ، أي وأنا أرهنهم . وخرج غير الزمخشري قراءة الرفع على استئناف الاخبار ، أي : وهو يعلم الصابرين . وفي إنكار اللّه تعالى على من ظنّ أنّ دخول الجنة يكون مع انتفاء الجهاد ، والصبر عند لقاء العدوّ دليل على فرضية الجهاد إذ ذاك ، والثبات للعدوّ وقد ذكر في الحديث : { أن التولي عند الزحف من السبع الموبقات} . ١٤٣ولقد كنتم تمنون . . . . . {وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } الخطاب للمؤمنين ، وظاهره العموم والمراد الخصوص . وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر ، إذ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إنما خرج مبادراً يريد عير القريش ، فلم يظنوا حرباً ، وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة ، فتمنوا لقاء العدوّ ليكون لهم يوم كيوم بدر ، وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد . فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد اللّه بن قميئة مصعب بن عمير الذّاب عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ظاناً أنه رسول اللّه وقال : قتلت محمداً وصرخ بذلك صارخ ، وفشاد ذلك في الناس انكفوا فارّين ، فدعاهم الرسول صلى اللّه عليه وسلم { إلي عباد اللّه} حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا عن انكفافهم قائلين : أتانا خبر قتلك ، فرعبت قلوبنا ، فولينا مدبرين ، فنزلت هذه الآية تلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا على أنفسهم من تمني الموت . وعبر عن ملاقاة الرجال ومجالدتهم بالحديد بالموت ، إذ هي حالة تتضمن في الأغلب الموت ، فلا يتمناها إلا من طابت نفسه بالموت . ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء إلا من طابت نفسه بالموت . ومتمني الموت في الجهاد ليس متمنياً لغلبة الكافر المسلم ، إنما يجيء ذلك في الضمن لا أنه مقصود ، إنما مقصده نيل رتبة الشهادة لما فيه من الكرامة عند اللّه . وأنشد عبد اللّه بن رواحة وقد نهض إلى موته وقال لهم : ردّكم اللّه تعالى فقال : لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا حتى يقولوا إذا مروا على جدثي رشد اللّه من غاز وقد رشدا {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ } : أي من قبل أن تشاهدوا شدائده ومضائقه . وضمير المفعول في تلقوه عائد على الموت ، وقيل : على العدوّ ، وأضمر لدلالة الكلام عليه . والأوّل أظهر ، لأنه يعود على مذكور . وقرأ النخعي والزهري : تلا قوه ومعناها ومعنى تلقوه سواء ، من حيثُ أنّ معنى لقي يتضمن أنه من اثنين ، وإنْ لم يكنْ على وزن فاعل . وقرأ مجاهد من قبلُ بضم اللام مقطوعاً عن الإضافة ، فيكون موضع أنْ تلقوه نصباً على أنه بدل اشتمال من الموت . فقد رأيتموه أي عاينتم أسبابه وهي الحرب المستعرة كما قال : لقد رأيت الموت قبل ذوقه وقال : ووجدت ريح الموت من تلقائهم في مأزق والخيل لم تتبدّد وقيل : معنى الرؤية هنا العلم ، ويحتاج إلى حذف المفعول الثاني أي : فقد علمتم الموت حاضراً ، وحذف لدلالة المعنى عليه . وحذف أحد مفعولي ظن وأخواتها عزيز جداً ، ولذلك وقع فيه الخلاف بين النحويين . وقرأ طلحة بن مصرف . فلقد رأيتموه باللام ، وأنتم تنظرون جملة حالية للتأكيد ، ورفع ما يحتمله رأيتموه من المجاز أو من الاشتراك الذي بين رؤية القلب ورؤية العين ، أي معاينين مشاهدين له حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا ، فعلى هذا يكون متعلق النظر متعلق الرؤية ، وهذا قول الأخفش ، وهو الظاهر . وقيل : وأنتم بصراء أي ليس بأعينكم علة . ويرجع معناه إلى القول الأول ، وقاله الزجاج والأخفش أيضاً . وقيل : تنظرون إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم وما فعل به . وقيل : تنظرون نظر تأمل بعد الرؤية . وقيل : تنظرون في أسباب النجاة والفرار ، وفي أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هل قتل أم لا ؟ وقيل : تنظرون ما تمنيتم وهو عائد على الموت . وقيل : تنظرون في فعلكم الآن بعد انقضاء الحرب ، هل وفيتم أو خالفتم ؟ فعلى هذا المعنى لا تكون جملة حالية ، بل هي جملة مستأنفة الاخبار أتى بها على سبيل التوبيخ . فكأنه قيل : وأنتم حسباء أنفسكم فتأملوا قبح فعلكم . وهذه الآية وإن كانت صيغتها صيغة الخبر فمعناها العتب والإنكار على من انهزم يوم أحد ، وفيها محذوف أخيراً بعد قوله : فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ، أي تفرقهم بعد رؤية أسبابه وكشف الغيب ، أنَّ متعلق تمنيكم نكصتم عنه وقال ابن الأنباري : يقال : إنَّ معنى رأيتموه قابلتموه وأنتم تنظرون بعيونكم ، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حين اختلف معناهما ، لأن الأول بمعنى المقابلة والمواجهة والثاني بمعنى رؤية العين انتهى . ويكون إذ ذاك ، وأنتم تنظرون جملة في موضع الحال المبينة لا المؤكدة إلا أن المشهور في اللغة أن الرؤية هي الأبصار ، لا المقابلة والمواجهة . ١٤٤وما محمد إلا . . . . . {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } هذا استمرار في عتبهم آخر أن محمداً رسول كمن مضى من الرسل ، بلّغ عن اللّه كما بلغوا . وليس بقاء الرسل شرطاً في بقاء شرائعهم ، بل هم يموتون وتبقى شرائعهم يلتزمها أتباعهم . فكما مضت الرسل وانقضوا ، فكذلك حكمهم هو في ذلك واحد . وقرأ الجمهور الرسل بالتعريف على سبيل التفخيم للرسل ، والتنويه بهم على مقتضى حالهم من اللّه . وفي مصحف عبد اللّه رسل بالتنكير ، وبها قرأ : ابن عباس ، وقحطان بن عبد اللّه . ووجهها أنه موضع تبشير لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم في معنى الحياة ، ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك . وهكذا يتصل في أماكن الاقتضاء به بالشيء ومنه :{ وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ }{ وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } إلى غير ذلك . ذكر هذا الفرق بين التعريف والتنكير في نحو هذا المساق أبو الفتح ، وقراءة التعريف أوجه ، إذ تدل على تساوي كل في الخلق والموت ، فهذا الرسول هو مثلهم في ذلك . {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن } لما صرخ بأن محمداً قد قتل ، تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار ، وكانوا ثلاث فرق : فرقة قالت : ما نصنع بالحياة بعد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ؟ قاتلوا على ما قاتل عليه ، فقاتلوا حتى قتلوا ، منهم : أنس بن النضر . وفرقة قالوا : نلقى إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا . وفرقة أظهرت النفاق وقالوا : ارجعوا إلى دينكم الأوّل ، فلو كان محمد نبياً ما قتل . وظاهر الانقلاب على العقبين هو الارتداد . وقيل : هو بالفرار لا الارتداد . وقد جاء هذا اللفظ في الارتداد والكفر في قوله :{ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه } وهذه الهمزة هي همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار . والفاء للعطف ، وأصلها التقديم . إذ التقدير : فأإن مات . لكنهم يعتنون بالاستفهام فيقدّممونه على حرف العطف ، وقد تقدّم لنا مثل هذا وخلاف الزمخشري فيه . وقال الخطيب كمال الدين الزملكاني : الأوجه أن يقدّر محذوف بعد الهمزة وقيل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه . ولو صرّح به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته ، فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملل أنبيائهم بعد وفاتهم انتهى . وهذه نزعة زمخشرية . وقد تقدم الكلام معه في نحو ذلك . وأن هذه الفاء إنما عطفت الجملة المستفهم عنها على الجملة الخبرية قبلها ، وهمزة الاستفهام داخلة على جملة الشرط وجزائه . وجزاؤه ، هو انقلبتم ، فلا تغير همزة الاستفهام شيئاً من أحكام الشرط وجزائه . فإذا كانا مضارعين كانا مجزومين نحو : أإن تأتني آتك . وذهب يونس إلى أن الفعل الثاني يبني على أداة الاستفهام ، فينوي به التقديم ، ولا بد إذ ذاك من جعل الفعل الأول ماضياً لأن جواب الشرط محذوف ، ولا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط لا يظهر فيه عمل لأداة الشرط ، فيلزم عنده أن تقول : أإن أكرمتني أكرمك . التقدير فيه : أكرمك أن أكرمتني ، ولا يجوز عنده إنْ تكرمني أكرمك بجزمهما أصلاً ، ولا إن تكرمني أكرمك بجزم الأول ورفع الثاني إلا في ضرورة الشعر . والكلام على هذه المسألة مستوفى في علم النحو . فعلى مذهب يونس : تكون همزة الاستفهام دخلت في التقدير على انقلبتم ، وهو ماض معناه الاستقبال ، لأنه مقيد بالموت أو بالقتل . وجواب الشرط عند يونس محذوف ، وبقول يونس : قال كثير من المفسرين في الآية قالوا : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ، لأن الغرض إنما هو أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد . ودخلت إنْ هنا على المحقق وليس من مظانها ، لأنه أورد مورد المشكوك فيه للتردد بين الموت والقتل ، وتجويزُ قتله عند أكثر المخاطبين . ألا ترى إليهم حين سمعوا أنه قتل اضطربوا وفروا ، وانقسموا إلى ثلاث فرق ، ومن ثبت منهم فقاتل حتى قتل ؟ قال بعضهم : يا قوم إنْ كان محمد قد قتل فإنَّ رب محمد لم يقتل ، موتوا على ما مات عليه . وقال بعضهم : إنْ كان محمد قد قتل فإنه قد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم . فهذا يدل على تجويز أكثر المخاطبين لأن يقتل . فأمَّا العلم بأنه لا يقتل من جهة قوله تعالى : { وَاللّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فهو مختص بالعلماء من المؤمنين وذوي البصيرة منهم ، ومن سمع هذه الآية وعرف سبب نزولها . {وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّه شَيْئاً } أي مَنْ رجع إلى الكفر أو ارتدّ فاراً عن القتال وعن ما كان عليه الرسول صلى اللّه عليه وسلم من أمر الجهاد على التفسيرين السابقين . وهذه الجملة الشرطية هي عامة في أنَّ كل من انقلب على عقبيه فلا يضر إلا نفسه ، ولا يلحق من ذلك شيء للّه تعالى ، لأنه تعالى لا يجوز عليه مضار العبد . ولم تقع ردّة من أحد من المسلمين في ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين . وقرأ الجمهور على عقبيه بالتثنية . وقرأ ابن أبي إسحاق على عقبه بالإفراد ، وانتصاب شيئاً على المصدر . أي : شيئاً من الضرر لا قليلاً ولا كثيراً . والانقلاب على الأعقاب أو على العقبين أو العقب من باب التمثيل مثّل من يرجع إلى دينه الأول بمن ينقلب على عقبيه . وتضمنت هذه الجملة الوعيد الشديد . {وَسَيَجْزِى اللّه الشَّاكِرِينَ } وعد عظيم بالجزاء . وجاء بالسين التي هي في قول بعضهم : قرينة التفسير في الاستقبال ، أي : لا يتأخر جزاء اللّه إياهم عنهم . والشاكرين هم الذين صبروا على دينه ، وصدقوا اللّه فيما وعدوه ، وثبتوا . شكروا نعمة اللّه عليهم بالإسلام ، ولم يكفروها ، كأنس بن النضر ، وسعد بن الربيع ، والأنصاري الذي كان يتشخط في دمه ، وغيرهم ممن ثبت ذلك اليوم . والشاكرون لفظ عام يندرج فيه كل شاكر فعلاً وقولاً . وقد تقدم الكلام على الشكر . وظاهر هذا الجزاء أنه في الآخرة . وقيل : في الدنيا بالرزق ، والتمكين في الأرض . وفسروا الشاكرين هنا بالثابتين على دينهم قاله : علي . وقال هو والحسن بن أبي الحسن أبو بكر ، أمير الشاكرين يشيران إلى ثباته يوم مات رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، واضطراب الناس إذ ذاك ، وثباته في أمر الردة وما قام به من أعباء الإسلام . وفسر أيضاً بالطائعين . ١٤٥وما كان لنفس . . . . . {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه} قال الزمخشري : المعنى أن موت الأنفس محال أنْ تكون إلا بمشيئة اللّه ، فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن اللّه له فيه تمثيلاً . ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك ، فليس له أن يقبض نفساً إلا بإذن من اللّه . وهو على معنيين : أحدهما : تحريضهم على الجهاد ، وتشجيعهم على لقاء العدو ، بإعلامهم أن الحذر لا ينفع ، وأن أحد إلا بموت قبل بلوغ أجله وإنْ خاض المهالك واقتحم المعارك . والثاني : ذكر ما صنع اللّه تعالى برسوله عند غلبة العدوّ ، والتفافهم عليه ، وإسلام قومه له نهزة للمختلسين من الحفظ والكلاء وتأخر الأجل انتهى كلام الزمخشري . وهو حسن وهو بسط كلام غيره من المفسرين أنه لا تموت نفس إلا بأجل محتوم . فالجبن لا يزيد في الحياة والشجاعة لا تنقص منها . وفي هذه الجملة تقوية للنفوس على الجهاد ، وفيها تسلية في موت النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقول العرب : ما كان لزيد أن يفعل معناه انتفاء الفعل عن زيد وامتناعه . فتارة يكون الامتناع في مثل هذا التركيب لكونه ممتنعاً عقلاً كقوله تعالى : { مَا كَانَ للّه أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } وقوله :{ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } وتارة لكونه ممتنعاً عادة نحو : ما كان لزيد أن يطير . وتارة لكونه ممتنعاً شرعاً كقوله تعالى :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً } وتارة لكونه ممتنعاً أدباً ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويفهم هذا من سياق الكلام . ولا تتضمن هذه الصيغة نهياً كما يقوله بعضهم . وقوله : لنفس ، المراد الجنس لا نفس واحدة . ومعنى : إلا بإذن اللّه ، أي بتمكينه وتسويغه ذلك . وقد تقدم شرح الإذن ، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به ، فإنْ انضاف إلى ذلك قول فيكون أمراً . والمعنى : إلا بإذن اللّه للملك الموكل بالقبض . وأن تموت في موضع اسم كان ، ولنفس هو في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف . وجعل بعضهم كان رائدة . فيكون أن تموت في موضع مبتدأ ، ولنفس في موضع خبره . وقدره الزجاج على المعنى فقال : وما كانت نفس لتموت ، فجعل ما كان اسماً خبراً ، وما كان خبراً اسماً ، ولا يريد بذلك الإعراب ، إنّما فسر من جهة المعنى . وقال أبو البقاء : اللام في : لنفس ، للتبيين متعلقة بكان انتهى . وهذا لا يتم إلا أن كانت كان تامة . وقول من قال : هي متعلقة بمحذوف تقديره : وما كان الموت لنفس وإن تموت ، تبيين للمحذوف مرغوب عنه ، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه ، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين . وتارة لكونه ممتنعاً أدباً ، كقول أبي بكر : ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، ويفهم هذا من سياق الكلام . ولا تتضمن هذه الصيغة نهياً كما يقوله بعضهم . وقوله : لنفس ، المراد الجنس لا نفس واحدة . ومعنى : إلا بإذن اللّه ، أي بتمكينه وتسويغه ذلك . وقد تقدم شرح الإذن ، والأحسن فيه أنه تمكين من الشيء مع العلم به ، فإنْ انضاف إلى ذلك قول فيكون أمراً . والمعنى : إلا بإذن اللّه للملك الموكل بالقبض . وأن تموت في موضع اسم كان ، ولنفس هو في موضع الخبر ، فيتعلق بمحذوف . وجعل بعضهم كان رائدة . فيكون أن تموت في موضع مبتدأ ، ولنفس في موضع خبره . وقدره الزجاج على المعنى فقال : وما كانت نفس لتموت ، فجعل ما كان اسماً خبراً ، وما كان خبراً اسماً ، ولا يريد بذلك الإعراب ، إنّما فسر من جهة المعنى . وقال أبو البقاء : اللام في : لنفس ، للتبيين متعلقة بكان انتهى . وهذا لا يتم إلا أن كانت كان تامة . وقول من قال : هي متعلقة بمحذوف تقديره : وما كان الموت لنفس وإن تموت ، تبيين للمحذوف مرغوب عنه ، لأن اسم كان إن كانت ناقصة أو الفاعل إن كانت تامة لا يجوز حذفه ، ولما في حذفه أنْ لو جاز من حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين . {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } أي له أجل لا يتقدم ولا يتأخر وفي هذا رد على المعتزلة في قولهم بالأجلينْ والكتابة هنا عبارة عن القضاء ، وقيل : مكتوباً في اللوح المحفوظ مبيناً فيه . ويحتمل هذا الكلام أن يكون جواباً لقولهم : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . وانتصاب كتاباً على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة والتقدير : كتب اللّه كتاباً مؤجلاً ونظيره :{ كِتَابَ اللّه عَلَيْكُمْ صُنْعَ اللّه عَبْدُ اللّه} وقيل : هو منصوب على الإغراء ، أي الزموا وآمنوا بالقدر وهذا بعيد . و قال ابن عطية : كتاباً نصب على التمييز ، وهذا لا يظهر فإن التمييز كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول ، وأقسامه في النوعين محصورة ، وليس هذا واحداً منها . {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } هذا تعريض بالذين رغبوا في الغنائم يوم أحد واشتغلوا بها ، والذين ثبتوا على القتال فيه ولم يشغلهم شيء عن نصرة الدين ، وهذا الجزاء من إيتاء اللّه من أراد ثواب الدنيا مشروط بمشيئة اللّه تعالى ، كما جاء في الآية الأخرى :{ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ} وقوله : { نؤته بالنون فيهما } وفي : سنجزي قراءة الجمهور وهو التفات ، إذ هو خروج من غيبة إلى تكلم بنون العظمة . وقرأ الأعمش : يؤته بالياء فيهما وفي سيجزي ، وهو جار على ما سبق من الغيبة . قال ابن عطية : وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه انتهى . وهو وهم ، وصوابه : على إضمار الفاعل ، والضمير عائد على اللّه . وظاهر التقسيم يقتضي اختصاص كل واحد بما أراد ، لأن من كانت نيته مقصورة على طلب دنياه لا نصيب له في الآخرة ، لكن من كانت نيته مقصورة على طلب الآخرة قد يؤتى نصيباً من الدنيا . وللمفسرين فيها أقوال : نؤته نصيباً من الغنيمة لجهاده الكفار ، أو لم نحرمه ما قسمناه له إذ من طلب الدّنيا بعمل الآخرة نؤته منها ، وما له في الآخرة من نصيب . أو هي خاصة في أصحاب أحد أو من أراد ثواب الدنيا بالتعرض لها بعمل النوافل مع مواقعة الكبائر جوزي عليها في الدنيا والآخرة . {وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ } وعدٌ لمن شكر نعم اللّه فقصر همه ونيته على طلب ثواب الآخرة . قال ابن فورك : وفيه إشارة إلى أنهم ينعمهم اللّه بنعيم الدنيا ، ولا يقصرهم على نعيم الآخرة . وأظهر الحرميان ، وعاصم ، وابن عامر في بعض طرق من رواية هشام ، وابن ذكوان دال يرد عند ثواب ، وأدغم في الوصل . وقرأ قالون والحلواني عن هشام من طريق : باختلاس الحركة ، وقرأ الباقون بالإشباع . وأما في الوقف فبالسكون للجميع . ووجه الإسكان أن الهاء لما وقعت موقع المحذوف الذي كان حقه لو لم يكن حرف علة أن يسكن ، فأعطيت الهاء ما تستحقه من السكون . ووجه الاختلاس بأنه استصحب ما كان للّهاء قبل أن تحذف الياء ، لأنه قبل الحذف كان أصله يؤتيه والحذف عارض فلا يعتدّ به . ووجه الإشباع بأنّه جاز نظر إلى اللفظ وإنْ كانت الهاء متصلة بحركة والأولى ترك هذه التوجيهات . فإنّ اختلاس الضمة والكسرة بعد متحرك لغة حكاها الكسائي عن بني عقيل وبني كلاب . قال الكسائي : سمعت أعراب كلاب وعقيل يقولون :{ إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبّهِ لَكَنُودٌ } ولربه لكنود بغير تمام وله مال ، وله مال . وغير بني كلاب وبني عقيل لا يوجد في كلامهم اختلاس ، ولا سكون في له وشبهه إلا في ضرورة نحو قول الشاعر : له رجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زَمير وقول الآخر : واشرب الماء ما بي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها ١٤٦وكأين من نبي . . . . . {وَكَأَيّن مّن نَّبِىّ قَتْلَ مَعَهُ رِبّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللّه وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ } لما كان من المؤمنين ما كان يوم أحد وعتب عليهم اللّه ما حذر منهم في الآيات التي تقدمت ، أخبرهم بأنّ الأمم السالفة قتلت أنبياء لهم كثيرون أو قتل ربيون كثير معهم ، فلم يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف ، ولا ثناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم ، أو قتل ربيبهم ، بل مضوا قدماً في نصرة دينهم صابرين على ما حل بهم . وقتل نبي أو أتباعه من أعظم المصاب ، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة ، هذا وأنتم خير الأمم ، ونبيكم خير الأنبياء . وفي هذه الجملة من العتب لمن فرّ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم. وقرأ الجمهور وكأين قالوا : وهي أصل الكلمة ، إذ هي أي دخل عليها كاف التشبيه ، وكتبت بنون في المصحف ، ووقف عليها أبو عمرو . وسورة بن المبارك عن الكسائي بياء دون نون ، ووقف الجمهور على النون اتباعاً للرسم . واعتل لذلك أبو علي الفارسي بما يوقف عليه في كلامه وذلك على عادة المعللين ، ومما جاء على هذه اللغة قول الشاعر : وكائن في المعاسر من أناس أخوهم فوقهم وهم كرام وقرأ ابن كثير : وكائن وهي أكثر استعمالاً في لسان العرب وأشعارها . قال : . وكائن رددنا عنكم من مدجج وقرأ ابن محيصين والأشهب العقيلي : وكأين على مثال كعين . وقرأ بعض القراء من الشواذ كيئن ، وهو مقلوب قراءة ابن محيصين . وقرأ ابن محيصين أيضاً فيما حكاه الداني كان على مثال كع وقال الشاعر : كان صديق خلته صادق الأخا أبان اختباري أنه لي مداهن وقرأ الحسن كي بكاف بعدها ياء مكسورة منونة . وقد طول المفسرون ابن عطية وغيره بتعليل هذه التصرفات في كأين ، وبما عمل في كأين ، فلذلك أضربنا عن ذكره صفحاً . وقرأ الحرميان وأبو عمرو قتل مبنياً للمفعول ، وقتادة كذلك ، إلا أنه شدّد التاء ، وباقي السبعة قاتل بألف فعلاً ماضياً . وعلى كل من هذه القرآت يصلح أن يسند الفعل إلى الضمير ، فيكون صاحب الضمير هو الذي قتل أو قتل على معنى التكثير بالنسة لكثرة الأشخاص ، لا بالنسبة لفرد فرد . إذ القتل لا يتكثر في كل فرد فرد . أو هو قاتل ويكون قوله : معه ربيون محتملاً أن تكون جملة في موضع الحال ، فيرتفع ربيون بالابتداء ، والظرف قبله خبره ، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير في معه العائد على ذي الحال ، ومحتملاً أن يرتفع ربيون على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً التقدير : كائناً معه ربيون ، وهذا هو الأحسن . لأن وقوع الحال مفرداً أحسن من وقوعه جملة . وقد اعتمد الظرف لكونه وقع حالاً فيعمل وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع ربيون بالظرف . وإنْ كان العامل ماضياً لأنه حكى الحال كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } وذلك على مذهب البصريين . وأما الكسائي وهشام فإنه يجوز عندهما إعمال اسم الفاعل الماضي غير المعرف بالألف واللام من غير تأويل ، بكونه حكاية حال ، ويصلح أن يسند الفعل إلى ربيون فلا يكون فيه ضمير ، ويكون الربيون هم الذين قتلوا أو قتلوا أو قاتلوا ، وموضع كأين رفع على الابتداء . والظاهر أن خبره بالجملة من قوله : قتل أو قتل أو قاتل ، سواء أرفع الفعل الضمير ، أم الربيين . وجوزوا أن يكون قتل إذا رفع الضمير في موضع الصفة ومعه ربيون في موضع الخبر كما تقول : كم من رجل صالح معه مال . أو في موضع الصفة فيكون قد وصف بكونه مقتولاً ، أو مقتلاً ، أو مقاتلاً ، وبكونه معه ربيون كثير . ويكون خبر كأين قد حذف تقديره : في الدنيا أو مضى . وهذا ضعيف ، لأن الكلام مستقل بنفسه لا يحتاج إلى تكلف إضمار . وأما إذا رفع الظاهر فجوزوا أن تكون الجملة الفعلية من قتل ومتعلقاتها في موضع الصفة لنبي ، والخبر محذوف . وهذا كما قلنا ضعيف . ولما ذكروا أن أصل كأين هو أي دخلت عليها كاف التشبيه فجرتها ، فهي عاملة فيها ، كما دخلت على ذا في قولهم : له عندي كذا . وكما دخلت على أنّ في قولهم : كأن ادعى أكثرهم إن كأن ، بقيت فيها الكاف على معنى التشبيه . وإن كذا ، وكأن ، زال عنهما معنى التشبيه . فعلى هذا لا تتعلق الكاف بشيء ، وصار معنى كأين معنى كم ، فلا تدل على التشبيه ألبتة . وقال الحوفي : أما العامل في الكاف فإن حملناها على حكم الأصل فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدّم من الأنبياء وأصحابهم . وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى كم ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع وقتل الخبر . ومن متعلقة بمعنى الاستقرار ، والتقدير الأول أوضح لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى بما يجب من الخفض في أي . وإذا كانت أي على بابها من معاملة اللفظ ، فمن متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه انتهى كلامه . وهو كلام فيه غرابة . وجرهم إلى التخليط في هذه الكلمة ادّعاؤهم بأنها مركبة من : كاف التشبيه ، وإن أصلها أي : فجرت بكاف التشبيه . وهي دعوى لا يقوم على صحتها دليل . وقد ذكرنا رأينا فيها أنها بسيطة مبنية على السكون ، والنون من أصل الكلمة وليس بتنوين ، وحملت في البناء على نظيرتها كم . وإلى أن الفعل مسند إلى الضمير . ذهب الطبري وجماعة ورجح ذلك بأن القصة هي سبب غزوة أحد ، وتخاذل المؤمنين حين قتل محمد صلى اللّه عليه وسلم ، فضرب المثل بنبي قتل . ويؤيد هذا الترجيح قوله : أفإن مات أو قتل . وقد قال ابن عباس في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } النبي ، يتقل ، فكيف لا يخان ؟ وإذا أسند لغير النبي كان المعنى تثبيت المؤمنين لفقد مَن فقد منهم فقط . وإلى أن الفعل مسند إلى الربيين ذهب الحسن وجماعة . قال هو وابن جبير : لم يقتل نبي في حرب قط . وقال ابن : عطية قراءة من قرأ قاتل أعم في المدح ، لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي . ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة قتل إسناده إلى نبي انتهى كلامه . ونقول : قتل : يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب ، لأنها نص في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة . وقاتل : لا تدل على القتل ، إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل . قد تكون مقاتلة ولا يقع قتل . وما ذكر من أنه يحسن عنده ما ذكر لا يظهر حسنه ، بل القراءتان تحتملان الوجهين . وقال أبو الفتح بن جني : في قراءة قتادة لا يحسن أن يستند الفعل إلى الربيين لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد . فإن قيل : يستند إلى نبي مراعاة لمعنى كأين ، فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، فخرج الكلام على معنى كأين . قال أبو الفتح : وهذه القراءة تقوى قول من قال لمن قتل وقاتل : إنما يستند إلى الربيين . انتهى كلامه وليس بظاهر . لأن كأين مثل كم ، وأنت خبير إذا قلت : كم من عانٍ فككته ، فأفردت . راعيت لفظ كم ومعناها الجمع : وإذا قلت : كم من عان فككتهم ، راعيت معنى كم لا لفظها . وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع . فلا فرق من حيثُ المعنى بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون وقتل معه ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة ، لأن مدلول كم وكأين كثير ، والمعنى جمع كثير . وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارةً تفرد مراعاة للفظ ، وتارةً تجمع مراعاة للمعنى كما قال تعالى :{ أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } فقال : منتصر ، وقال : ويولون . فأفرد منتصر ، وجمع في يولون . وقول أبي الفتح في جواب السؤال الذي فرضه : أن اللفظ قد جرى على جهة الإفراد في قوله : من نبي ، أي روعي لفظ كأين لكون تمييزها جاء مفرداً ، فناسب لما ميزت بمفرد أن يراعي لفظها ، والمعنى على الجمع . وقوله : ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد ، هذا المراد مشترك بين أن يفرد الضمير ، أو يجمع . لأن الضمير المفرد ليس معناه هنا إفراد مدلوله ، بل لا فرق بينه مفرداً ومجموعاً من حيث المعنى . وإذ لا فرق فدلالته عامة ، وهي دلالته على كل فرد فرد . وقوله : فخرج الكلام عن معنى كأين ، لم يخرج الكلام عن معنى كأين ، إنما خرج عن جمع الضمير على معني كأين دون لفظها ، لأنه إذا أفرد لفظاً لم يكن مدلوله مفرداً ، إنما يكون جمعاً كما قالوا : هو أحسن الفتيان وأجمله ، معناه : وأجملهم . ومن أسند قتل أو قتل إلى ربيون ، فالمعنى عنده : قتل بعضهم . كما تقول : قتل بنو فلان في وقعة كذا ، أي جماعة منهم . والربي عابد الرب . وكسر الراء من تغيير النسب ، كما قالوا : أمسي في النسبة إلى أمس ، قاله : الأخفش . أو الجماعة قاله : أبو عبيدة . أو منسوب إلى الرّبة وهي الجماعة ، ثم جمع بالواو والنون قاله : الزجاج . أو الجماعة الكثيرة قاله : يونس بن حبيب . وربيون منسوب إليها . قال قطرب : جماعة العلماء على قول يونس ، وأمّا المفسرون فقال ابن مسعود ، وابن عباس : هم الألوف ، واختاره الفراء وغيره . عدد ذلك بعض المفسرين فقال : هم عشرة آلاف . وقال ابن عباس في رواية ، ومجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي ، والربيع : هم الجماعات الكثيرة ، واختاره ابن قتيبة . وقال ابن عباس في رواية الحسن : هم العلماء الأتقياء الصبر على ما يصيبهم . واختاره اليزيدي والزجاج . وقال ابن زيد : الاتباع ، والربانيون الولاة . وقال ابن فارس : الصالحون العارفون باللّه . وقيل : وزراء الأنبياء . وقال الضحاك : الربية الواحدة ألف ، والربيون جمعها . وقال الكلبي : الربية الواحدة عشرة آلاف . وقال النقاش : هم المكثرون العلم من قولهم : ربا الشيء بربو إذا كثر . وهذا لا يصح لاختلاف المادتين ، لأن ربا أصوله راء وباء وواو ، وأصول هذا راء وباء وباء . وقرأ الجمهور بكسر الراء . وقرأ علي ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وعكرمة ، والحسن ، وأبو رجاء ، وعمرو بن عبيد ، وعطاء بن السائب بضم الراء ، وهو من تغيير النسب . كما قالوا : دهري بضم الدال ، وهو منسوب إلى الدهر الطويل . وقرأ ابن عباس فيما روى قتادة عنه : بفتح الراء . قال ابن جني : هي لغة تميم ، وكلها لغات والضمير في وهنوا عائد على الربيين ، إن كان الضمير في قتل عائداً على النبي . وإن كان ربيون مسنداً إليه الفعل مبنياً للفاعل ، فكذلك أو للمفعول ، فالضمير يعود على من بقي منهم ، إذ المعنى يدل عليه . إذ لا يصح عوده على ربيون لأجل العطف بالفاء ، لما أصابهم في سبيل اللّه بقتل أنبيائهم أو ربيبهم . وقرأ الجمهور : وهنوا بفتح الهاء . وقرأ الأعمش ، والحسن ، وأبو السمال بكسرها . وهما لغتان ، وهن يهن كوعد يعد ، ووهن يوهن كوجل يوجل . وقرأ عكرمة وأبو السمال أيضاً : وهنوا بإسكان الهاء كما قالوا نعم في نعم ، وشهد في شهد . وتميم تسكن عين فعل . وما ضعفوا عن الجهاد بعد ما أصابهم ، وقيل : ما ضعف يقينهم ، ولا انحلت عزيمتهم . وأصل الضعف نقصان القوة ، ثم يستعمل في الرأي والعقل . وقرىء ضعَفوا بفتح العين وحكاها الكسائي لغة . وما استكانوا قال ابن إسحاق : ما قعدوا عن الجهاد في دينهم . وقال السدي : ما ذلوا . وقال عطاء : ما تضرعوا . وقال مقاتل : ما استسلموا . وقال أبو العالية : ما جبنوا . وقال المفضل : ما خشعوا . وقال قتادة والربيع : ما ارتدوا عن نصرتهم دينهم ، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بربهم . وكل هذه أقوال متقاربة . وهذا تعريض لما أصابهم يوم أحد من الوهن والانكسار عند الإرجاف بقتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وبضعفهم عند ذلك من مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم ، حين أراد بعضهم أن يعتضد بالمنافق عبد اللّه بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان . واستكان ظاهره أنه استفعل من الكون ، فتكون أصل ألفه واواً أو من قول العرب : مات فلان بكينة سوء ، أي بحالة سوء . وكأنه يكينه إذا خضعه قال هذا : الأزهري وأبو علي . فعلى قولهما أصل الألف ياء . وقال الفراء وطائفة من النحاة : أنه افتعل من السكون ، وأشبعت الفتحة فتولد منها ألف . كما قال : أعوذ باللّه من العقراب ، يريد من العقرب . وهذا الإشباع لا يكون إلا في الشعر . وهذه الكلمة في جميع تصاريفها بنيت على هذا الحرف تقول : استكان بستكين فهو مستكين ومستكان له ، والإشباع لا يكون على هذا الحدّ . {وَاللّه يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } أي على قتال عدوهم قاله : الجمهور . أو على دينهم وقتال الكفار . والظاهر العموم لكل صابر على ما أصابه من قتل في سبيل اللّه ، أو جرح ، أو بلاء ، أو أذى يناله بقولٍ أو فعلٍ أو مصيبة في نفسه ، أو أهله أو ماله ، أو ما يجري مجرى ذلك . وكثيراً ما تمدحت العرب بالصبر وحرصت عليه كما قال طرفة بن العبد : وتشكي النفس ما أصاب بها فاصبري إنك من قوم صبر إن تلاقي منفسياً لاتلفنا فرح الخير ولا نكبو لضر ١٤٧وما كان قولهم . . . . . {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو ، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح ، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى اللّه تعالى بالدعاء ، وحصر قولهم في ذلك القول ، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى اللّه تعالى ، ولا قول إلا هذا القول . لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب ، واختلاف الأقوال . فمن قائل : نأخذ أماناً من أبي سفيان ، ومن قائل : نرجع إلى ديننا ، ومن قائل ما قال حين فرّ . وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربيبهم لم يهنوا ، بل صبروا وقالوا هذا القول ، وهم ربيون أحبار هضماً لأنفسهم ، وإشعاراً أنَّ ما نزل من بلاد الدنيا إنما هو بذنوب من البشر ، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى . وقرأ الجمهور قولهم بالنصب على أنه خبر كان . وإن قالوا في موضع الاسم ، جعلوا ما كان أعرف الاسم ، لأن إنَّ وصلتها تتنزل منزلة الضمير . وقولهم : مضاف للضمير ، يتنزل منزلة العلم . وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع قولهم ، جعلوه اسم كان ، والخبران قالوا . والوجهان فصيحان ، وإن كان الأول أكثر . وقد قرىء : ثم لم تكن فتنتهم بالوجهين في السبعة ، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة ، ليكون طلبهم ذلك إلى اللّه عن زكاة وطهارة . فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حرياً بالإجابة ، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التأكيد . وقيل : الذنوب ما دون الكبائر ، والإسراف الكبائر . وقال أبو عبيدة : الذنوب هي الخطايا ، وإسرافنا أي تفريطنا . وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة . والإقدام هنا قيل : حقيقة ، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطىء الحرب ولقاء العدوّ كي لا تزل . وقيل : المعنى شجّعْ قلوبنا على لقاء العدوّ . وقيل : ثبت قلوبنا على دينك . والأحسن حمله على الحقيقة لأنه من مظانها . وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين . وكثيراً ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله :{ أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا } { إِن تَنصُرُواْ اللّه يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ } وقيل : اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة ، وإسرافنا في الهزيمة ، وثبت أقدامنا بالمصابرة ، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة . قال ابن فورك : في هذا الدعاء ردّ على القدرية لقولهم : إن اللّه لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعي فيما لم يفعله ، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو ، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين . وقد جاء في القرآن أدعية أعقب اللّه بالإجابة فيها ١٤٨فآتاهم اللّه ثواب . . . . . {فَاتَاهُمُ اللّه ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاْخِرَةِ } قرأ الجحدري : فأثابهم من الإثابة . ولمّا تقدم في دعائهم ما يتضمن الإجابة فيه الثوابين وهو قولهم : اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا ، فهذا يتضمن ثواب الآخرة . وثبت أقدامنا وانصرنا يتضمن ثواب الدنيا ، أخبر تعالى أنه منحهم الثوابين . وهناك بدؤا في الطلب بالأهم عندهم ، وهو ما ينشأ عنه ثواب الآخرة ، وهنا أخبر بما أعطاهم مقدماً . ذكر ثواب الدنيا ليكون ذلك إشعاراً لهم بقبول دعائهم وإجابتهم إلى طلبهم ، ولأن ذلك في الزمان متقدم على ثواب الآخرة . قال قتادة وابن إسحاق وغيرهما : ثواب الدنيا هو الظهور على عدوهم . وقال ابن جريج : هو الظفر والغنيمة . وقال الزمخشري : ثواب الدّنيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر . وقال النقاش : ليس إلا الظفر والغلبة ، لأن الغنيمة لم تحل إلا لهذه الأمّة . وهذا صحيح ثبت في الحديث الصحيح : { وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي } وهي إحدى الخمس الذي أوتيها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يؤتها أحد قبله . وحسن ثواب الآخرة الجنة بلا خلاف قاله : ابن عطية . وقيل : الأجر والمغفرة . وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله وتقدمه ، وأنه هو المعتد به عنده { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّه يُرِيدُ الاْخِرَةَ } وترغيباً في طلب ما يحصله من العمل الصالح ومناسبة لآخر الآية . قال علي : من عمل لدنياه أضرّ بآخرته ، ومن عمل لآخرته أضرّ بدنياه ، وقد يجمعهما اللّه تعالى لأقوام . {وَاللّه يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } قد فسر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الإحسان حين سئل عن حقيقته في حديث سؤال جبريل :{ ءانٍ تَعْبُدِ اللّه كَأَنَّكَ } وفسره المفسرون هنا بأحد قولين ، وهو من أحسن ما بينه وبين ربه في لزوم طاعته ، أو من ثبت في القتال مع نبيه حتى يقتل أو يغلب ١٤٩يا أيها الذين . . . . . {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } الخطاب عامّ يتناول أهل أحد وغيرهم . وما زال الكفار مثابرين على رجوع المؤمنين عن دينهم ، ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء . وودُّوا لو تكفرون ، لن تنفعكم { وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}{ وَدَّت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ } وقيل : الخطاب خاص بمن كان مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المؤمنين يوم أحد . فعلى الأول علق على مطلق طاعتهم الرد على العقب والانقلاب بالخسران وهذا غاية في التحرز منهم والمجانبة لهم ، فلا يطاعون في شيء ولا يشاورون ، لأن ذلك يستجر إلى موافقتهم ، ويكون الذين كفروا عاماً . وعلى القول الثاني : يكون الذين كفروا خاصاً . فقال عليّ وابن عباس : هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد : لو كان نبياً ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم . وقال ابن جريج : هم اليهود والنصارى وقاله : الحسن . وعنه : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم لأنهم كانوا يستغوونهم ، ويوقعون لهم الشبه ، ويقولون : لو كان لكم نبياً حقاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس ، يوماً له ويوماً عليه . وقال السدي : هم أبو سفيان وأصحابه من عباد الأوثان . وقال الحسن أيضاً : هو كعب وأصحابه . وقال أبو بكر الرّازي : فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً ، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم ، كالجاسوس والخرّيت الذي يهدي إلى الطريق ، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة ، والزوجة تشير بصواب . والردة هنا على العقب كناية عن الرجوع إلى الكفر . وخاسرين : أي مغبونين ببيعكم الآخرة . ١٥٠بل اللّه مولاكم . . . . . {بَلِ اللّه مَوْلَاكُمْ } بل : لترك الكلام الأول من غير إبطال وأخذ في كلام غيره . والمعنى : ليس الكفار أولياء فيطاعوا في شيء ، بل اللّه مولاكم . وقرأ الحسن : بنصب الجلالة على معنى : بل أطيعوا اللّه ، لأن الشرط السابق يتضمن معنى النهي ، أي لا تطيعوا الكفار فتكفروا ، بل أطيعوا اللّه مولاكم . {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } لما ذكر أنه مولاهم ، أي ناصرهم ذكر أنّه خير ناصر لا يحتاج معه إلى نصرة أحد ، ولا ولايته . وفي هذا دلالة على أن من قاتل لنصر دين اللّه لا يخذل ولا يغلب لأن اللّه مولاه . وقال تعالى : { إِن تَنصُرُواْ اللّه يَنصُرْكُمْ }{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّه فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} ١٥١سنلقي في قلوب . . . . . {سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ } أي هؤلاء الكفار ، وإنْ كانوا ظاهرين عليكم يوم أحد فإنا نخذلهم بإلقاء الرعب في قلوبهم . وأتى بالسين القريبة الاستقبال ، وكذا وقع . لألقى اللّه في قلوبهم الرّعب يوم أحد فانهزموا إلى مكة من غير سبب من المسلمين ، ولهم إذ ذاك القوة والغلبة . وقيل : ذهبوا إلى مكة ، فلما كانوا ببعض الطريق قالوا : ما صنعنا شيئاً قتلنا منهم ثم تركناهم ونحن قاهرون ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ألقى اللّه الرّعب في قلوبهم فأمسكوا . والإلقاء حقيقة في الإجرام ، واستعير هنا للجعل ، ونظيره :{ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } ومثله قول الشاعر : هما نفثا في فيّ من فمويهما على النابح العاوي أشد رجام وقرأ الجمهور : سنلقي بالنون ، وهو مشعر بعظم ما يلقي ، إذ أسنده إلى المتكلم بنون العظمة . وقرأ أيوب السختياني : سيلقي بالياء جرياً على الغيبة السابقة في قوله :{ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } وقدم في قلوبهم : وهو مجرور على المفعول للاهتمام بالمحل الملقى فيه قبل ذكر الملقى . وقرأ ابن عامر والكسائي : الرعب بضم العين ، والباقون بسكونها . فقيل : لغتان . وقيل : الأصل السكون ، وضم اتباعاً كالصبح والصبح . وقيل : الأصل الضم ، وسكن تخفيفاً ، كالرّسل والرسل . وذكروا في إلقاء الرعب في قلوب الكفار يوم أحد قصة طويلة أردنا أن لا نخلي الكتاب من شيء منها ، فلخصنا منها أن علياً أخبر الرسول بأن أبا سفيان وأصحابه حين ارتحلوا ركبوا الإبل وجنبوا الخيل ، فسرَّ بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ثم رجع الرسول إلى المدينة فتجهزوا تبع المشركين إلى حمراء الأسد . وأن معبد الخزاعي جاء إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم وهو كافر ممتعض مما حل بالمسلمين ، وكانت خزاعة تميل إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، وأن المشركين هموا بالرجوع إلى القتال فخذلهم صفوان بن أمية ومعبد . وقال معبد : خرجوا يتحرقون عليكم في جمع لم أر مثله ، ولم أر إلا نواصي خيلهم قد جاءتكم . وحملني ما رأيت أني قلت في ذلك شعراً وأنشد : كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالحرد الأبابيل تردي بأسد كرام لا تنابله عند اللقاء ولا ميل مهازيل فظلت أعدو أظن الأرض مائلة لما سموا برئيس غير مخذول إلى آخر الشعر ، فوقع الرعب في قلوب الكفار . وقوله : سنلقي ، وعد للمؤمنين بالنصر بعد أحد ، والظفر . وقال :{ خَيْرٌ مّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } وفيها دلالة على صدق نبوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ أخبر عن اللّه بأنه يلقي الرعب في قلوبهم فكان كما أخبر به . {بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّه مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَاناً } الباء للسبب ، وما مصدرية : أي بسبب إشراكهم باللّه آلهة لم ينزل بإشراكها حجة ولا برهاناً ، وتسليط النفي على الإنزال ، والمقصود : نفي السلطان ، أي آلهة لا سلطان في إشراكها ، فينزل نحو قوله : على لاحب لا يهتدى بمناره أي لا منار له فيهتدى به وقوله : ولا ترى الضب بها ينجحر أي لا ينجحر الضب فيرى بها . والمرادُ نفي السلطان والنزول معاً . وكان الإشراك باللّه سبباً لإلقاء الرعب ، لأنهم يكرهون الموت ويؤثرون الحياة ، إذ لم تتعلق آمالهم بالآخرة ولا بثواب فيها ولا عقاب ، فصار اعتقادهم ذلك مؤثراً في الرغبة في الحياة الدنيا كما قالوا : { وَأَنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } وفي قوله : ما لم ينزل به سلطاناً ، دليل على إبطال التقليد ، إذ لا برهان مع المقلد . {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ } أخبر تعالى بأن مصيرهم ومرجعهم إلى النار فهم في الدنيا مرعوبون وفي الآخرة معذبون ، بسبب إشراكهم . فهو جالب لهم الشر في الدنيا والآخرة . {وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ } بالغ في ذم مثواهم والمخصوص بالذم محذوف ، أي : وبئس مثوى الظالمين النار . وجعل النار مأواهم ومثواهم . وبدأ بالمأوى وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان ولا يلزم منه الثواء ، لأن الثواء دال على الإقامة ، فجعلها مأوى ومثوى كما قال تعالى :{ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } ونبه على الوصف الذي استحقوا به النار وهو الظلم ، ومجاوزة الحد إذ أشركوا باللّه غيره . كما قال :{ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} ١٥٢ولقد صدقكم اللّه . . . . . {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا } هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين قالوا : وعدنا اللّه النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا فنزلت إعلاماً أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولاً ، وكان الإمداد مشروطاً بالصبر والتقوى . واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص اللّه في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات ، وإنْ كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على مع فعل وستر ، إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل . وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولاً ، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظلم في ذلك اليوم ، وهو مذكور في السير . وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس . والمسلمون في سبعمائة رجل . وتعدت صدق هنا لى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين . ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر . واختار والعامل في إذ صدقكم . ومعنى تحسونهم : تقتلونهم . وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلاً . وقرأ عبيد بن عمير تحسونهم رباعياً من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل . وتمني القتل بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف . والتنازع وهو التجاذب في الأمر . وهذا التنازع صدر من الرماة . كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : { اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم } ووعدهم بالنصر إن انتهوا إلى أمره . فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا ؟ الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين . وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن محمداً قد قتل . والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلباً للنهب والغنيمة ، وكان خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على مَنْ بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر المسلمين فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلاً . من بعد ما أراكم ما تحبون ، وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم . قال الزبير بن العوام : لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا وصرخ صارخ : ألا إن محمداً قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا . وإذاً في قوله : إذا فشلتم ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ، ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت . وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم على زيادة الواو ، قاله : الفراء وغيره . وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف . والصحيح : أنه محذوف لدلالة المعنى عليه ، فقدره ابن عطية : انهزمتم . والزمخشري : منعكم نصرة ، وغيرهما : امتحنتم . والتقادير متقاربة . وحذفُ جواب الشرط لفهم المعنى جائز لقوله تعالى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الاْرْضِ أَوْ } تقديره فافعل ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين . ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير :{ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف ، يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع ، وعصى . لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية . وقال أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد اللّه تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك على صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم النبي بأن الأخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه اللّه عليها ، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن اللّه تعالى .{ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاْخِرَةَ } قال ابن عباس وجمهور المفسرين : الدنيا الغنيمة . وقال ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحداً من أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم عبد اللّه بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعاً ، وكان الرماة خمسين ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر . وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين فقاتل حتى قتل ، كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه . وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف .{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي جعلكم تنصرفون .{ لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي ليمتحن صبركم على المصائب وثباتكم على الإيمان عندها . وقيل : صرفكم عنهم أي لم تتماد الكسرة عليكم فيستأصلوكم . وقيل : المعنى لم يكلفكم طلبهم عقيب انصرافهم . وتأولته المعتزلة على معنى : ثم انصرفتم عنهم ، فإضافته إلى اللّه تعالى بإخراجه الرعب من قلوب الكافرين ابتلاء للمؤمنين . وقيل : معنى ليبتليكم أي لينزل بكم ذلك البلاء من القتل والتمحيص .{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قيل : عن عقوبتكم على فراركم ، ولم يؤاخذكم به . وقيل : برد العدو عنكم . وقيل : بترك الأمر بالعود إلى قتالهم من فوركم . وقيل : بترك الاستئصال بعد المعصية والمخالفة . فمعنى عفا عنكم أبقى عليكم . قال الحسن : قتل منهم جماعة سبعون ، وقتل عم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وشج وجهه وكسرت رباعيته . وإنما العفو إن لم يستأصلهم هؤلاء مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وفي سبيل اللّه غضاب للّه يقاتلون أعداء اللّه ، نهوا عن شيء فضيعوه ، فواللّه ما تركوا حتى غموا بهذا الغم . يا فسق الفاسقين اليوم يحل كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه فسوف يعلم انتهى كلام الحسن . والظاهر أن العفو إنما هو عن الذنب ، أي لم يؤاخذكم بالعصيان . ويدل عليه قرينة قوله : وعصيتم . والمعنى : أن الذنب كان يستحق أكثر مما نزل بكم ، فعفا عنكم ، فهو إخبار بالعفو عما كان يستحق بالذنب من العقاب . وقال بهذا : ابن جريج ، وابن إسحاق ، وجماعة . وفيه مع ذلك تحذير . { وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي في الأحوال ، أو بالعفو . وتضمنت هذه الآيات من البيان والبديع ضروباً : من ذلك الاستفهام الذي معناه الإنكار في : أم حسبتم . والتجنيس المماثل في : انقلبتم ومن ينقلب ، وفي ثواب الدنيا وحسن ثواب . والمغاير في قولهم : إلا أن قالوا . وتسمية الشيء باسم سببه في : تمنون الموت أي الجهاد في سبيل اللّه ، وفي قوله : وثبت أقدامنا فيمن فسر ذلك بالقلوب ، لأن ثبات الأقدام متسبب عن ثبات القلوب . والالتفات في : وسنجزي الشاكرين . والتكرار في : ولما يعلم ويعلم لاختلاف المتعلق . أو للتنبيه على فضل الصابر . وفي : أفإن مات أو قتل لأن العرف في الموت خلاف العرف في القتل ، والمعنى : مفارقة الروح الجسد فهو واحد . ومن في ومن يرد ثواب الجملتين ، وفي : ذنوبنا وإسرافنا في قول من سوى بينهما ، وفي : ثواب وحسن ثواب . وفي : لفظ الجلالة ، وفي : منكم من يريد الجملتين . والتقسيم في : ومن يرد وفي منكم من يريد . والاختصاص في : الشاكرين ، والصابرين ، والمؤمنين . والطباق : في آمنوا أن تطيعوا الذين كفروا . والتشبيه في : يردّوكم على أعقابكم ، شبه الرجوع عن الدين بالراجع القهقري ، والذي حبط عمله بالكفر بالخاسر الذي ضاع ربحه ورأس ماله وبالمنقلب الذي يروح في طريق ويغدو في أخرى ، وفي قوله : سنلقى . وقيل : هذا كله استعارة . والحذف في عدة مواضع . ١٥٣إذ تصعدون ولا . . . . . الإصعاد : ابتداء السفر ، والمخرج . والصعود : مصدر صعد رقى من سفل إلى علو ، قاله : الفراء ، وأبو حاتم والزجاج . وقال القتبي : أصعد أبعد في الذهاب ، فكأنه إبعاد كإبعاد الارتفاع . قال : ألا أيهذا السائلي أين صعدت فإن لها في أرض يثرب موعدا وأنشد أبو عبيدة : قد كنت تبكيني على الاصعاد فاليوم سرحت وصاح الحادي وقال المفضل : صعد ، وأصعد ، وصعد بمعنى واحد . والصعيد : وجه الأرض . وصعدة : إسم من أسماء الأرض . وأصعد : معناه دخل في الصعيد . فات الشيء أعجز إدراكه ، وهو متعد ، ومصدره : فوت ، وهو قياس فعل المتعدي . النعاس : النوم الخفيف . يقال : نعس ينعس نعاساً فهو ناعس ، ولا يقال : نعسان . وقال الفراء : قد سمعتها ولكني لا أشتهيها . المضجع : المكان الذي يتكأ فيه للنوم ، ومنه : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ } والمضاجع : المصارع ، وهي أماكن القتل ، سميت بذلك لضجعة المقتول فيها . الغزو القصد وكذلك المغزى ، ثم أطلق على قصد مخصوص وهو : الإيقاع بالعدو . وتقول : غزا بني فلان ، أوقع بهم القتل والنهب وما أشبه ذلك . وغزى : جمع غازٍ ، كعاف وعفى . وقالوا : غزاء بالمدر . وكلاهما لا ينقاس . أجرى جمع فاعل الصفة من المعتل اللام مجرى صحيحها ، كركع وصوام . والقياس : فعله كقاض وقضاة . ويقال : أغزت الناقة عسر لقاحها . وأتان مغزية تأخر نتاجها ثم تنتج . يقال : لأن الشيء يلين ، فهو ليّن . والمصدر : لين ولَيان بفتح اللام ، وأصله في الجرم وهو نعومته ، وانتفاء خشونته ، ولا يدرك إلا باللمس . ثم توسعوا ونقلوه إلى المعاني . الفظاظة الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً . قال الشاعر في ابنة له : أخشى فظاظة عم أو جفاء أخ وكنت أخشى عليها من أذى الكلم الغلظ : أصله في الجرم ، وهو تكثر أجزائه . ثم يستعمل في قلة الانفعال والإشفاق والرحمة . كما قال : يبكي علينا ولا نبكي على أحد لنحن أغلظ أكباداً من الإبل الانفضاض : التفرق . وفضضت الشيء كسرتُه ، وهو تفرقة أجزائه . الخذل والخذلان : هو الترك في موضع يحتاج فيه إلى التارك . وأصله : من خذل الظبي ، ولهذا قيل لها : خاذل إذا تركتها أمها . وهذا على النسب أي ذات خذل ، لأن المتروكة هي الخاذل بمعنى مخذولة ، ويقال : خاذلة . قال الشاعر : بجيد مغزلة إدماء خاذلة من الظباء تراعي شادناً خرقا ويقال أيضاً لها : خذول فعول ، بمعنى مفعول . قال : خذول تراعي ربرباً بخميلة تناول أطراف البريد وترتدي الغلول : أخذ المال من الغنيمة في خفاء . والفعل منه غلَّ يَغُلُّ بضم الغين . والغل الضغن ، والفعل منه غلَّ يغِلُ بكسر الغين . وقال أبو علي : تقول العرب : أغل الرجل إغلالاً ، خان في الأمانة . قال النمر : جزى اللّه عني جمرة بن نوفل جزاء مغل بالأمانة كاذب وقال بعض النحويين : الغلول مأخوذ من الغلل وهو الماء الجاري في أصول الشجر والروح . ويقال أيضاً في الغلول : أغل إغلالاً وأغلّ الحارز سرق شيئاً من اللحم مع الجلد . ويقال : أغله وجده غالاً كقولك : أبخلته وجدته بخيلاً . السخط مصدر سخط ، جاء على القياس . ويقال فيه : السُخْطُ بضم السين وسكون الخاء . ويقال : مات فلان في سخطة الملك أي في سخطة . والسخط الكراهة المفرطة ، ويقابله الرضا . { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِى أُخْرَاكُمْ } هذه الجمل التي تضمنت التوبيخ والعتب الشديد . إذ هو تذكار بفرار من فرّ وبالغ في الهرب ، ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يدعوه إليه . فمن شدّة الفرار واشتغاله بنفسه وهو يروم نجاتها لم يصغ إلى دعاء الرسول ، وهذا من أعظم العتب حيث فرّ ، والحالة أن رسول اللّه يدعوه إليه . وقرأ الجمهور : تصعدون مضارع أصعد ، والهمزة في أصعد للدخول . أي : دخلتم في الصعيد ، ذهبتم فيه . كما تقول : أصب ح زيد ، أي دخل في الصباح . فالمعنى : إذ تذهبون في الأرض . وتبين ذلك قراءة أبي : إذ تصعدون في الوادي . وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن ومجاهد وقتادة واليزيدي : تصعدون من صعد في الجبل إذا ارتقى إليه . وقرأ أبو حيرة : تصعدون من تصعد في السلم ، وأصله : تتصعدون ، فحذفت إحدى التاءين على الخلاف في ذلك ، أي تاء المضارعة ؟ أم تاء تفعل ؟ والجمع بينهما أنهم أولاً أصعدوا في الوادي لما أرهقهم العدو ، وصعدوا في الجبل . وقرأ ابن محيصن وابن كثير في رواية شبل : يصعدون ولا يلوون بالياء على الخروج من الخطاب إلى الغائب . والعامل في إذا ذكر محذوفة . أو عصيتم ، أو تنازعتم ، أو فشلتم ، أو عفا عنكم ، أو ليبتليكم ، أو صرفكم ، وهذان عن الزمخشري ، وما قبله عن ابن عطية . والثلاثة قبله بعيدة لطول الفصل . والأول جيد ، لأنَّ ما قبل إذ جمل مستقلة يحسن السكوت عليها ، فليس لها تعلق إعرابي بما بعدها ، إنما تتعلق به من حيث أنَّ السياق كله في قصة واحدة . وتعلقه بصرفكم جيد من حيث المعنى ، وبعفا عنكم جيد من حيث القرب . ومعنى ولا تلوون على أحد : أي لا ترجعون لأحد من شدة الفرار . لوى بكذا ذهب به . ولوى عليه : كر عليه وعطف . وهذا أشد في المبالغة من قوله : أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا لأنه في الآية نفي عام ، وفي هذا نفي خاص ، وهو على من تعذرا ، وقال دريد بن الصمة : وهل يرد المنهزم شيء وقرىء تلؤن بإبدال واو وهمزة وذلك لكراهة إجتماع الواوين وقياس هذه الواو المضمومة ، أن لاتبدل همزة لأن الضمة فيها عارضة ، ومتى وقعت الواو غير ، وهي مضمومة فلا يجوز الإبدال منها همزة إلا بشرطين أحدهما : أن تكون الضمة لازمة . الثاني : أن لا تكون يمكن تخفيفها بالإسكان . مثال ذلك : فووج وفوول . وغوور . فهنا يجوز فؤوج وقؤول وغؤور بالهمز . ومثل كونها عارضة : هذا دلوك . ومثل إمكان تخفيفها بالإسكان : هذا سور ، ونور ، جمع سوار ونوار . فإنك تقول فيهما : سور ونور . ونبه بعض أصحابنا على شرط آخر وهو لا بد منه ، وهو : أن لا يكون مدغماً فيها نحو : تعود ، فلا يجوز فيه تعوذ بإبدال الواو المضمومة همزة . وزاد بعض النحويين شرطاً آخر وهو : أن لا تكون الواو زائدة نحو : الترهوك وهذا الشرط ليس مجمعاً عليه . وقرأ الحسن : تلون ، وخرجوها على قراءة من همز الواو ، ونقل الحركة إلى اللام ، وحذف الهمزة . قال ابن عطية : وحذفت إحدى الواوين الساكنين ، وكان قد قال في هذه القراءة : هي قراءة متركبة على قراءة من همز الواو المضمومة ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام انتهى . وهذا كلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه قد نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنان ، إحداهما : الواو التي هي عين الكلمة ، والأخرى : واو الضمير . فحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنان ، وهذا قول من لم يمعن في صناعة النحو . لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام ، فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ، ولا يلتقي واوان ساكنان . ولو قال : استثقلت الضمة على الواو ، لأن الضمة كأنها واو ، فصار ذلك كأنه جمع ثلاث واواوت ، فتنقلب الضمة إلى اللام ، فالتقى ساكنان ، فحذفت الأولى منهما ، ولم يبهم في قوله إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة ، أما أنْ يبنى ذلك على أنه على لغة من همز على زعمه ، فلا يتصور . ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدي بعلي ، على تضمين معنى العطف . أي : لا تعطفون على أحد . وقرأ الأعمش وأبو بكر في رواية عن عاصم : تلوون من ألوى ، وهي لغة في لوى . وظاهر قوله على أحد العموم . وقيل : المراد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وعبر بأحد عنه تعظيماً له وصوناً لاسمه أن يذكر عند ذهابهم عنه ، قاله : ابن عباس والكلبي . وقرأ حميد بن قيس على أُحُد بضم الهمزة والحاء ، وهو الجبل . قال ابن عطية : والقراءة الشهيرة أقوى ، لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن على الجبل إلا بعد ما فرّ الناس عنه ، وهذه الحال من أصعادهم إنما كانت وهو يدعوهم انتهى . وقال غيره : الخطاب فيه لمن أمعن في الهرب ولم يصعد الجبل على من صعد . ويجوز أن يكون أراد بقوله : ولا تلوون على أحد ، أي من كان على جبل أحد ، وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن معه الذين صعدوا . وتلوون هو من ليّ العنق ، لأن مَن عرج على الشيء يلوي عنقه ، أو عنان دابته . والألف واللام في الرسول للعهد . ودعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، روي أنه كان يقول : { إليّ عباد اللّه } والناس يفرون عنه . وروي : { أي عباد اللّه ارجعوا } قاله : ابن عباس : وفي رواية: { ارجعوا إليّ فإني رسول اللّه من يكر له الجنة } وهو قول : السدي ، والربيع . قال القرطبي : وكان دعاؤه تغيير للمنكر ، ومحال أن يرى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المنكر وهو الانهزام ثم لا ينهى عنه . ومعنى في أخراكم : أي في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، وهي المتأخرة . يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم ، كما تقول : في أولهم وأولاهم بتأويل مقدّمتهم وجماعتهم الأولى . وفي قوله : في أخراكم دلالة عظيمة على شجاعة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فإن الوقوف على أعقاب الشجعان وهم فرار والثبات فيه إنما هو للأبطال الأنجاد ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أشجع الناس . قال سلمة : كنا إذا احمرّ البأس اتقيناه برسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. { فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ } الفاعل بأثابكم هو اللّه تعالى . وقال الفراء : الإثابة هنا بمعنى المغالبة انتهى . وسمى الغم ثواباً على معنى أنه قائم في هذه النازلة مقام الثواب الذي كان يحصل لولا الفرار . فهو نظير قوله : تحية بينهم ضرب وجيع وقوله : أخاف زياد أن يكون عطاؤه أداهم سوداً أو محدرجة سمرا جعل القيود والسياط عطاء ، ومحدرجة بمعنى مدحرجة . والباء في بغم : إمّا أن تكون للمصاحبة ، أو للسبب . فإن كانت للمصاحبة وهي التي عبر بعضهم عنها بمعنى : مع . والمعنى : غماً مصاحباً لغم ، فيكون الغمان إذ ذاك لهم . ف الأول : هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل . والثاني : إشراف خالد بخيل المشركين عليهم ، قاله : ابن عباس ، ومقاتل . وقيل : الغم الأوّل سببه فرارهم الأوّل ، والثاني سببه فرارهم حين سمعوا أن محمداً قد قتل قاله : مجاهد . وقيل : الأوّل ما فاتهم من الغنيمة وأصابهم من الجراح والقتل . والثاني حين سمعوا أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قتل ، قاله : قتادة والربيع . وقيل : عكس هذا الترتيب ، وعزاه ابن عطية إلى قتادة ومجاهد . وقيل : الأول ما فاتهم من الغنيمة والفتح . والثاني : إشراف أبي سفيان عليهم ، ذكره الثعلبي . وقيل : الأول هو قتلهم وجراحهم وكل ما جرى في ذلك المأزق . والثاني : إشراف أبي سفيان على النبي صلى اللّه عليه وسلم ومن كان معه ، قاله : السدي ومجاهد أيضاً وغيرهما . وعبر الزمخشري عن هذا المعنى وهو اجتماع الغمين لهم بقوله : غماً بعد غم ، وغماً متصلاً بغم من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والجرح ، والقتل ، وظفر المشركين ، وفوت الغنيمة ، والنصر انتهى كلامه . وقوله : غماً بعد غم تفسير للمعنى ، لا تفسير إعراب . لأن الباء لا تكون بمعنى بعد . وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . ولذلك قال بعضهم : إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . ولذلك قالبعضهم : إن المعنى غماً على غم ، فينبغي أن يحمل على تفسير المعنى ، وإن كان بعضهم قد ذهب إلى ذلك . وإن كانت الباء للسبب وهي التي عبر بعضهم عنها أنها بمعنى الجزا ، فيكون الغم الأوّل للصحابة . والثاني قال الحسن وغيره : متعلقه المشركون يوم بدر . والمعنى : أثابكم غماً بالغم الذي أوقع على أيديكم بالكفار يوم بدر . قال ابن عطية : فالباء على هذا باء معادلة ، كما قال أبو سفيان يوم بدر : والحرب سجال . وقال قوم منهم الزجاج ، وتبعه الزمخشري : متعلقه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، والمعنى : جازاكم غماً بسبب الغم الذي أدخلتموه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وسائر المؤمنين بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الضمير في : فأثابكم للرسول ، أي فآساكم في الاغتمام ، وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم ، فأثابكم عما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ، ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم ، كيلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر اللّه ، ولا على ما أصابكم من غلبة العدوّ انتهى كلامه . وهو خلاف الظاهر . لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو اللّه تعالى ، وذلك في قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ } وقوله :{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ }{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } واللّه فيكون قوله :{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّه وَعْدَهُ } وقوله :{ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ }{ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } واللّه فيكون قوله : فأثابكم مسنداً إلى اللّه تعالى . وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعى عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يده يدعوهم ، فلم يجيء مقصوداً لأن يحدث عنه ، إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال . وقال الزمخشري : فأثابكم عطف على صرفكم انتهى . وفيه بعدٌ لطول الفصل بين المتعاطفين . والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون ، لأنه مضارع في معنى الماضي ، لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي ، إذ هي ظرف لما مضى . والمعنى : إذ صعدتم وما لويتم على أحد فأثابكم . {لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ } اللام لام كي ، وتتعلق بقوله : فأثابكم . فقيل : لا زائدة لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحزن . فالمعنى : على أنه غمهم ليحزنهم عقوبة لهم على تركهم موافقتهم قاله : أبو البقاء وغيره . وتكون كهي في قوله :{ لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ } إذ تقديره : لأن يعلم . ويكون أعلمهم بذلك تبكيتاً لهم ، وزجراً أنْ يعودوا لمثله . والجمهور على أن لا ثابتة على معناها من النفي . واختلفوا في تعليل الإثابة بانتفاء الحزن على ما ذكر . فقال الزمخشري : لكيلا تحزنوا لتتمرّنوا على تجرع الغموم ، وتضروا باحتمال الشدائد ، فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ، ولا على مصيب من المضار انتهى . فجعل العلة في الحقيقة ثبوتية ، وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ، ورتب على ذلك انتفاء الحزن ، وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق به بقصة أحد ، بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة . و قال ابن عطية : المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم ، فأنتم أذيتم أنفسكم . وعادة البشر أنَّ جاني الذنب يصبر للعقوبة ، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما وقع هو مع ظنه البراءة بنفسه انتهى . وهذا تفسير مخالف لتفسير الزمخشري . ومن المفسرين من ذهب إلى أن قوله : لكيلا تحزنوا متعلق بقوله : ولقد عفا عنكم ، ويكون اللّه أعلمهم بذلك تسلية لمصابهم وعوضاً لهم عن ما أصابهم من الغم ، لأن عفوه يذهب كل غم . وفيه بعد لطول الفصل ، ولأن ظاهره تعلقه بمجاورة وهو فأثابكم . قال ابن عباس : والذي فاتهم من الغنيمة ، والذي أصابهم من الفشل والهزيمة ، ومما تحتمله الآية : أنه لما ذكر اصعادهم وفرارهم مجدّين في الهرب في حال ادعاء الرسول صلى اللّه عليه وسلم إليه بالرجوع عن الهرب والانحياز إلى فئته ، كان الجد في الهرب سبباً لاتصال الغموم بهم ، وشغلهم بأنفسهم طلباً للنجاة من الموت ، فصار ذلك أي : شغلهم بأنفسهم واغتمامهم المتصل بهم من جهة خوف القتل سبباً لانتفاء الحزن على فائت من الغنيمة ، ومصاب من الجراح والقتل لإخوانهم ، كأنه قيل : صاروا في حالة من اغتمامهم واهتمامم بنجاة أنفسهم بحيث لا يخطر لهم ببال حزن على شيء فايت ولا مصاب وإن جل ، فقد شغلهم بأنفسهم لينتفي الحزن منهم . { وَاللّه خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } هذه الجملة تقتضي تهديداً ، وخص العمل هنا وإن كان تعالى خبيراً بجميع الأحوال من الأعمال والأقوال والنيات ، تنبيهاً على أعمالهم من تولية الأدبار والمبالغة في الفرار ، وهي أعمال تخشى عاقبتها وعقابها . ١٥٤ثم أنزل عليكم . . . . . {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاساً } الأمنة : الأمن ، قاله : ابن قتيبة وغيره . وفرق آخرون فقالوا : الأمنة تكون مع بقاء أسباب الخوف ، والأمن يكون مع زوال أسبابه . وقرأ الجمهور : أمنة بفتح الميم ، على أنه بمعنى الأمن . أو جمع آمن كبار وبرره ، ويأتي إعرابه . وقرأ النخعي وابن محيصن : أمْنة بسكون الميم ، بمعنى الأمن . ومعنى الآية : امتنان اللّه عليهم بأمنهم بعد الخوف والغم ، بحيث صاروا من الأمن ينامون . وذلك أن الشديد الخوف والغم لا يكاد ينام . ونقل المفسرون ما أخبرت به الصحابة من غلبة النوم الذي غشيهم كأبي طلحة : والزبير ، وابن مسعود . واختلفوا في الوقت الذي غشيهم فيه النعاس . فقال الجمهور : حين ارتحل أبو سفيان من موضع الحرب ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لعلي وكان من المتحيزين إليه : { إذهب فانظر إلى القوم فإنْ كانوا جنبوا الخيل فهم ناهضون إلى مكة ، وإن كانوا على خيلهم فهم عائدون إلى المدينة فاتقوا اللّه واصبروا } ووطنهم على القتال ، فمضى علي ثم رجع فأخبر : أنهم جنبوا الخيل ، وقعدوا على أثقالهم عجالاً ، فأمن المؤمنون المصدقون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وألقى اللّه تعالى عليهم النعاس . وبقي المنافقون الذين في قلوبهم مرض لا يصدقون ، بل كان ظنهم أنّ أبا سفيان يؤم المدينة ، فلم يقع على أحد منهم نوم ، وإنما كان همهم في أحوالهم الدنيوية . وثبت في البخاري من حديث أبي طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، وفي طريق رفعت رأسي فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته . وهذا يدل على أنهم غشيهم النعاس وهم في المصاف وسياق الآية والحديث الأول يدلان على خلاف ذلك . قال تعالى { فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمّ} والغم كان بعد أن كسروا وتفرقوا عن مصافهم ورحل المشركون عنهم . والجمع بين هذين القولين : أن المصاف الذي أخبر عنه أبو طلحة كان في الجبل بعد الكسرة ، أشرف عليهم أبو سفيان من علو في الخيل الكثيرة ، فرماهم من كان انحاز إلى الجبل من الصحابة بالحجارة ، وأغنى هناك عمر حتى أنزلوهم ، وما زالوا صافين حتى جاءهم خبر قريش أنهم عزموا على الرّحيل إلى مكة ، فأنزل اللّه عليهم النعاس في ذلك الموطن ، فأمنوا ولم يأمن المنافقون . والفاعل بانزل ضمير يعود على اللّه تعالى ، وهو معطوف على فأثابكم . وعليكم يدل على تجلل النعاس واستعلائه وغلبته ، ونسبة الإنزال مجاز لأن حقيقته في الإجرام . وأعربوا أمنة مفعولاً بأنزل ، ونعاساً بدل منه ، وهو بدل اشتمال . لأن كلاًّ منهما قد يتصور اشتماله على الآخر ، أو يتصور اشتمال العامل عليهما على الخلاف في ذلك . أو عطف بيان ، ولا يجوز على رأي الجمهور من البصريين لأن من شرط عطف البيان عندهم أن يكون في المعارف . أو مفعول من أجله وهو ضعيف ، لاختلال أحد الشروط وهو : اتحاد الفاعل ، ففاعل الإنزال هو اللّه تعالى ، وفاعل النعاس هو المنزل عليهم ، وهذا الشرط هو على مذهب الجمهور من النحويين . وقيل : نعاساً هو مفعول أنزل ، وأمنة حال منه ، لأنه في الأصل نعت نكرة تقدم عليها فانتصب على الحال . التقدير : نعاساً ذا أمنة ، لأن النعاس ليس هو الأمن . أو حال من المجرور على تقدير : ذوي أمنة . أو على أنه جمع آمن ، أي آمنين ، أو مفعول من أجله أي لأمنة قاله : الزمخشري ، وهو ضعيف بما ضعفنا به قول من أعرب نعاساً مفعولاً من أجله . {يَغْشَى طَائِفَةً مّنْكُمْ } هم المؤمنون . ويدل هذا على أن قوله : ثم أنزل عليكم ، عام مخصوص ، لأنه في الحقيقة ما أنزل إلا على من آمن . وقرأ حمزة والكسائي : تغشى بالتاء حملاً على لفظ أمنة هكذا قالوا . وقالوا : الجملة في موضع الصفة ، وهذا ليس بواضح ، لأن النحويين نصوا على أن الصفة مقدمة على البدل وعلى عطف البيان إذا اجتمعت . فمن أعرب نعاساً بدلاً أو عطف بيان لا يتم له ذلك ، لأنه مخالف لهذه القاعدة ، ومن أعربه مفعولاً من أجله ففيه أيضاً الفصل بين النعت والمنعوت بهذه الفضلة . وفي جواز ذلك نظر مع ما نبهنا عليه من فوات الشرط وهو : اتحاد الفاعل . فإن جعلت تغشى جملة مستأنفة وكأنها جواب لسؤال من سأل : ما حكم هذه الأمنة ؟ فأخبر تعالى تغشى طائفة منكم ، جاز ذلك . و قال ابن عطية : أسند الفعل إلى ضمير المبدل منه انتهى . لما أعرب نعاساً بدلاً من أمنة ، كان القياس أن يحدث عن البدل لا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه ، فحدث هنا عن المبدل منه . فإذا قلت : إن هنداً حسنها فاتن ، كان الخبر عن حسنها ، هذا هو المشهور في كلام العرب . وأجاز بعض أصحابنا أن يخبر عن المبدل منه كما أجاز ذلك ابن عطية في الآية ، واستدل على ذلك بقوله : إن السيوف غدوها ورواحها تركت هوازن مثل قرن الأعضب ويقول الآخر : وكأنه لهق السراة كأنه ما حاجبيه معين بسواد فقال : تركت ، ولم يقل تركاً . وقال معين : ولم يقل معينان ، فأعاد الضمير على المبدل منه وهو السيوف ، والضمير في كأنه ولم يعد على البدل وهي : غدوها ورواحها وحاجبيه . وما زائدة بين المبدل منه والبدل . ولا حجة فيما استدل به لاحتمال أن يكون انتصاب غدوها ورواحها على الظرف لا على البدل ، ولاحتمال أن يكون معين خبراً عن حاجبيه ، لأنه يجوز أن يخبر عن الاثنين اللذين لا يستغني أحدهما عن الآخر ، كاليدين والرجلين والعينين والحاجبين إخبار الواحد . كما قال : لمن زحلوقه زل بها العينان تنهل وقال : وكأنّ في العينين حبّ قرنفل أو سنبلاً كحلت به فانهلت فقال تنهل وكحلت به ، ولم يقل تنهلان ولا كحلتا به وهذا كما أجازوا أن يخبر عن الواحد من هذين إخبار المثنى ، قال : إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى بصحراء فلج ظلتا تكفان فقال : ظلتا ولم يقل : ظلت تكف . وقرأ الباقون : يغشى بالياء ، حمله على لفظ النعاس . {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّه غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاْمْرِ مِن شَىْء قُلْ إِنَّ } قال مكي : أجمع المفسرون على أن هذه الطائفة هم المنافقون ، وقالوا : غشي النعاس أهل الإيمان والإخلاص ، فكان سبباً لأمنهم وثباتهم . وعرى منه أهل النفاق والشك ، فكان سبباً لجزعهم وانكشافهم عن مراتبهم في مصافهم انتهى . ويقال : أهمني الشيء ، أي : كان من همي وقصدي . أي : مما أهم به أو قصد . وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم ، أي الغم . فعلى هذا اختلف المفسرون في قد أهمتهم أنفسهم . فقال قتادة والرّبيع وابن إسحاق وأكثرهم : هو بمعنى الغم ، والمعنى : أن نفوسهم المريضة وظنونهم السيئة قد جلبت إليهم خوف القتل ، وهذا معنى قول الزمخشري : أو قد أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الغموم والأشجان ، فهم في التشاكي . وقال بعض المفسرين : هو مِن هَمَّ بالشيء أراد فعله . والمعنى : أهمتهم أنفسهم المكاشفة ونبذ الدين . وهذا القول من قال : قد قتل محمد فنلرجع إلى ديننا الأول ، ونحو هذا من الأقوال . وقال الزمخشريفي قوله : قد أهمتهم أنفسهم ، ما بهم إلا همّ أنفسهم ، لا هم الدّين ، ولا هم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم والمسلمين انتهى . فيكون من قولهم : أهمني الشيء أي : كان من همي وإرادتي . والمعنى : أهمهم خلاص أنفسهم خاصة ، أي : كان من همهم وإرادتهم خلاص أنفسهم فقط ، ومن غير الحق يظنون أن الإسلام ليس بحق ، وأن أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذهب ويزول . ومعنى ظن الجاهلية عند الجمهور : المدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام ، كما قال :{ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ }{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ } وكما تقول : شعر الجاهلية . وقال ابن عباس : سمعت أبي في الجاهلية يقول : اسقنا كأساً دهاقاً . وقال بعض المفسرين : المعنى ظن الفرقة الجاهلية ، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه ، ونحا إلى هذا القول : قتادة والطبري . قال مقاتل : ظنوا أن أمره مضمحل . وقال الزجاج : إن مدّته قد انقضت . وقال الضحاك عن ابن عباس : ظنوا أن محمداً صلى اللّه عليه وسلم قد قتل . وقيل : ظن الجاهلية إبطال النبوّات والشرائع . وقيل : يأسهم من نصر اللّه وشكهم في سابق وعده بالنصرة . وقيل : يظنون أن الحق ما عليه الكفار ، فلذلك نصروا . وقيل : كذبوا بالقدر . قال الزمخشري : وظن الجاهلية كقولك : خاتم الجود ورجل صدق ، تريد الظن المختص بالملة الجاهلية . ويجوز أنْ يراد ظن أهل الجاهلية ، أي لا يظن مثل ذلك الظن إلا أهل الشرك الجاهلون باللّه . انتهى وظاهر قوله : هل لنا من الأمر من شيء الاستفهام ؟ فقيل : سألوا الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، هل لهم معاشر المسلمين من النصر والظهور على العدوّ شي أي نصيب ؟ وأجيبوا بقوله :{ قُلْ إِنَّ الاْمْرَ كُلَّهُ للّه } وهو النصر والغلبة . كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي ، وأن جندنا لهم الغالبون . وقيل : المعنى ليس النصر لنا ، بل هو للمشركين . وقال قتادة وابن جريج : قيل لعبد اللّه بن أبيّ بن سلول : قتل بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد : أن الرأي ليس لنا ، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا ولم نخرج ولم يقتل أحد منا . وهذا منهم قول بأجلين . وذكر المهدوي وابن فورك : أن المعنى لسنا على حق في اتباع محمد . ويضعف هذا التأويل الرد عليهم بقوله : قل . فأفهم أن كلامهم إنما هو في معنى سوء الرأي في الخروج ، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد . وعلى هذا المعنى وما قبله من قول قتادة وابن جريج يكون الاستفهام معناه النفي . ولما أكد في كلامهم بزيادة من في قوله : من شيء ، جاء الكلام مؤكداً بأنَّ ، وبولغ في توكيد العموم بقوله : كله للّه . فكان الجواب أبلغ . والخطاب بقوله : قل ، متوجه إلى الرسول بلا خلاف . والذي يظهر أنه استفهام باق على حقيقته ، لأنهم أجيبوا بقوله : قل إن الأمر كله للّه . ولو كان معناه النفي لم يجابوا بذلك ، لأنّ من نفي عن نفسه أن يكون له شيء من الأمر لا يجاوب بذلك ، إلا إنْ قدر مع جملة النفي جملة ثبوتية لغيرهم ، فكان المعنى : ليس لنا من الأمر من شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه ، فيمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر . وهذه الجملة الجوابية معترضة بين الجمل التي أخبر اللّه بها عنهم . والواو في قوله : وطائفة ، واو الحال . وطائفة مبتدأ ، والجملة المتصلة به خبره . وجاز الابتداء بالنكرة هنا إذ فيه مسوغان : أحدهما : واو الحال وقد ذكرها بعضهم في المسوغات ، ولم يذكر ذلك أكثر أصحابنا وقال الشاعر : سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا محياك أخفى ضوؤه كل شارق والمسوغ الثاني : أن الموضع موضع تفصيل . إذ المعنى : يغشى طائفة منكم ، وطائفة لم يناموا ، فصار نظير قوله : إذا ما بكى من خلفها انصرفت له بشق وشق عندنا لم يحوّل ونصب طائفة على أن تكون المسألة من باب الاشتغال على هذا التقدير من الإعراب جائز . ويجوز أن يكون قد أهمتهم في موضع الصفة ، ويظنون الخبر . ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً ، والجملتان صفتان ، التقدير : ومنكم طائفة . ويجوز أن يكون يظنون حالاً من الضمير في أهمتهم ، وانتصاب غير الحق . قال أبو البقاء : على أنه مفعول أول لتظنون ، أي أمراً غير الحق ، وباللّه الثاني . وقال الزمخشري : غير الحق في حكم المصدر ، ومعناه : يظنون باللّه ظن الجاهلية ، وغير الحق تأكيد ليظنون كقولك : هذا القول غير ما تقول ، وهذا القول لا قولك ، انتهى . فعلى هذا لم يذكر ليظنون مفعولين ، وتكون الباء ظرفية كما تقول : ظننت بزيد . وإذا كان كذلك لم تتعد ظننت إلى مفعولين ، وإنما المعنى : جعلت مكان ظني زيداً . وقد نص النحويون على هذا . وعليه : فقلت لهم ظنوا بألفي مدحج سراتهم في السائريّ المسرد أي : اجعلوا مكان ظنكم ألفي مدحج . وانتصاب ظن على أنه مصدر تشبيهي ، أي : ظناً مثل ظن الجاهلية . ويجوز في : يقولون أن يكون صفة ، أو حالاً من الضمير في يظنون ، أو خبراً بعد خبر على مذهب من يجيز تعداد الأخبار في غير ما اتفقوا على جواز تعداده . ومن شيء في موضع مبتدأ ، إذ من زائدة ، وخبره في لنا ، ومن الأمر في موضع الحال ، لأنه لو تأخر عن شيء لكان نعتاً له ، فيتعلق بمحذوف . وأجاز أبو البقاء أن يكون من الأمر هو الخبر ، ولنا تبيين وبه تتم الفائدة كقوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وهذا لا يجوز : لأن ما جاء للتبيين العامل فيه مقدر ، وتقديره : أعني لنا هو جملة أخرى ، فيبقى المبتدأ والخبر جملة لا تستقل بالفائدة ، وذلك لا يجوز . وأما تمثيله بقوله : ولم يكن له كفواً أحد فهما لا سواء ، لأن له معمول لكفواً ، وليس تبييناً . فيكون عامله مقدراً ، والمعنى : ولم يكن أحد كفواً له ، أي مكافياً له ، فصار نظير لم يكن له ضار بالعمرو ، فقوله : لعمرو ليس تبينناً ، بل معمولاً لضارب . وقرأ الجمهور كله بالنصب تأكيداً للأمر . وقرأ أبو عمر : وكله على أنه مبتدأ ، ويجوز أن يعرب توكيداً للأمر على الموضع على مذهب من يجيز ذلك وهو : الجرمي ، والزجاج ، والفراء . قال ابن عطية : ورجح الناس قراءة الجمهور ، لأن التأكيد أملك بلفظة كلّ انتهى . ولا ترجيح ، إذ كل من القراءتين متواتر ، والابتداء بكل كثير في لسان العرب . {يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة . ويحتمل أن يكون إخباراً عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات . وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا . وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد . {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاْمْرِ شَىْء مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : واللّه لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف والنعاسُ يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . ومعتب هذا شهد بدراً ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصاً عليه بالنفاق . والمعنى : ما قتل إشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازاً . وقوله : يقولون ، يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيراً بعد إبهام قوله : ما لا يبدون لك . ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض . وقوله : من الأمر ، فسَّر الأمر هنا بما فسر في قول عبد اللّه بن أبي بن سلول : هل لنا من الأمر من شيء . فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد إن الأمر كله للّه ولأوليائه وإنهم الغالبون ، لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير . وقيل : من دين محمد . أي لسنا على حق في اتباعه . وجواب لو هو الجملة المنفية بما . وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام . قيل : وفي قصة أحد اضطراب . ففي أولها أن عبد اللّه بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحداً ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله هاهنا ، وحديث الزبير في سماعه معتباً يقول ذلك دليل على أن معتباً حضر أحداً ؟ فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد اللّه بعض المنافقين وحضر أحداً ، فيتجه قوله هاهنا ، وإنْ لم يصح فيوجه قوله : هاهنا إلى أنه إشارة إلى أحد إشارة القريب الحاضر لقرب أحد من المدينة .{ قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ } هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري : وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدلّ عليه بضروب من المعقول نحو :{ لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ اللّه لَفَسَدَتَا }{ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ }{أَوَ لَيْسَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ بِقَادِرٍ } وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي . ومنه قول الشاعر : جرى القضاء بما فيه فإن تلم فلا ملام على ما خط بالقلم وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال . ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرىء له أجل واحد لا يتعداه . فإنْ قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلاّ مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض هو أجل واحد لكل امرىء وإن تعددت الأسباب . وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته . فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني من علم اللّه أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم اللّه أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ، ليكون ما علم أنه يكون . والمعنى : أن اللّه كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله . وإنما ينكبون به في بعض الأوقات . تمحيص لهم ، وترغيب في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة . انتهى كلامه . وهو نوع من الخطابة والمعنى في الآية واضح جداً لا يحتاج إلى هذا التطويل . وقرأ الجمهور : لبرز ، ثلاثياً مبنياً للفاعل . أي لصاروا في البراز من الأرض . وقرأ أبو حيوة : لبرّز مبنياً للمفعول مشدّد الراء ، عدي برز بالتضعيف . وقرأ الجمهور : كتب مبنياً للمفعول ، ورفع القتل . وقرىء : كتب مبنياً للفاعل ، ونصب القتل . وقرأ الحسن والزهري : القتالُ مرفوعاً . وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي : لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم . {وَلِيَبْتَلِىَ اللّه مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ } تقدم معنى الابتلاء والتحيص . فقيل : المعنى إنّ اللّه فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إنْ تبتم وأخلصتم . وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر . وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيباً كقوله :{ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} وقيل : هو على حذف مضاف . أي : وليبتلي أولياء اللّه ما في صدوركم ، فإضافة إليه تعالى تفخيماً لشأنه . والواو قيل : زائدة . وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي اللّه أمره وليبتلي . وقال ابن بحر : عطف على ليبتليكم ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص . وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة . وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال :{ وَلَاكِنِ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ } ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد . {وَاللّه عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى : أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه . ١٥٥إن الذين تولوا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى هذه الآية قال : لما كان يوم أحد فهزمنا مررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني انزو كأنني أروى ، والناس يقولون : قتل محمد ، فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد إلا قتلته ، حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت هذه الآية كلها . وقال عكرمة : نزلت فيمن فرّ من المؤمنين فراراً كثيراً منهم : رافع بن المعلى ، وأبو حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر . والذين تولوا : كل من ولى الدبر عن المشركين يوم أحد قاله : عمر ، وقتادة ، والربيع . أو كل من قرب من المدينة وقت الهزيمة قاله السدي . أو رجال بأعيانهم قاله : ابن إسحاق منهم : عتبة بن عثمان الزرقي ، وأخوه سعد وغيرهما ، بلغوا الجلعب جبلاً بناحية المدينة مما يلي الأعوص فأقاموا به ثلاثاً ، ثم رجعوا إلى سول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال لهم :{ لَقَدِ } ولم يبق مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يومئذ إلا ثلاثة عشر رجلاً أبو بكر ، وعلي ، وطلحة ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وباقيهم من الأنصار منهم : أبو طلحة ، وظاهر تولوا يدل على مطلق التولي يوم اللقاء ، سواء فرّ إلى المدينة ، أم صعد الجبل . والجمع : اسم جمع . ونص النحويون على أن اسم الجمع لا يثني ، لكنه هنا أطلق يراد به معقولية اسم الجمع ، بل بعض الخصوصيات . أي : جمع المؤمنين ، وجمع المشركين ، فلذلك صحت تثنيته . ونظير ذلك قوله : وكل رفيقي كلّ رحل وإن هما تعاطي القنا قوماً هما أخوان فثنى قوماً لأنه أراد معنى القبيلة . واستزل هنا استفعل لطلب ، أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ، لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه ، هكذا قالوه . ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله ، فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى أفعل ، فيكون المعنى : أزلهم الشيطان ، فيدل على حصول الزلل ، ويكون استزل وأزل بمعنى واحد ، كاستبان وأبان ، واستبل وأبل كقوله تعالى : { فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا } على أحد تأويلاته . واستزلال الشيطان إياهم سابق على وقت التولي ، أي كانوا أطاعوا الشيطان واجترحوا ذنوباً قبل منعتهم النصر ففروا . وقيل : الاستزلال هو توليهم ذلك اليوم . أي : إنما استزلهم الشيطان في التولي ببعض ما سبقت لهم من الذنوب ، لأن الذنب يجرّ إلى الذنب ، فيكون نظير ذلك بما عصوا . وفي هذين القولين يكون بعض ما كسبوا هو تركهم المركز الذي أمرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بالثبات فيه ، فجرهم ذلك إلى الهزيمة . ولا يظهر هذا لأنَّ الذين تركوا المركز من الرماة كانوا دون الأربعين ، فيكون من باب إطلاق اسم الكل على البعض . وقال المهدوي : ببعض ما كسبوا هو حبهم الغنيمة ، والحرص على الحياة . وذهب الزجاج وغيره إلى أن المعنى : إنْ الشيطان ذكرهم بذنوب لهم متقدمة ، فكرهوا الموت قبل التوبة منها والإقلاع عنها ، فأخروا الجهاد حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حالة مرضية . ولا يظهر هذا القول لأنهم كانوا قادرين على التوبة قبل القتال وفي حال القتال ، { والتائب من الذنب كمن لا ذنب له } وظاهر التولي : هو تولي الإدبار والفرار عن القتال ، فلا يدخل فيه من صعد إلى الجبل ، لأنه من متحيز إلى جهة اجتمع في التحيز إليها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ومن ثبت معه فيها . وظاهر هذا التولي أنه معصية لذكر استزلال الشيطان وعفو اللّه عنهم . ومن ذهب إلى أن هذا التولي ليس معصية ، لأنهم قصدوا التحصن بالمدينة ، وقطع طمع العدو منهم ، لما سمعوا أن محمداً قد قتل . أو لكونهم لم يسمعوا دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم { إِلَىَّ عِبَادَ اللّه } للّهول الذي كانوا فيه . أو لكونهم كانوا سبعمائة والعدوّ ثلاثة آلاف ، وعند هذا يجوز الانهزام . أو لكونهم ظنوا أن الرسول ما انحاز إلى الجبل ، وأنه يجعل ظهره المدينة . فمذهبه خلاف الظاهر ، وهذه الأشياء يجوز الفرار معها . وقد ذكر تعالى استزلال الشيطان إياهم وعفوه تعالى عنهم ، ولا يكون ذلك فيما يجوز فعله . وجاء قوله : ببعض ما كسبوا ، ولم يجيء بما كسبوا ، لأنه تعالى يعفو عن كثير كما قال تعالى :{ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } فالاستزلال كان بسبب بعض الذنوب التي لم يعف عنها ، فجعلت سبباً للاستزلال . ولو كان معفواً عنه لما كان سبباً للاستزلال . {وَلَقَدْ عَفَا اللّه عَنْهُمْ } الجمهور على أن معنى العفو هنا هو حط التبعات في الدنيا والآخرة . وكذلك تأوله عثمان في محاورة جرت بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ، قال له عبد الرحمن : قد كنت تولَّيْتَ مع من تولى يوم الجمع ، يعني يوم أحد . فقال له عثمان : قال اللّه : ولقد عفا اللّه عنهم ، فكنت فيمن عفا اللّه عنه . وكذلك ابن عمر مع الرجل العراقي حين نشده بحرمة هذا البيت : أتعلم أنَّ عثمان فرّ يوم أحد ؟ أجابه : بأنه يشهد أن اللّه قد عفا عنه . وقال ابن جريج : معنى عفا اللّه عنهم أنه لم يعاقبهم . قال ابن عطية : والفرار من الزحف كبيرة من الكبائر بإجماع فيما علمت ، وعدها رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم { في الموبقات مع الشرك وقتل النفس وغيرهما} انتهى ولما كان مذهب الزمخشري أن العفو والغفران عن الذنب لا يكون إلا لمن تاب ، وأنَّ الذنب إذا لم يتب منه لا يكون معه العفو ، دسّ مذهبه في هذه الجملة ، فقال : ولقد عفا اللّه عهم لتوبتهم واعتذارهم انتهى . {أَنَّ اللّه غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي غفور الذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة . وجاءت هذه الجملة كالتعليل لعفوه تعالى عن هؤلاء الذين تولوا يوم أحد ، لأنَّ اللّه تعالى واسع المغفرة ، واسع الحلم . ١٥٦يا أيها الذين . . . . . {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا } لما تقدم من قول المنافقين : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ، وأخبر اللّه عنهم أنهم قالوا لإخوانهم : وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا ، وكان قولاً باطلاً واعتقاداً فاسداً نهى تعالى المؤمنين أنْ يكونوا مثلهم في هذه المقالة الفاسدة والاعتقاد السيىء . وهو أن من سافر في تجارة ونحوها فمات ، أو قاتل فقتل ، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرض نفسه للسفر فيه أو للقتال ، وهذا هو معتقد المعتزلة في القول بالأجلين ، والكفار القائلون . قيل : هو عام ، أي اعتقاد الجميع هذا قاله : ابن إسحاق وغيره ، أو عبد اللّه بن أبي وأصحابه سمع منهم هذا القول قاله : مجاهد والسدي وغيرهما ، أو هو ومعتب وجدّ بن قيس وأصحابهم . واللام في : لإخوانهم لام السبب ، أي لأجل إخوانهم . وليست لام التبليغ ، نحو : قلت لك . والإخوة هنا إخوة النسب ، إذ كان قتلى أحد من الأنصار وأكثرهم من الخزرج ، ولم يقتل من المهاجرين إلا أربعة . وقيل : خمسة . ويكون القائلون منافقي الأنصار جمعهم أب قريب ، أو بعيد ، أو إخوة المعتقد والتآلف ، كقوله :{ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } وقال : صفحنا عن بني ذهل وقلنا القوم إخوان والضرب في الأرض : الإبعاد فيها ، والذهاب لحاجة الإنسان . وقال السدي : الضرب هنا السير في التجارة . وقال ابن إسحاق : السير في الطاعات . وإذا ظرف لما يستقبل . وقالوا : ماض ، فلا يمكن أن يعمل فيه . فمنهم من جرده عن الاستقبال وجعله لمطلق الوقت بمعنى حين ، فاعمل فيه قال : و قال ابن عطية : دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم في إبهام يعم من قال في الماضي ، ومن يقول في المستقبل ، ومن حيث هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان . قال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف قيل إذا ضربوا في الأرض مع قالوا ؟ { قلت} : هو حكاية الحال الماضية ، كقولك : حين تضربون في الأرض انتهى كلامه . ويمكن إقرار إذا على ما استقر لها من الاستقبال ، والعامل فيها مضاف مستقبل محذوف ، وهو لا بدّ من تقدير مضاف غاية ما فيه أنّا نقدره مستقبلاً حتى يعمل في الظرف المستقبل ، لكنْ يكون الضمير في قوله : لو كانوا عائداً على إخوانهم لفظاً ، وعلى غيرهم معنى ، مثل قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } وقول العرب : عندي درهم ونصفه . وقول الشاعر : قالت : ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا ونصفه فقد المعنى : من معمر آخر ونصف درهم آخر ، ونصف حمام آخر ، ونصف حمام آخر ، فعاد الضمير على درهم والحمام لفظاً لا معنى . كذلك الضمير في قوله : لو كانو ، يعود على إخوانهم لفظاً . والمعنى : لو كان إخواننا الآخرون . ويكون معنى الآية : وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى : لو كان إخواننا الآخرون الذين تقدّم موتهم وقتلهم عندنا أي مقيمين لم يسافروا ما ماتوا وما قتلوا ، فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن الضرب في الأرض وعن الغزو ، وإيهاماً لهم أنْ يصيبهم مثل ما أصاب إخوانهم الآخرين الذين سبق موتهم وقتلهم بالضرب في الأرض والغزو ، ويكون العامل في إذا هلاك وهو مصدر ينحل بأنْ والمضارع ، أي مخافة أن يهلك إخوانهم الباقون إذا ضربوا في الأرض ، أو كانوا غزاً . وهذا أبلغ في المعنى إذ عرضوا للأحياء بالإقامة لئلا يصيبهم ما أصاب من مات أو قتل . قالوا : ويجوز أنْ يكون وقالوا في معنى . ويقولون : وتعمل في إذا ، ويجوز أن يكون إذا بمعنى إذ فيبقى ، وقالوا على مضيه . وفي الكلام إذ ذاك حذف تقديره : إذا ضربوا في الأرض فماتوا ، أو كانوا غزاً فقتلوا . وما أجهل مَنْ يدعي أنّه لولا الضربُ في الأرض والغزو وترك القعود في الوطن لما مات المسافر ولا الغازي ، وأين عقل هؤلاء من عقل أبي ذؤيب على جاهليته حيث يقول : يقولون لي : لو كان بالرمل لم يمت نسيبة والطرّاق يكذب قيلها ولو أنني استودعته الشمس لارتقت إليه المنايا عينها ، ورسولها قال الرازي : وذكر الغزو بعد الضرب ، لأن من الغزو ما لا يكون ضرباً ، لأن الضرب الإبعاد ، والجهاد قد يكون قريب المسافة ، فلذلك أفرد الغزو عن الضرب انتهى . يعني : أَنّ بينهما عموماً وخصوصاً فتغايراً ، فصح إفراده ، إذ لم يندرج من جهة تحته . وقيل : لا يفهم الغزو من الضرب ، وإنما قدم لكثرته كما قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ} وقرأ الجمهور غزاً بتشديد الزاي ، وقرأ الحسن والزهري بتخفيف الزاي . ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفاً ، وعلى حذف التاء ، والمراد : غزاة . وقال بعض من وجهٍ على أنّه حُذف التاء وهو : ابن عطية ، قال : وهذا الحذف كثير في كلامهم ، ومنه قول الشاعر يمدح الكسائي : أبى الذمّ أخلاق الكسائي وانتحى به المجد أخلاق الأبوّ السوابق يريد الأبوة . جمع أب ، كما أن العمومة جمع عم ، والبنوّة جمع ابن . وقد قالوا : ابن وبنوّ انتهى . وقوله : وهذا الحذف كثير في كلامهم ليس كما ذكر ، بل لا يوجد مثل رام ورمى ، ولا حام وحمى ، يريد : رماة وحماة . وإنْ أراد حذف التاء من حيث الجملة كثير في كلامهم فالمدعي إنما هو الحذف من فعله ، ولا نقول أنَّ الحذف أعني حذف التاء كثيرٌ في كلامهم ، لأنه يشعر أن بناء الجمع جاء عليها ، ثم حذفت كثيراً وليس كذلك ، بل الجمع جاء على فعول نحو : عم وعموم ، وفحل وفحول ، ثم جيء بالتاء لتأكيد معنى الجمع ، فلا نقول في عموم : أنه حذفت منه التاء كثيراً لأن الجمع لم يبن عليها ، بخلاف قضاة ورماة فإن الجمع بني عليها . وإنما تكلف النحويون لدخولها فيما كان لا ينبغي أن تدخل فيه ، إنَّ ذلك على سبيل تأكيد الجمع ، لمَّا رأوا زائداً لا معنى له ذكروا أنّه جاء بمعنى التوكيد ، كالزوائد التي لا يفهم لها معنى غير التأكيد . وأمّا البيت فالذي يقوله النحويون فيه : أنه مما شذ جمعه ولم يعل ، فيقال فيه : أبى كما قالوا : عصى في عصا ، وهو عندهم جمع على فعول ، وليس أصله أبوه . ولا يجمع ابن على بنوّة ، وإنما هما مصدران . والجملة من لو وجوابها هي معمول القول فهي في موضع نصب على المفعول ، وجاءت على نظم ما بعد إذا من تقديم نفي الموت على نفي القتل ، كما قدم الضرب على الغزو . والضمير في : لو كانوا ، هو لقتلى أحد ، قاله : الجمهور . أو للسرية الذين قتلوا ببئر معونة قاله : بكر بن سهل الدمياطي . وقرأ الجمهور : وما قتلوا بتخفيف التاء . وقرأ الحسن : بتشديدها للتكثير في المحال ، لا بالنسبة إلى محل واحد ، لأنه لا يمكن التكثير فيه . {لِيَجْعَلَ اللّه ذالِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ } اختلفوا في هذه اللام فقيل : هي لام كي . وقيل : لام الصيرورة . فإذا كانت لام كي فبماذا تتعلق ، ولماذا يشار بذلك ؟ فذهب بعضهم : إلى أنّها تتعلق بمحذوف يدل عليه معنى الكلام وسياقه ، التقدير : أوقع ذلك ، أي القول والمعتقد في قلوبهم ليجعله حسرة عليهم . وإنما احتيج إلى تقدير هذا المحذوف لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال : لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل اللّه لأنه لا يصح أن تتعلق اللام على أنها لام كي يقال ؛ لأنهم لم يقولوا تلك المقالة ليجعل اللّه ذلك حسرة في قلوبهم ، فلا يصح ذلك أن يكون تعليلاً لقولهم ، وإنما قالوا ذلك تثبيطاً للمؤمنين عن الجهاد . ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو : لا يكونوا كالذين كفروا . لأن جعل اللّه ذلك حسرةً في قلوبهم ، لا يكون سبباً لنهي اللّه المؤمنين عن مماثلة الكفار . قال الزمخشري : وقد أورد سؤالاً على ما تتعلق به ليجعل ، قال : أو لا يكونوا بمعنى : لا يكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ، ليجعله اللّه حسرة في قلوبهم خاصة ، ويصون منها قلوبكم انتهى كلمه . وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه ، لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي كما قلنا ، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل امتصال النهي وهو : انتفاء المماثلة ، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم ، إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه . فلا تضربوا في الأرض ولا تغزوا ، فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء ، وفهم هذا فيه خفاء ودقة . وقال ابن عيسى وغيره : اللام متعلقة بالكون ، أي : لا تكونوا كهؤلاء ليجعل اللّه ذلك حسرةً في قلوبهم دونكم انتهى . ومنه أخذ الزمخشري قوله : لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام ، وذاك لم ينص . وقد بينا فساد هذا القول . وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا ، والمعنى : أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة ، إنما قالوا ذلك لعلة ، فصار مآل ذلك إلى الحسرة والندامة ، ونظروه بقوله فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ، ولم يلتقطوه لذلك ، إنما آل أمره إلى ذلك . وأكثر أصحابنا لا يثبتون للام هذا المعنى أعني أن تكون اللام للعاقبة والمآل وينسبون هذا المذهب للأخفش . وأما الإِشارة بذلك فقال الزجاج : هو إشارة إلى الظن ، وهو أنهم إذا ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يقتلوا ، كان حسرتهم على من قتل منهم أشدّ . وقال الزمخشري : ما معناه الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول . و قال ابن عطية : الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم ، جعل اللّه ذلك حسرة ، لأن الذي يتيقن أن كل موت وقتل بأجل سابق يجد برد اليأس والتسليم للّه تعالى على قلبه ، والذي يعتقد أن حميمه لو قعد في بيته لم يمت يتحسر ويتلهف انتهى . وهذه أقوال متوافقة فيما أشير بذلك إليه . وقيل : الإِشارة بذلك إلى نهي اللّه تعالى عن الكون مثل الكافرين في هذا المعتقد ، لأنهم إذا رأوا أن اللّه قد وسمهم بمعتقد وأمر بخلافهم كان ذلك حسرة في قلوبهم . و قال ابن عطية : ويحتمل عندي أن تكون الإشارة إلى النهي والانتهاء معاً ، فتأمله انتهى . وهذه كلها أقوال تخالف الظاهر . والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا ، وأن اللام للصيرورة ، والمعنى : أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والإبعاد في الأرض ، سواء كانوا معتقدين صحتها أو لم يكونوا معتقديها ، إذْ كثير من الكفار قائل بأجل واحد ، فخاب هذا القصد ، وجعل اللّه ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غماً على ما فاتهم ، إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد . وظاهر جعل الحسرة وحصولها أنه يكون ذلك في الدنيا وهو الغم الذي يلحقهم على ما فات من بلوغ مقصدهم . وقيل : الجعل يوم القيامة لما هم فيه من الخزي والندامة ، ولما فيه المسلمون من النعيم والكرامة . وأسند الجعل إلى اللّه ، لأنه هو الذي يضع الغم والحسرة في قلوبهم عقوبة لهم على هذا القول الفاسد . {وَاللّه يُحْيىِ وَيُمِيتُ } رد عليهم في تلك المقالة الفاسدة ، بل ذلك بقضائه الحتم والأمر بيده . قد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد . وقال خالد بن الوليد عنه موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة ، وها أنا ذا أموت كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء . وقيل : هذه الجملة متعلقة بقوله :{ حَلِيمٌ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ } أي : لا تقولوا مثل قولهم ، فإن اللّه هو المحيي ، من قدر حياته لم يقتل في الجهاد ، والمميت من قدر له الموت لم يبق وإن لم يجاهد ، قاله : الرازي . وقال أيضاً : المراد منه إبطال شبهتهم ، أي لا تأثير لشيء آخر في الحياة والموت ، لأن قضاءه لا يتبدل . ولا يلزم ذلك في الأعمال ، لأنَّ له أن يفعل ما يشاء انتهى . ورد عليه هذا الفرق بين الموت والحياة وسائر الأعمال ، لأن سائر الأعمال مفروغ منها كالموت والحياة ، فما قدر وقوعه منها فلا بدّ من وقوعه ، وما لم يقدر فيستحيل وقوعه ، فإذاً لا فرق . {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } قال الراغب : علق ذلك بالبصر لا بالسمع ، وإنْ كان الصادر منهم قولاً مسموعاً لا فعلاً مرئياً . لما كان ذلك القول من الكافر قصداً منهم إلى عمل يحاولونه ، فخص البصر بذلك كقولك لمن يقول شيئاً وهو يقصد فعلاً يحاوله : أنا أرى ما تفعله . وقرأ ابن كثير والأخوان بما يعملون بالياء على الغيبة ، وهو وعيد للمنافقين . وقرأ الباقون بالتاء على خطاب المؤمنين ، كما قال : لا تكونوا ، فهو توكيد للنهي ووعيد لمن خالف ، ووعد لمن امتثل . ١٥٧ولئن قتلتم في . . . . . {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللّهأَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مّنَ اللّه وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ } تقدم قبل هذا تكذيب الكفار في دعواهم : أنّ من مات أو قتل في سفر وغزو لو كان أقام ما مات وما قتل ، ونهى المؤمنين عن أن يقولوا مثل هذه المقالة ، لأنها سبب للتخاذل عن الغزو وأخبر في هذه الجملة أنه أنْ ثم ما يحذرونه من القتل في سبيل اللّهأو الموت فيه ، فما يحصل لهم من مغفرة اللّه ورحمته بسبب ذلك خير مما يجمعون من حطام الدنيا ومنافعها ، لو لم يهلكوا بالقتل أو الموت ، وأكد دلك بالقسم . لأن اللام في لئن هي الموطئة للقسم ، وجواب القسم هو : لمغفرة . وكان نكرة إشارة إلى أن أيسر جزء من المغفرة والرحمة خير من الدنيا ، وأنه كاف في فوز المؤمن . وجاز الابتداء به لأنه وصف بقوله من اللّه . وعطف عليه نكرة ومسوغ الابتداء بها ، كونها عطفت على ما يسوغ به الابتداء . أو كونها موصوفة في المعنى إذ التقدير : ورحمة منه . وثمَّ صفة أخرى محذوفة لا بدّ منها وتقديرها : ورحمة لكم . وخير هنا على بابها من كونها افعل تفضيل ، كما روي عن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء . وارتفاع خير على أنه خبر عن قوله : لمغفرة . قال ابن عطية وتحتمل الآية أن يكون قوله : لمغفرة إشارة إلى القتل أو الموت في سبيل اللّه ، فسمى ذلك مغفرة ورحمة ، إذ هما مقترنان به . ويجيء التقدير لذلك : مغفرة ورحمة . وترتفع المغفرة على خبر الابتداء المقدر . وقوله : خير صفة لا خبر ابتداء انتهى قوله . وهو خلاف الظاهر . وجواب الشرط الذي هو إنْ قتلتم محذوف ، لدلالة جواب القسم عليه . وقول الزمخشري : سدَّ مسدَّ جواب الشرط إنْ عنى أنه حذف لدلالته عليه فصحيح ، وإنْ عنى أنه لا يحتاج إلى تقدير فليس بصحيح . وظاهر الآية يدل على أنه جعلت المغفرة والرحمة لمن اتفق له أحد هذين : القتل في سبيل اللّه ، أو الموت فيه . وقال الرازي : لمغفرة من اللّه إشارة إلى تعبده خوفاً من عقابه ، ورحمة إشارة إلى تعبده لطلب ثوابه انتهى . وليس بالظاهر . وقدم القتل هنا لأنه ابتداء إخبار ، فقدّم الأشرف الأهم في تحصيل المغفرة والرحمة ، إذ القتل في سبيل اللّه أعظم ثواباً من الموت في سبيله . قال الراغب : تضمنت هاتان الآيتان إلزاماً هو جار مجرى قياسين شرطيين اقتضيا الحرص على القتل في سبيل اللّه تمثيله : إنْ قتلتم في سبيل اللّه ، أو متّم ، حصلت لكم المغفرة والرحمة ، وهما خير مما تجمعون . فإذاً الموت والقتل في سبيل اللّه خير مما تجمعون . ولئن متم أو قتلتم فالحشر لكم حاصل . وإذا كان الموت والقتل لا بدّ منه والحشر فنتيجة ذلك أن القتل والموت اللذين يوجبان المغرفة والرحمة خير من القتل والموت اللذين لا يوجبانهما انتهى . وقرأ الإبنان والأبوان بضم الميم في جميع القرآن ، وحفص في هذين أو متمم ، ولئن متم ، وكسر الباقون . والضم أقيس وأشهر . والكسر مستعمل كثيراً وهو شاذ في القياس ، جعله المازني من فعل يفعل ، نظير دمت تدوم ، وفضلت تفضل ، وكذا أبو علي ، فحكما عليه بالشذوذ . وقد نقل غيرهما فيه لغتين إحداهما : فعل يفعل ، فتقول مات يموت . والأخرى : فعل يفعل نحو مات يمات ، أصله موت . فعلى هذا ليس بشاذ ، إذ هو مثل خاف يخاف ، فأصله موت يموت . فمن قرأ بالكسر فعلى هذه اللغة ولا شذوذ فيه ، وهي لغة الحجاز يقولون : متم من مات يمات قال الشاعر : عيشي ولا تومي بأن تماتي وسفلى مضر يقولون : مُتّم بضم الميم من مات يموت ، نقله الكوفيون : وقرأ الجمهور : تجمعون بالتاء على سياق الخطاب في قوله : ولئن قتلتم . وقرأ قوم منهم حفص عن عاصم بالياء ، أي مما يجمعه الكفار المنافقون وغيرهم . ١٥٨ولئن متم أو . . . . . {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللّه تُحْشَرُونَ } هذا خطاب عام للمؤمن والكافر . أعلم فيه أن مصير الجميع إليه ، فيجازي كلاً بعمله . هكذا قال بعضهم . وكأنه لما رأى الموت والقتل أطلقا ولم يقيدا بذكر سبيل اللّه كما قيدا في الآية ، فهم أنَّ ذلك عام . والظاهر أنّه خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق ، ولذلك قدره الزمخشري : لإلى الرّحيم الواسع الرحمة المميت العظيم الثواب تحشرون . قال : ولوقوع اسم اللّه هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به سيان ليس بالخفي انتهى . يشير بذلك إلى مذهبه : من أن التقديم يؤذن بالاختصاص ، فكان المعنى عنده : فإلى اللّه لا غيره تحشرون . وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك ، وإنما يدل التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره ، كما قال سيبويه : وزاده حسناً هنا أنّ تأخر الفعل هنا فاضلة ، فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض وتضمنت الآية تحقير أمر الدنيا والحرص على الشهادة ، وأنَّ مصير العالم كلهم إلى اللّه ، فالموافاة على الشهادة أمثل بالمرء ليحرز ثوابها ويجده وقت الحشر . وقدّم الموت هنا على القتل لأنها آية وعظ بالآخرة والحشر ، وتزهيد في الدنيا والحياة ، والموت فيها مطلق لم يقيد بشيء . فإما أنْ يكون الخطاب مختصاً بمن خوطب قبلُ أو عاماً واندرج أولئك فيه ، فقدِّم لعمومه ، ولأنه أغلب في الناس منا لقتل ، فهذه ثلاثة مواضع . ما ماتوا وما قتلوا : فقدم الموت على القتل لمناسبة ما قبله من قوله :{ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاْرْضِ أَوْ كَانُواْ } وتقدّم القتل على الموت بعد ، لأنه محل تحريض على الجهاد ، فقدم الأهم والأشرف . وقدم الموت هنا لأنه الأغلب ، ولم يؤكد الفعل الواقع جواباً للقسم المحذوف لأنه فصل بين اللام المتلقى بها القسم وبينه بالجار والمجرور . ولو تأخر لكان : لتحشرن إليه كقوله : ليقولن ما يحبسه . وسواء كان الفصل بمعمول الفعل كهذا ، أو بسوف . كقوله :{ السّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أو بقد كقول الشاعر : كذبت لقد أصبى على المرء عرسه وأمنع عرسي أن يزن بها الخالي قال أبو علي : الأصل دخول النون فرقاً بين لام اليمين ولام الابتداء ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلات ، فبدخول لام اليمين على الفضلة وقع الفصل ، فلم يحتج إلى النون . وبدخولها على سوف وقع الفرق ، فلم يحتج إلى النون ، لأن لام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً ، أمّا إذا كان مستقبلاً فلا . ١٥٩فبما رحمة من . . . . . {فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّه لِنتَ لَهُمْ } متعلق الرحمة المؤمنون . فالمعنى : فبرحمة من اللّه عليهم لِنْت لهم ، فتكون الرحمة امتن بها عليهم . أي : دمثت أخلاقك ولان جانبك لهم بعدما خالفوا أمرك وعصوك في هذه القراءة ، وذلك برحمة اللّه إياهم . وقيل : متعلق الرحمة المخاطب صلى اللّه عليه وسلم ،أي برحمة اللّه إياك جعلك لين الجانب موطأ الأكناف ، فرحمتهم ولنت لهم ، ولم تؤاخذهم بالعصيان والفرار وإفرادك للأعداء ، ويكون ذلك امتناناً على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. ويحتمل أن يكون متعلق الرحمة النبي صلى اللّه عليه وسلم بأن جعله على خلق عظيم ، وبعثه بتتميم محاسن الأخلاق والمؤمنين ، بأن لينه لهم . وما هنا زائدة للتأكيد ، وزيادتها بين الباء وعن ومن والكاف ، وبين مجروراتها شيء معروف في اللسان ، مقرر في علم العربية . وذهب بعض الناس إلى أنها منكرة تامة ، ورحمة بدل منها . كأنه قيل : فبشيء أبهم ، ثم أبدل على سبيل التوضيح ، فقال : رحمة . وكان قائل هذا يفر من الإطلاق عليها أنهار زائدة . وقيل : ما هنا استفهامية . قال الرازي : قال المحققون : دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز ، وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره : فبأي رحمة من اللّه لنت لهم ، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة ثم أنه ما أظهر البتة تغليظاً في القول ، ولا خشونة في الكلام ، علموا أنَّ هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك انتهى كلامه . وما قاله المحققون : صحيح ، لكنَّ زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية ، فضلاً عن مَنْ يتعاطى تفسير كلام اللّه ، وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملاً فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن يكون استفهاماً للتعجب . ثمّ إنَّ تقديره ذلك : فبأي رحمة ، دليل على أنّه جعل ما مضافة للرحمة ، وما ذهب إليه خطى من وجهين : أحدهما : أنه لا تضاف ما الاستفهامية ، ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف ، وكم على مذهب أبي إسحاق . والثاني : إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلاً ، وإذا كان بدلاً من اسم الاستفهام فلا بدّ من إعادة همزة الاستفهام في البدل ، وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه والتسور عليه . قول الزجاج في ما هذه ؟ إنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين . {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } بين تعالى أن ثمرة اللين هي المحبة ، والاجتماع عليه . وأن خلافها من الجفوة والخشونة مؤد إلى التفرق ، والمعنى : لو شافهتهم بالملامة على ما صدر منهم من المخالفة والفرار لتفرّقوا من حولك هيبة منك وحياءً ، فكان ذلك سبباً لتفرّق كلمة الإسلام وضعف مادته ، وإطماعاً للعدو واللين والرفق ، فيكون فيما لم يفض إلى إهمال حق من حقوق اللّه تعالى . وقال تعالى في حق الكفار :{ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ } وفي وصفه صلى اللّه عليه وسلم في الكتب المنزلة أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخاب في الأسواق . والوصفان قيل بمعنى واحد ، فجمعاً للتأكيد . وقيل : الفظاظة الجفوة قولاً وفعلاً . وغلظ القلب : عبارة عن كونه خلق صلباً لا يلين ولا يتأثر ، وعن الغلظ تنشأ الفظاظة تقدم ما هو ظاهر للحس على ما هو خاف ، وإنما يعلم بظهور أثره . {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ } أمره تعالى بالعفو عنهم ، وذلك فيما كان خاصاً به من تبعة له عليهم ، وبالاستغفار لهم فيما هو مختص بحق اللّه تعالى وبمشاورتهم . وفيها فوائد تطييب نفوسهم ، والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم ، حيث أهلهم للمشاورة ، وجعلهم خواص بعد ما صدر منهم ، وتشريع المشاورة لمن بعده ، والاستظهار برأيهم فيما لم ينزل فيه وحي . فقد يكون عندهم من أمور الدنيا ما ينتفع به ، واختبار عقولهم ، فينزلهم منازلهم ، واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح . وجرى على مناهج العرب وعادتها في الاستشارة في الأمور ، وإذا لم يشاور أحداً منهم حصل في نفسه شيء ، ولذلك عز على عليّ وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر الصديق رضي اللّه عنهم أجمعين ، وفيما ذا أمر أن يشاورهم . قيل : في أمر الحرب والدنيا وقيل : في الدين والدنيا ما لم يرد نص ، ولذلك استشار في أسرى بدر . وظاهر هذه الأوامر يقتضي أنه أمر بهذه الأشياء ، ولا تدل على تريب زماني . و قال ابن عطية : أمر بتدريج بليغ ، أمر بالعفو عنهم فيما يخصه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر باستغفار فيما للّه ، فإذا صاروا في هذه الدرجة صاروا أهلاً للاستشارة في الأمور انتهى . وفيه بعض تلخيص ، ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ، ولكنْ هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض . أمر أولاً بالعفو عنهم ، إذ عفوه عنهم مسقط لحقه ، ودليل على رضاه صلى اللّه عليه وسلم عليهم ، وعدم مؤاخذته . ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم اللّه ليكمل لهم صفحه وصفح اللّه عنهم ، ويحصل لهم رضاه صلى اللّه عليه وسلم ورضا اللّه تعالى . ولما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذاناً بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة ، إذ لا يستشير الإنسان إلا من كان معتقداً فيه المودة والعقل والتجربة . والظاهر أن قوله : فاعف عنهم أمرٌ له بالعفو . وقيل : معناه سلني العفو عنهم لأعفو عنهم ، والمعفو عنه والمسؤول الاستغفار لأجله . قيل : قرارهم يوم أحد ، وترك إجابته ، وزوال الرّماة عن مراكزهم . وقيل : ما يبدون من هفواتهم وألسنتهم من السقطات التي لا يعتقدونها ، كمناداتهم من وراء الحجرات . وقول بعضهم : إنْ كان ابن عمتك وجر رداءه حتى أثر في عنقه ، وغير ذلك مما وقع منهم على سبيل الهفوة . ومن غريب النقول والمقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم : أن قوله تعالى : وشاورهم في الأمر ، أنه من المقلوب ، والمعنى : وليشاوروك في الأمر . وذكر المفسرون هنا جملة مما ورد في المشاورة من الآيات والأحاديث والآثار . وذكر ابن عطية : إن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ، ومن لا يستشير أهل العلم والدّين فعزله واجب ، هذا ما لا خلاف له . والمستشار في الدّين عالم دين ، وقلَّ ما يكون ذلك إلا في عاقل . قال الحسن : ما كمل دين امرىء لم يكمل عقله ، وفي الأمور الدنيوية عاقل مجرب وادفى المستشير انتهى كلام ابن عطية ، وفيه بعض تلخيص . وقراءة الجمهور : في الأمر ، وليس على العموم . إذ لا يشاور في التحليل والتحريم . والأمر : اسم جنس يقع للكل وللبعض . وقرأ ابن عباس : في بعض الأمر { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه } أي : فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعلْ تفويضك فيه إلى اللّه تعالى ، فإنه العالم بالأصلح لك ، والأرشد لأمرك ، لا يعلمه من أشار عليك . وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه ، والفكر فيه . وإن ذلك مطلوب شرعاً خلافاً لما كان عليه بعض العرب من : ترك المشورة ، ومن : الاستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة ، كما قال : إذا همّ ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا وقرأ الجمهور عزمت على الخطاب كالذي قبله . وقرأ عكرمة وجابر بن زيد وأبو نهيك وجعفر الصادق عزمت بضم التاء على أنها ضمير للّه تعالى والمعنى فإذا عزمت لك على شيء أي أرشدتك إليه وجعلتك تقصده ويكون قوله على اللّه من باب الالتفات إذ لو جرى على نسق ضم التاء لكان فتوكل عليّ ونظيره في نسبة العزم إلى اللّه على سبيل التجوز قول أم سلمة ، ثم عزم اللّه { إِنَّ اللّه يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ } حث على التوكل على اللّه ، إذ أخبر أنّه يحب من توكل عليه ، والمرءُ ساع فيما يحصل له محبة اللّه تعالى . وقد تضمنت هذه الآيات فنوناً من البيان والبديع والإبهام في : ولا تلوون على أحد ، فمن قال : هو الرسول أبهمه تعظيماً لشأنه ، ولأن التصريح فيه هضم لقدره . والتجنيس المماثل في : غما بغمّ ، ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ . والطباق : في يخفون ويبدون ، وفي فاتكم وأصابكم . والتجنيس المغاير في : تظنون وظن ، وفي فتوكل والمتوكلين . وذكر بعضهم ذلك في فظاً ولا تفضوا ، وليس منه ، لأنه قد اختلفت المادّتان والتفسير بعد الإبهام في ما لا يبدون يقولون . والاحتجاج النظري في : لو كنتم في بيوتكم والاعتراض في : قل إن الأمر كله للّه . والاختصاص في : بذات الصدور ، وفي بما تعملون بصير ، وفي يحب المتوكلين . والإشارة في قوله : ليجعل اللّه ذلك حسرة . والاستعارة في : إذا ضربوا في ا لأرض ، وفي لنت ، وفي غليظ القلب ، والتكرار في : ما ماتوا ، وما قتلوا ، وما بعدهما ، وفي : على اللّه إن اللّه . وزيادة الحرف للتأكيد في : فبما رحمة . والالتفات والحذف في عدة مواضع ١٦٠إن ينصركم اللّه . . . . . {إِن يَنصُرْكُمُ اللّه فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّنْ بَعْدِهِ } هذا التفات ، إذْ هو خروج من غيبة إلى الخطاب . ولما أمره بمشاورتهم وبالتوكل عليه ، أوضح أنَّ ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع لما يشاء . وأنَّه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد ، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم فيما وقع لكم من النصر ، أو بكم من الخذلان كيومي : بدر وأحد ، فبمشيئته . وفي هذا تسلية لهم عما وقع لهم من الفرار . ثم أمرهم بالتوكل ، وناط الأمر بالمؤمنين ، فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان ، لأن المؤمن مصدق بأن اللّه هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان . وأشركهم مع نبيهم في مطلوبية التوكل ، وهو إضافة الأمور إلى اللّه تعالى وتفويضها إليه . والتوكل على اللّه من فروض الإيمان ، ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والجزامة بغاية الجهد ، ومعاطاة أسباب التحرز ، وليس الإلقاء باليد والإهمال لما يجب مراعاته بتوكل ، وإنما هو كما قال صلى اللّه عليه وسلم : { قيدها وتوكل } ونظير هذه الآية : { مَّا يَفْتَحِ اللّه لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } والضمير في من بعده عائد على اللّه تعالى ، إمّا على حذف مضاف أي : من بعد خذلانه ، أي من بعد ما يخذل من الذي ينصر وإما أنْ لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف ، بل يكون المعنى : إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك ؟ ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على المصدر المفهوم من قوله : وإن يخذلكم ، أي : من بعد الخذلان . وجاء جواب : إن ينصركم اللّه بصريح النفي العام ، وجواب وإن يخذلكم يتضمن النفي وهو الاستفهام ، وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرّح لهم بأنه لا ناصر لهم ، بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر ، وإن كان المعنى على نفي الناصر . لكنْ فرَّقَ بين الصريح والمتضمن ، فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذي نص عليه بالصريح أنه لا ناصر لهم كقوله : { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } وظاهره النصرة أنها في لقاء العدو ، والإعانة على مكافحته ، والاستيلاء عليه . وأكثر المفسرين جعلوا النصرة بالحجة القاهرة ، وبالعاقبة في الآخرة . فقالوا : المعنى إنْ حصلت لكم النصرة فلا تعدوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غلبة ، وإن خذلكم في ذلك فلا تعدوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة ، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل . وفي قوله : إن ينصركم اللّه إشارة إلى الترغيب في طاعة اللّه ، لأنه بين فيما تقدم أنّ من اتقى اللّه نصره . وقال الزمخشريفي قوله : وعلى اللّه ، وليخص المؤمنون ربهم بالتوكل والتفويض إليه ، علمهم أنّه لا ناصر سواه ، ولأن إيمانكم يوجب ذلك ويقتضيه انتهى كلامه . وأخذ الاختصاص من تقديم الجار والمجرور وذلك على طريقته ، بأن تقديم المفعول يوجب الحصر والاختصاص . وقرأ الجمهور : يخذلكم من خذل . وقرأ عبيد بن عمير : يخذلكم من أخذل رباعياً . والهمزة فيه للجعل أي : يجعلكم ١٦١وما كان لنبي . . . . . {وَمَا كَانَ لِنَبِىّ أَنْ يَغُلَّ } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وابن جبير : فقدت قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض من كان مع النبي صلى اللّه عليه وسلم : لعلّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أخذها ، فنزلت ، وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجاً . وقيل : منافق ، وروي أن المفقود سيف . وقال النقاش : قالت الرماة يوم أحد : الغنيمة الغنيمة ، أيها الناس إنّا نخشى أن يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم من أخذ شيئاً فهو له ، فلما ذكروا ذلك قال : { خشيتم أن نغل } فنزلت . وروي نحوه عن الكلبي ومقاتل . وقيل غير هذا من ذلك ما قال ابن إسحاق : إنما نزلت إعلاماً بأن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكتم شيئاً مما أمر بتبليغه . ومناسبة هذه الآية لما قبلها من حيث أنها تضمنت حكماً من أحكام الغنائم في الجهاد ، وهي من المعاصي المتوعد عليها بالنار كما جاء في قصة مدعم ، فحذرهم من ذلك . وتقدم لنا الكلام في معنى ما كان لزيد أن يفعل . وقرأ ابن عباس وابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغلّ من غلّ مبنياً للفاعل ، والمعنى : أنه لا يمكن ذلك منه ، لأن الغلول معصية ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم معصوم من المعاصي ، فلا يمكن أن يقع في شيء منها . وهذا النفي إشارة إلى أنه لا ينبغي أن أن يتوهم فيه ذلك ، ولا أن ينسب إليه شيء من ذلك . وقرأ ابن مسعود وباقي السبعة : أن يُغَل بضم الياء وفتح الغين مبنياً للمفعول . فقال الجمهور : هو من غل . والمعنى : ليس لأحد أن يخونه في الغنيمة ، فهي نهي للناس عن الغلول في المغانم ، وخص النبي صلى اللّه عليه وسلم بالذكر وإن كان ذلك حراماً مع غيره ، لأن المعصية بحضرة النبي أشنع لما يحب من تعظيمه وتوقيره ، كالمعصية بالمكان الشريف ، واليوم المعظم . وقيل : هو من أغل رباعياً ، والمعنى : أنه يوجد غالاً كما تقول : أحمد الرجل وجد محموداً . وقال أبو علي الفارسي : هو من أغل أي نسب إلى الغلول . وقيل له : غللت كقولهم : أكفر الرجل ، نسب إلى الكفر . {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ظاهر هذا أنه يأتي بعين ما غل ، ورد ذلك في صحيح البخاري ومسلم . ففي الحديث ذكر الغلول وعظمه وعظم أمره ، ثم قال : { لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول اللّه أغثني فأقول : ما أملك لك من اللّه شيئاً ، قد أبلغتك } الحديث وكذلك ما جاء في حديث ابن اللتبية : { والذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئاً إلا جاء به يحمله يوم القيامة على رقبته إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر} . وروي عنه أيضاً وفرس له حمجة وفي حديث مدعم : { أن الشملة التي غلت من المغانم يوم حنين لتشتعل عليه ناراً ومجيئه بما غلّ فضيحة له على رؤوس الاشهاد يوم القيامة } وقال الكلبي بمثل له ذلك الشيء الذي غله في النار ، ثم يقال له : انزل فخذه ، فينزل فيحمله على ظهره فإذا بلغ صومعته وقع في النار ، ثم كلف أن ينزل إليه فيخرجه ، يفعل ذلك به . وقيل : يأتي حاملاً إثْم ما غلَّ . وقيل : يؤخذ من حسناته عوض ما غل . وقد وردت أحاديث كثيرة في تعظيم الغلول والوعيد عليه . {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } هذه جملة معطوفة على الجملة الشرطية لما ذكر من مسألة الغلول ، وما يجري لصاحبها يوم القيامة . ذكر أن ذلك الجزاء ليس مختصاً بمن غلّ ، بل كل نفس توفى جزاء ما كسبت من غير ظلم ، فصار الغال مذكوراً مرتين : مرّة بخصوصه ، ومرّة باندراجه في هذا العام ليعلم أنه غير متخلص من تبعة ما غل ، ومن تبعة ما كسبت من غير الغلول . وتقدّم تفسير هذه الجملة ، فأغنى عن إعادته هنا . ١٦٢أفمن اتبع رضوان . . . . . {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللّه كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مّنَ اللّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } هذا لاستفهام معناه النفي ، أي ليس من اتبع رضا اللّه فامتثل أوامره واجتنب مناهيه كمن عصاه فباء بسخطه ، وهذا من الاستعارة البديعية . جعل ما شرعه اللّه كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به ، وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئاً عن اتباعه ورجع مصحوباً بما يخالف الاتباع . وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير : أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا اللّه عنه ، فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه . وقال سعيد بن جبير والضحاك والجمهور : أفمن اتبع رضوان اللّه فلم يغل كمن باء بسخط من اللّه حين غل . وقال الزجاج : أفمن اتبع رضوان اللّه باتباع الرسول يوم أحد ، كمن باء بسخط من اللّه بتخلفه وهم جماعة من المنافقين . وقال الزّجاج أيضاً : رضوان اللّه الجهاد ، والسخط الفرار . وقيل : رضا اللّه طاعته ، وسخطه عقابه . وقيل : سخطه معصيته قاله ابن إسحاق . ويعسر ما يزعم الزمخشري من تقدير معطوف بين همزة الاستفهام وبين حرف العطف في مثل هذا التركيب ، وتقديره متكلف جداً فيه ، رجح إذ ذاك مذهب الجمهور : من أن الفاء محلها قبل الهمزة ، لكْن قدّمت الهمزة لأنْ الاستفهام له صدر الكلام . وتقدّم اختلاف القراء في رضوان في أوائل هذه السورة ، والظاهر استئناف . {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ } : أخبر أنَّ مَن باء بسخط من اللّه فمكانه الذي يأوي إليه هو جهنم ، وأفهم هذا أن مقابله وهو من اتبع رضوان اللّه مأواه الجنة . ويحتمل أن تكون في صلة مَن فوصلها بقوله : باء . وبهذه الجملة كان المعنى : كمن باء بسخط اللّه ، وآل إلى النار . وبئس المصير : أي جهنم . ١٦٣هم درجات عند . . . . . {هُمْ دَرَجَاتٌ } قال ابن عباس والحسن : لكل درجات من الجنة والنار . وقال أبو عبيدة : كقوله : هم طبقات . وقال مجاهد وقتادة : أي ذوو درجات ، فإن بعض المؤمنين أفضل من بعض . وقيل : يعود على الغال وتارك الغلول ، والدرجة : الرتبة . وقال الرازي : تقديره لهم درجات . قال بعض المصنفين رادّاً عليه : اتبع الرّازي في ذلك أكثر المفسرين بجهله وجهلهم بلسان العرب ، لأن حذف لام الجر هنا لا مساغ له ، لأنه إنما تحذف لام الجر في مواضع الضرورة ، أو لكثرة الاستعمال ، وهذا ليس من تلك المواضع . على أن المعنى دون حذفها حسن متمكن جداً ، لأنه لما قال : أفمن اتبع رضوان اللّه كمن باء بسخط من اللّه ، وكأنه منتظر للجواب قيل له في الجواب : لا ، ليسوا سواء ، بل هم درجات . {عَندَ اللّه} على حسب أعمالهم . وهذا معنى صحيح لا يحتاج معه إلى تقدير حذف اللام ، لو كان سائغاً كيف وهو غير سائغ انتهى كلام المصنف . ويحمل تفسير ابن عباس والحسن أن المعنى : لكل درجات من الجنة والنار على تفسير المعنى ، لا تفسير اللفظ الأعرابي . والظاهرمن قولهم : هم درجات ، أن الضمير عائد على الجميع ، فهم متفاوتون في الثواب والعقاب ، وقد جاء التفاوت في العذاب كما جاء التفاوت في الثواب . ومعنى عند اللّه على هذا القول : في حكم اللّه . وقيل : الضمير يعود على أهل الرضوان ، فيكون عند اللّه معناها التشريف والمكانة لا المكان . كقوله :{ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } والدرجات إذ ذاك مخصوصة بالجنة وهذا معنى قول : ابن جبير وأبي صالح ومقاتل ، وظاهر ما قاله مجاهد والسدّي . والدرجات المنازل بعضها أغلى من بعض من المسافة أو في التكرمة . وقرأ الجمهور درجات ، فهي مطابقة للفظ هم . وقرأ النخعي درجة بالإفراء . {وَاللّه بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : عالم بأعمالهم ودرجاتها ، فمجازيهم على حسبها . وتضمنت هذه الآيات الطباق في : ينصركم ويخذلكم ، وفي رضوان اللّه وبسخط . والتكرار في : ينصركم وينصركم ، وفي الجلالة في مواضع . والتجنيس المماثل : في يغل وما غل . والاستفهام الذي معناه في : أفمن اتبع الآية . والاختصاص في : فليتوكل المؤمنون ، وفي : وما كان لنبي ، وفي : بما يعملون خص العمل دون القول لأن العمل جل ما يترتب عليه الجزاء . والحذف في عدة مواضع . ١٦٤لقد من اللّه . . . . . {لَقَدْ مَنَّ اللّه عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} مناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه تعالى لما ذكر الفريقين : فريق الرضوان ، وفريق السخط ، وأنهم درجات عند اللّه مجملاً من غير تفصيل ، فصَّل أحوالهم وبدأ بالمؤمنين ، وذكر ما امتن عليهم به من بعث الرسول إليهم تالياً لآيات اللّه ، ومبيناً لهم طريق الهدى ، ومطهراً لهم من أرجاس الشرك ، ومنقذاً لهم من غمرة الضلالة بعد أن كانوا فيها . وسلاهم عما أصابهم يوم أحد من الخذلان والقتل والجرح ، لما أنالهم يوم بدر من الظفر والغنيمة . ثم فصَّل حال المنافقين الذين هم أهل السخط بما نص عليه تعالى . ومعنى مَن تطوّل وتفضل ، وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون ببعثه ، والظاهر عمومه . فعلى هذا يكون معنى من أنفسهم من أهل ملتهم ، كما قال : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ } والمعنى : من جنس بني آدم ، والامتنان بذلك لحصول الأنس بكونه من الإنس ، فيسهل المتلقى منه ، وتزول الوحشة والنفرة الطبيعية التي بين الجنسين المختلفين ، ولمعرفة قوى جنسهم . فإذا ظهرت المعجزة أدركوا أنَّ ذلك ليس في قوى بني آدم ، فعلموا أنّه من عند اللّه ، فكان ذلك داعية إلى الإجابة . ولو كان الرسول من غير الجنس لتخيل أن تلك المعجزة هي في طباعه ، أشار إلى هذه العلة الماتريدي . وقيل : المراد بالمؤمنين العرب ، لأنه ليس حيٌّ من أحياء العرب إلا له فيهم نسب ، من قبل أمهاته ، إلا بني تغلب لنصرانيتهم قاله : النقاش ، فصار بعثه فيهم شرفاً لهم على سائر الأمم . ويكون معنى من أنفسهم : أي من جنسهم عربياً مثلهم . وقيل : من ولد إسماعيل ، كما أنهم من ولده . قال ابن عباس وقتادة : قال من أنفسهم لكونه معروف النسب فيهم ، معروفاً بالأمانة والصدق . قال أبو سليمان الدمشقي : ليسهل عليهم التعليم منه ، لموافقة اللسان . وقال الماوردي : لأن شرفهم يتم بظهور نبي منهم انتهى . والمنة عليهم بكونه من أنفسهم ، إذْ كان اللسان واحداً ، فيسهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه . وكانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة ، فكان ذلك أقرب إلى تصديقه والوثوق به . وقرىء شاذاً : لمن منّ اللّه على المؤمنين بمن الجارة ومن مجرور بها بدل قد منّ . قال الزمخشري : وفيه وجهان : أنْ يراد لمن منّ اللّه على المؤمنين منه أو بعثه فيهم ، فحذف لقيام الدلالة . أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك : أخطب ما يكون الأمير ، إذ كان قائما بمعنى لمن مَنَّ اللّه على المؤمنين وقت بعثه انتهى . أمّا الوجه الأوّل فهو سائغ ، وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها : { وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ }{ وَمَا مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ }{ وَمَا دُونِ ذَلِكَ } على قول . وأما الوجه الثاني فهو فاسد ، لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة ألبتة ، إنما تكون ظرفاً أو مضافاً إليها اسم زمان ، ومفعولة باذكر على قول . أمّا أنْ تستعملَ مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ، ليس في كلامهم نحو : إذ قام زيد طويل وأنت تريد وقت قيام زيد طويل . وقد قال أبو علي الفارسي : لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ، ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين ، ولا مبتدأين انتهى كلامه . وأمّا قوله : في محل الرفع كإذا ، فهذا التشبيه فاسد ، لأن المشبه مرفوع بالابتداء ، والمشبه به ليس مبتدأ . إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك . وليس في الحقيقة في موضع رفع ، بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف ، وذلك العامل هو مرفوع . فإذا قال النحاة : هذا الظرف الواقع خبراً في محل الرفع ، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله ، وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا . وأما قوله في قولك : أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً ، فهذا في غاية الفساد . لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب ، لا يجيز أن ينطق به ، إنما هو أمر تقديري . ونصّ أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ ، أنَّ هذه الحال سدت مسد الخبر ، وأنه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده . وفي تقرير هذا الخبر أربعة مذاهب ، ذكرت في مبسوطات النحو . وقرأ الجمهور : من أنفُسهم بضم الفاء ، جمع نفس . وقرأت فاطمة ، وعائشة ، والضحاك ، وأبو الجوزاء : من أنفَسهم بفتح الفاء من النفاسة ، والشيء النفيس . وروي عن أنس أنه سمعها كذلك من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وروى عليّ عنه عليه السلام : { أنا من أنفسكم نسباً وحسباً وصهراً ، ولا في آبائي من آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد للّه} . قيل : والمعنى من أشرفهم ، لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد صلى اللّه عليه وسلم. وفيما خطب به أبو طالب في تزويج خديجة رضي اللّه عنها وقد حضر معه بنو هاشم ورؤساء مضر : الحمد للّه الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع اسماعيل ، وضئضىء معه ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه ، وجعل لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إنَّ ابن أخي هذا محمد بن عبد اللّه من لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم وخطر جليل . وقال ابن عباس : ما خلق اللّه نفساً هي أكرم على اللّه من محمد رسوله صلى اللّه عليه وسلم ، وما أقسم بحياة أحد غيره فقال : لعمرك . {يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } تقدّم تفسير هذه الجمل . {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ } أي من قبل بعثه . {لَفِى ضَلَالَ } أي حيرة واضحة فهداهم به . وإنْ هنا هي الخففة من الثقيلة ، وتقدّم الكلام عليها وعلى اللام في قوله :{ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } والخلاف في ذلك فأغنى عن إعادته هنا . وقال الزمخشري : إنْ هي المخففة من الثقيلة ، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية ، وتقديره : وإنّ الشأن والحديث كانوا من قبل لفي ضلال مبين . انتهى . وقال مكي : وقد ذكر أنه قبل إن نافية ، واللام بمعنى إلا ، أي : وما كانوا من قبلُ إلا في ضلال مبين ، قال : وهذا قول الكوفيين . وأما سيبويه فإنه قال : إنْ مخففة من الثقيلة ، واسمها مضمر ، والتقدير على قوله : وإنهم كانوا من قبل في ضلال مبين . فظهر من كلام الزمخشري أنه حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث . ومن كلام مكي أنها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين ، وكلا هذين الوجهين لا نعرف . نحو : يا ذهب إليه . إنما تقرر عندنا في كتب النحو ومن الشيوخ أنّك إذا قلت : إن زيداً قائم ثم خففت ، فمذهب البصريين فيها إذ ذاك وجهان : أحدهما : جواز الأعمال ، ويكون حالها وهي مخففة كحالها وهي مشدّدة ، إلا أنها لا تعمل في مضمر . ومنع ذلك الكوفيون ، وهم محجوجون بالسماع الثابت من لسان العرب . والوجه الثاني : وهو الأكثر عندهم أن تهمل فلا تعمل ، لا في ظاهر ، ولا في مضمر لا ملفوظ به ولا مقدّر ألبتة . فإنْ وليها جملة اسمية ارتفعت بالابتداء والخبر ، ولزمت اللام في ثاني مضمونيها إن لم ينف ، وفي أولهما إن تأخر فنقول : إن زيد لقائم ومدلوله مدلول إن زيداً قائم . وإنْ وليها جملة فعلية فلا بد عند البصريين أن تكون من فواتح الابتداء . وإن جاء الفعل من غيرها فهو شاذ لا يقاس عليه عند جمهورهم . والجملة من قوله : وإن كانوا ، حالية . والظاهر أن العامل فيها هو : ويعلمهم ، فهو حال من المفعول . ١٦٥أو لما أصابتكم . . . . . {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا} الهمزة للاستفهام الذي معناه الإنكار . و قال ابن عطية : دخلت عليها ألف التقرير ، على معنى إلزام المؤمنين هذه المقالة في هذه الحال . وقال الزمخشري : ولمّا نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجرّ بإضافة لما إليه ، وتقديره : أقلتم حين أصابتكم ، وأنَّى هذا نصب لأنه مقول ، والهمزة للتقرير والتقريع . { فإن قلت} : علامَ عطفت الواو هذه الجملة ؟ { قلت} : على ما مضى من قصة أحد من قوله : { ولقد صدقكم اللّه وعده } ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف ، فكأنه قال : أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا ؟ انتهى . أمّا العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله : ولقد صدقكم اللّه وعده . ففيه بعدٌ ، وبعيد أن يقع مثله في القرآن . وأمّا العطف على محذوف فهو جار على ما تقرر في غير موضع من مذهبه ، وقد رددناه عليه . وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا : وأصلها التقديم ، وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها . وأمّا قوله : ولما نصب إلى آخره وتقديره : وقلتم حينئذ كذا ، فجعل لمّا بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه ، وإنما هو مذهب أبي علي الفارسي . زعم أنّ لمّا ظرف زمان بمعنى حين ، والجملة بعدها في موضع جرّ بها ، فجعلها من الظروف التي تجب إضافتها إلى الجمل ، وجعلها معمولة للفعل الواقع جواباً لها في نحو : لما جاء زيد جاء عمرو ، فلما في موضع نصب بجاء من قولك : جاء عمرو . وأمّا مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف ، وهو حرف وجوب لوجوب ، ومذهب سيبويه هو الصحيح . وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى : بالتكميل . والمصيبة : هي ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم ، وكفهم عن الثبات للقتال . وإسنادُ الإصابة إلى المصيبة هو مجاز ، كإسناد الإرادة إلى الجدار ، والمثلان اللذان أصابوهما . قال ابن عباس ، والضحاك ، وقتادة ، والربيع ، وجماعة : قتلهم يوم بدر سبعين ، وأسرهم سبعين ، فالمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال . وقال الزجاج : قتلهم يوم بدر سبعين وقتلهم يوم أحد اثنين وعشرين ، فهو قتل بقتل ، ولا مدخل للأسرى في الآية ، لأنهم فدوا فلا مماثلة بين حالهم وبين قتل سبعين من المؤمنين ، وقيل : المثلية في الانهزام . هزم المؤمنون الكفار يوم بدر ، وهزموهم أولاً يوم أحد ، وهزمهم المشركون في آخر يوم أحد . وملخص ذلك : هل المثلية في الإصابة من قتل وأسر ، أو من قتل ، أو من هزيمة ؟ ثلاثة أقوال ، والأظهر الأول . لأن قوله : قد أصبتم مثليها هو على طريق التفضل منه تعالى على المؤمنين يا دالتهم على الكفار ، والتسلية لهم على ما أصابهم ، فيكون ذلك بالأبلغ في التسلية . وتنبيههم على أنهم قتلوا منهم سبعين ، وأسروا سبعين أبلغ في المنة وفي التسلية . وأدعى إلى أن يذكروا نعم اللّه عليهم السابقة ، وأن يتناسوا ما جرى عليهم يوم أحد . وأنى هذا : جملة من مبتدأ وخبر ، وهي في موضع نصب على أنها معمولة لقوله : قلتم . قالوا ذلك على سبيل التعجب والإنكار لما أصابهم ، والمعنى : كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء اللّه ، وقد وعدنا بالنصر وإمداد الملائكة ؟ فاستفهموا على سبيل التعجب عن ذلك . وأنى سؤال عن الحال هنا ، ولا يناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى ، لأنّ الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا ، إنما الاستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك ، سألوا عنها على سبيل التعجب . وقال الزمخشري : أنى هذا من أين هذا ، كقوله : { أنى لك هذا } لقوله : { من عند أنفسكم } وقوله : { من عند اللّه } انتهى كلامه . والظرف إذا وقع خبر للمبتدأ ألا يقدر داخلاً عليه حرف جر غير في ، أما أنْ يقدَّر داخلاً عليه مِنْ فلا ، لأنه إنما انتصب على إسقاط في . ولك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في ألاّ أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به ، فتقدير الزمخشري : أنى هذا ، من أين هذا تقدير غير سائغ ، واستدلاله على هذا التقدير بقوله : من عند أنفسكم ، وقوله : من عند اللّه ، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها . وأمّا على ما قررناه ، فإنّ الجواب جاء على مراعاة المعنى ، لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ . وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقاً له في اللفظ ، ومراعي فيه المعنى لا اللفظ . والسؤال بأبي سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمر ، والجواب بقوله : من عند أنفسكم يتضمن تعيين الكيفية ، لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى . لو قيل على سبيل التعجب والإنكار : كيف لا يحج زيد الصالح ، وأجيب ذلك بأن يقال : بعدم استطاعته حصل الجواب وانتظم من المعنى ، أنه لا يحج وهو غير مستطيع . {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } الإضمار في هو راجع إلى المصيبة على المعنى ، لا على اللفظ . وتقدم تفسير المصيبة في تفسير مقابل المثلين : أهو القتل المقابل للقتل والأسر ، أو المقابل للقتل فقط ؟ أو الانهزام المقابل للانهزامين ؟ والمعنى : أن سبب هذه المصيبة صدر من عند أنفسكم . فقيل : هو الفداء الذي آثروه على القتل يوم بدر من غير إذن اللّه تعالى ، قال معناه : عمر بن الخطاب ، وعليّ ، والحسن ، وروى عليّ في ذلك : أنّه لما فرغت هزيمة المشركين يوم بدر جاء جبريل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : { يا محمد إن اللّه قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسرى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : أن يقدموا الأسرى فتضرب أعناقهم ، أو يأخذوا الفداء على أن يقتل من أصحابك عدة هؤلاء الأسرى ، فدعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الناس ، فذكر ذلك لهم فقالوا : يا رسول اللّه عشائرنا وأخواننا نأخذ فداءهم فنتقوى به على قتال عدونا ، ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره} . فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلاً . وقال الجمهور : هو مخالفة الرسول في الرأي حين رأى أن يقيم بالمدينة ويترك الكفار بشر مجلس ، فخالفوا وخرجوا حتى جرت القصة . وقالت طائفة منهم ابن عباس ، ومقاتل : هو عصيان الرماة وتسبيبهم الهزيمة على المؤمنين . وقد لخص الزمخشري هذه الأقوال الثلاثة أحسن تلخيص . فقال : المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة ، أو لتخليتكم المركز . وعن عليّ : لأخذكم الفداء من أساري بدر قبل أن يؤذَن لكم انتهى . ولم يعين اللّه تعالى السبب ما هو لطفاً بالمؤمنين في خطابه تعالى لهم . والظاهر في قوله :{ أنَّى هذا } هو من سؤال المؤمنين على سبيل التعجب . وذكر الرازي أن اللّه لما حكى عن المنافقين طعنهم في الرسول بأن نسبوه إلى الغلول والخيانة ، حكى عنهم شبهة أخرى في هذه الآية وهي قولهم : لو كان رسولاً من عند اللّه لما انهزم عسكره يوم أحد ، وهو المراد من قولهم : أنَّى هذا . فأجاب عنه بقوله : قل هو من عند أنفسكم ، أي هذا الانهزام إنما حصل بشؤم عصيانكم انتهى كلامه . ودل على أن قوله : أنى هذا من كلام المنافقين . وقال الماتريدي أيضاً : إنّه من كلام المنافقين . والظاهر ما قلناه أنه من كلام المؤمنين ، وهم المخاطبون بقوله : {أو لما أصابتكم مصيبة } لأن المنافقين لم تصبهم مصيبة ، لأنهم رجعوا مع عبد اللّه بن أبي ولم يحضروا القتال ، إلا أن تجوز في قوله : أصابتكم مصيبة بمعنى أصابت أقرباءكم وأخوانكم ، فهو يمكن على بعد . {إِنَّ اللّه عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ } أي قادر على النصر ، وعلى منعه ، وعلى أن يصيب بكم تارة ، ويصيب منكم أخرى . ونبه بذلك على أن ما أصابهم كان لوهن في دينهم ، لا لضعف في قدرة اللّه ، لأن من هو قادر على كل شيء هو قادر على دفاعهم على كل حال . ١٦٦وما أصابكم يوم . . . . . {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّه} هو يوم أحد . والجمعان ، جمع النبي صلى اللّه عليه وسلم وكفار قريش ، والخطاب للمؤمنين . وما موصولة مبتدأ ، والخبر قوله : فبإذن اللّه ، وهو على إضمار أي : فهو بإذن اللّه . ودخول الفاء هنا . قال الحوفي : لما في الكلام من معنى الشرط لطلبته للفعل . و قال ابن عطية : ودخلت الفاء رابطة مسددة . وذلك للإبهام الذي في ما فأشبه الكلام الشرط ، وهذا كما قال سيبويه : الذي قام فله درهمان ، فيحسن دخول الفاء إذا كان القيام سبب الإعطاء انتهى كلامه . وهو أحسن من كلام الحوفي ، لأن الحوفي زعم أن في الكلام معنى الشرط . و قال ابن عطية : فأشبه الكلام الشرط . ودخول الفاء على ما قاله الجمهور وقرروه قلق هنا ، وذلك أنهم قرّروا في جواز دخول الفاء على خبر الموصول أنّ الصلة تكون مستقلة ، فلا يجيزون الذي قام أمس فله درهم ، لأن هذه الفاء إنما دخلت في خبر الموصول لشبهه بالشرط . فكما أن فعل الشرط لا يكون ماضياً من حيث المعنى ، فكذلك الصلة . والذي أصابهم يوم التقى الجمعان هو ماض حقيقة ، فهو إخبار عن ماض من حيث المعنى . فعلى ما قرّروه يشكل دخول الفاء هنا . والذي نذهب إليه : أنه يجوز دخول الفاء في الخبر الصلة ماضية من جهة المعنى لورود هذه الآية ، ولقوله تعالى :{ وَمَا أَفَاء اللّه عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } ومعلوم أن هذا ماض معنى مقطوع بوقوعه صلة وخبر ، أو يكون ذلك على تأويل : وما يتبين إصابته إياكم . كما تأولوا : { إنْ كان قميصه قدّ } أي إن تبين كون قميصه قدّ . وإذا تقرّر هذا فينبغي أن يحمل عليه قوله تعالى : { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم فإن ظاهر هذه كلها أخبار عن الأمور الماضية . ويكون المعنى على التبين المستقبل . وفسر الإذن هنا بالعلم . وعبر عنه به لأنه من مقتضايه قاله : الزُّجاج . أو بتمكين اللّه وتخليته بين الجمعين قاله : القفال . أو بمرأى ومسمع ، أو بقضائه وقدره . وقال الزمخشري : فهو كائن بإذن اللّه ، استعار الإذن لتخلية الكفار ، وأنه لم يمنعهم منهم ليبتلهم ، لأن الآذن مخل بين المأذون له ومراده . انتهى . وفيه دسيسة الاعتزال ، لأنَّ قتل الكفار للمؤمنين قبيح عنده ، فلا إذن فيه . و قال ابن عطية : يحسن دخول الفاء إذا كان سبب الإعطاء ، وكذلك ترتيب هذه الآية . فالمعنى : إنما هو وما أذن اللّه فيه فهو الذي أصاب ، لكنْ قدّم الأهم في نفوسهم والأقرب إلى حسهم . والإذن : التمكين من الشيء مع العلم به انتهى كلامه . لما كان من حيث المعنى أن الإصابة مترتبة على تمكين اللّه ، من ذلك حملُ الآية على ذلك ، وادّعى تقديماً وتأخيراً ، ولا تحتاج الآية إلى ذلك ، لأنه ليس شرطاً وجزاء فيحتاج فيه إلى ذلك ، بل هذا من باب الاخبار عن شيء ماض ، والاخبار صحيح . أخبر تعالى أنّ الذي أصابهم يوم أحد كان لا محالة بإذن اللّه ، فهذا إخبار صحيح ، ومعنى صحيح ، فلا نتكلف تقديماً ولا تأخيراً ، وتجعله من باب الشرط والجزاء . {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} ١٦٧وليعلم الذين نافقوا . . . . . {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ } هو على حذف مضاف أي : وليعلم إيمان المؤمنين ، ويعلم نفاق الذين نافقوا . أو المعنى : وليميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين . وقيل : ليكون العلم مع وجود المؤمنين والمنافقين مساوقاً للعلم الذي لم يزل ولا يزال . وقيل : ليظهر إيمان هؤلاء ونفاق هؤلاء . وقد تقدم تأويل مثل هذا في قوله :{ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ } وقالوا : تتعلق الآية بمحذوف أي : ولكذا فعل ذلك . والذي يظهر أنه معطوف على قوله : بإذن اللّه ، عطف السبب على السبب . ولا فرق بين الباء واللام ، فهو متعلق بما تعلقت به الباء من قوله : فهو كائن . والذين نافقوا هنا عبد اللّه بن أبي وأصحابه . {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّهأَوِ ادْفَعُواْ } القائل : رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : عبد اللّه بن عمرو بن حرام الأنصاري أبو جابر بن عبد اللّه لما انخذل عبدُ اللّه بن أبي في نحو ثلاثمائة تبعهم عبد اللّه فقال لهم : اتقوا اللّه ولا تتركوا نبيكم ، وقاتلوا في سبيل اللّهأو ادفعوا ، ونحو هذا من القول . فقال عبد اللّه بن أبي : ما أرى أن يكون قتال ، ولو علمناه لكنا معكم . فلما يئس منهم عبد اللّه قال : اذهبوا أعداء اللّه ، فسيغني اللّه عنكم ، ومضى حتى استشهد . قال السدي : وابن جريج ، ومجاهد ، والحسن ، والضحاك ، والفرّاء : معناه : كثروا السواد وإن لم تقاتلوا فتدفعون القوم بالتكثير . وقال أبو عون الأنصاري معناه : رابطوا ، وهو قريب من الأول ، لأن المرابط في الثغور دافع للعدو ، إذ لولاه لطرقها . قال أنس : رأيت عبد اللّه بن أم مكتوم يوم القادسية وعليه درع بجر أطرافها ، وبيده راية سوداء ، فقيل له : أليس قد أنزل اللّه عذرك ؟ قال : بلى ولكني أكثر المسلمين بنفسي . وقيل : القتال بالأنفس ، والدفع بالأموال . وقيل : المعنى أو ادفعوا حمية ، لأنه لمّا دعاهم أولاً إلى أن يقاتلوا في سبيل اللّه وجد عزائمهم منحلة عن ذلك ، إذ لا باعث لهم في ذلك لنفاقهم ، فاستدعى منهم أن يدفعوا عن الحوزة ، فنبه على ما يقاتل لأجله : إمّا لإعلاء الدين ، أو لحمى الذمار . ألا ترى إلى قول قزمان : واللّه ما قاتلت إلا على أحساب قومي . وقول الأنصاري وقد رأى قريشاً ترعى زرع قناة : أترعى زروع بني قيلة ولما تضارب ، مع أنه صلى اللّه عليه وسلم أمر أن لا يقاتل أحد حتى يأمره . وأو على بابها من أنها لأحد الشيئين . وقيل : يحتمل أن تكون بمعنى الواو ، فطلب منهم الشيئين : القتال في سبيل اللّه ، والدفع عن الحريم والأهل والمال . فكفار قريش لا تفرق بين المؤمن والمنافق في القتل والسبي والنهب ، والظاهر أن قوله : وقيل لهم ، كلام مستأنف . قسم الأمر عليهم فيه بين أن يقاتلوا للآخرة ، أو يدفعوا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم . حكى اللّه عنهم ما يدل على نفاقهم في هذا السؤال والجواب ، ويحتمل أن يكون قوله : وقيل لهم معطوف على نافقوا ، فيكون من الصلة . {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } إنما لم ترد بالفاء لأنه جواب لسؤال اقتضاه دعاؤهم إلى القتال كأنه قيل : فماذا قالوا ؟ فقيل : قالوا لو نعلم ، ونعلمُ هنا في معنى علمنا ، لأنّ لو من القرائن التي تخلص المضارع لمعنى الماضي إذا كانت حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره ، فإذا كانت بمعنى إنْ الشرطية تخلص المضارع لمعنى الاستقبال . ومضمون هذا الجواب أنهم علقوا الاتباع على تقدير وجود علم القتال ، وعلمهم للقتال منتف ، فانتفى الاتباع واخبارهم بانتفاء علم القتال منهم إمّا على سبيل المكابرة والمكادبة ، إذ معلوم أنه إذا خرج عسكران وتلاقيا وقد قصد أحدهما الآخر من شقة بعيدة في عدد كثير وعدد ، وخرج إليهم العسكر الآخر من بلدهم للقائهم قبل أن يصلوا بلدهم واثقين بنصر اللّه مقاتلين في سبيل اللّه ، وإن كانوا أقل من أولئك ، أنه سينشب بينهم قتال لا محالة ، فأنكروا علم ذلك رأساً لما كانوا عليه من النفاق والدغل والفرح بالاستيلاء على المؤمنين . وإمّا على سبيل التخطئة لهم في ظنهم أن ذلك قتال في سبيل اللّه . وليس كذلك ، إنما هو رمي النفوس في التهلكة ، إذ لا مقاومة لهم بحرب الكفار لكثرتهم وقلة المؤمنين ، لأن رأى عبد اللّه بن أبي كان في الإقامة بالمدينة وجعلها ظهراً للمؤمنين ، وما كان يستصوب الخروج كما مرّ ذكره في قصة أحد . {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ } وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب إنهم كانوا يظهرون الإيمان ، ولم تكن تظهر لهم إمارة تدل على الكفر ، فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زادوا قرباً للكفر ، وتباعدوا عن الإيمان . وقيل : هو على حذف مضاف أي : هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية للمشركين . وأقرب هنا افعل تفضيل ، وهي من القرب المقابل للبعد . ويعدّي بإلى وباللام وبمن ، فيقال : زيد أقرب لكذا ، وإلى كذا ، ومن كذا من عمرو . فمن الأولى ليست التي يتعدى بها افعل التفضيل مطلقاً في نحو : زيد أفضل من عمرو . وحرفا الجر هنا يتعلقان بأقرب ، وهذا من خواص أفعل التفضيل إنه يتعلق به حرفا جر من جنس واحد ، وليس أحدهما معطوفاً على الآخر . ولا بدلاً منه بخلاف سائر العوامل ، فإنه لا يتعلق به حرفا جر من جنس واحد إلا بالعطف ، أو على سبيل البدل . فتقول : زيد بالنحو أبصر منه بالفقه . والعامل في يومئذ أقرب . ومنهم متعلق بأقرب أيضاً ، والجملة المعوض منها التنوين هي السابقة ، أي : هم قوم إذ قالوا : لو نعلم قتالاً لاتبعناكم . وذهب بعض المفسرين فيما حكى النقاش : إلى أن أقرب ليس هو هنا المقابل للأبعد ، وإنما هو من القَرَب بفتح القاف والراء وهو المطلب ، والقارب طالب الماء ، وليلة القرب ليلة الوداد ، فاللفظة بمعنى الطلب . ويتعين على هذا القول التعدية باللام ، ولا يجوز أن تعدّى بإلى ولا بمن التي لا تصحب كل أفعل التفضيل ، وصار نظير زيد أقرب لعمرو من بكر . وأكثر العلماء على أن هذه الجملة تضمنت النص على كفرهم . قال الحسن : إذا قال اللّه : أقرب ، فهو اليقين بأنهم مشركون . كقوله :{ مائة ألف أو يزيدون } فالزيادة لا شك فيها ، والمكلف لا ينفك عن الكفر أو الإيمان . فلما دلت على الأقربية من الكفر لزم حصول الكفر . وقال الواحدي في الوسيط : هذه الآية دليل على أنَّ من أتى بكلمة التوحيد لم يكفر ، لأنه تعالى لم يطلق القول عليهم بتكفيرهم مع أنهم كانوا كافرين مع إظهارهم لقول : لا إلاه إلا اللّه محمد رسول اللّه . قال الماتريدي : أقرب أي ألزم على الكفر ، وأقبل له مع وجود الكفر منهم حقيقة ، لا على القرب إليه قبل الوقوع والوجود لقوله : { ءانٍ رَحْمَتَ اللّه قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ } أي هي لهم لا على القرب قبل الوجود ، لكنهم لما كانوا أهل نفاق والكفر لم يفارق قلوبهم وما كان من أيمانهم ، كان بظاهر اللسان قد يفارقها في أكثر أوقاتهم ، وصفوا به . ويحتمل أن يحمل على القرب من حيث كانوا شاكين في الأمر ، والشاك في أمر الكفر والإيمان تارك للإيمان ، فهو أقرب إلى الكفر . أو من حيث قالوا للمؤمنين : { ألم نكن معكم } وللكافرين : { ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } أو من حيث ما أظهروا من الإيمان كذب ، والكفر نفسه كذب . فما أظهروا من الإيمان فهو كذب إلى الكذب الذي هم أقرب إليه وهو الكفر ، أو من حيث أنهم أحق به أن يعرفوا . كما جعل اللّه لهم أعلاماً يعرفون بها ، أو من حيث لا يعبدون اللّه ولا يعرفونه ، بل هم عباد الأصنام لاتخاذهم لها أرباباً ، أو لتقرّبهم بها إلى اللّه ، فإذا أصابتهم شدّة فرعوا إلى اللّه ، والمؤمنون يرجعون إلى اللّه في الشدّة والرخاء . {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ } أي يظهرون من الإسلام ما يحقنون به دماءهم ، ويحفظون أهليهم من السبي ، وأموالهم من النهب . وليس ما يظهرون ما تنطوي عليه ضمائرهم ، بل هو لا يتجاوز أفواههم ومخارج الحروف منها ، ولم تع قلوبهم منه شيئاً . وذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم ، وأنَّ إيمانهم موجود في أفواههم معدوم في قلوبهم ، بخلاف إيمان المؤمنين في مواطأة عقد قلوبهم للفظ ألسنتهم . قال ابن عطية : بأفواههم توكيد مثل : يطير بجناحيه انتهى . ولا يظهر أنه توكيد ، إذِ القولُ ينطلق على اللساني والنفساني ، فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا إنْ قلنا : إنّ إطلاقه على النفساني مجاز ، فيكون إذ ذاك توكيداً لحقيقة القول . {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } أي من الكفر وعداوة الدين . وقال : أعلم ، لأن علمه تعالى بهم علم إحاطة بتفاصيل ما يكتمونه وكيفياته ، ونحن نعلم بعض ذلك علماً مجملاً . وتضمنت هذه الجملة التوعد الشديد لهم ، إذ المعنى : ترتب الجزاء على علمه تعالى بما يكتمون . {الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} ١٦٨الذين قالوا لإخوانهم . . . . . هذه الآية نظير قوله : { وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض } الآية وفسر الإخوان هنا بما فسر به هناك . وتحتمل لام الجر ما احتملته في تلك ، وجوزوا في إعراب الذين وجوهاً : الرفع على النعت للذين نافقوا ، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو على أنه بدل من الواو في يكتمون ، والنصب على الذم أي : أذم الذين ، والجرّ على البدل من الضمير في بأفواههم أو في قلوبهم . والجملة من قوله : وقعدوا حالية أي : وقد قعدوا . ووقوع الماضي حالاً في مثل هذا التركيب مصحوباً بقد ، أو بالواو ، أو بهما ، أو دونهما ، ثابت من لسان العرب بالسماع . ومتعلق الطاعة هو ترك الخروج . والقعود كما قعدوا هم ، وهذا منهم قول بالأجلين أي : لو وافقونا في التخلف والقعود ما قتلوا ، كما لم نقتل نحن . وقرأ الحسن : ما قتلوا بالتشديد . { قُلْ فَادْرَءوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أكذبهم اللّه تعالى في دعواهم ذلك ، فكأنه قيل : القتل ضرب من الموت ، فإنْ كان لكم سبيل إلى دفعه عن أنفسكم بفعل اختياري فادفعوا عنها الموت ، وإن لم يكن ذلك دلّ على أنكم مبطلون في دعواكم . والدرة : الدفع ، وتقدّمت مادته في قوله :{ فادارأتم فيها } وقال دغفل النسابة : صادف درء السيل درأ يدفعه والعبء لا تعرفه أو ترفعه والمعنى : إنْ كنتم صادقين في دعواكم أنَّ التحيل والتحرز ينجي من الموت ، فجدّوا أنتم في دفعه ، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلاً بل لا بد أن يتعلق بكم بعض أسباب المنون . وهب أنكم على زعمكم دفعتم بالقعود هذا السبب الخاص ، فادفعوا سائر أسباب الموت ، وهذا لا يمكن لكم ألبتة . قال الزمخشري: { فإن قلت } : فقد كانوا صادقين في أنهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود ، فما معنى قوله : إن كنتم صادقين ؟ { قلت} : معناه أنّ النجاة من القتل يجوز أن يكون سببها القعود عن القتال ، وأن يكون غيره . لأن أسباب النجاة كثيرة . وقد يكون قتال الرجل نجاته ، ولو لم يقاتل لقتل ، فما يدريكم أن سبب نجاتكم القعود وإنكم صادقون في مقاتلتكم وما أنكرتم أن يكون السبب غيره ؟ ووجه آخر : إن كنتم صادقين في قولكم : لو أطاعونا وقعدوا ما قتلوا ، يعني : أنهم لو أطاعوكم وقعدوا لقتلوا قاعدين ، كما قتلوا مقاتلين . وقوله : فادرؤا عن أنفسكم الموت ، استهزاء بهم ، أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتى لا تموتوا انتهى كلامه . وهو حسن على طوله . {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّه أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} ١٦٩ولا تحسبن الذين . . . . . قيل : هم قتلى أحد ، وقيل : شهداء بئر معونة . وقيل : شهداء بدر . وهل سبب ذلك قول من استشهد وقد دخل الجنة فأكل كل من ثمارها : من يبلغ عنا أخواننا أنا في الجنة نرزق ، لا تزهدوا في الجهاد . فقال اللّه : أنا أبلغ عنكم ، فنزلت . أو قول من لم يستشهد من أولياء الشهداء : إذا أصابتهم نعمة نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا وأبناؤنا وأخواننا في القبور ، فنزلت . وقرأ الجمهور : ولا تحسبن بالتاء ، أي ولا تحسبن أيها السامع . وقال الزمخشري : الخطاب لرسول صلى اللّه عليه وسلم ،أو لكل أحد . وقرأ حميد بن قيس وهشام بخلاف عنه بالياء ، أي : ولا يحسبن هو ، أي : حاسب واحد . قال ابن عطية : وأرى هذه القراءة بضم الياء ، فالمعنى : ولا يحسبن الناس انتهى . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلاً ، ويكون التقدير : ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً . { فإن قلت} : كيف جاز حذف المفعول الأوّل ؟ { قلت} : هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله : أحياء . والمعنى : هم أحياء لدلالة الكلام عليها انتهى كلامه . وما ذهب إليه من أن التقدير : ولا تحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً لا يجوز ، لأنَّ فيه تقديم المضمر على مفسره ، وهو محصور في أماكن لا تتعدى وهي باب : رب بلا خلاف ، نحو : ربه رجلاً أكرمته ، وباب نعم وبئس في نحو : نعم رجلاً زيد على مذهب البصريين ، وباب التنازع على مذهب سيبويه في نحو : ضرباني وضربت الزيدين ، وضمير الأمر والشأن وهو المسمى بالمجهول عند الكوفيين نحو : هو زيد منطلق ، وباب البدل على خلاف فيه بين البصريين في نحو : مررت به زيد ، وزاد بعض أصحابنا أن يكون الظاهر المفسر خبراً للضمير ، وجعل منه قوله تعالى : { وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا } التقدير عنده : ما الحياة إلا حياتنا الدّنيا . وهذا الذي قدره الزمخشري ليس واحداً من هذه الأماكن المذكورة . وأما سؤاله وجوابه فإنه قد يتمشى على رأي الجمهور في أنه : يجوز حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً ، وحذف الاختصار هو لفهم المعنى ، لكنه عندهم قليل جداً . قال أبو عليّ الفارسي : حذفه عزيز جداً ، كما أن حذف خبر كان كذلك ، وإن اختلفت جهتا القبح انتهى . قول أبي علي . وقد ذهب الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن ملكون الحضرمي الإشبيلي إلى منع ذلك اقتصاراً ، والحجة له وعليه مذكورة في علم النحو . وما كان بهذه المثابة ممنوعاً عند بعضهم عزيزاً حذفه عند الجمهور ، ينبغي أن لا يحمل عليه كلام اللّه تعالى . فتأويل مَن تأوّل الفاعل مضمراً يفسره المعنى ، أي : لا يحسبن هو أي أحد ، أو حاسب أولى . وتنفق القراءتان في كون الفاعل ضميراً وإن اختلفت بالخطاب والغيبة . وتقدم الكلام على معنى موت الشهداء وحياتهم في قوله :{ وَلاَ تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللّه أَمْواتاً بَلْ أَحْيَاء } فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقرأ الحسن وابن عامر قتلوا بالتشديد . وروي عن عاصم : قاتلوا . وقرأ الجمهور : قتلوا مخففاً . وقرأ الجمهور : بل أحياء بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : بل هم أحياء . وقرأ ابن أبي عبلة : أحياء بالنصب . قال الزمخشري : على معنى بل أحسبهم أحياء انتهى . وتبع في إضمار هذا الفعل الزجاج قال الزجاج : ويجوز النصب على معنى : بل أحسبهم أحياءً . ورده عليه أبو علي الفارسي في الإغفال وقال : لا يجوز ذلك ، لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة ، ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة . فوجهُ قراءة ابن أبي عبلة أن يُضمر فعلاً غير المحسبة اعتقدهم أو اجعلهم ، وذلك ضعيف ، إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر انتهى كلام أبي علي . وقوله : لا يجوز ذلك لأن الأمر يقين ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة معناه : أنَّ المتيقن لا يعبر عنه بالمحسبة ، لأنها لا تكون لليقين . وهذا الذي ذكره هو الأكثر ، وقد يقع حسب لليقين كما تقع ظن ، لكنه في ظن كثير ، وفي حسب قليل . ومن ذلك في حسب قول الشاعر : حسبت التقى والحمد خير تجارة رباحاً إذا ما المرء أصبح ثاقلا وقول الآخر : شهدت وفاتوني وكنت حسبتني فقيراً إلى أن يشهدوا وتغيبي فلو قدر بعد : بل أحسبهم بمعنى أعلمهم ، لصحَّ لدلالة المعنى عليه ، لا لدلالة لفظ ولا تحسبن ، لاختلاف مدلوليهما . وإذا اختلف المدلول فلا يدل أحدهما على الآخر . وقوله : ولا يصح أن يضمر له إلا فعل المحسبة غير مسلم ، لأنه إذا امتنع من حيث المعنى إضماره أضمر غيره لدلالة المعنى عليه لا اللفظ . وقوله : أو اجعلهم ، هذا لا يصح ألبتة ، سواء كانت اجعلهم بمعنى اخلقهم ، أو صيرهم ، أو سمهم ، أو القهم . وقوله : وذلك ضعيف أي النصب ، وقوله : إذ لا دلالة في الكلام على ما يضمر إن عنى من حيث اللفظ فصحيح ، وإن عنى من حيثُ المعنى فغير مسلم له ، بل المعنى يسوغ النصب على معنى اعتقدهم ، وهذا على تسليم إن حسب لا يذهب بها مذهب العلم . ومعنى عند ربهم : بالمكانة والزلفى ، لا بالمكان . قال ابن عطية : فيه حذف مضاف تقديره : عند كرامة ربهم ، لأن عند تقتضي غاية القرب ، ولذلك يصغر قاله سيبويه انتهى . ويحتمل عند ربهم أن يكون خبراً ثانياً ، وصفة ، وحالاً . وكذلك يرزقون : يجوز أن يكون خبراً ثالثاً ، وأن يكون صفة ثانية . وقدَّم صفة الظرف على صفة الجملة ، لأن الأفصح هذا وهو : أن يقدم الظرف أو المحرور على الجملة إذا كانا وصفين ، ولأن المعنى في الوصف بالزلفى عند اللّه والقرب منه أشرف من الوصف بالرزق . وأن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف ، ويكون العامل فيه في الحقيقة هو العامل في الظرف . قال ابن عطية : أخبر تعالى عن الشهداء أنهم في الجنة يرزقون ، هذا موضع الفائدة . ولا محالة أنهم ماتوا ، وإنَّ أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين . وفضّلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل ، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم . فقوله : بل أحياء مقدمة لقوله : يرزقون ، إذ لا يرزق إلا حي . وهذا كما يقول لمن ذم رجلاً . بل هو رجل فاضل ، فتجيء باسم الجنس الذي تركب عليه الوصف بالفضل انتهى ما قاله ابن عطية . ولا يلزم ما ذكره من أن لفظة أحياء جيء بها مجتلبة لذكر الرزق ، لكون الحياة مشتركاً فيها الشهيد والمؤمنون ، لأنه يجوز أن يكون هذا الإخبار بحياة الشهداء متقدماً على الإخبار بأن أرواح المؤمنين على العموم حية فاستفيد ، أو لا حياة أرواح الشهداء ، ثم جاء بعد الإخبار بحياة أرواح المؤمنين . وأيضاً ففي ذكره النص على نقيض ما حسبوه وهو : كون الشهداء أمواتاً . والبعد عن أن يراد بقوله : يرزقون ، ما يحتمله المضارع من الاستقبال . فإذا سبقه ما يدل على الالتباس بالوصف حالة الإخبار كان حكم ما بعده حكمه ، إذ الأصل في الأخبار أن يكونَ من أسندت إليه متصفاً بذلك في الحال ، إلا إن دلت قرينة على مضي أو استقبال من لفظ أو معنى ، فيصار إليه . ١٧٠فرحين بما آتاهم . . . . . {فَرِحِينَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ } أي مسرورين بما أعطاهم اللّه من قربه ، ودخول جنته ، ورزقهم فيها ، إلى سائر ما أكرمهم به ، ولا تعارض بين : فرحين ، وبين { إِنَّ اللّه لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ } في قصة قارون . لأنّ ذاك بالملاذ الدنيوية ، وهذا بالملاذ الأخروية . ولذلك جاء قلْ بفضل اللّه وبرحمته ، فبذلك فليفرحوا وجاء :{ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} ومن يحتمل أن تكون للسبب ، أي : ما آتاهم اللّه متسبب عن فضله ، فتتعلق الباء بآتاهم . ويحتمل أن تكون للتبعيض ، فتكون في موضع الحال من الضمير المحذوف العائد على ما ، أي : بما آتاهموه اللّه كائناً من فضله . ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، فتتعلق بآتاهم . وجوّزوا في فرحين أن يكون حالاً من الضمير في يرزقون ، أو من الضمير في الظرف ، أو من الضمير في أحياء ، وأن يكون صفة لأحياء إذا نصب . {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مّنْ خَلْفِهِمْ } وهم : جميع المؤمنين ، أي : يحصل لهم البشرى بانتفاء الخوف والحزن عن أخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم في الشهادة ، فهم فرحون بما حصل لهم ، مستبشرون بما يحصل لأخوانهم المؤمنين قاله : الزجاج وابن فورك وغيرهما . وقال قتادة وابن جريج والربيع وغيرهم : هم الشهداء الذين يأتونهم بعد من أخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون ، فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء ، إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة اللّه تعالى . قال ابن عطية : وليست استفعل في هذا الموضع بمعنى طلب البشارة ، بل هي بمعنى استغنى اللّه واستمجد المرخ والعفار . انتهى كلامه . أما قوله : ليست بمعنى طلب البشارة فصحيح ، وأما قوله : بل هي بمعنى استغنى اللّه واستمجد المرخ والعفار ، فيعني أنها تكون بمعنى الفعل المجرد كاستغنى بمعنى غني ، واستمجد بمعنى مجد ، ونقل أنه يقال : بشِر الرجل بكسر الشين ، فيكون استبشر بمعناه . ولا يتعين هذا المعنى ، بل يجوز أن يكون مطاوعاً لأفعل ، وهو الأظهر أي : أبشره اللّه فاستبشر ، كقولهم : أكانه فاستكان ، وأشلاه فاستشلى ، وأراحه فاستراح ، وأحكمه فاستحكم ، وأكنه فاستكنّ ، وأمرّه فاستمرّ ، وهو كثير . وإنما كان هذا الأظهر هنا ، لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلاً عن غيره ، فحصلت له البشر بابشار اللّه له بذلك . ولا يلزم هذا المعنى إذا كان بمعنى المجرد ، لأنه لا يدل على المطاوعة . ومعنى : من خلفهم ، قد بقوا بعدهم ، وهم قد تقدّموهم إذا كان المعنى بالذين لم يلحقوا الشهداء ، وإن كان المعنيّ بهم المؤمنين فمعنى لم يلحقوا بهم أي : لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم . {أَن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } وجوزوا في إعراب ويستبشرون أن يكون معطوفاً على فرحين ومستبشرين كقوله :{ صافات ويقبضن } أي قابضات وأن يكون على إضمارهم . والوا للحال ، فتكون حالية من الضمير في فرحين ، أو من ضمير المفعولين في آتاهم ، أو للعطف . ويكون مستأنفاً من باب عطف الجملة الاسمية أو الفعلية على نظيرها . وإن هي المخففة من الثقيلة ، واسمها محذوف ضمير الشأن ، وخبرها الجملة المنفية بلا . وإن ما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين ، فيكون هو المستبشر به في الحقيقة . أو منصوب على أنه مفعول من أجله ، فيكون علة للاستبشار ، والمستبشر به غيره . التقدير : لأنه لا خوف عليهم . والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب ، وتقدّم تفسير : لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، فأغني عن إعادته . وفي ذكر حال الشهداء واستبشارهم بمن خلفهم بعث للباقين بعدهم على ازدياد الطاعة ، والجد في الجهاد ، والرغبة في نيل منازل الشهداء وإصابة فضلهم ، وإحماد لحال من يرى نفسه في خير فيمتنى مثله لإخوانه في اللّه ، وبشرى للمؤمنين بالفوز في المآب قاله : الزمخشري . وهو كلام حسن . قيل : وتضمنت هذه الآيات من ضروب البديع ، الطباق في قوله : لقد منّ اللّه الآية ، إذ التقدير منّ اللّه عليهم بالهداية ، فيكون في هذا المقدّر . وفي قوله : في ضلال مبين ، وفي : يقولون بأفواههم ، والقول ظاهر ويكتمون . وفي قالوا لإخوانهم وقعدوا ، إذ التقدير حين خرجوا وقعدوا هم . وفي : أمواتاً بل أحياء وفي : فرحين ويحزنون . والتكرار في : وليعلم المؤمنين ، وليعلم الذين نافقوا الاختلاف متعلق العلم . وفي فرحين ويستبشرون . والتجنيس المغاير في : إصابتكم مصيبة ، والمماثل في : أصابتكم قد أصبتم . والاستفهام الذي يراد به الإنكار في : أو لما أصابتكم . والاحتجاج النظري في : قل فادرأوا عن أنفسكم . والتأكيد في : ولا هم يحزنون . والحذف في عدة مواضع لا يتم المعنى إلا بتقديرها . ١٧١يستبشرون بنعمة من . . . . . الحظ النصيب ، وإذا لم يقيد فإنما يستعمل في الخير . ماز و مير : فصل الشيء من الشيء . قال يعقوب : هما لغتان بمعنى واحد انتهى . والتضعيف ليس للنقل . وقيل : التشديد أقرب إلى الفخامة وأكثر في الاستعمال ، ألا ترى أنهم استعملوا المصدر على نية التشديد فقالوا : التمييز ، ولم يقولوا الميز انتهى . ويعني : ولم تقولوه مسموعاً ، وأما بطريق القياس فيقال . وقيل : لا يكون ما زالا في كثير من كثير ، فأما واحد من واحد فيتميز على معنى يعزل ، ولهذا قال أبو معاذ : يقال : ميزت بين شيئين ، ومزت بين الأشياء . اجتبى : اختار واصطفى ، وهي من جبيت الماء ، والمال وجبوتهما فاجتبى ، افتعل منه . فيحتمل أن تكون اللام واو أو ياء . {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّه وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّه لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ } كرر الفعل على سبيل التوكيد ، إن كانت النعمة والفضل بياناً لمتعلق الاستبشار الأول ، قاله : الزمخشري . قال : وكرّر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله :{ أَن لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } من ذكر النعمة والفضل ، وأن ذلك أجر لهم على إيمانهم ، يجب في عدل اللّه وحكمته أن يحصل لهم ولا يضيع انتهى . وهو على طريقة الاعتزال ، في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم . وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال : أكد استبشارهم بقوله : يستبشرون ، ثم بين بقوله : وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه ، لا بعمل أحد ، وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر أنها على قدر الأعمال انتهى . وقال غيرهما : هو بدل من الأول ، فلذلك لم يدخل عليه واو العطف . ومن ذهب إلى أنّ الجملة حال من الضمير في يحزنون ، ويحزنون هو العامل فيها ، فبعيد عن الصواب . لأن الظاهر اختلاف المنفى عنه الحزن والمستبشر ، ولأن الحال قيد ، والحزن ليس بمقيد . والظاهر أنَّ قوله : يستبشرون ليس بتأكيد للأول ، بل هو استئناف متعلق بهم أنفسهم ، لا بالذين لم يلحقوا بهم . فقد اختلف متعلق الفعلين ، فلا تأكيد لأن هذا المستبشر به هو لهم ، وهو : نعمة اللّه عليهم وفضله . وفي التنكثير دلالة على بعض غير معين ، وإشارة إلى إبهام المراد تعظيماً لأمره وتنبيهاً على صعوبة إدراكه ، كما جاء فيها { مَا لاَ عِينٌ وَيَجْعَلُونَ للّه الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشّرَ } والظاهر تباين النعمة والفضل للعطف ، ويناسب شرحهما أن ينزل على قوله :{ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى } وزيادة فالحسنى هي النعمة ، والزيادة هي الفضل لقرينة قوله : أحسنوا وقوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وقال الزجاج : النعمة هي الجزاء والفضل زائد عليه قدر الجزاء . وقيل : النعمة قدر الكفاية ، والفضل المضاعف عليها مع مضاعفة السرور بها واللذة . وقيل : الفضل داخل في النعمة دلالة على اتساعها ، وأنها ليست كنعم الدنيا . وقرأ الكسائي وجماعة : وإن اللّه بكسر الهمزة على الاستئناف ويؤيده قراءة عبد اللّه ومصحفه : واللّه لا يضيع أجره . وقال الزمخشري : وعلى أن الجملة اعتراض ، وهي قراءة الكسائي انتهى . وليست الجملة هنا اعتراضاً لأنها لم تدخل بين شيئين أحدهما يتعلق بالآخر ، وإنما جاءت لاستئناف أخبار . وقرأ باقي السبعة والجمهور : بفتح الهمزة عطفاً على متعلق الاستبشار ، فهو داخل فيه . قال أبو علي : يستبشرون بتوفير ذلك عليهم ، ووصوله إليهم ، لأنه إذا لم يضعه وصل إليهم ولم يبخسوه . ولا يصح الاستبشار بأن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين ، لأن الاستبشار إنما يكون بما لم يتقدم به علم ، وقد علموا قبل موتهم إن اللّه لا يضيع أجر المؤمنين ، فهم يستبشرون بأن اللّه ما أضاع أجورهم حتى اختصهم بالشهادة ومنحهم أتم النعمة ، وختم لهم بالنجاة والفوز ، وقد كانوا يخشون على إيمانهم ، ويخافون سوء الخاتمة المحبطة للأعمال ، فلما رأوا ما للمؤمنين عند اللّه من السعادة وما اختصهم به من حسن الخاتمة التي تصحّ معها الأجور وتضاعف الأعمال ، استبشروا ، لأنهم كانوا على وجل من ذلك انتهى كلامه . وفيه تطويل شبيه بالخطابة . قيل : ويجوز أن يكون الاستبشار لمن خلفوه بعدهم من المؤمنين لما عاينوا منزلته عند اللّه . ١٧٢الذين استجابوا للّه . . . . . {الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّه وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } قيل : الاستجابة كانت أثر الانصراف من أحغد . استنفر الرسول لطلب الكفار ، فاستجاب له تسعون . وذلك لمّا ذكر للرّسول أنّ أبا سفيان في جمع كثير ، فأبى الرسول إلا أن يطلبهم ، فسبقه أبو سفيان ودخل مكة فنزلت ، قاله : عمرو بن دينار . وفي ذكر هذا السبب اختلاف في مواضع . وقيل : الاستجابة كانت من العام القابل بعد قصة أحد ، حيث تواعد أبو سفيان ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم موسم بدر ، فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان فارعب ، وبدا له الرّجوع وقال لنعيم بن مسعود : واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وهو عام جدب لا يصلح لنا ، فثبطتهم عنا واعلمهم أنا في جمع كثير ففعل ، وخوفهم ، فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأصحابه وأقاموا ببدر ينتظرون أبا سفيان فنزلت . قال معناه : مجاهد وعكرمة . وقيل : لما كان الثاني من أحد وهو يوم الأحد ، نادى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الناس باتباع المشركين ، وقال :{ لا يَخْرُجْنَ مَعَنَا إِلاَّ مَنْ نَفْساً بِالاْمْسِ } وكانت بالناس جراحة وفرح عظيم ، ولكن تجلدوا ، ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي : على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام ، وجرت قصة معبد بن أبي معبد ، وقد ذكرت ومرّت قريش ، فانصرف الرسول إلى المدينة فنزلت . وروى أنه خرج أخوان وبهما جراحة شديدة ، وضعف أحدهما فكان أخوه يحمله عقبة ويمشي هو عقبة ، ولما لم تتم استجابة العبد للّه إلا باستجابته للرسول جمع بينهما ، لأنّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . قيل : والاستجابتان مختلفتان ، فإنهما بالنسبة إلى اللّه بالتوحيد والعبادة ، وللرّسول بتلقي الرّسالة منه والنصيحة له . والظاهر أنها استجابة واحدة ، وهو إجابتهم له حين انتدبهم لاتباع الكفار على ما نقل في سبب النزول . والإحسان هنا ما هو زائد على الإيمان من الاتصاف بما يستحب مع الاتصاف بما يجب . والظاهر إعراب الذين مبتدأ ، والجملة بعده الخبر . وجوزوا الاتباع نعتاً ، أو بدلاً ، والقطع إلى الرفع والنصب . ومن في منهم قال الزمخشري : للتبيين مثلها في قوله تعالى :{ وَعَدَ اللّه الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } لأن الذين استجابوا للّه والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا ، إلا بعضهم . وعن عروة بن الزبير قالت لي عائشة : أن أبويك لممن استجابوا للّه والرسول تعني : أبا بكر والزبير انتهى . وقال أبو البقاء : منهم حال من الضمير في أحسنوا ، فعلى هذا تكون من للتبعيض وهو قول من لا يرى أن من تكون لبيان الجنس . ١٧٣الذين قال لهم . . . . . {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قيل : أريد بالناس الأول أبو نعيم بن مسعود الأشجعي ، وهو قول : ابن قتيبة ، وضعفه ابن عطية . وب الثاني : أبو سفيان . وتقدّم ذكر قصة نعيم وذكرها المفسرون مطولة ، وفيها : أنَّ أبا سفيان جعل له جعلاً على تثبيط الصحابة عن بدر الصغرى وذلك عشرة من الإبل ضمنها له سهيل بن عمرو ، فقدم على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وأفزع الناس وخوفهم اللقاء ، فقال الرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { والذي نفسي بيده لأخرجن ولو وحدي } فأما الجبان فرجع ، وأما الشجاع فتجهز للقتال وقال : حسبنا اللّه ونعم الوكيل ، فوافى بدراً الصغرى فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم ، وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام ، فأقام ببدر ينتظر أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فسمى أهل مكة حسبة جيش السويق قالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق . وكانت مع الصحابة تجارات ونفقات ، فباعوا وأصابوا للدّرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة غانمين ، وحسبها الرسول لهم غزوة ، وظفر في وجهة ذلك بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غزة الجمحي فقتلهما . فعلى هذا القول أن المثبط أبو نعيم وحده ، وأطلق عليه الناس على سبيل المجاز ، لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل ، ويلبس البرود ، وما له إلا فرس واحد ، وبرد واحد ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : ولأنه حين قال ذلك لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه ، ويثبطون مثل تثبيطه انتهى . ولا يجيء هذا على تقدير السؤال وهو : أن نعيماً وحده هو المثبط ، لأنه قد انضاف إليه ناس ، فلا يكون إذ ذاك منفرداً بالتثبيط . وقيل : الناس الأول ركب من عبد القيس مرّوا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة ، فجعل لهم جعلاً وهو حمل إبلهم زبيباً على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين ، فأخبروا بذلك ، فقال الرسول وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد : { حَسْبُنَا اللّه وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } والناس الثاني قريش ، وهذا القول أقرب إلى مدلول اللفظ . وجوزوا في إعراب الذين قال : أوجه الذين قبله ، والفاعل بزاد ضمير مستكن يعود على المصدر المفهوم من قال أي : فزادهم ذلك القول إيماناً . وأجاز الزمخشري أن يعود إلى القول ، وأن يعود إلى الناس إذا أريد به نعيم وحده . وهما ضعيفان ، من حيث أن الأول لا يزيد إيماناً إلا بالنطق به ، لا هو في نفسه . ومن حيثُ أنَّ الثاني إذا أطلق على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجزي على ذلك الجمع ، لا على المفرد . فيقول : مفارقه شابت ، باعتبار الإخبار عن الجمع ، ولا يجوز مفارقه شاب ، باعتبار مفرقه شاب . وظاهر اللفظ أن الإيمان يزيد ، ومعناه هنا : أنَّ ذلك القول زادهم تثبيتاً واستعداداً ، فزيادة الإيمان على هذا هي في الأعمال . وقد اختلف العلماء في ذلك ، فقال قوم : يزيد وينقص باعتبار الطاعات ، لأنها من ثمرات الإيمان ، وينقص بالمعصية وهو : مذهب مالك ونسب للشافعي . وقال قوم : من جهة أعمال القلوب كالنية والإخلاص والخوف والنصيحة . وقال قوم : من طريق الأدلة وكثرتها وتظافرها على معتقد واحد . وقال قوم : من طريق نزول الفرائض والإخبار في مدة الرسول . وقال قوم : لا يقبل الزيادة والنقص ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وحكاه الباقلاني عن الشافعي . وقال أبو المعالي في الإرشاد : زيادته من حيث ثبوته وتعاوره دائماً ، لأنه عرض لا يثبت زمانين ، فهو للصالح متعاقب متوال ، وللفاسق والغافل غير متوال ، فهذا معنى الزيادة والنقص . وذهب قوم : إلى ما نطق به النص ، وهو أنه يزيد ولا ينقص ، وهو مذهب المعتزلة . وروى شبهه عن ابن المبارك . والذي يظهر أن الإيمان إذا أريد به التصديق فيعلق بشيء واحد : أنه تستحيل فيه الزيادة والنقص ، فإنما ذلك بحسب متعلقاته دون ذاته ، وحجج هذه الأقوال مذكورة في المصنفات التي تضمنت هذه المسألة ، وقد أفردها بعض العلماء بالتصنيف في كتاب . ولما تقدّم من المثبطين إخبار بأنّ قريشاً قد جمعوا لكم ، وأمر منهم لهم بخشيتهم لهذا الجمع الذي جمعوه ، ترتب على هذا القول شيئان : أحدهما : قلبي وهو زيادة الإيمان ، وهو مقابل للأمر بالخشية . فأخبر بحصول طمأنينة في القلب تقابل الخشية ، وأخبر بعد بما يقابل جمع الناس وهو : إنّ كافيهم شر الناس هو اللّه تعالى ، ثم أثنوا عليه تعالى بقوله : ونعم الوكيل ، فدلّ على أنّ قولهم : حسبنا اللّه هو من المبالغة في التوكل عليه ، وربط أمورهم به تعالى . فانظر إلى براعة هذا الكلام وبلاغته ، حيث قوبل قول بقول ، ومتعلق قلب بمتعلق قلب . وتقدّم الكلام في حسب في قوله : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ } ومن قولهم : أحسبه الشيء كفاه . وحسب بمعنى المحسب ، أي الكافي ، أطلق ويراد به معنى اسم الفاعل . ألا ترى أنه يوصف به فتقول : مررت برجل حسبك من رجل ، أي : كافيك . فتصف به النكرة ، إذ إضافته غير محضة ، لكونه في معنى اسم الفاعل غير الماضي المجرد من أل . وقال : وحسبك من غنى شبع وريّ أي كافيك . والوكيل : فعيل بمعنى مفعول ، أي الموكول إليه الأمرور . قيل : وهذه الحسبلة هي قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار . والمخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى ، التقدير : ونعم الوكيل اللّه . قال ابن الأنباري : الوكيل الرّب قاله : قوم انتهى . والمعنى : أنه من أسماء صفاته تعالى كما تقول : القهار هو اللّه . وقيل : هو بمعنى الولي والحفيظ ، وهو راجع إلى معنى الموكول إليه الأمور . قال الفرّاء : والوكيل الكفيل ١٧٤فانقلبوا بنعمة من . . . . . {فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّه وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَاتَّبَعُواْ رِضْوانَ اللّه وَاللّه ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } أي : فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من اللّه وهي : السلامة وحذر العدوّ إياهم ، وفضل : وهو الريح في التجارة . كقوله :{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ } هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ، ولم يذكر غيره ، وهو قول مجاهد . قال ابن عطية : والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة ، يريد : في السلامة والظهور ، وفي اتباع العدو ، وحماية الحوزة ، وبفضل في الأجر الذي حازوه ، والفخر الذي تخللوه ، وأنها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد . وشذ مجاهد وقال : في خروج النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى بدر الصغرى ، وذكر قصة نعيم وأبي سفيان . قال : والصواب ما قاله الجمهور : إن هذه الآية نزلت في غزوة حمراء الأسد ، انتهى كلامه . والكلام في هذه الآية مبني على الخلاف في قوله :{ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ للّه وَالرَّسُولِ } وقد تقدّم ذكره عند ذكر تفسيرها . وفرق بعضهم بين الانقلاب والرجوع ، بأن الانقلاب صيرورة الشيء إلى خلاف ما كان عليه . قال : ويوضح هذا أنك تقول : انقلبت الخمر خلاًّ ، ولا تقول : رجعت الخمر خلاًّ انتهى كلامه ، وفي ذلك نظر . وقيل : النعمة الأجر قاله : مجاهد . وقيل : العافية والنصر . قاله : الزجاج . قيل : والفضل ربح التجارة قاله : مجاهد ، والسدي ، والزهري . وتقدّم حكاية هذا القول عن مجاهد . وقيل : أصابوا سرية بالصفراء فرزقوا منها قاله : مقاتل . وقيل : الثواب ذكره الماوردي . والجملة من قوله : لم يمسسهم سوء في موضع الحال ، أي سالمين . وبنعمة حال أيضاً ، لأن الباء فيه باء المصاحبة ، أي : انقلبوا متنعمين سالمين . والجملة الحالية المنفية بلم المشتملة على ضمير ذي الحال ، يجوز دخول الواو عليها ، وعدم دخولها . فمن الأوّل قوله تعالى :{أَوْ قَالَ أُوْحِى إِلَىَّ } ولم يوح إليه شيء ، وقول الشاعر : لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب وإن كثرت فيّ الأقاويل ومن الثاني قوله تعالى : { وَرَدَّ اللّه الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } وقول قيس بن الأسلب : واضرب القوس يوم الوغى بالسيف لم يقصر به باعي ووهم الأستاذ أبو الحسن بن خروف في ذلك فزعم : أنها إذا كانت الجملة ماضية معنى لا لفظاً احتاجت إلى الواو كان فيها ضميراً ، ولم يكن فيها . والمستعمل في لسان العرب ما ذكرناه . واتباعهم رضوان اللّه هو بخروجهم إلى العدو ، وجراءتهم ، وطواعيتهم للرسول اللّه . وختمها بقوله : واللّه ذو فضل عظيم ، مناسب لقوله :{ بِنِعْمَةٍ مّنَ اللّه وَفَضْلٍ } تفضل عليهم بالتيسير والتوفيق في ما فعلوه ، وفي ذلك تحسير لمن تخلف عن الخروج حيث حرموا أنفسهم ما فاز به هؤلاء من الثواب في الآخرة والثناء الجميل في الدنيا . وروي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً ؟ فأعطاهم اللّه تعالى ثواب الغزو ، ورضي عنهم . وهذه عاقبة تفويض أمرهم إليه تعالى ، جازاهم بنعمته ، وفضله ، وسلامتهم واتباعهم رضاه . ١٧٥إنما ذلكم الشيطان . . . . . {إِنَّمَا ذالِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ما : هي الكافة لأنَّ عن العمل . وهي التي يزعم معظم أهل أصول الفقه أنّها إذا لم تكن موصولة أفادت مع أنَّ الحصر . وذلكم : إشارة إلى الركب المثبط . وقيل : المراد بالشيطان نعيم بن مسعود ، أو أبو سفيان . فعلى هذا الأقوال تكون الإشارة إلى أعيان . وقيل : ذلكم إشارة إلى جميع ما جرى من أخبار الركب العبديين عن رسالة أبي سفيان ، وتحميل أبي سفيان ذلك الكلام ، وجزع من جزع منه من مؤمن أو متردّد . فعلى هذا تكون الإشارة إلى معانٍ ، ولا بد إذ ذاك من تقدير مضاف محذوف تقديره : إنما ذلكم فعل الشيطان . وقدّره الزمخشري قول الشيطان ، أي قول إبليس . فتكون الإشارة على هذا التقدير إلى القول السابق وهو : أن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم . وعلى هذه الأقوال كلها فالخبر عن المبتدأ الذي هو ذلكم بالشيطان هو مجاز ، لأن الأعيان ليست من نفس الشيطان ، ولا ما جرى من قول فقط ، أو من قول ، وما انضم إليه مما صدر من العدوّ من تخويف ، وما صدر من جزع ، ليس نفس قول الشيطان ولا فعله ، وإنما نسب إليه وأضيف ، لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه . والتشديد في يخوّف للنقل ، كان قبله يتعدّى لواحد ، فلما ضعف صار يتعدّى لاثنين . وهو من الأفعال التي يجوز حذف مفعوليها ، وأحدهما اقتصار أو اختصار ، أو هنا تعدّى إلى واحد ، والآخر محذوف . فيجوز أن يكون الأوّل ويكون التقدير : يخوفكم أولياء ، أي شر أوليائه في هذا الوجه . لأن الذوات لا تخاف ، ويكون المخوفون إذ ذاك المؤمنين ، ويجوز أن يكون المحذوف المفعول الثاني ، أي : يخوّف أولياءه شرّ الكفار ، ويكون أولياءه في هذا الوجه هم المنافقون ، ومَن في قلبه مرض المتخلفون عن الخروج مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلمأي : أنه لا يتعدّى تخويفه المنافقين ، ولا يصل إليكم تخويفه . وعلى الوجه الأوّل يكون أولياءه هم الكفار : أبو سفيان ومن معه . ويدل على هذا الوجه قراءة ابن مسعود وابن عباس يخوفكم أولياءه ، إذ ظهر فيها أن المحذوف هو المفعول الأوّل . وقرأ أبيّ والنخعي : يخوفكم بأوليائه ، فيجوز أن تكون الباء زائدة مثلها في يقرأن بالسور ، ويكون المفعول الثاني هو بأوليائه ، أي : أولياءه ، كقراءة الجمهور . ويجوز أن تكون البار للسبب ، ويكون مفعول يخوّف الثاني محذوفاً أي : يخوّفكم الشرّ بأوليائه ، فيكونون آلة للتخويف . وقد حمل بعض المعربين قراءة الجمهور يخوف أولياءه على أن التقدير : بأوليائه ، فيكون إذ ذاك قد حذف مفعولاً يخوف لدلالة ، المعنى على الحذف ، والتقدير : يخوفكم الشرّ بأوليائه ، وهذا بعيد . والأحسن في الإعراب أن يكون ذلكم مبتدأ ، والشيطان خبره ، ويخوف جملة حالية ، يدل على أن هذه الجملة حال مجيء المفرد منصوباً على الحال مكانها نحو قوله تعالى :{ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً }{ وَهَاذَا بَعْلِى شَيْخًا } وأجاز أبو البقاء أن يكون الشيطان بدلاً أو عطف بيان ، ويكون بخوف خبراً عن ذلكم . وقال الزمخشري : الشيطان خبر ذلكم ، بمعنى : إنما ذلكم المثبط هو الشيطان ، ويخوّف أولياءه جملة مستأنفة بيان لتثبيطه ، أو الشيطان صفة لاسم الإشارة ، ويخوف الخبر . والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان انتهى كلامه . فعلى هذا القول تكون الجملة لا موضع لها من الإعراب . وإنما قال : والمراد بالشيطان نعيم ، أو أبو سفيان ، لأنه لا يكون صفة ، والمراد به إبليس . لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علماً بالغلبة ، إذ أصله صفة كالعيوق ، ثم غلب على إبليس ، كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه . و قال ابن عطية : وذلكم في الإعراب ابتداء ، والشيطان مبتدأ آخر ، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان ، والجملة خبر الابتداء الأوّل . وهذا الإعراب خبر في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم ، لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة انتهى . وهذا الذي اختاره إعراب لا يجوز ، إن كان الضمير في أولياءه عائداً على الشيطان ، لأن الجملة الواقعة خبراً عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله : ذلكم ، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم : هجيري أبي بكر لا إلاه إلا اللّه ، وإنْ كان عائداً على ذلكم ، ويكون ذلك عن الشيطان جاز ، وصار نظير : إنما هند زيد يضرب غلامها والمعنى : إذ ذاك ، إنما ذلكم الربك ، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه ، أي : أولياء الركب ، أو أبي سفيان . والضمير المنصوب في تخافوهم الظاهر عوده على أولياءه ، هذا إذا كان المراد بقوله : أولياءه كفار قريش ، وغيرهم من أولياء الشيطان . وإن كان المراد به المنافقين ، فيكون عائداً على الناس من قوله : { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } قوى نفوس المسلمين فنهاهم عن خوف أولياء الشيطان ، وأمر بخوفه تعالى ، وعلق ذلك على الإيمان . أي إنَّ وصف الإيمان يناسب أن لا يخاف المؤمن إلا اللّهكقوله :{ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّه } وأبرز هذا الشرط في صفة الإمكان ، وإن كان واقعاً إذ هم متصفون بالإيمان ، كما تقول : إن كنت رجلاً فافعل كذا . وأثبت أبو عمروياء وخافون وهي ضمير المفعول ، والأصل الإثبات . ويجوز حذفها للوقف على نون الوقاية بالسكون ، فتذهب الدلالة على المحذوف ١٧٦ولا يحزنك الذين . . . . . {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّه شَيْئاً } لما نهى المؤمنين عن خوف أولياء الشيطان ، وأمرهم بخوفه وحده تعالى ، نهى رسوله صلى اللّه عليه وسلم عن الحزن لمسارعة من سارع في الكفر . والمعنى : لا يتوقع حزناً ولا ضرراً منهم ، ولذلك عللّه بقوله : إنهم لن يضروا اللّه شيئاً ، أي : لن يضروا نبي اللّه والمؤمنين . والمنفي هنا ضرر خاص ، وهو إبطال الإسلام وكيده حتى يضمحلّ ، فهذا لن يقع أبداً ، بل أمرهم يضمحل ويعلو أمرك عليهم . قيل : نزلت في المنافقين . وقيل : نزلت في قوم ارتدوا . وقيل : المراد كفار قريش . وقيل : رؤساء اليهود . والأولى حمله على العموم كقوله :{ قَدِيرٌ يأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ } وقيل : مثير الحزن وهو شفقته صلى اللّه عليه وسلم ، وإيثاره إسلامهم حتى ينقذهم من النار ، فنهى عن المبالغة في ذلك كقوله تعالى :{ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ } وقوله :{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } وهذا من فرط رحمته للناس ، ورأفته بهم . وقرأ نافع : يحزنك من أحزن ، وكذا حيث وقع المضارع ، إلا في لا يحزنهم الفزع الأكبر ، فقرأه من حزن كقراءة الجماعة في جميع القرآن . يقال : حزن الرّجل أصابه الحزن ، وحزنته جعلت فيه ذلك ، وأحزنته جعلته حزيناً . وقرأ النحوي : يسرعون من أسرع في جميع القرآن . قال ابن عطية : وقراءة الجماعة أبلغ ، لأن من يسارع غيره أشد اجتهاداً من الذي يسرع وحده . وفي ضمن قوله : إنهم لن يضروا اللّه شيئاً دلالة على أنَّ وبال ذلك عائد عليهم ، ولا يضرون إلا أنفسهم . وانتصب شيئاً على المصدر ، أي شيئاً من الضرر . وقيل : انتصابه على إسقاط حرف الجر أي شيء { يُرِيدُ اللّه أَن لا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } بين تعالى أنَّ ما هم عليه من المسارعة في الكفر هو بإرادة اللّه تعالى ، أنهم لا يهديهم إلى الإيمان ، فيكون لهم نصيب من نعيم الآخرة . فهذه تسلية منه تعالى لنبيه صلى اللّه عليه وسلم في ترك الحرب ، لأن مراد اللّه منهم هو ما هم عليه ، ولهم بدل النعيم عذاب عظيم . قال الزمخشري: { فإن قلت } : هل قيل : لا يجعل اللّه لهم حظاً في الآخرة ، وأي فائدة في ذكر الإرادة ؟ { قلت} : فائدته الإشعار بأن الداعي إلى حرمانهم وتعذيبهم قد خلص خلوصاً لم يبق معه صارف قط ، حين يسارعون في الكفر تنبيهاً على تماديهم في الطغيان وبلوغهم الغاية فيه ، حتى أن أرحم الراحمين يريد أن لا يرحمهم انتهى . وفيه دسيسة اعتزال لأنه استشعر أن إرادته تعالى أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة موجبة ، أن سبب ذلك هو مريد له تعالى وهو : الكفر . ومن مذهبه أنه تعالى لا يريد الكفر ولا يشاؤه ، فتأول تعلق إرادته بانتفاء حظهم من الآخرة بتعلقها بانتفاء رحمته لهم لفرط كفرهم . ونقل الماوردي في يريد ثلاثة أقوال : أحدها : أنه يحكم بذلك . والثاني : يريد في الآخرة أن يحرمهم ثوابهم لإحباط أعمالهم بكفرهم . و الثالث : يريد يحبط أعمالهم بما استحقوه من ذنوبهم قاله : ابن إسحاق . ١٧٧إن الذين اشتروا . . . . . {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّه شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } هذا عام في الكفار كلهم . وقوله :{ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ } كان عاماً ، فكرر هذا على سبيل التوكيد وإن كان خاصاً بالمنافقين أو المرتدين أو كفار قريش ، فيكون ليس تكريراً على سبيل التأكيد ، بل حكم على العام بأنهم لن يضروا اللّه شيئاً . ويندرج فيه ذلك الخاص أيضاً ، فيكون الحكم في حقهم على سبيل التأكيد ، ويكون قد جمع للخاص العذاب بنوعية من العظم والألم ، وهو أبلغ في حقهم في العذاب . وجعل ذلك اشتراء . من حيث تمكنهم من قبول الخير والشر ، فآثروا الكفر على الإيمان . ١٧٨ولا يحسبن الذين . . . . . {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً } معنى نملي : نمهل ونمد في العمر . والملاءة المدة من الدهر ، والملوان الليل والنهار . ويقال : ملاك اللّه نعمته ، أي منحكها عمراً طويلاً ، وقرأ حمزة تحسين بتاء الخطاب ، فيكون الذين كفروا مفعولاً أول . ولا يجوز أن يكون : إنما نملي لهم خير ، في موضع المفعول الثاني ، لأنه ينسبك منه مصدر المفعول الثاني في هذا الباب هو الأول من حيث المعنى ، والمصدر لا يكون الذات ، فخرج ذلك على حذف مضاف من الأول أي : ولا تحسبن شأن الذين كفروا . أو من الثاني أي : ولا تحسبن الذين كفروا أصحاب ، أنَّ الإملاء خير لأنفسهم حتى يصح كون الثاني هو الأول . وخرجه الأستاذ أبو الحسن بن الباذش والزمخشري : على أن يكون إنما نملي لهم خير لأنفسهم بدل من الذين . قال ابن الباذش : ويكون المفعول الثاني حذف لدلالة الكلام عليه ، ويكون التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا خيرية إملائنا لهم كائنة أو واقعة . وقال الزمخشري: { فإن قلت } : كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد ؟ { قلت} : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحيّ ، ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك انتهى . كلامه وهذا التخريج الذي خرجه ابن الباذش والزمخشري سبقهما إليه الكسائي والفراء ، فالأوجه هذه القراءة التكرير والتأكيد . التقدير : ولا تحسبن الذين كفروا ، ولا تحسبن إنما نملي لهم . قال الفرّاء ومثله : هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم ، أي ما ينظرون إلا أن تأتيهم انتهى . وقدر بعضهم قول الكسائي والفراء فقال : حذف المفعول الثاني من هذه الأفعال لا يجوز عند أحد ، فهو غلط منهما انتهى . وقد أشبعنا الكلام في حذف أحد مفعولي ظن اختصارا فيما تقدم من قول الزمخشري في قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللّه أَمْواتاً } إن تقديره : ولا تحسبنهم . وذكرنا هناك أنَّ مذهب ابن ملكون أنه لا يجوز ذلك ، وأن مذهب الجمهور الجواز لكنه عزيز جداً بحيث لا يوجد في لسان العرب إلا نادراً وأن القرآن ينبغي أن ينزه عنه . وعلى البدل خرج هذه القراءة أبو إسحاق الزجاج ، لكن ظاهر كلامه أنها بنصب خير . قال : وقد قرأ بها خلق كثير ، وساق عليها مثالاً قول الشاعر : فما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدما بنصب هلك الثاني على أن الأول بدل ، وعلى هذا يكون : إنما نملي بدل ، وخيراً : المفعول الثاني أي إملائنا خيراً . وأنكر أبو بكر بن مجاهد هذه القراءة التي حكاها الزجاج ، وزعم أنه لم يقرأ بها أحد . وابن مجاهد في باب القراءات هو المرجوع إليه . وقال أبو حاتم : سمعت الأخفش يذكر قبح أن يحتج بها لأهل القدر لأنه كان منهم ، ويجعله على التقديم والتأخير كأنه قال : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم انتهى . وعلى مقالة الأخفش يكون إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً في موضع المفعول الثاني ، وإنما نملي لهم خير مبتدأ وخبر ، أي إملاؤنا لهم خير لأنفسهم . وجاز الابتداء بأن المفتوحة ، لأن مذهب الأخفش جواز ذلك . ولإشكال هذه القراءة زعم أبو حاتم وغيره أنها لحن وردّوها . وقال أبو علي الفارسي : ينبغي أن تكون الألف من إنما مكسورة في هذه القراءة ، وتكون إن وما دخلت عليه في موضع المفعول الثاني . وقال مكي في مشكله : ما علمت أحداً قرأ تحسبن بالتاء من فوق ، وكسر الألف من إنما . وقرأ باقي السبعة والجمهور يحسبنَّ بالياء ، وإعرابُ هذه القراءة ظاهر ، لأن الفاعل هو الذين كفروا ، وسدّت إنما نملي لهم خير مسد مفعولي يحسبنَّ كما تقول : حسبت أن زيداً قائم . وتحتمل ما في هذه القراءة وفي التي قبلها أن تكون موصولة بمعنى الذي ، ومصدرية ، أي : أن الذي نملي ، وحذف العائد أي : عليه وفيه شرط جواز الحذف من كونه متصلاً معمولاً لفعل تام متعيناً للربط ، أو أنَّ إملائنا خير . وجوّز بعضهم أن يسند الفعل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فيكون فاعل الغيب كفاعل الخطاب ، فتكون القراءتان بمعنى واحد . وقرأ يحيى بن وثاب : ولا يحسبن بالياء ، وإنما نملي بالكسر . فإن كان الفعل مسنداً للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فيكون المفعول الأول الذين كفروا ، ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني . وإن كان مسنداً للذين كفروا فيحتاج يحسبن إلى مفعولين . فلو كانت إنما مفتوحة سدت مسد المفعولين ، ولكن يحيى قرأ بالكسر ، فخرج على ذلك التعليق فكسرت إن ، وإن لم تكن اللام في حيزها . والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن ، وهو بعيد : لحذف اللام نظير تعليق الفعل عن العمل ، مع حذف اللام من المبتدأ كقوله : إني وجدت ملاك الشيمة الأدب أي لملاك الشيمة الأدب ، ولولا اعتقاد حذف اللام لنصب . وحكى الزمخشري أن يحيى بن وثاب قرأ بكسر إنما الأولى ، وفتح الثانية . ووجه ذلك على أن المعنى : ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً كما يفعلون ، وإنما هو ليتوبوا ويدخلوا في الإيمان . والجملة من إنما نملي لهم خير لأنفسهم اعتراض بين الفعل ومعموله ، ومعناه : أن إملاءنا خير لأنفسهم إن عملوا فيه وعرفوا إنعام اللّه عليهم بتفسيح المدة ، وترك المعاجلة بالعقوبة . وظاهر الذين كفروا العموم . وقال ابن عباس : نزلت في اليهود والنصارى والمنافقين . وقال عطاء : في قريظة والنضير . وقال مقاتل : في مشركي مكة . وقال الزجاج : هؤلاء قوم أعلم اللّه نبيه أنهم لا يؤمنون أبداً ، وليست في كل كافر ، إذ قد يكون الإملاء مما يدخله في الإيمان ، فيكون أحسن له . وقال مكي : هذا هو الصحيح من المعاني . و قال ابن عطية : معنى هذه الآية الرد على الكفار في قولهم : إنّ كوننا ظاهرين ممولين أصحة دليل على رضا اللّه بحالنا واستقامة طريقتنا عنده . وأخبر اللّه تعالى أنَّ ذلك التأخير والإهمال إنما هو إملاء واستدراج لتكثير الآثام . قال عبد اللّه بن مسعود : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها أمّا البرّة فلتسرع إلى رحمة اللّه . وقرأ : { وَمَا عِندَ اللّه خَيْرٌ لّلابْرَارِ } وأما الفاجرة فلئلا تزداد إثماً ، وقرأ هذه الآية انتهى . وقال الزمخشري : والإملاء لهم تحليتهم ، وشأنهم مستعار من أملى لفرسه إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء . وقيل : هو إمهالهم وإطالة عمرهم ، والمعنى : أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم ، إنَّما نملي لهم جملة مستأنفة تعليل للجملة قبلها ، كأنه قيل : ما بالهم يحسبون الإملاء خيراً لهم ، فقيل : إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً . { فإن قلت} : كيف جاز أن يكون ازدياد الإثم غرضاً للّه تعالى في إملائه لهم ؟ { قلت} : هو علة الإملاء ، وما كلّ علة بغرض . ألا تراك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء منها بغرض لك ، وإنما هي علل وأسباب . فكذلك ازدياد الإثم جعل علة للإملاء ، وسبباً فيه . { فإن قلت} : كيف يكون ازدياد الإثم علة للإملاء ، كما كان العجز علة للقعود عن الحرب ؟ { قلت} : لمّا كان في علم اللّه المحيط بكلّ شيء أنَّهم مزدادون إثماً ، فكان الإملاء وقع لأجله وبسببه على طريق المجاز انتهى كلامه . وكله جار على طريقة المعتزلة . وقال الماتريدي : المعتزلة تناولوها على وجهين : أحدهما : على التقديم والتأخير . أي : ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادو إثماً ، إنما نملي لهم خير لأنفسهم . الثاني : أنّ هذا إخبار منه سبحانه وتعالى عن حسبانهم فيما يؤول إليه أمرهم في العاقبة ، بمعنى أنهم حسبوا أن إمهالهم في الدّنيا وإصابتهم الصحة والسلامة والأموال خير لأنفسهم في العاقبة ، بل عاقبة ذلك شرٌّ . وفي التأويل إفساد النظم ، وفي الثاني تنبيه على من لايجوز تنبيهه . فإنّ الأخبار عن العاقبة يكون لسهو في الابتداء أو غفله ، والعالم في الابتداء لا ينبه نفسه انتهى كلامه . وكتبوا ما متصلة بأن في الموضعين . قيل : وكان القياس الأولى في علم الخط أن تكتب مفصوله ، ولكنها وقعت في الإمام متصلة فلا تخالف ، ونتبع سنة الإمام في المصاحف . وأما الثانية ، فحقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون العمل ، ولا يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي . ولا مصدرية ، لأن لازم كي لا يصحّ وقوعها خبر للمبتدأ ولا لنواسخه . وقيل : اللام في ليزدادوا للصيرورة . { وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } هذه الواو في : ولهم ، للعطف . وقال الزمخشري: { فإن قلت } : فما معنى قوله : ولهم عذاب مهين على هذه القراءة ، يعني قراءة يحيى بن وثاب بكسر إنما الأولى وفتح الثانية ؟ { قلت} : معناه ولا تحسبوا أن إملاءنا الزيادة الإثم وللتعذيب ، والواو للحال . كأنه قيل : ليزدادوا إثماً معداً لهم عذاب مهين انتهى . والذين نقلوا قراءة يحيى لم يذكروا أن أحداً قرأ الثانية بالفتح إلا هو ، إنما ذكروا أنه قرأ الأولى بالكسر . ولكنّ الزمخشري من ولوعه بنصرة مذهبه يروم رد كل شيء إليه . ولما قرر في هذه القراءة أنّ المعنى على نهي الكافر أن يحسب إنما يملي اللّه لزيادة الإثم ، وأنه إنما يملي لأجل الخير كان قوله : ولهم عذاب مهين يدفع هذا التفسير ، فخرج ذلك على أن الواو للحال حتى يزول هذا التدافع الذي بين هذه القراءة وبين ظاهر آخر الآية . ووصف تعالى عذابه في مقاطع هذه الآيات الثلاث : بعظيم ، وأليم ، ومهين . ولكل من هذه الصفات مناسبة تقتضي ختم الآية بها . أما الأولى فإن المسارعة في الشيء والمبادرة في تحصيله والتحلي به يقتضي جلالة ما سورع فيه ، وأنه من النفاسة والعظم بحيث يتسابق فيه ، فختمت الآية بعظم الثواب وهو جزاؤهم على المسارعة في الكفر إشعاراً بخساسة ما سابقوا فيه . وأما الثانية فإنه ذكر فيها اشتراء الكفر بالإيمان ، ومن عادة المشتري الاغتباط بما اشتراه والسرور به والفرح ، فختمت الآية لأن صفقته خسرت بألم العذاب ، كما يجده المشتري المغبون في تجارته . وأما الثالثة فإنه ذكر الإملاء وهو الإمتاع بالمال والبنين والصحة وكان هذا الإمتاع سبباً للتعزز والتمتع والاستطاعة فختمت الآية بإهانة العذاب لهم . وأن ذلك الإملاء المنتج عنه في الدنيا التعزز والاستطالة مآله في الآخرة إلى إهانتهم بالعذاب الذي يهين الجبابرة . ١٧٩ما كان اللّه . . . . . {مَّا كَانَ اللّه لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيّبِ } الخطاب في أنتم للمؤمنين ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها المؤمنون من اختلاطكم بالمنافقين . وإشكال أمرهم وإجراء المنافق مجرى المؤمن ، ولكنه ميز بعضاً من بعض بما ظهر من هؤلاء وهؤلاء من الأقوال والأفعال قاله : مجاهد ، وابن جريج ، وابن إسحاق . وقيل : الخطاب للكفار ، والمعنى : على ما أنتم عليه أيها الكفار من اختلاطكم بالمؤمنين قاله : قتادة ، والسدي . قال السدي وغيره : قال الكفار في بعض جدلهم : أنت يا محمد تزعم في الرّجل منا أنّه من أهل النار ، وأنّه إذا اتبعك من أهل الجنة ، فكيف يصح هذا ؟ ولكنْ أخبرنا بمن يؤمن منا ، وبمن يبقى على كفره ، فنزلت . فقيل لهم : لا بد من التمييز . وقال ابن عباس : وأكثر المفسرين الخطاب للكفار والمنافقين . وقيل : الخطاب للمؤمنين والكافرين ، وهو قريب مما قاله الزمخشري : غاية ما فيه أنه بدل الكافرين بالمنافقين فقال : { فإن قلت } : لمن الخطابُ في أنتم ؟ { قلت} : للمصدقين جميعاً من أهل الإخلاص والنفاق ، كأنه قيل : ما كان اللّه ليذر المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض ، وأنه لا يعرف مخلصكم من منافقكم ، لاتفاقكم على التصديق جميعاً حتى يميزهم منكم بالوحي إلى نبيه بأخباره بأحوالكم . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد لا يترككم مختلطين حتى يميز الخبيث من الطيب ، بأن يكلفكم التكاليف الصعبة التي لا يصبر عليها إلا الخلص الذين امتحن اللّه قلوبهم كبذل الأرواح في الجهاد ، وإنفاق الأموال في سبيل اللّه ، فيجعل ذلك عياراً على عقائدكم ، وشاهداً بضمائركم ، حتى يعلم بعضكم ما في قلب بعض من طريق الاستدلال ، لا من جهة الوقوف على ذات الصدور والاطلاع عليها ، فإنّ ذلك مما استأثر اللّه به انتهى . ومعنى هذا القول لابن كيسان . قال ابن كيسان : المعنى ما يذركم على الإقرار حتى يختبركم بالشرائع والتكاليف ، فأخذه الزمخشري والقول الذي قبله ونمقهما ببلاغته وحسن خطابته . وقيل : المعنى ما كان اللّه ليذر أولادكم الذين حكم عليهم بالإيمان على ما أنتم عليه من الشرك حتى يفرق بينكم وبينهم . وقيل : كانوا يستهزؤن بالمؤمنين سراً فقال : لا يدعكم على ما أنتم عليه من الطعن فيهم والاستهزاء ، ولكن يمتحنكم لتفتضحوا ويظهر نفاقكم عندهم ، لا في دار واحدة ، ولكن يجعل لهم داراً أخرى يميز فيها الخبيث من الطيب ، فيجعل الخبيث في النار ، والطيب في يالجنة . والخبيث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بالهجرة والجهاد . وقال مجاهد : الطيب المؤمن ، والخبيث المنافق ، ميز بينهما يوم أحد . وقيل : الخببث الكافر ، والطيب المؤمن ، وتمييزه بإخراج أحدهما من صلب الآخر . وقيل : تمييز الخبيث هو إخراج الذنوب من أحياء المؤمنين بالبلايا والرزايا . وقيل : الخبيث العاصي ، والطيب المطيع ، والألف واللام في الخبيث والطيب للجنس أو للعهد ، إذ كان المعهود في ذلك الوقت أن الخبيث هو الكافر والطيب هو المؤمن كما قال : { الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ } الآية . واللام في قوله : ليذر هي المسماة لام الجحود ، وهي عند الكوفيين زائدة لتأكيد النفي ، وتعمل بنفسها النصب في المضارع . وخبر كان هو الفعل بعدها فتقول : ما كان زيد يقوم ، وما كان زيد ليقوم ، إذا أكدت النفي . ومذهب البصريين أنَّ خبر كان محذوف ، وأن النصب بعد هذه اللام بأن مضمرة واجبة الإضمار ، وأنَّ اللام مقوية لطلب ذلك المحذوف لما بعدها ، وأنَّ التقدير : ما كان اللّه مريداً ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ، أي : ما كان مريداً لترك المؤمنين . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتابنا المسمى بالتكميل في شرح التسهيل . وحتى للغاية المجرّدة ، والتقدير : إلى أن يميزها كذا قالوا ، وهو مشكل على أن تكون غاية على ظاهر اللفظ ، لأنه يكون المعنى : لا يتركهم مختلطين إلى أن يميز ، فيكون قد غيا نفي الترك إلى وجود التمييز ، فإذا وجد التمييز تركهم على ما هم عليه من الاختلاط ، وصار نظير ما أضرب زيداً إلى أن يجيء عمرو ، فمفهومه : إذا جاء عمرو ضربت زيداً ، وليس المراد من الآية هذا المعنى ، وإنما هي غاية لما تضمنه الكلام السابق من المعنى الذي يصح أن يكون غاية له . ومعنى ما كان اللّه ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه : أنه تعالى يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان ، إلى أن يميز الخبيث من الطيب . وقرأ الأخوان : يميز من ميز ، وباقي السبعة يميز من ماز . وفي رواية عن ابن كثير : يميز من أماز ، والهمزة ليست للنقل ، كما أن التضعيف ليس للنقل ، بل أفعل وفعل بمعنى الثلاثي المجرّد كحزن وأحزن ، وقدر اللّه وقدّر { وَمَا كَانَ اللّه لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ } لمّا قدم أنه تعالى هو الذي يميز الخبيث من الطيب وليس لهم تمييز ذلك ، أخبر أنه لا يطلع أحداً من المخاطبين على الغيب . {وَلَكِنَّ اللّه يَجْتَبِى } أي : يختار ويصطفي { مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء } فيطلعه على ما شاء من المغيبات . فوقوع لكنَّ هنا لكون ما بعدها ضداً لما قبلها في المعنى . إذ تضمن اجتباء من شاء من رسله اطلاعه إياه على ما أراد تعالى من علم الغيب ، فاطلاع الرسول على الغيب هو باطلاع اللّه تعالى بوحي إليه ، فيخبر بأنَّ في الغيب كذا من نفاق هذا وإخلاص هذا فهو عالم بذلك من جهة الوحي ، لا من جهة اطلاعه نفسه من غير واسطة وحي على المغيبات . قال السدي وغيره : ليطلعكم على الغيب ، فيمن يؤمن ، ومن يبقى كافراً ، ولكنَّ هذا رسول مجتبي . وقال مجاهد وابن جريج وغيره : هي في أمر أحدٍ أي : ليطلعكم على أنكم تهزمون ، أو تكفون عن القتال . وقيل : ليطلعكم على المنافقين تصريحاً بهم ، وتسمية بأعيانهم ، ولكنْ بقرائن أفعالهم وأقوالهم . والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم اللّه تعالى من الحوادث التي تحدث ، ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ، ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس . وقال الزجاج وغيره : روي أن بعض الكفار قال : لم لا يكون جميعنا أنبياء ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : لِم لمْ يوحَ إلينا في أمر محمد ؟ فنزلت . وقيل : قالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً فهلا كان الوحي إلينا ، فنزلت . وقيل : كانت الشياطين يصعدون إلى السماء فيسترقون السمع ، فيأتون بأخبارها إلى الكهنة قبل أن يبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فأنزلها اللّه بعد بعثته . ولكن اللّه يصطفي من يشاء فيجعله رسولاً فيوحي إليه ، أي : ليس الوحي من السماء لغير الأنبياء . وظاهر الآية هو ما قدّمناه من أنه تعالى هو الذي يميز بين الخبيث والطيب ، أخبر أنكم لا تدركون أنتم ذلك ، لأنه تعالى لم يطلعكم على ما أكنته القلوب من الإيمان والنفاق ، ولكنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على ذلك ، فتطلعون عليه من جهة الرسول بأخباره لكم عن ذلك بوحي اللّه . وهذا معنى ما روي أيضاً عن السدي أنه قال : حكم بأنه يظهر هذا التمييز . ثم بيّن بهذه الآية أنه لا يجوز أن يجعل هذا التمييز في عوام الناس بأن يطلعهم على غيبة فيقولون : إنَّ فلاناً منافق ، وفلاناً مؤمن . بل سنة اللّه تعالى جارية بأنْ لا يطلع عوام الناس ، ولا سبيل لهم إلى معرفة ذلك إلا بالامتحان . فأمّا معرفة ذلك على سبيل الاطلاع على الغيب فهو من خواص الأنبياء ، ولهذا قال تعالى : ولكن اللّه يجتبي من رسله من يشاء ، فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن وهذا منافق . وهذه الأقوال كلها والتفاسير مشعرة بأنَّ هذا الغيب الذي نفى اللّه اطلاع الناس عليه راجع إلى أحوال المؤمنين والمنافقين ، ويحتمل أن يكون ذلك على سبيل العموم . أي : ما كان اللّه ليجعلكم كلكم عالمين بالمغيبات من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عنه ، بل اللّه يخص من يشاء من عباده بذلك وهو الرسول ، فتندرج أحوال المنافق والمؤمن في هذا العام . {مَّا كَانَ اللّه} لما ذكر أنه تعالى يختار من رسله من يشاء فيطلعه على المغيبات ، أمر بالتصديق بالمجتبى ، والمجتبي ومن يشاء هو محمد صلى اللّه عليه وسلم ، إذ ثبتت نبوته باطلاع اللّه إياه على المغيبات ، وأخباره لكم بها في غير ما موطن . وجمع في قوله ورسله تنبيهاً على أنّ طريق إثبات نبوة جميع الأنبياء واحدة ، وهو ظهور المعجز على أيديهم . قال الزمخشري في قوله تعالى : فآمنوا باللّه ورسله ، بأن تقدروه حق قدره ، وتعلمونه وحده مطلعاً على الغيوب ، وأن ينزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عباداً مجتبين لا يعلمون إلا ما علمهم اللّه ، ولا يخبرون إلا بما أخبر اللّه به من الغيوب ، وليسوا من علم الغيب في شيء انتهى . {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } رتب حصول الأجر العظيم على الإيمان ، والمعنى : الإيمان السابق ، وهو الإيمان باللّه ورسله ، وعلى التقوى وهي زائدة على الإيمان ، وكأنها مرادة في الجملة السابقة فكأنه قيل : فآمنوا باللّه ورسله واتقوا اللّه . ١٨٠ولا يحسبن الذين . . . . . {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } قال السدي وجماعة : نزلت في البخل بالمال والإنفاق في سبيل اللّه . وقال ابن عباس في رواية عطية ، ومجاهد وابن جريج وجماعة ، واختاره الزجاج : في أهل الكتاب وبخلهم وتبيان ما علمهم اللّه من أمر محمد صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : نزلت في مانعي الزكاة المفروضة قاله : ابن مسعود ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية أبي صالح والشعبي ومجاهد . وقيل : في النفقة على العيال وذوي الأرحام . ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة ، شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره ، وبيّن الوعيد الشديد لمن يبخل ، والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب . وقرأ حمزة تحسين بالتاء ، فتكون الذين أول مفعولين لتحسبن ، وهو على حذف مضاف أي : بخل الذين . وقرأ باقي السبعة بالياء . فإنْ كان الفعل مسنداً إلى الضمير ، فيكون المفعول الأول محذوفاً تقديره : بخلهم ، وحذف لدلالة يبخلون عليه . وحذفه كما قلنا : عزيز جداً عند الجمهور ، فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف ، وهو فصل . وقرأ الأعمش بإسقاط هو ، وخيراً هو المفعول بتحسبن . قال ابن عطية : ودل قوله : يبخلون على هذا البخل المقدر ، كما دل السفيه على السفه في قول الشاعر : إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف والسفيه إلى خلاف والمعنى : جرى إلى السفه انتهى . وليست الدلالة فيهما سواء لوجهين : أحدهما أن الدال في الآية هو الفعل ، وفي البيت هو اسم الفاعل ، ودلالة الفعل على المصدر أقوى من دلالة اسم الفاعل ، ولذلك كثر إضمار المصدر لدلالة الفعل عليه في القرآن وكلام العرب ، ولم تكثر دلالة اسم الفاعل على المصدر إنما جاء في هذا البيت أو في غيره إنْ وجد . والثاني أن في الآية حذفاً لظاهر ، إذ قدروا المحذوف بخلهم ، وأما في البيت فهو إضمار ، لا حذف . ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية ، وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال ، إذا جعلنا الفعل مسنداً للذين ، وذلك أن تحسبن تطلب مفعولين ، ويبخلون يطلب مفعولاً بحرف جر ، فقوله : ما آتاهم يطلبه يحسبن ، على أن يكون المفعول الأول ، ويكون هو فصلاً ، وخيراً المفعول الثاني ويطلبه يبخلون بتوسط حرف الجر ، فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب ، وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون . فعدى بحرف الجر واحد معموله ، وحذف معمول تحسين الأول ، وبقي معموله الثاني ، لأنه لم يتنازع فيه ، إنما التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول . وساغ حذفه وحده ، كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه : متى رأيت أو فلت : زيد منطلق ، لأن رأيت وقلت في هذه المسألة تنازعا زيد منطلق ، وفي الآية : لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد ، وتقدير المعنى : ولا تحسبن ما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به ، فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلاً لما آتاهم المحذوف ، لا لتقديرهم بخلهم . ونظير هذا التركيب ظن الذي مرّ بهند هي المنطلقة المعنى ، ظن هنداً الشخص الذي مرّ بها هي المنطلقة ، فالذي تنازعه الفعلان هو الاسم الأول ، فاعمل الفعل الثاني وبقي الأول يطلب محذوفاً ، ويطلب المفعول الثاني مثبتاً ، إذ لم يقع فيه التنازع . ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيراً لهم ، وكان تحت الانتفاء قسمان : أحدهما أن لا خير ولا شر ، والآخر إثبات الشر ، أتى بالجملة التي تعين أحد القسمين وهو : إثبات كونه شراً لهم . {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } هذا تفسير لقوله :{ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } والظاهر حمله على المجاز ، أي سيلزمون عقابه إلزام الطوق ، وفي المثل لمن جاء بهنة تقلدها طوق الحمامة . وقال إبراهيم النخعي : سيُجعل لهم يوم القيامة طوق من نار . قال مجاهد وغيره : هو من الطاقة لا من التطويق ، والمعنى : سيحملون عقاب ما بخلوا به . كقوله :{ وَعَلَى الَّذِينَ } وقال مجاهد : سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به . وهذا التفسير لا يناسب قوله : إن البخل هو العلم الذي تفضل اللّه عليهم به من أمر الرسول . وقال أبو وائل : هو الرجل يرزقه اللّه مالاً فيمنع منه قرابته الحق الذي جعل اللّه لهم في ماله ، فيجعل حية يطوقها فيقول : ما لي ولك ، فيقول : أنا مالك . وجاء في الحديث : { ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه فيسأله من فضل عنده فيبخل به عليه إلا أخرج له يوم القيامة شجاع من النار يتلمظ حتى يطوقه } والأحاديث في مثل هذا من منع الزكاة واكتناز المال كثيرة صحيحة . {وَللّه مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } فيه قولان : أحدهما أنه تعالى له ملك جميع ما يقع من إرث في السموات والأرض ، وأنه هو المالك له حقيقة ، فكل ما يحصل لمخلوقاته مما ينسب إليهم ملكه هو مالكه حقيقة . وهذا كان هو مالكه فما لكم تبخلون بشيء أنتم ممتعون به لا مالكوه حقيقة ، كما قال تعالى :{ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} والقول الثاني : أنه خبر بفناء العالم ، وأنَّ جميع ما يخلقونه فهو وارثه . وهو خطاب على ما يفهم البشر ، دلّ على فناء الجميع ، وأنه لا يبقى مالك إلا اللّه ، وإن كان ملكه على كل شيء لم يزل . {وَاللّه بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ختم بهذه الصفة ومعناها التهديد والوعيد على قبيح مرتكبهم من البخل . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : يعملون على الغيبة جرياً على يبخلون وسيطوّقون . وقرأ الباقون : بالتاء على الالتفات ، فيكون ذلك خطاباً للباخلين . و قال ابن عطية : وذلك على الرجوع من الغيبة إلى المخاطبة ، لأنه قد تقدّم { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} انتهى . فلا يكون على قوله التفاتاً ، والأحسن الالتفات . وتضمنت هذه الآيات فنوناً من البلاغة والبديع . الاختصاص في : أجر المؤمنين . والتكرار في : يستبشرون ، وفي : لن يضروا اللّه شيئاً ، وفي : اسمه في عدة مواضع ، وفي : لا يحسبن الذين كفروا ، وفي ذكر الإملاء . والطباق في : اشتروا الكفر بالإيمان ، وفي : ليطلعكم على الغيب . والاستعارة في : يسارعون ، وفي : اشتروا ، وفي : نملي وفي : ليزدادوا إثماً ، وفي : الخبيث والطيب . والتجنيس المماثل في : فآمنوا وإن تؤمنوا . والالتفات في : أنتم إن كان خطاباً للمؤمنين ، إذ لو جرى على لفظ المؤمنين لكان على ما هم عليه ، وإن كان خطاباً لغيرهم كان من تلوين الخطاب ، وفي : تعملون خبير فيمن قرأ بتاء الخطاب . والحذف في مواضع . ١٨١لقد سمع اللّه . . . . . الزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب . يقال : زبرت أي كتبت ، فهو بمعنى مفعول أي : مزبور ، كالركوب بمعنى المركوب . وقال امرؤ القيس : لمن طلل أبصرته فشجاني كخط زبور في عسيب يمان ويقال : زبرته قرأته ، وزبرته حسنته ، وتزبرته زجرته . وقيل : اشتقاق الزبور من الزبرة ، وهي القطعة من الحديد التي تركت بحالها . الزحزحة : التنحية والإبعاد ، تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ويقال : مكان زحزح أي بعيد . الفوز : النجاة مما يحذر والظفر بما يؤمل ، وسميت الأرض القفر البعيدة المخوف من الهلاك فيها مفازة على سبيل التفاؤل ، لا من قطعها فاز . وقيل : لأنها مظنة تفويز ، ومظنة هلاك . تقول العرب : فوّز الرجل مات . {لَّقَدْ سَمِعَ اللّه قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّه فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } نزلت في فنحاص بن عازوراء ، حاوره أبو بكر في الإسلام وأن يقرض اللّه قرضاً حسناً فقال : هذه المقالة فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد ، فشكاه إلى الرسول وأنكر ما قال ، فنزلت تكذيباً لفنحاص ، وتصديقاً للصديق قاله : ابن عباس ، وعكرمة ، والسدّي ، ومقاتل ، وابن إسحاق رضي اللّه عنهم ، وساقوا القصة مطولة . وقال قتادة : نزلت في حيي بن أخطب ، وقال هو أيضاً والحسن ومعمر وغيرهم : في اليهود . وذكر أبو سليمان الدمشقي في الياس بن عمر . ولما نزل { مَّن ذَا الَّذِى يُقْرِضُ اللّه قَرْضًا حَسَنًا } قال أو قالوا : إنما يستقرض الفقير الغني ، والظاهر أن قائل ذلك جمع ، فيمكن أن ذلك صدر من فنحاص أو حيي أولاً ، ثم تقاولها اليهود ، أو صدر ذلك من واحد فقط ، ونسب للجماعة على عادة كلام العرب في نسبتها إلى القبيلة فعل الواحد منها . ومعنى لقد سمع اللّه : أنه لم يخف عليه تعالى مقالتهم ، ومقالتهم هذه إما على سبيل الاستهزاء بما نزل من طلب الإقراض ، وإما على سبيل الجدل والإلزام ، لأن من طلب الإقراض كان فقيراً . وإما على الإعتقاد ، ولا يستبعد ذلك من عقولهم ، إذ قد حكى اللّه عنهم { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّه مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } وأياماً كان من هذه الأسباب ، فذلك دليل على تمردهم في الكفر والمبالغة فيه ، حيث نسبوا الموجَد الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود الغني بذاته عما أوجده الوصف الدال على الافتقار لبعض ما أوجده ، ونسبوا العكس إلى أنفسهم ، وجاءت الجملة مؤكدة باللام مؤذنة بعلمه بمقالتهم ومؤكدة له ، وحيث نسبوا إلى اللّه ما نسبوا ، أكدوا الجملة بأن على سبيل المبالغة . وحيث نسبوا إلى أنفسهم ما نسبوا لم يؤكدوا ، بل أخرجوا الجملة مخرج ما لا يحتاج إلى تأكيد ، كأنَّ الغنى وصف لهم لا يمكن فيه نزاع ، فيحتاج إلى أنْ يؤكد . {سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الاْنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة ، قال ذلك كثير من العلماء . وأنها تكتب الأعمال في صحف ، وأن تلك الصحف هي التي توزن ، ويحدث اللّه سبحانه وتعالى فيها الخفة والثقل بحسب ما كتب فيها من الخير والشر . وقيل : سنكتب ما قالوا في القرآن حتى يعلم القوم شدة تعنتهم وحسدهم في الطعن عليه صلى اللّه عليه وسلم. وذهب قوم : إلى أن الكتابة مجاز ومعناها الإحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم اللّه شيئاً محفوظاً لا ينسى ، كما يثبت المكتوب . وذهب إلى أن معنى سنكتب : سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوه في الدنيا كقوله :{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصّيَامُ } وجاء سنكتب بلفظ المستقبل دون لفظ الماضي ، لأنه تضمن المجازاة على ما قالوه . وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى . ونسب إليهم قتلهم الأنبياء ، وإن كان من فعل آبائهم ، لما كانوا راضين به . وقد سموا أيضاً رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهموا بقتله ، ودل هذا القول وهذا الفعل على جميع الأقوال والأفعال القبيحة التي صدرت منهم . إذ القول في هذه الآية أشنع الأقوال في اللّه تعالى ، والقتل أشنع الأفعال التي فعلوها مع أنبياء اللّه تعالى ، وتشريك القتل مع هذا القول يدل على أنهما يسببان في استحقاق العقاب . ولما كان الصادر منهم قولاً وفعلاً ناسب أن يكون الجزاء قولاً وفعلاً ، فتضمن القول والفعل قوله تعالى : ونقول ذوقوا عذاب الحريق . وفي الجمع بين القول والفعل أعظم انتقام ، ويقال للمنتقم منه : أحس وذق . وقال أبو سفيان لحمزة رضي اللّه عنه لما طعنه وحشي : ذق عقق ، واستعير لمباشرة العذاب الذوق ، لأن الذوق من أبلغ أنواع المباشرة ، وحاستها متميزة جداً . والحريق : المحرق فعيل بمعنى مفعل ، كأليم بمعنى مؤلم . وقيل : الحريق طبقة من طباق جهنم . وقيل : الحريق الملتهب من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة ، والملتهبة أشدها . والظاهر أنَّ هذا القول يكون عند دخولهم جهنم . وقيل : قد يكون عند الحساب ، أو عند الموت . وأنَّ وما بعدها محكى بقالوا . وأجاز أبو البقاء أن يكون محكياً بالمصدر ، فيكون من باب الأعمال . قال : وإعمالُ الأول أصلٌ ضعيف ، ويزداد ضعفاً لأن الثاني فعل والأول مصدر ، وإعمال الفعل أقوى . والظاهر أنَّ ما فيما قالوا موصولة بمعنى الذي ، وأجيز أن تكون مصدرية . وقرأ الجمهور : سنكتب وقتلهم بالنصب . ونقول : بنون المتكلم المعظم . أو تكون للملائكة . وقرأ الحسن والأعرج سيكتب بالياء على الغيبة . وقرأ حمزة : سيكتب بالياء مبنياً للمفعول ، وقتلهم بالرفع عطفاً على ما ، إذ هي مرفوعة بسيكتب ، ويقول بالياء على الغيبة . وقرأ طلحة بن مصرّف : سنكتب ما يقولون . وحكى الداني عنه : ستكتب ما قالوا بتاء مضمومة على معنى مقالتهم . وقرأ ابن مسعود : ويقال ذوقوا . ونقلوا عن أبي معاذ النحويّ أنّ في حرف ابن مسعود سنكتبُ ما يقولون ونقول لهم ذوقوا . ١٨٢ذلك بما قدمت . . . . . {ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم ، ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب ، لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال ، فكان كل عمل واقع بها . وهذه الجملة داخلة في المقول ، وبخوا بذلك ، وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب . ويحتمل أن يكون خطاباً لمعاصري الرسول صلى اللّه عليه وسلم يوم نزل الآية ، فلا يندرج تحت معمول قوله ونقول . {وَأَنَّ اللّه لَيْسَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ } هذا معطوف على قوله : بما قدمت أيديكم ، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم ، وعدل اللّه تعالى فيكم . وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير ، وهذا تكثير بسبب المتعلق . وذهب بعضهم إلى أن فعالاً قد يجيء لا يراد به الكثرة ، كقول طرفة : ولست بحلال التلاع مخافة ولكن متى يسترقد القوم أرفد لا يريد أنه قد يحل التلاع قليلاً ، لأن عجز البيت يدفعه ، فدلّ على نفي البخل في كل حال ، وتمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة ، وقيل : إذا نفى الظلم الكثير اتبع القليل ضرورة ، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم ، فإذا ترك الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضرر كان للظلم القليل المنفعة أترك . وقال القاضي : العذاب الذي توعد أن يفعله بهم : لو كان ظالماً لكان عظيماً ، فنفاه على جد عظمه لو كان ثابتاً والعبيد جمع عبد ، كالكليب . وقد جاء اسم الجمع على هذا الوزن نحو الضيفن وغيره من جمع التكسير ، جواز الأخبار عنه أخبار الواحد كأسماء الجموع ، وناسب لفظ هذا الجمع دون لفظ العباد ، لمناسبة الفواصل التي قبله مما جاءت على هذا الوزن ، كما ناسب ذلك في سورة فصلت ، وكما ناسب لفظ العباد في سورة غافر ما قبله وما بعده . قال ابن عطية : وجمع عبداً في هذه الآية على عبيد لأنه مكان تشقيق وتنجية من ظلم انتهى كلامه . ولا تظهر لي هذه العلة التي ذكرها في هذا الجمع . وقال الزمخشري: { فإن قلت } : فلم عطف قوله : وأن اللّه ليس بظلام للعبيد ، { عَلَى مَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } وكيف جعل كونه غير ظلام للعبيد شريكاً لاجتراحهم السيئات في استحقاقهم العذاب ؟ { قلت} : معنى كونه غير ظلام للعبيد : أنه عادل عليهم ، ومن العدل أن يعاقب المسيء منهم ويثب المحسن انتهى . وفيه رائحة الاعتزال . ١٨٣الذين قالوا إن . . . . . {الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّه عَهِدَ إِلَيْنَا أَن لا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } قال الكعبي : نزلت في كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصيف ، ووهب بن يهوذا ، وزيد بن مانوه ، وفنحاص بن عازوراء ، وحيي بن أخطب ، أتوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالوا : تزعم أن اللّه بعثك إلينا رسولاً ، وأنزل عليك كتاباً ، وأن اللّه قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه من عند اللّه حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك . وظاهر هذا القول أنه عهد إليهم في التوراة ، فقيل : كان هذا في التوراة ، ولكن كان تمام الكلام حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما من غير قربان . وقيل : كان أمر القرابين ثابتاً ، إلى أن نسخت على لسان المسيح . وقيل : ذكرهم هذا العهد هو من كذبهم على اللّه تعالى ، وافترائهم عليه ، وعلى أنبيائه . ومعنى عهد : وصي ، والعهد أخص من الأمر ، لأنه في كل ما يتطاول أمره ويبقى في غابر الزمان ، وتقدم تفسيره . وتعدى نؤمن باللام كما في قوله :{ فَمَا ءامَنَ لِمُوسَى } يؤمن للّه . والقربان : ما يتقرّب به من شاة أو بقرة أو غير ذلك ، وهو في الأصل مصدر سمي المفعول به كالرهن ، وكان حكمه قديماً في الأنبياء . ألا ترى إلى قصة ابني آدم ، وكان أكل النار ذلك القربان دليلاً على قبول العمل من صدقة أو عمل ، أو صدق مقالة . وإذا لم تنزل النار فليس بمقبول ، وكانت النار أيضاً تنزل للغنائم فتحرقها . وإسناد الأكل إلى النار مجاز واستعارة عن إذهاب الشيء وإفنائه ، إذ حقيقة الأكل إنما توجد في الحيوان المتغذي ، والقربان وأكل النار معجز للنبي يوجب الإيمان به ، فهو وسائر المعجزات سواء . وللّه أن يعين من الآيات ما شاء لأنبيائه ، وهذا نظير ما يقترحونه من الآيات على سبيل التبكيت والتعجيز . وقد أخبر تعالى أنه لو نزل ما اقترحوه لما آمنوا . والذين قالوا صفة للذين قالوا . وقال الزجاج : الذين صفة للعبيد . قال ابن عطية : وهذا مفسد للمعنى والوصف انتهى . وهو كما قال . وجوزوا قطعة للرّفع ، والنصب واتباعه بدلاً . وفي أن لا نؤمن تقدير حرف جر ، فحذف وبقي على الخلاف فيه : أهو في موضع نصب أو جر ؟ وأن يكون مفعولاً به على تضمين عهد معنى الزم ، فكأنه ألزمنا أن لا نؤمن . وقرأ عيسى بن عمر بقرُبان بضم الراء . قال ابن عطية : اتباعاً لضمة القاف ، وليس بلغة . لأنه ليس في الكلام فُعُلان بضم الفاء والعين . وحكى سيبويه السلطان بضم اللام ، وقال : إن ذلك على الاتباع انتهى . ولم يقل سيبويه : إنَّ ذلك على الاتباع ، بل قال : ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ، ولا شيئاً من هذا النحو لم يذكره . ولكنه جاء فعلان وهو قليل ، قالوا : السلطان وهو اسم انتهى . وقال الشارح : صاحب في اللغة لا يسكن ولا يتبع ، وكذا ذكر التصريفيون أنه بناء مستقبل . قالوا فيما لحقه زيادتان بعد اللام وعلى فعلان ولم يجيء إلا اسماً : وهو قليل نحو سلطان . {قُلْ قَدْ جَاءكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } رد اللّه تعالى عليهم وأكذبهم في اقتراحهم ، وألزمهم أنهم قد جاءتهم الرسل بالذي قالوه من الإتيان بالقربان الذي تأكله النار وبالآيات غيره ، فلم يؤمنوا بهم ، بل قتلوهم . ولم يكتفوا بتكذيبهم حتى أوقعوا بهم شر فعل ، وهو إتلاف النفس بالقتل . فالمعنى أن هذا منكم معشر اليهود تعلل وتعنت ، ولو جاءهم بالقربان لتعللوا بغير ذلك مما يقترحونه . والاقتراح لا غاية له ، ولا يجاب طالبه إلا إذا أراد اللّه هلاكه ، كقصة قوم صالح وغيره . وكذلك قيل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في اقتراح قريش فأبى عليه السلام وقال :{ بَلِ ادْعُوهُمْ } ومعنى : إن كنتم صادقين في دعواكم أنّ الإيمان يلزم بإتيان البينات والقربان ، أو صادقين في أنّ اللّه عهد إليكم . ١٨٤فإن كذبوك فقد . . . . . {فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذّبَ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ جَاءوا بِالْبَيّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } الخطاب للرسول صلى اللّه عليه وسلم وذلك على سبيل التسلية لما ظهر كذبهم على اللّه بذكر العهد الذي افتروه ، وكان في ضمنه تكذيبه إذ علقوا الإيمان به على شيء مقترح منهم على سبيل التعنت ، ولم يجبهم اللّه لذلك ، فسلى الرسول صلى اللّه عليه وسلم بأن هذا دأبهم ، وسبق منهم تكذيبهم لرسل جاءوا بما يوجب الإيمان من ظهور المعجزات الواضحة الدلالة على صدقهم ، وبالكتب السماوية الإلهية النيرة المزيلة لظلم الشبه . والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب سمي بذلك قيل : لأنه مكتوب ، إذ يقال : زبره كتبه . أو لكونه زاجراً من زبره زجره ، وبه سمي كتاب داود زبوراً لكثرة ما فيه من الزواجر والمواعظ ، أو لأحكامه . والزبر : الأحكام . وقال الزجاج : الزبور كل كتاب فيه حكمة . قيل : والكتاب هو الزبر . وجمع بين اللفظين على سبيل التأكيد ، أو لاختلاف معنييهما ، مع أن المراد واحد ، ولكن اختلف معنياهما من حيث الصفة . وقيل : الكتاب هنا جنس للتوراة والإنجيل وغيرهما ، ويحتمل أن يراد بقوله : والزبر الزواجر من غير أن يراد به الكتب . أي : جاؤوا بالمعجزات الواضحة والتخويفات والكتب النيرة . وجواب الشرط محذوف لدلالة الكلام عليه التقدير : وإن يكذبوك فتسلّ به . ولا يمكن أن يكون فقد كذب رسل الجواب لمضيه ، إذ جواب الشرط مستقبل لا محالة لترتبه على المستقبل ، وما يوجد في كلام المعربين أنَّ مثل هذا من الماضي هو جواب الشرط ، فهو على سبيل التسامح لا الحقيقة . وبنى الفعل للمفعول لأنه لم يقتصر في تكذيب الرسل على تكذيب اليهود وحدهم لأنبيائهم ، بل نبه على أنَّ من عادة اليهود وغيرهم من الأمم تكذيب الأنبياء ، فكان المعنى : فقد كذبت أمم من اليهود وغيرهم الرسل . قيل : ونكر رسل لكثرتهم وشياعهم . ومن قبلك : متعلق بكذب ، والجملة من قوله : جاؤوا في موضع الصفة لرسل انتهى . والباء في بالبينات تحتمل الحال والتعدية ، أي : جاؤا أممهم مصحوبين بالبينات ، أو جاؤوا البينات . وقرأ الجمهور : والزبر . وقرأ ابن عامر : وبالزبر ، وكذا هي في مصاحف أهل الشأم . وقرأ هشام بخلاف عنه وبالكتاب . وقرأ الجمهور : والكتاب . وإعادة حرف الجر في العطف هو على سبيل التأكيد . وكان ذكر الكتاب مفرداً وإنَّ كان مجموعاً من حيث المعنى لتناسب الفواصل ، ولم يلحظ فيه أن يجمع كالمعطوف عليهما لذلك . ١٨٥كل نفس ذائقة . . . . . {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن الدنيا وأهلها ، والوعد بالنجاة في الآخرة بذكر الموت ، والفكرة فيه تهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره . ولمّا تقدّم ذكر المكذبين الكاذبين على اللّه من اليهود والمنافقين وذكرهم المؤمنين ، نبهوا كلهم على أنهم ميتون ومآلهم إلى الآخرة ، ففيها يظهر الناجي والهالك ، وأنَّ ما تعلقوا به في الدنيا من مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به ، كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الإنسان ، وهو يوفاه في الآخرة ، يوفى على طاعته ومعصيته . وقال محمد بن عمر الرازي : في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن ، وعلى أن النفس . غير البدن انتهى . وهذه مكابرة في الدلالة ، فإنّ ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت . قال أيضاً : لفظ النفس مختص بالأجسام انتهى . وقرأ اليزيدي : ذائقة بالتنوين ، الموت بالنصب ، وذلك فيما نقله عنه الزمخشري . ونقلها ابن عطية عن أبي حيوة ، ونقلها غيرهما عن الأعمش ، ويحيى ، وابن أبي إسحاق . وقرأ الأعمش فيما نقله الزمخشري ذائقة بغير تنوين الموت بالنصب ومثله : فألفيته غر مستعتب ولا ذاكر اللّه إلا قليلا حذف التنوين لالتقاء الساكنين ، كقراءة من قرأ { قُلْ هُوَ اللّه أَحَدٌ اللّه الصَّمَدُ } بحذف التنوين من أحد { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } لفظ التوفية يدل على التكميل يوم القيامة ، فما قبله من كون القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، هو بعض الأجور . وما لم يدخل الجنة أو النار فهو غير موفى . والذي يدل عليه السياق أنّ الأجور هي ما يترتب على الطاعة والمعصية ، وإن كان الغالب في الاستعمال أنّ الأجر هو ما يترتب على عمل الطاعة . ولهذا قال ابن عطية : وخص تعالى ذكر الأجور لشرفها ، وإشارة إلى مغفرته لمحمد صلى اللّه عليه وسلم وأمّته . ولا محالة أنّ يوم القيامة يقع فيه الأجور ، وتوفية العقوبات انتهى . {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } علق الفوز وهو نيل الحظ من الخير والنجاة من الشرّ على التنحية من النار ودخول الجنة ، لأن من لم ينج عن النار بل أدخلها ، وإن كان سيدخل الجنة لم يفز كمن يدخلها من أهل الكبائر . ومن نحى عنها ولم يدخل الجنة كأصحاب اوعراف ، لم يفز أيضاً . وروي في الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { من سره أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إلاه إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه ، ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه ، قيل : فاز معناه نجا .} وقيل : سبق . وقيل : غنم . {وَما الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } المتاع : ما يستمتع به من آلات وأموال وغير ذلك . وفسرّه عكرمة : بالفأس ، والقصعة ، والقدر . وفسره الحسن فقال : هو كخضرة النبات ، ولعب البنات لا حاصل له يلمع لمع السراب ، ويمر مرّ السحاب ، وهذا من عكرمة والحسن على سبيل التمثيل . قال الزمخشري : شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته ، والشيطان هو المدلس . الغرور انتهى . وقال سعيد بن جبير : إنما هذا المن آثرها على الآخرة ، فأمّا من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ . وقال عكرمة أيضاً : متاع الغرور القوارير التي لا بد لها من الانكسار والفساد ، فكذلك أمر الدنيا كله . وهذا تشبيه من عكرمة والغرور الخدع والترجئة بالباطل . وقال عبد الرحمن بن سابط : متاع الغرور كزاد الراعي يزود الكف من التمر والشيء من الدقيق يشرب عليه اللبن ، يعني : أن متاع الدنيا قليل لا يكفي من تمتع به ولا يبلغه سفره . ومن كلام العرب عش ولا تغتر . أي : لا تجتزىء بما لا يكفيك . وقال ابن عرفة : الغرور ما رأيت له ظاهراً حسناً وله باطن مكروه أو مجهول ، والشيطان غرور لأنه يحمل على مخبآت الناس ووراء ذلك ما يسوء . قال : ومن هذا بيع الغرور ، وهو ما كان له ظاهر بيع وباطن مجهول . وقال أبو مسلم الأصبهاني : وما الحياة الدنيا بحذف المضاف تقديره : وما نفع الحياة الدنيا إلا نفع الغرور . أي : نفع يغفل عن النفع الحقيقي لدوامه ، وهو النفع في الحياة الأخروية . وإضافة المتاع إلى الغرور أنْ جعل الغرور جمعاً فهو كقولك : نفع الغافلين . وإنْ جعل مصدراً فهو كقولك : نفع إغفال ، أي إهمال فيورث الغفلة عن التأهب للآخرة . وقرأ عبد اللّه بن عمر : المغرور بفتح الغين ، وفسَّر بالشيطان ويحتمل أن يكون فعولاً بمعنى مفعول ، أي : متاع المغرور ، أي : المخدوع . وتضمنت هذه الآيات التجنيس المغاير في قوله : الذين قالوا : والمماثل في : قالوا ، وسنكتب ما قالوا ، وفي : كذبوك فقد كذب . والطباق في : فقير وأغنياء ، وفي : الموت والحياة ، وفي : زحزح عن النار وأدخل الجنة . والالتفات في : سنكتب ونقول ، وفي : أجوركم ، إذ تقدمه كل نفس . والتكرار في : لفظ الجلالة ، وفي البينات . والاستعارة في : سنكتب على قول من لم يجعل الكتابة حقيقة ، وفي : قدّمت أيديكم ، وفي : تأكله النار ، وفي : ذوقوا وذائقة . والمذهب الكلامي في فلم قتلتموهم . والاختصاص في : أيديكم . والإشارة في : ذلك ، والشرط المتجوز فيه . والزيادة للتوكيد في : وبالزبر وبالكتاب في قراءة من قرأ كذلك . والحذف في مواضع . ١٨٦لتبلون في أموالكم . . . . . الجنوب : جمع جنب وهو معروف . المرابطة : الملازمة في الثغر للجهاد ، وأصلها من ربط الخيل . {لَتُبْلَوُنَّ فِى أَمْوالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً } قيل : نزلت في قصة عبد اللّه بن أبي حين قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقد قرأ عليهم الرسول القرآن : إنْ كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا . وردّ عليه ابن رواحة فقال : اغشنا به في مجالسنا يا رسول اللّه . وتسابَّ المسلمون والمشركون واليهود . وقيل : فيما جرى بين أبي بكر وفنحاص . وقيل : في كعب بن الأشرف كان يحرّض المشركين على الرسول وأصحابه في شعره ، وأعلمهم تعالى بهذا الابتلاء والسماع ليكونوا أحمل لما يرد عليهم من ذلك ، إذا سبق الإخبار به بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فاته يكثر تألمه . والآية مسوقة في ذمّ أهل الكتاب وغيرهم من المشركين ، فناسبت ما قبلها من الآيات التي جاءت في ذم أهل الكتاب وغيرهم من المشركين . والظاهر في قوله : لتبلون أنهم المؤمنون . وقال عطاء : المهاجرون ، أخذ المشركون رباعهم فباعوها ، وأموالهم فنهبوها . وقيل : الابتلاء في الأموال هو ما أصيبوا به من نهب أموالهم وعددهم يوم أحد . والظاهر أنّ هذا خطاب للمؤمنين بما سيقع من الامتحان في الأموال ، بما يقع فيها من المصائب والذهاب والإنفاق في سبيل اللّه وفي تكاليف الشرع ، والابتلاء في النفس بالشهوات أو الفروض البدنية أو الأمراض ، أو فقد الأقارب والعشائر ، أو بالقتل والجراحات والأسر ، وأنواع المخاوف أقوال . وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف ، أو على سبيل الكثرة . لأنّ الرّزايا في الأموال أكثر من الرّزايا في الأنفس . والأذى : اسم جامع في معنى الضرر ، ويشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه ، وفي اللّه تعالى وأنبيائه . والمطاعن في الدين وتخطئة من آمن ، وهجاء كعب وتشبيه بنساء المؤمنين . {وَأَن تَصْبِرُواْ } على ذلك الابتلاء وذلك السماع . {وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ } أي فإن الصبر والتقوى . {مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ } قيل : من أشدها وأحسنها . والعزم : إمضاء الأمر المروّى المنقح . وقال النقاش : العزم هو الحزم بمعنى واحد ، الحاء مبدلة من العين . قال ابن عطية : وهذا خطأ . الحزم جودة النظر في الأمر ، ونتيجته الحذر من الخطأ فيه . والعزم قصد الإمضاء ، واللّه تعالى يقول :{ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ } فالمشاورة وما كان في معناها والحزم . والعرب تقول : قد أحزم لو أعزم . وقال الزمخشري : من عزم الأمور من معزومات الأمور . أي : مما يجب عليه العزم من الأمور . أو مما عزم اللّه أن يكون ، يعني : أن ذلك عزمة من عزمات اللّه لا بد لكم أن تصبروا وتتقوا . وقيل : من عزم الأمور من جدها . وقال مجاهد في قوله : فإذا عزم الأمر ، أي فإذا وجد الأمر ١٨٧وإذ أخذ اللّه . . . . . {وَإِذْ أَخَذَ اللّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } هم اليهود أخذ عليهم الميثاق في أمر الرسول صلى اللّه عليه وسلم فكتموه ونبذوه قاله : ابن عباس ، وابن جبير ، والسدي ، وابن جريج . وقال قوم : هم اليهود والنصارى . وقال الجمهور : هي عامة في كل من علمه اللّه علماً ، وعلماء هذا الأمة داخلون في هذا الميثاق . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر : بالياء فيهما على الغيبة ، إذ قبله الذين أوتوا الكتاب وبعده فنبذوه . وقرأ باقي السبعة : بالتاء للخطاب ، وهي كقوله :{ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّه } قرىء بالتاء والياء ، والظاهر عود الضمير إلى الكتاب . وقيل : هو للنبي صلى اللّه عليه وسلم. وقيل : للميثاق . وقيل : للإيمان بالرسول لقوله : {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } وارتفاع ولا تكتموانه لكونه وقع حالاً ، أي : غير كاتمين له وليس داخلاً في المقسم عليه . قالوا وللحال لا العطف ، كقوله :{ فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَانّ } وقوله : ولا يسأل في قراءة من خفف النون ورفع اللام . وقيل : الواو للعطف ، وهو من جملة المقسم عليه . ولمّا كان منفياً بلا لم يؤكد ، تقول : واللّه لا يقوم زيد ، فلا تدخله النون . وهذا الوجه عندي أعرب وأفصح ، لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ ، قبل لا ، حتى تكون الجملة اسمية في موضع الحال ، إذ المضارع المنفي بلالاً تدخل عليه واو الحال . وقرأ عبد اللّه : ليبينونه بغير نون التوكيد . قال ابن عطية : وقد لا تلزم هذه النون لام التوكيد ، قاله : سيبويه انتهى . وهذا ليس معروفاً من قول البصريين ، بل تعاقب اللام والنون عندهم ضرورة . والكوفيون يجيزون ذلك في سعة الكلام ، فيجيزون : واللّه لأقوم ، وواللّه أقومن . وقال الشاعر : وعيشك يا سلمى لا وقن إنني لما شئت مستحل ولو أنه القتل وقال آخر : يميناً لأبغض كل امرىء يزخرف قولاً ولا يفعل وقرأ ابن عباس : ميثاق النبيين لتبيننه للناس ، فيعود الضمير في فنبذوه على الناس إذ يستحيل عوده على النبيين ، أي : فنبذه الناس المبين لهم الميثاق ، وتقدم تفسير معنى : { فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ } في قوله :{ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّه وَرَاء ظُهُورِهِمْ} {وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } وتقدم تفسير مثل هذه الجملة والكلام في إعراب ما بعد بئس فأغنى عن الإعادة . ١٨٨لا تحسبن الذين . . . . . {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ } نزلت في المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في الغزو ، فإذا جاء استعذروا له ، فيظهر القبول ويستغفر لهم ، ففضحهم اللّه بهذه الآية قاله : أبو سعيد الخدري وابن زيد وجماعة . وقال كثير من المفسرين : نزلت في أحبار اليهود . وأتى تكون بمعنى فعل ، كقوله تعالى :{ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } أي مفعولاً . فمعنى بما أتوا بما فعلوا ، ويدل عليه قراءة أبى بما فعلوا . وفي الذي فعلوه وفرحوا به أقوال : أحدها كتم ما سألهم عنه الرسول ، وإخبارهم بغيره ، وأروه أنهم قد أخبروه به واستحمدوا بذلك إليه قاله : ابن عباس . الثاني ما أصابوا من الدنيا وأحبوا أن يقال : إنهم علماء قاله : ابن عباس أيضاً . الثالث قولهم : نحن على دين إبراهيم ، وكتمهم أمر الرسول قاله : ابن جبير . الرابع كتبهم إلى اليهود يهود الأرض كلها أن محمداً ليس بنبي ، فأثبتوا على دينكم ، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به . وقالوا : نحن أهل الصوم والصلاة وأولياء اللّه قاله : الضحاك والسدي . الخامس قول يهود خيبر للنبي صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه : نحن على دينكم ، ونحن لكم ردء ، وهم مستمسكون بضلالهم ، وأرادوا أن يحمدهم بما لم يفعلوا قاله : قتادة . السادس تجهيز اليهود جيشاً إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم وإنفاقهم على ذلك الجيش قاله : النخعي . السابع إخبار جماعة من اليهود للمسلمين حين خرجوا من عند النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أخبرهم بأشياء عرفوها ، فحمدهم المسلمون على ذلك ، وأبطنوا خلاف ما أظهر ، وأذكره الزجاج . الثامن اتباع الناس لهم في تبديل تأويل التوراة ، وأحبوا حمدهم إياهم على ذلك ، ولم يفعلوا شيئاً نافعاً ولا صحيحاً قاله : مجاهد . التاسع تخلف المنافقين عن الغزو وحلفهم للمسلمين أنهم يسرّون بنصرهم ، وكانوا يحبون أن يقال أنهم في حكم المجاهدين قاله : أبو سعيد الخدري . والأقوال السابقة غير هذا الأخير مبنية على أن الآية نزلت في اليهود . قيل : ويجوز أن يكون شاملاً لكل من يأتي بحسنة فرح بها فرح إعجاب ، ويحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بالديانة والزهد ، وبما ليس فيه . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : لا يحسبن ولا يحسبنهم بالياء فيهما ، ورفع باء يحسبنهم على إسناد يحسبن للذين ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ما قاله أبو عليّ : وهو أن لا يحسبن لم يقع على شيء ، والذين رفع به . وقد تجيء هذه الأفعال لغواً لا في حكم الجمل المفيدة نحو قوله : وما خلت أبقي بيننا من مودّة عراض المداكي المسنفات القلائصا وقال الخليل : العرب تقول : ما رأيته يقول ذلك إلا زيد ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيد . قال ابن عطية : فتتجه القراءة بكون فلا يحسبنهم بدلاً من الأول ، وقد تعدّى إلى المفعولين وهما : الضمير وبمفازة ، واستغنى بذلك عن المفعولين ، كما استغنى في قوله : بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عاراً عليّ وتحسب أي : وتحسب حبهم عاراً عليّ . والوجه الثاني ما قاله الزمخشري : وهو أن يكون المفعول الأول محذوفاً على لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة ، بمعنى : لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين . وفلا يحسبنهم تأكيد ، وتقدّم لنا الرد على الزمخشري في تقديره لا يحسبنهم الذين في قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا } وإن هذا التقدير لا يصح فيطلع هناك . وتعدى في هذه القراءة فعل الحسبان إلى ضميريه المتصلين : المرفوع والمنصوب ، وهو مما يختص به ظننت وأخواتها ، ومن غيرها : وجدت ، وفقدت ، وعدمت ، وذلك مقرّر في علم النحو . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم : لا تحسبن ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما خطاباً للرسول ، وخرجت هذه القراءة على وجهين : أحدهما ذكره ابن عطية ، وهو أن المفعول الأول هو : الذين يفرحون . والثاني محذوف لدلالة ما بعده عليه كما قيل آنفاً في المفعولين . وحسن تكرار الفعل فلا يحسبنهم لطول الكلام ، وهي عادة العرب ، وذلك تقريب لذهن المخاطب . والوجه الثاني ذكره الزمخشري ، قال : وأحد المفعولين الذين يفرحون ، والثاني بمفازة . وقوله : فلا يحسبنهم توكيد تقديره لا يحسبنهم ، فلا يحسبنهم فائزين . وقرىء لا تحسبن فلا تحسبنهم بتاء الخطاب وضم الباء فيهما خطاباً للمؤمنين . ويجيء الخلاف في المفعول الثاني كالخلاف فيه في قراءة الكوفيين . وقرأ نافع وابن عامر : لا يحسبن بياء الغيبة ، وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب ، وفتح الباء فيهما ، وخرجت هذه القراءة على حذف مفعولي يحسبن لدلالة ما بعدهما عليهما . ولا يجوز في هذه القراءة البدل الذي جوّز في قراءة ابن كثير وأبي عمرو لاختلاف الفعلين لاختلاف الفاعل . وإذا كان فلا يحسبنهم توكيداً أو بدلاً ، فدخول الفاء إنما يتوجه على أن تكون زائدة ، إذ لا يصح أن تكون للعطف ، ولا أن تكون فاء جواب الجزاء . وأنشدوا على زيادة الفاء قول الشاعر : حتى تركت العائدات يعدنه يقلن فلا تبعد وقلت له : ابعد وقال آخر : لما اتقى بيد عظيم جرمها فتركت ضاحي : كفه يتذبذب أي : لا تبعد ، وأي تركت . وقرأ النخعي ومروان بن الحكم بما آتوا بمعنى : أعطوا . وقرأ ابن جبير والسلمي : بما أوتوا مبنياً للمفعول . وتقدّمت الأقوال في أتوا ، وبعضها يستقيم على هاتين القراءتين . وفي حرف عبد اللّه بما لم يفعلوا بمفازة ، وأسقط فلا يحسبنهم . ومفازة مفعلة من فاز ، وهي للمكان أي : موضع فوز ، أي : نجاة . وقال الفرّاء : أي يبعد من العذاب ، لأن الفوز معناه التباعد من المكروه . وفي هذه الآية دلالة على أن تزين الإنسان بما ليس فيه وحبه المدح عليه منهى عنه ومذموم شرعاً . وقال تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } وفي الحديث الصحيح :{ المتشبع بما ليس فيه كلابس ثوبي زور } وقد أخبر تعالى عنهم بالعذاب الأليم في قوله : ولهم عذاب أليم . وناسب وصفه بأليم لأجل فرحهم ومحبتهم المحمدة على ما لم يفعلوا . ١٨٩وللّه ملك السماوات . . . . . {وَللّه مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاللّه عَلَى كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } ذكر تعالى أنهم من جملة ما ملك ، وأنه قادر عليهم ، فهم مملوكون مقهورون مقدور عليهم ، فليسوا بناجين من العذاب . ١٩٠إن في خلق . . . . . {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَاتٍ لاِوْلِى الاْلْبَابِ } تقدّم شرح نظير هذه الجملة في سورة البقرة . ومعنى لآيات : العلامات واضحة على الصانع وباهر حكمته ، ولا يظهر ذلك إلا لذوي العقول ينظرون في ذلك بطريق الفكر والاستدلال ، لا كما تنظر البهائم . وروي ابن جبير عن ابن عباس أن قريشاً قالوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهباً ، حين ذكرت اليهود والنصارى لهم بعض ما جاء به من المعجزات موسى عليهما السلام ، فنزلت هذه الآية . ومناسبة هذه الآية لما قبلها واضحة ، لأنه تعالى لمّا ذكر أنه مالك السموات والأرض ، وذكر قدرته ، ذكر أنّ في خلقهما دلالات واضحة لذوي العقول . ١٩٠الذين يذكرون اللّه . . . . . {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّه قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } الظاهر أن الذكر هو باللسان مع حضور القلب ، وأنه التحميد والتهليل والتكبير ، ونحو ذلك من الاذكار . هذه الهيئات الثلاثة هي غالب ما يكون عليها المرء ، فاستعملت والمراد بها جميع الأحوال . كما قالت عائشة : { كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر اللّه على كل أحيانه } وظاهر هذا الحديث والآية يدل على جواز ذكر اللّه على الخلاء . وقال بجواز ذلك : عبد اللّه بن عمر ، وابن سيرين والنخعي . وكرهه : ابن عباس ، وعطاء ، والشعبي . وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكروا اللّه فقال بعضهم : أما قال اللّه تعالى : قياماً وقعوداً ؟ فقاموا يذكرون اللّه على أقدامهم . وروي في الحديث : { من أحب أن يرتع في رياض لجنة فليكثر ذكر اللّه } وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه . ذهب ابن جريج والجمهور : والذكر من أعظم العبادات ، والأحاديث فيه كثيرة . وقال ابن عباس وجماعة : المراد بالذكر الصلوات ، ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، وسماها ذكراً لاشتمالها على الذكر . وقيل : المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء . وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع ، وخلاف الفقهاء في ذلك ، ودلائلهم . وذلك مقرر في علم الفقه . وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام ، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ، لأن الإنسان لا يقعد غالباً إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها . ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل . ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زماناً ، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود . ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار ؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة . فمن قدر على القيام لا يصلي قاعداً ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعاً ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائماً ثم قاعداً ثم مضطجعاً . وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون اللّه قياماً بأوامره ، وقعوداً عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه . وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية . وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب ، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال ، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم . وفي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور . وإلى أن المراد بالذكر هو الظاهر الذي ذكرناه . ذهب ابن جريج والجمهور : والذكر من أعظم العبادات ، والأحاديث فيه كثيرة . وقال ابن عباس وجماعة : المراد بالذكر الصلوات ، ففي حال العذر يصلونها قعوداً وعلى جنوبهم ، وسماها ذكراً لاشتمالها على الذكر . وقيل : المراد بالذكر صلاة النفل يصليها كيف شاء . وجلب المفسرون في هذه الآية أشياء من كيفية إيقاع الصلاة في القيام والقعود والاضطجاع ، وخلاف الفقهاء في ذلك ، ودلائلهم . وذلك مقرر في علم الفقه . وعلى الظاهر من تفسير الذكر فتقديم القيام ، لأن الذكر فيه أخف على الإنسان ، ثم انتقل إلى حالة القعود والذكر فيه أشق منه في حالة القيام ، لأن الإنسان لا يقعد غالباً إلا لشغل يشتغل به من صناعة أو غيرها . ثم انتقل إلى هيئة الاضطجاع والذكر فيها أشق منه في هيئة القعود ، لأن الاضطجاع هو هيئة استراحة وفراغ عن الشواغل . ويمكن في هذه الهيئات أن يكون التقديم لما هو أقصر زماناً ، فبدىء بالقيام لأنها هيئة زمانها في الغالب أقصر من زمان القعود ، ثم بالقعود إذ زمانه أطول ، وبالاضطجاع إذ زمانه أطول من زمان القعود . ألا ترى أنَّ الليل جميعه هو زمان الاضطجاع ، وهو مقابل لزمان القعود والقيام ، وهو النهار ؟ وأما إذا كان الذكر يراد به الصلاة المفروضة ، فالهيئات جاءت على سبيل الندرة . فمن قدر على القيام لا يصلي قاعداً ، ومن قدر على القعود لا يصلي مضطجعاً ، وأما إذا كان يراد به صلاة النفل فالهيئات على سبيل الأفضلية ، إذ الأفضل التنفل قائماً ثم قاعداً ثم مضطجعاً . وأبعد في التفسير من ذهب إلى أن المعنى : يذكرون اللّه قياماً بأوامره ، وقعوداً عن زواجره ، وعلى جنوبهم أي تجانبهم مخالفة أمره ونهيه . وهذا شبيه بكلام أرباب القلوب ، وقريب من الباطنية . وجوزوا في الذين النعت والقطع للرفع والنصب ، وعلى جنوبهم حال معطوفة على حال ، وهنا عطف المجرور على صريح الاسم . وفي قوله : دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً عطف صريح الاسم على المجرور . {وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ } الظاهر أنه معطوف على الصلة ، فلا موضع له من الإعراب . وقيل : الجملة في موضع نصب على الحال ، عطفت على الحال قبلها . ولما ذكر الذكر الذي محله اللسان ، ذكر الفكر الذي محله القلب . ويحتمل خلق أن يراد به المصدر ، فإن الفكرة في الخلق لهذه المصنوعات الغريبة الشكل والقدرة على إنشاء هذه من العدم الصرف ، يدل على القدرة التامة والعلم والأحدية إلى سائر الصفات العلية . وفي الفكر في ذلك ما يبهر العقول ، ويستغرق الخواطر . ويحتمل أن يراد به المخلوق ، ويكون أضافه من حيث المعنى إلى الظرفين ، لا إلى المفعول ، والفكر في ما أودع اللّه في السموات من الكواكب النيرة والأفلاك التي جاء النصر فيها وما أودع في الأرض من الحيوانات والنبات والمعادن ، واختلاف أجناسها وأنواعها وأشخاصها أيضاً يبهر العقل ويكثر العبر وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ومر النبي صلى اللّه عليه وسلم على قوم يتفكرون في اللّه فقال : { تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لا تقدرون قدره} . وقال بعض العلماء : المتفكر في ذات اللّه كالناظر في عين الشمس ، لأنه تعالى ليس كمثله شيء . وإنما التفكر وانبساط الذهن في المخلوقات وفي مخلوق الآخرة . وفي الحديث : { لا عبادة كتفكر} . وذكر المفسرون من كلام الناس في التفكر ومن أعيان المتفكرين كثيراً ، رأينا أن لا نطول كتابنا بنقلها { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } هذه الجملة محكية بقول محذوف تقديره : يقولون . وهذا الفعل في موضع نصب على الحال ، والإشارة بهذا إلى الخلق إن كان المراد المخلوق ، أو إلى السموات والأرض لأنها في معنى المخلوق . أي : ما خلقت هذا المخلوق العجيب باطلاً . قيل : المعنى خلقاً أي : لغير غاية ، بل خلقته وخلقت البشر لينظر فيه ، فيوحد ويعبد . فمن فعل ذلك نعمته ، ومن ضل عن ذلك عذبته . وقال الزمخشري : المعنى ما خلقته خلقاً باطلاً بغير حكمة بل خلقته لداعي حكمة عظيمة وهو : أن تجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفتك ، ووجوب طاعتك ، واجتناب معصيتك . ولذلك وصل به قوله : فقنا عذاب النار ، ولأنه جزاء من عصى ولم يطع انتهى . وفيه إشارات المعتزلة من قوله : بل خلقته لداعي حكمة عظيمة ، وعلى هذا فيكون انتصاب باطلاً على أنه نعت لمصدر محذوف . وقيل : انتصب باطلاً على الحال من المفعول . وقيل : انتصب على إسقاط الباء ، أي بباطل ، بل خلقته بقدرتك التي هي حق . وقيل : على إسقاط اللام وهو مفعول من أجله ، وفاعل بمعنى المصدر أي بطولاً . وقيل : على أنه مفعول ثان لخلق ، وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى اثنين ، وهذا عكس المنقول في النحو وهو : أنَّ جعل يكون بمعنى خلق ، فيتعدى لواحد . أما أن خلق يكون بمعنى جعل فيتعدى لاثنين ، فلا أعلم أحداً ممن له معرفة ذهب إلى ذلك . والباطل : الزائل الذاهب ومنه : ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل والأحسن من أعاريبه انتصابه على الحال من هذا ، وهي حال لا يستغنى عنها نحو قوله : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } لا يجوز في هذه الحال أن تحذف لئلا يكون المعنى على النفي ، وهو لا يجوز . ولما تضمنت هذه الجملة الإقرار بأنّ هذا الخلق البديع لم يكن باطلاً ، والتنبيه على أن هذا كلام أولي الألباب الذاكرين اللّه على جميع أحوالهم والمتفكرين في الخلق ، دلّ على أن غيرهم من أهل الغفلة والجهالة يذهبون إلى خلاف هذه المقالة ، فنزهوه تعالى عن ما يقول أولئك المبطلون مَن ما أشار إليه تعالى في قوله : لاعبين ، وفي قوله :{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } واعترض بهذا التنزيه المتضمن براءة اللّه من جميع النقائص وأفعال المحدثين . بين ذلك الإقرار وبين رغبتهم إلى ربهم بأن يقيهم عذاب النار ، ولم يكن لهم همّ في شيء من أحوال الدنيا ، ولا اكتراث بها ، إنما تضرّعوا في سؤال وقايتهم العذاب يوم القيامة . وهذا السؤال هو نتيجة الذكر والفكر والإقرار والتنزيه . والفاء في : فقنا للعطف ، وترتيب السؤال على الإقرار المذكور . وقيل : لترتيب السؤال على ما تضمنه سبحان من الفعل ، أي : نزهناك عما يقول الجاهلون فقنا . وأبعد من ذهب إلى أنه للترتيب على ما تضمن النداء . ١٩٢ربنا إنك من . . . . . {رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } هذه استجارة واستعادة . أي : فلا تفعل بنا ذلك ، ولا تجعلنا ممن يعمل بعملها . ومعنى أخزيته : ففضحته . من خزى الرجل يخزى خزياً ، إذا افتضح . وخزاية إذا استحيا الفعل واحد واختلف في المصدر فمن الافتضاح خزي ، ومن الاستحياء خزاية . ومن ذلك { وَلاَ تُخْزُونِ فِى ضَيْفِى } أي لا تفضحون . وقيل : المعنى أهنته . وقال المفضل : أهلكته . ويقال : خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً ، والرباعي أكثر وأفصح . وقال الزجاج : المخزى في اللغة هو المذل المحقور بأمر قد لزمه ، يقال : أخزيته ألزمته حجة أذللته معها . وقال أنس وسعيد ، وقتادة ، ومقاتل ، وابن جريج ، وغيرهم : هي إشارة إلى من يخلد في النار ، أما من يخرج منها بالشفاعة والإيمان فليس بمخزي . وقال جابر بن عبد اللّه وغيره : كل من دخل النار فهو مخزى وإن خرج منها ، وإنّ في دون ذلك لخزياً ، واختاره ابن جريج وأبو سليمان الدمشقي . {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } هو من قول الداعين . وقال ابن عباس : الظالمون هنا هم الكافرون ، وهو قول جمهور المفسرين . وقد صرح به في قوله :{ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } وقوله :{ إِنَّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ويناسب هذا التفسير أن يكون ما قبله فيمن يخلد في النار ، لأن نفي الناصر إما بمنع أو شفاعة مختص بالكفار ، وأما المؤمن فاللّه ناصره والرسول صلى اللّه عليه وسلم شافعه ، وبعض المؤمنين يشفع لبعض كما ورد في الحديث . وقال الزمخشري : وما للظالمين اللام إشارة إلى من يدخل النار ، وإعلام بأن من يدخل النار ، فلا ناصر له بشفاعة ولا غيرها انتهى . وهو على طريقة الاعتزال أنَّ من يدخل النار لا يخرج منها أبداً ، سواء كان كافراً أم فاسقاً ، ومن مفعوله لفعل الشرط . وحكى بعض المعربين ما نصه ، وأجاز قوم أن يكون من منصوباً بفعل دل عليه جواب الشرط وهو : فقد أخزيته . وأجاز آخرون أن يكون من مبتدأ ، والشرط وجوابه الخير انتهى . أما القول الأول فصادر عن جاهل بعلم النحو ، وأما الثاني فإعراب من مبتدأ في غاية الضعف . وأما إدخاله جواب الشرط في الخبر مع فعل الشرط فجهالة . ومن أعظم وزراً ممن تكلم في كتاب اللّه بغير علم . ١٩٣ربنا إننا سمعنا . . . . . {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءامِنُواْ بِرَبّكُمْ فَئَامَنَّا } سمع إن دخل على مسموع تعدي لواحد نحو : سمعت كلام زيد ، كغيره من أفعال الحواس . وإن دخل على ذات وجاء بعده فعل أو اسم في معناه نحو : سمعت زيداً يتكلم ، وسمعت زيداً يقول كذا ، ففي هذه المسألة خلاف . منهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم إن كان قبله نكرة كان صفة لها ، أو معرفة كان حالاً منها . ومنهم من ذهب إلى أن ذلك الفعل أو الاسم هو في موضع المفعول الثاني لسمع ، وجعل سمع مما يعدي إلى واحد إن دخل على مسموع ، وإلى اثنين إن دخل على ذات ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي . والصحيح القول الأول ، وهذا مقرر في علم النحو . فعلى هذا يكون ينادي في موضع الصفة لأن قبله نكره ، وعلى مذهب أبي علي يكون في موضع المفعول الثاني . وذهب الزمخشري إلى القول الأول قال : تقول : سمعت رجلاً يقول كذا ، وسمعت زيداً يتكلم ، لتوقع الفعل على الرّجل ، وتحذف المسموع لأنك وصفته بما يسمع ، أو جعلته حالاً عنه ، فأغناك عن ذكره . ولولا الوصف أو الحال لم يكن منه بدٌّ . وإن يقال : سمعت كلام فلان ، أو قوله انتهى كلامه . وقوله : ولولا الوصف أو الحال إلى آخره ليس كذلك ، بل لا يكون وصف ولا حال ، ويدخل سمع على ذات ، لا على مسموع . وذلك إذا كان في الكلام ما يشعر بالمسموع وإن لم يكن وصفاً ولا حالاً ، ومنه قوله تعالى : { هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ } أغني ذكر ظرف الدعاء عن ذكر المسموع . والمنادى هنا هو الرّسول صلى اللّه عليه وسلم. قال تعالى :{ وَدَاعِياً إِلَى اللّه بِإِذْنِهِ }{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبّكَ } قاله ابن جريج وابن زيد وغيرهما : أو القرآن ، قاله : محمد بن كعب القرظي ، قال : لأن كلّ المؤمنين لم يلقوا الرّسول ، فعلى الأول يكون وصفه بالنداء حقيقة ، وعلى الثاني مجازاً ، وجمع بين قوله : منادياً ينادي ، لأنه ذكر الأول مطلقاً وقيد الثاني تفخيماً لشأن المنادى ، لأنه لا منادى أعظم من منادٍ ينادي للإيمان . وذلك أنَّ المنادي إذا أطلق ذهب الوهم إلى مناد للحرب ، أو لإطفاء الثائرة ، أو لإغاثة المكروب ، أو لكفاية بعض النوازل ، أو لبعض المنافع . فإذا قلت : ينادي للإيمان فقد رفعت من شأن المنادي وفخمته . واللام متعلقة بينادي ، ويعدي نادي ، ودعا ، وندب باللام وبالي ، كما يعدي بهما هدي لوقوع معنى الاختصاص ، وانتهاء الغاية جميعاً . ولهذا قال بعضهم : إن اللام بمعنى إلى . لما كان ينادي في معنى يدعو ، حسن وصولها باللام بمعنى : إلى . وقيل : اللام لام العلة ، أي لأجل الإيمان . وقيل : اللام بمعنى الباء ، أي بالإيمان . والسماع محمول على حقيقته ، أي سمعنا صوت مناد . قيل : ومن جعل المنادي هو القرآن ، فالسماع عنده مجاز عن القبول ، وأن مفسرة التقدير : أنْ آمنوا . وجوز أن تكون مصدرية وصلت بفعل الأمر ، أي : بأن آمنوا . فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب ، وعلى الثاني لها موضع وهو الجر ، أو النصب على الخلاف . وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول ، وتسبيب الإيمان عن السماع من غير تراخ ، والمعنى : فآمنا بك أو بربنا . {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفّرْ عَنَّا سَيّئَاتِنَا } قال ابن عباس : الذنوب هي الكبائر ، والسيئات هي الصغائر . ويؤيده :{ إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئَاتِكُمْ } وقيل : الذنوب ترك الطاعات ، والسيئات فعل المعاصي . وقيل : غفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض ، لكنه كرر للتأكيد ، ولأنها مناح من الستر وإزالة حكم الذنوب بعد حصوله ، والغفران والتكفير بمعنى ، والذنوب والسيئات بمعنى ، وجمع بينهما تأكيداً ومبالغة ، وليكون في ذلك إلحاج في الدعاء . فقد روى : { إن اللّه يحب الملحين في الدعاء} . وقيل : في التفكير معنى وهو : التغطية ، ليأمنوا الفضوح . والكفارة هي الطاعة المغطية للسيئة ، كالعتق والصيام والإطعام . ورجل مكفر بالسلاح ، أي مغطى . {وَتَوَفَّنَا مَعَ الاْبْرَارِ } جمع بر ، على زن فعل ، كصلف . أو جمع بار على وزن فاعل كضارب ، وأدغمت الراء في الراء . وهم : الطائعون للّه ، وتقدم معنى البرّ . وقيل : هم هنا الذين بروا الآباء والأبناء . ومع هنا مجاز عن الصحبة الزمانية إلى الصحبة في الوصف ، أي : توفنا أبراراً معدودين في جملة الأبرار . والمعنى : اجعلنا ممن توفيتهم طائعين لك . وقيل : المعنى احشرنا معهم في الجنة . ١٩٤ربنا وآتنا ما . . . . . {رَبَّنَا وَءاتِنَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } الظاهر أنهم سألوا ربهم أن يعطيهم ما وعدهم على رسله ، ففسر هذا الموعود به بالجنة قاله : ابن عباس . وقيل : الموعود به النصر على الأعداء . وقيل : استغفار الأنبياء ، كاستغفار نوح وابراهيم ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليهم أجمعين ، واستغفار الملائكة لهم . وقوله : على رسلك هو على حذف مضاف ، فقدره الطبري وابن عطية : على ألسنة رسلك . وقدره الزمخشري : على تصديق رسلك . قال : فعلى هذه صلة للوعد في قولك : وعد اللّه الجنة على الطاعة . والمعنى : ما وعدتنا على تصديق رسلك . ألا تراه كيف اتبع ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول ، وقوله : آمنا وهو التصديق . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف أي : ما وعدتنا منزلاً على رسلك ، أو محمولاً على رسلك ، لأنَّ الرسل يحملون ذلك ، فإنما عليه ما حمل انتهى . وهذا الوجه الذي ذكر آخراً أنه يجوز لبس بجائز ، لأن من قواعد النحويين أن الجارّ والمجرور والظرف متى كان العامل فيهما مقيداً فلا بد من ذكر ذلك العامل ، ولا يجوز حذفه ، ولا يحذف العامل إلا إذا كان كوناً مطلقاً . مثال ذلك : زيد ضاحك في الدار ، لا يجوز حذف ضاحك ألبتة . وإذا قلت : زيد في الدار فالعامل كون مطلق يحذف . وكذلك زيد ناج من بني تميم ، لا يجوز حذف ناج . ولو قلت : زيد من بني تميم جاز على تقدير كائن من بني تميم ، والمحذوف فيما جوزه الزمخشري وهو قوله : منزلاً أو محمولاً ، لا يجوز حذفه على ما تقرر في علم النحو . وإذا كان العامل في الظرف أو المجرور مقيداً صار ذلك الظرف أو المجرور ناقصاً ، فلا يجوز أن يقع صلة ، ولا خبر إلا في الحال . ولا في الأصل ، ولاصفة ، ولا حالاً ، ولا معنى سؤالهم : أن يعطيهم ما وعدهم ، أن يثيبهم على الإيمان والطاعة حتى يكونوا ممن يؤتيهم اللّه ما وعد المؤمنين ، ومعلوم أنه تعالى منجز ما وعد ، فسألوا إنجاز ما ترتب على الإيمان . والمعنى : التثبيت على الإيمان حتى يكونوا ممن يستحق برحمة اللّه تعالى إنجاز الوعد . وقيل : هذا السؤال جاء على سبيل الالتجاء إلى اللّه تعالى والتضرّع له ، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستغفرون ، مع علمهم أنهم معفور لهم ، يقصدون بذلك التذلل والتضرع إليه والالتجاء . وقيل : استبطؤوا النصر الذي وعدوا به فسألوا أن يعجل لهم وعده ، فعلى هذا وهو أن يكون الموعود به النصر يكون الإيتاء في الدّنيا ، وعلى ن يكون الجنة يكون الإيتاء في الآخرة . وقرأ الأعمش : على رسلك بإسكان السين . {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } فسر الإخزاء هنا بما فسر في فقد أخزيته . ويوم القيامة معمول لقوله : ولا تخزنا . ويجوز أن يكون من باب الإعمال ، إذ يصلح أن يكون منصوباً بتخزنا وبآتنا ما وعدتنا ، إذا كان الموعود به الجنة . {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } ظاهره أنه تعليل لقوله :{ رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا} و قال ابن عطية : إشارة إلى قوله تعالى :{ يَوْمٌ لاَّ إِلَى اللّه تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ } فهذا وعده تعالى ، وهو دال على أنّ الخزي إنما هو مع الخلود انتهى . وانظر إلى حسن محاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين ، فإنهم خاطبوا اللّه تعالى بلفظة ربنا ، وهي إشارة إلى أنه ربهم أصلحهم وهيأهم للعباد ، فأخبروا أولاً بنتيجة الفكر وهو قولهم :{ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص . وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون اللّه ، ولا يتفكرون في مصنوعاته . ثم ذكروا أيضاً ما أنتج لهم الفكر من إجابة الداعي إلى الإيمان ، إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلاً . ثم سألوا غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإيمان الذي أخبروا به في قولهم : فآمنا . ثم سألوا اللّه الجنة وإنْ لا يفضحهم يوم القيامة ، وذلك هو غاية ما سألوه . وتكرر لفظ ربنا خمس مرات ، كلّ ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة اللّه تعالى بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والإصلاح . وكذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما . وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإلحاح في المسألة ، واعتماد كثرة الطلب من اللّه تعالى . وفي الحديث : { ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام } وقال الحسن : ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم . وهذه مسألة أجمع عليها علماء الأمصار خلافاً لبعض الصوفية ، إذا جاز ذلك فيما يتعلق بالآخرة لا بالدنيا ، ولبعض المتصوفة أيضاً إذ قال اللّه تعالى : { مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاْمْرُ } واجتنب النهي وارتفع عنه كلف طلباته ودعائه . خرج أبو نصر الوايلي السجستاني الحافظ في كتاب الإبانة عن أبي هريرة : { أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة } يعني : أن في خلق السموات والأرض . قال العلماء : ويستحب لمن انتبه من نومه أن يمسح على وجهه ، ويستفتح قيامه بقراءة هذا العشر آيات اقتداء بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما ، ثم يصلي ما كتب له ، فيجمع بين التفكر والعمل ١٩٥فاستجاب لهم ربهم . . . . . {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } روي أن أم سلمة قالت : يا رسول اللّه قد ذكر اللّه الرّجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك ، فنزلت ، ونزل آيات في معناها فيها ذكر النساء . ومعنى استجاب : أجاب ، ويعدى بنفسه وباللام . وتقدم الكلام في { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى } ونقل تاج القرّاء أن أجاب عام ، واستجاب خاص في حصول المطلوب . وقرأ الجمهور : إني على إسقاط الباء ، أي : بأني . وقرأ أبي بأني بالباء . وقرأ عيسى بن عمر : إني بكسر الهمزة ، فيكون على إضمار القول على قول البصريين ، أو على الحكاية بقوله : فاستجاب . لأن فيه معنى القول على طريقة الكوفيين . وقرأ الجمهور : أضيع من أضاع . وقرأ بعضهم : أضيع بالتشديد من ضيَّع ، والهمزة والتشديد فيه للنقل كما قال الشاعر : كمرضعة أولاد أخرى وضيَّعت بنى بطنها هذا الضلال عن القصد ومعنى ذلك : لا أترك جزاء عامل منكم . ومنكم في موضع الصفة ، أي : كائن منكم . وقوله : من ذكر أو أنثى ، قيل : من تبيين لجنس العامل ، فيكون التقدير الذي هو ذكر أو أنثى . ومن قيل : زائدة لتقدم النفي في الكلام . وقيل : مِنْ في موضع الحال من الضمير الذي في العامل في منكم أي : عامل كائن منكم كائناً من ذكر أو أنثى . وقال أبو البقاء : من ذكر أو أنثى بدل من منكم ، بدل الشيء من الشيء ، وهما لعينٍ واحدة انتهى . فيكون قد أعاد العامل وهو حرف الجر ، ويكون بدلاً تفصيلياً من مخاطب . ويعكر على أن يكون بدلاً تفصيلياً عطفه بأو ، والبدل التفصيلي لا يكون إلا بالواو كقوله : وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلت ويعكر على كونه من مخاطب أنَّ مذهب الجمهور : أنه لا يجوز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة ، وأجاز ذلك الأخفش . هكذا أطلق بعض أصحابنا الخلاف وقيده بعضهم بما كان البدل فيه لإحاطة ، فإنه يجوز إذ ذاك . وهذا التقييد صحيح ، ومنه { تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا} فقوله لأوّلنا وآخرنا بدل من ضمير المتكلم في قوله : لنا وقول الشاعر : فما برحت أقدامنا في مقامنا ثلاثتنا حتى أرينا المنائيا فثلاثتنا بدل من ضمير المتكلم . وأجاز ذلك لأنه بدل في معنى التوكيد ، ويشهد لمذهب الأخفش قول الشاعر : بكم قريش كفينا كل معضلة وأم نهج الهدى من كان ضليلا وقول الآخر : وشوهاء تغدو بي إلى صارخ الوغى بمستلئم مثل الفنيق المرجل فقريش بدل من ضمير المخاطب . وبمستلئم بدل من ضمير المتكلم . وقد تجيء أو في معنى الواو إذا عطفت ما لا بد منه كقوله : قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم من بين ملجم مهره أو سافع يريد : وسافع . فكذلك يجوز ذلك هنا في أو ، أن تكون بمعنى الواو ، لأنه لما ذكر عمل عامل دل على العموم ، ثم أبدل منه على سبيل التأكيد ، وعطف على حد الجزئين ما لا بد منه ، لأنه لا يؤكد العموم إلا بعموم مثله ، فلم يكن بدّ من العطف حتى يفيد المجموع من المتعاطفين تأكيد العموم ، فصار نظير من بين ملجم مهره أو سافع . لأنّ بين لا تدخل على شيء واحد ، فلا بد من عطف مصاحب مجرورها . ومعنى بعضكم من بعض : أي مجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد ، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله . فإذا كنتم مشتركين في الأصل ، فكذلك أنتم مشتركون في الأجر وتقبل العمل . فيكون من هنا تفيد التبعيض الحقيقي ، ويشير بذلك الاشتراك الأصلي إلى الاشتراك في الأجر على حدّ واحد . وقيل : معناه بعضكم من بعض في الدين والنصرة ، والمعنى : أن وصف الإيمان يجمعهم ، كما جاء { المسلمون تتكافاً دماؤهم} وقيل : معناه الذكور من الإناث ، والإناث من الذكور ، فكذلك الثواب . فكما اشتركوا في هذه البعضية كذلك اشتركوا في الأجر والثواب . ومحصول معنى هذه الجملة : أنه جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجال فيما وعد اللّه به عباده العاملين ، وقد تقدّم ذكر سبب نزولها وهو : سؤال أم سلمة وخرّجه الحاكم في صحيحه . {فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى } لما ذكر تعالى أنه لا يضيع عمل عاملٍ ، ذكرَ مَنْ عمل الأعمال السنية التي يستحق بها أن لا يضيع عمله ، وأن لا يترك جزاؤه . فذكر أولاً الهجرة وهي : الخروج من الوطن الذي لا يمكن إقامة دينه فيه إلى المكان الذي يمكن ذلك فيه ، وهذا من أصعب شيء على الإنسان ، إذ هو مفارقة المكان الذي ربا فيه ونشأ مع أهله وعلى طريقتهم ، ولولا نوازع الغوى المربى على وازع النشأة ما أمكنه ذلك . ألا ترى لقول الشاعر هما لابن الرومي : وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا وقال ابن الصفي رفاعة بن عاصم الفقعسي : أحب بلاد اللّه ما بين منعج إليّ وسلمى أن يصوب سحابها بلاد بها نيطت عليّ تمائمي وأوّل أرض مسّ جلدي ترابها بها طال تجراري ردائي حقبة وزينب ريّا الحجل درم كعابها واسم الهجرة وفضلها الخاص قد انقطع بعد الفتح ، ولكنّ المعنى باق إلى يوم القيامة . وقد تقدّم معنى المفاعلة في هاجر ، ثم ذكر الإخراج من الديار وهو : أنهم ألجئوا واضطروا إلى ذلك ، وفيه إلزام الذنب للكفار . والمعنى : أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء عشرة الكفار وقبيح أفعالهم معهم ، كما قال تعالى : { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّه } وإذا كان الخروج برأي الإنسان وقوة منه على الأعداء جاء الكلام بنسبة الخروج إليه ، فقيل : خرج فلان ، قال معناه : ابن عطية . قال : فمن ذلك إنكار النبي صلى اللّه عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده . وردني إلى اللّه من طردته كل مطرّد فقال له الرسول صلى اللّه عليه وسلم : { أنت طرّدتني كل مطرد } إنكاراً عليه . ومن ذلك قول كعب بن زهير : في عصبة من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا زالوا فما زال انكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل انتهى . ثم ذكر الإذابة في سبيل اللّه ، والمعنى : في دين اللّه . وبدأ أولاً بالخاص وهي الهجرة وكانت تطلق على الهجرة إلى المدينة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعم من الهجرة وهو الإخراج من الديار . فقد يخرج إلى الهجرة إلى المدينة أو إلى غيرها كخروج من خرج إلى الحبشة ، وكخروج أبي جندل إذ لم يترك يقيم بالمدينة . وأتى ثالثاً بذكر الإذاية وهي أعم من أن تكون بإخراج من الديار أو غير ذلك من أنواع الأذى ، وارتقى بعد هذه الأوصاف السنية إلى رتبة جهاد من أخرجه ومقاومته واستشهاده في دين اللّه ، فجمع بين رتب هذه الأعمال من تنقيص أحواله في الحياة لأجل دين اللّه بالمهاجرة ، وإخراجه من داره وإذايته في اللّه ، ومآله أخيراً إلى إفنائه بالقتل في سبيل اللّه . والظاهر : الإخبار عن مَن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي بعد ، ويجوز أن يكون ذلك من عطف الصلاة . والمعنى : اختلاف الموصول لا اتحاده ، فكأنه قيل : فالذين هاجروا ، والذين أخرجوا والذين أوذوا ، والذين قاتلوا ، والذين قتلوا ، ويكون الخبر عن كل من هؤلاء . وقرأ جمهور السبعة : وقاتلوا وقتلوا ، وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا وقاتلوا يبدآن بالمبني للمفعول ، ثم بالمبني للفاعل ، فتتخرج هذه القراءة على أن الواو لا تدل على الترتيب ، فيكون الثاني وقع أولاً ويجوز أن يكون ذلك على التوزيع فالمعنى : قتل بعضهم وقاتل باقيهم . وقرأ عمر بن عبد العزيز : وقتلوا وقتلوا بغير ألف ، وبدأ ببناء الأول للفاعل ، وبناء الثاني للمفعول ، وهي قراءة حسنة في المعنى ، مستوفية للحالين على الترتيب المتعارف . وقرأ محارب بن دثار : وقتلوا بفتح القاف وقاتلوا . وقرأ طلحة بن مصرف : وقتلوا وقاتلوا بضم قاف الأولى ، وتشديد التاء ، وهي في التخريج كالقراءة الأولى . وقرأ أبو رجاء والحسن : {وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } بتشديد التاء والبناء للمفعول ، أي قطعوا في المعركة . {لاكَفّرَنَّ عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ } لأكفرن : جواب قسم محذوف ، والقسم وما تلقى به خبر عن قوله :{ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ } وفي هذه الآية ونظيرها من قوله :{ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللّه مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنَّهُمْ }{ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } وقول الشاعر جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين وإذا أتاك فلات حين مناص رد على أحمد بن يحيى ثعلب إذ زعم أن الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ لا تكون قسمية . {ثَوَاباً مّن عِندِ اللّه وَاللّه عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } انتصب ثواباً على المصدر المؤكد ، وإن كان الثواب هو المثاب به ، كما كان العطاء هو المعطى . واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء ، فوضع ثواباً موضع إثابة ، أو موضع تثويباً ، لأنَّ ما قبله في معنى لأثيبنهم . ونظيره صنع اللّه ووعد اللّه . وجوّز أن يكون حالاً من جنات أي : مثاباً بها ، أو من ضمير المفعول في :{ وَلاَدْخِلَنَّهُمْ } أي مثابين . وأن يكون بدلاً من جنات على تضمين ، ولأدخلنهم معنى : ولأعطينهم . وأن يكون مفعولاً بفعل محذوف يدل عليه المعنى أي : يعطيهم ثواباً . وقيل : انتصب على التمييز . وقال الكسائي : هو منصوب على القطع ، ولا يتوجه لي معنى هذين القولين هنا . ومعنى : من عند اللّه ، أي من جهة فضل اللّه ، وهو مختص به ، لا يثيبه غيره ، ولا يقدر عليه . كما تقول عندي ما تريد ، تريد اختصاصك به وتملكه ، وإن لم يكن بحضرتك . وأعربوا عنده حسن الثواب مبتدأ ، وخبراً في موضع خبر المبتدأ الأول . والأحسن أن يرتفع حسن على الفاعلية ، إذ قد اعتمد الظرف بوقوعه خبراً فالتقدير : واللّه مستقر ، أو استقرّ عنده حسن الثواب . قال الزمخشريّ : وهذا تعليم من اللّه كيف يدعى ، وكيف يبتهل إليه ويتضرّع ، وتكرير ربنا من باب الابتهال ، وإعلام بما يوجب حسن الإجابة وحسن الإثابة من احتمال المشاق في دين اللّه والصبر على صعوبة تكاليفة ، وقطع لأطماع الكسالى المتمنين عليه ، وتسجيل على من لا يرى الثواب موصولاً إليه بالعمل بالجهل والغباوة انتهى . وآخر كلامه إشارة إلى مذهبه المعتزلة وطعن على أهل السنة والجماعة . ١٩٦لا يغرنك تقلب . . . . . {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ } قيل : نزلت في اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال قاله : ابن عباس . وقال أيضاً : هم أهل مكة . وروي أنَّ ناساً من المؤمنين كانوا يرون ما كانوا فيه من الخصب والرخاء ولين العيش ، فيقولون : إنّ أعداء اللّه فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد . وقال مقاتل : في مشركي العرب والذين كفروا لفظ عام ، والكاف للخطاب . فقيل : لكل سامع . وقيل : هو خطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والمراد أمته . قاله : ابن عطية . وقال : نزلت لا يغرنك في هذه الآية منزلة لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك ، وذلك أن المغتر فارح بالشيء الذي يغتر به . فالكفار مغترون بتقلبهم ، والمؤمنون مهتمون به . لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أنَّ هذا الإملاء للكفار إنما هو خير لهم ، فيجيء هذا جنوحاً إلى حالهم ، ونوعاً من الاغترار ، ولذلك حسنت لا يغرنك . ونظيره قول عمر لحفصة : { لا يغرنك أن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم } المعنى : لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم انتهى . وقال الزمخشري : لا يغرنك الخطاب لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ،أو لكل أحد . أي : لا تنظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق ، والمضطرب ودرك العاجل وإصابة حظوظ الدنيا ، ولا نغترر بظاهر ما ترى من تبسطهم في الأرض وتصرفهم في البلاد . { فإن قلت} : كيف جاز أن يغتر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بذلك حتى ينهى عنه وعن الاغترار به ؟ { قلت} : فيه وجهان : أحدهما أن مدرة القوم ومقدمهم يخاطب بشيء فيقوم خطابه مقام خطابهم جميعاً ، فكأنه قيل : لا يغرنكم . والثاني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان غير مغرور بحالهم ، فأكد عليه ما كان وثبت على التزامه كقوله : { وَلاَ تَكُنْ مّنَ الْكَافِرِينَ }{ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ }{ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ } وهذا في النهي نظير قوله في الأمر : { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }{ خَبِيراً يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ ءامِنُواْ } وقد جعل النهي في الظاهر للتقلب ، وهو في المعنى للمخاطب . وهذا من تنزيل السبب منزلة المسبب ، لأن التقلب لو غره لاغتر به ، فمنع السبب ليمتنع المسبب انتهى كلامه . وملخص الوجهين اللذين ذكرهما : أن يكون الخطاب له والمراد أمّته ، أوله على جهة التأكيد والتنبيه ، وإن كان معصوماً من الوقوع فيه كما قيل : قد يهزّ الحسام وهو حسام ويجب الجواد وهو جواد وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب : لا يغرنك ولا يصدنك ولا يغرنكم وشبهه بالنون الخفيفة . وتقلبهم : هو تصرفهم في التجارات قاله : ابن عباس ، والفراء ، وابن قتيبة ، والزجاج . أو ما يجري عليهم من النعم قاله : عكرمة ، ومقاتل . أو تصرّفهم غير مأخوذين بذنوبهم قاله : بعض المفسرين . ١٩٧متاع قليل ثم . . . . . {مَتَاعٌ قَلِيلٌ } أي ذلك التقلب والتبسط شيء قليل متعوا به ، ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد . وقلته باعتبار انقضائه وزواله ، وروي :{ مَا الدُّنْيَا فِى الاْخِرَةِ إِلاَّ مّثْلُ مَا يَجْعَلْ أَحَدَكُمُ مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ } أخرجه الترمذي . وروي :{ مَا } أو باعتبار ما فاتهم من نعيم الآخرة ، أو باعتبار ما أعدّ اللّه للمؤمنين من الثواب . {اللّه وَاللّه عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } ثم المكان الذي يأوون إليه إنما هو جهنم ، وعبر بالمأوى إشعاراً بانتقالهم عن الأماكن التي تقلبوا فيها وكان البلاد التي تقلبوا فيها إنما كانت لهم أماكن انتقال من مكان إلى مكان ، لا قرار لهم ولا خلود . ثم المأوى الذي يأوون إليه ويستقرّون فيه هو جهنم . {وَبِئْسَ الْمِهَادُ } أي وبئس المهاد جهنم . وقال الحطيئة : أطوّف ما أطوى ثم آوى إلى بيت قعيدته لكاع ١٩٨لكن الذين اتقوا . . . . . {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } لما تضمن ما تقدم إن ذلك التقلب والتصرف في البلاد هو متاع قليل ، وإنهم يأوون بعد إلى جهنم ، فدل على قلّة ما متعوا به ، لأنّ ذلك منقض بانقضاء حياتهم ، ودلّ على استقرارهم في النار . استدرك بلكن الأخبار عن المتقين بمقابل ما أخبر به عن الكافرين ، وذلك شيئان : أحدهما مكان استقرار وهي الجنات ، والثاني ذكر الخلود فيها وهو الإقامة دائماً والتمتع بنعيمها سرمداً . فقابل جهنم بالجنات ، وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم ، فوقعت لكن هنا أحسن موقع ، لأنه آل معنى الجملتين إلى تكذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين ، فهي واقعة بين الضدين . وقرأ الجمهور : لكنْ خفيفة النون . وقرأ أبو جعفر : بالتشديد ، ولم يظهر لها عمل ، لأن اسمها مبني . {نُزُلاٍ مّنْ عِندِ اللّه} النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى . ويجوز تسكين راية ، وبه قرأ : الحسن ، والنخعي ، ومسلمة بن محارب ، والأعمش . وقال الشاعر : وكنا إذا الجبار بالجيش خافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا قال ابن عباس : النزل الثواب ، وهي كقوله : { ثَوَاباً مّن عِندِ اللّه } وقال ابن فارس : النزل ما يهيأ للنزيل ، والنزيل الضيف . وقيل : النزل الرزق وما يتغذى به . ومنه :{ فَنُزُلٌ مّنْ حَمِيمٍ } أي فغذاؤه . ويقال : أقمت للقوم نزلهم أي ما يصلح أن ينزل عليه من الغذاء ، وجمعه أنزال . وقال الهروي : الأنزال التي سويت ، ونزل عليها . ومعنى من عند اللّه : أي لا من عند غيره ، وسماه نزلاً لأنه ارتفع عنهم تكاليف السعي والكسب ، فهو شيء مهيأ يهيأ لهم لا تعب عليهم في تحصيله هناك ، ولا مشقة . كالطعام المهيأ للضيف لم يتعب في تحصيله ، ولا في تسويته ومعالجته . وانتصاب نزلاً قالوا : إما على الحال من جنات لتخصصها بالوصف ، والعامل فيها العامل في لهم . وإما بإضمار فعل أي : جعلها نزلاً . وإمّا على المصدر المؤكد فقدره ابن عطية : تكرمة ، وقدره الزمخشري : رزقاً أو عطاء . وقال الفرّاء : انتصب على التفسير كما تقول : هو لك هبة وصدقة انتهى . وهذا القول راجع إلى الحال . {وَمَا عِندَ اللّه خَيْرٌ لّلابْرَارِ } ظاهره حوالة الصلة على ما تقدم من قوله : نزلاً من عند اللّه . والمعنى : أن الذي أعده اللّه للأبرار في الآخرة خير لهم ، فيحتمل أن يكون المفضل عليه بالنسبة للأبرار أي خير لهم مما هم فيه في الدنيا ، وإليه ذهب : ابن مسعود . وجاء { وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرحِمِينَ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا } ويحتمل أن يكون بالنسبة إلى الكفار ، أي : خير لهم مما يتقلب فيه الكفار من المتاع الزائل . وقيل : خير هنا ليست للتفضيل ، كما أنها في قوله تعالى :{ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } والأظهر ما قدمناه . وللأبرار متعلق بخير ، والأبرار هم المتقون الذين أخبر عنهم بأن لهم جنات . وقيل : فيه تقديم وتأخير . أي الذي عند اللّه للأبرار خير لهم ، وهذا ذهول عن قاعدة العربية من أن المجرور إذ ذاك يتعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة للموصول ، فيكون المجرور داخلاً في حيز الصلة ، ولا يخبر عن الموصول إلا بعد استيفائه صلته ومتعلقاتها . ١٩٩وإن من أهل . . . . . {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّه وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } لما مات أصمحة النجاشي ملك الحبشة . ومعنى أصمحة بالعربية عطية ، قال سفيان بن عيينة وغيره : { صلى عليه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم } فقال قائل : يصلي عليه العلج النصراني وهو في أرضه فنزلت ، قاله : جابر بن عبد اللّه ، وابن عباس ، وأنس . وقال الحسن وقتادة : في النجاشي وأصحابه . وقال ابن عباس فيما روى عنه أبو صالح : في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وبه قال : مجاهد . وقال ابن جريج وابن زيد ومقاتل : في عبد اللّه بن سلام وأصحابه . وقال عطاء : في أربعين من نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم ، كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، ومِن في لمن الظاهر أنها موصولة ، وأجيز أن تكون نكرة موصوفة أي : لقوماً . والذي أنزل إلينا هو القرآن ، والذي أنزل إليهم هو كتابهم . {خَاشِعِينَ للّه لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَاتِ اللّه ثَمَناً قَلِيلاً } كما اشترت بها أحبارهم الذين لم يؤمنوا . وانتصاب خاشعين على الحال من الضمير في يؤمن ، وكذلك لا يشترون هو في موضع نصب على الحال . وقيل : حال من الضمير في إليهم ، والعامل فيها أنزل . وقيل : حال من الضمير في لا يشترون ، وهما قولان ضعيفان . ومن جعل من نكرة موصوفة ، يجوز أن يكون خاشعين ولا يشترون صفتين للنكرة . وجمع خاشعين على معنى من كما جمع في وما أنزل إليهم . وحمل أولاً على اللفظ في قوله : يؤمن ، فأفرد وإذا اجتمع الحملان ، فالأولى أن يبدأ بالحمل على اللفظ . وأتى في الآية بلفظ يؤمن دون آمن ، وإن كان إيمان من نزل فيهم قد وقع إشارة إلى الديمومة والاستمرار . ووصفهم بالخشوع وهو التذلل والخضوع المنافي للتعاظم والاستكبار ، كما قال تعالى : { وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} {أُوْلئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ } أي ثواب إيمانهم ، وهذا الأجر مضاعف مرتين بنص الحديث الصحيح :{ وَإِنَّ مِنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَهْلِ الْكِتَابِ يُؤْتَى أَجْرُهُ مَّرَّتَيْنِ } يضاعف لهم الثواب بما تضاعف منهم من الأسباب . وعند ظرف في موضع الحال ، والعامل فيه العامل في لهم ، ومعنى عند ربهم : أي في الجنة . {إِنَّ اللّه سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي سريع الإتيان بيوم القيامة وهو يوم الحساب . والمعنى : أنَّ أجرهم قريب إتيانه أو سريع حسابه لنفوذ علمه ، فهو عالم بما لكل عامل من الأجر . وتقدم تفسير هذه الجملة مستوفى . ٢٠٠يا أيها الذين . . . . . {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ختم اللّه تعالى هذه السورة بهذه الوصاية التي جمعت الظهور في الدنيا على العدو ، والفوز بنعيم الآخرة ، فأمره تعالى بالصبر والمصابرة والرباط . فقيل : اصبروا وصابروا بمعنى واحد للتأكيد . وقال الحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وابن جريج : اصبروا على طاعة اللّه في تكاليفه ، وصابروا أعداء اللّه في الجهاد ، ورابطوا في الثغور في سبيل اللّه . أي : ارتبطوا الخيل كما يرتبطها أعداؤكم . وقال أبي ومحمد بن كعب القرظي : هي مصابرة وعد اللّه بالنصر ، أي : لا تسأموا وانتظروا الفرج . وقيل : رابطوا ، استعدوا للجهاد كما قال :{ وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مّن قُوَّةٍ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ} وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : الرباط انتظاراً الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن الرسول صلى اللّه عليه وسلم غزو مرابط فيه . واحتج بقوله عليه السلام : { ألا أدلكم على ما يمحو اللّه به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثاً } فعلى هذا لا يكون رابطوا من باب المفاعلة . قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل اللّه ، أصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللقطة مأخوذة من الربط . وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل اللّه ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول . والمرابط في سبيل اللّه عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما قاله : ابن المواز ، ورواه . فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك فهم وإن كانوا حماة ، ليسوا بمرابطين انتهى كلامه . وقال الزمخشري : وصابروا أعداء اللّه في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ، لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً . والمصابرة باب من الصبر ، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تحقيقاً لشدته وصعوبته . ورابطوا : وأقيموا في الثغور رباطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو . قال اللّه تعالى : فعلى هذا لا يكون رابطوا من باب المفاعلة . قال ابن عطية : والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل اللّه ، أصلها من ربط الخيل ، ثم سمى كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً ، فارساً كان أو راجلاً ، واللقطة مأخوذة من الربط . وقول النبي صلى اللّه عليه وسلم ؛ فذلكم الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل اللّه ، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية ، والرباط اللغوي هو الأول . والمرابط في سبيل اللّه عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما قاله : ابن المواز ، ورواه . فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هناك فهم وإن كانوا حماة ، ليسوا بمرابطين انتهى كلامه . وقال الزمخشري : وصابروا أعداء اللّه في الجهاد أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ، لا تكونوا أقل صبراً منهم وثباتاً . والمصابرة باب من الصبر ، ذكر بعد الصبر على ما يجب الصبر عليه تحقيقاً لشدته وصعوبته . ورابطوا : وأقيموا في الثغور رباطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو . قال اللّه تعالى :{ وَمِن رّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّه وَعَدُوَّكُمْ } وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم : { من رابط يوماً وليلة في سبيل اللّه كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة } انتهى كلام الزمخشري . وفي البخاري قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : { رباط يوم في سبيل اللّه خير من الدنيا وما فيها } وفي مسلم : { رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه رزقه وأمن الفتان } وفي سنن أبي داود قال : { كل الميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتاني القبر} . وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والبديع الاستعارة . عبر بأخذ الميثاق عن التزامهم أحكام ما أنزل عليهم من التوراة والإنجيل ، وبالنبذ وراء ظهورهم عن ترك عملهم بمقتضى تلك الأحكام ، وباشتراء ثمن قليل عن ما تعوضوه من الحطام على كتم آيات اللّه ، وبسماع المنادي إن كان القرآن عن ما تلقوه من الأمر والنهي والوعد والوعيد بالاستجابة عن قبول مسألتهم ، وبانتفاء التضييع عن عدم مجازته على يسير أعمالهم ، وبالتقلب عن ضربهم في الأرض لطلب المكاسب ، وبالمهاد عن المكان المستقر فيه ، وبالنزل عما يعجل اللّه لهم في الجنة من الكرامة ، وبالخشوع الذي هو تهدم المكان وتغير معالمه عن خضوعهم وتذللّهم بين يديه ، وبالسرعة التي هي حقيقة في المشي عن تعجيل كرامته . قيل : ويحتمل أن يكون الحساب استعير للجزاء ، كما استعير { ولم أدر ما حسابيه} لأن الكفار لا يقام لهم حساب كما قال تعالى : { فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً } والطباق في : لتبيينه للناس ولا تكتمونه ، وفي السموات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، فالسماء جهة العلو والأرض جهة السفل ، والليل عبارة عن الظلمة والنهار عبارة عن النور ، وفي : قياماً وقعوداً ومن : ذكر أو أنثى . والتكرار : في لا تحسبن فلا تحسبنهم ، وفي : ربنا في خمسة مواضع ، وفي : فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا إن كان المعنى واحد وفي : ما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وفي : ثواباً وحسن لثواب . والاختصاص في : لأولي الألباب ، وفي : وما للظالمين من أنصار ، وفي : توفنا مع الأبرار ، وفي : ولا تحزنا يوم القيامة ، وفي : وما عند اللّه خير للأبرار . والتجنيس المماثل في : أن آمنوا فآمنا ، وفي : عمل عامل منكم . والمغاير في : منادياً ينادي . والإشارة في : ما خلقت هذا باطلاً ، والحذف في مواضع . |
﴿ ٠ ﴾