٢

الم

التوراة : اسم عبراني ، وقد تكلف النحاة في اشتقاقها وفي وزنها وذلك بعد تقرير النحاة أن الأسماء الأعجمية لا يدخلها اشتقاق ، وأنها لا توزن ، يعنون اشتقاقاً عربياً . فأمّا اشتقاق : التوراة ، ففيه قولان :

أحدهما : إنها من : ورى الزند يري ، إذا قدح وظهر منه النار ، فكأن التوراة ضياء من الظلال ، وهذا الاشتقاق قول الجمهور . وذهب أبو فيد مؤرج السدوسي إلى أنها مشتقة من : ورَّى ، كما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أراد سفراً ورى بغيره ، لأن أكثر التوراة تلويح

وأما وزنها فذهب الخليل ، وسيبويه ، وسائر البصريين إلى أن وزنها : فوعلة ، والتاء بدل من الواو ، كما أبدلت في : تولج ، فالأصل فيها ووزنه : وولج ، لأنهما من ورى ، ومن ولج . فهي : كحوقلة ، وذهب الفراء إلى أن وزنها : تفعلة ، كتوصية . ثم أبدلت كسرة العين فتحة والياء ألفا . كما قالوا في : ناصية ، وجارية : ناصاه وجاراه .

وقال الزجاج : كأنه يجيز في توصية توصاه ، وهذا غير مسموع وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها : تفعلة ، بفتح العين من : وريت بك زنادي ، وتجوز إمالة التوراة .

وقد قرىء بذلك على ما سيأتي ان شاء اللّه تعالى .

الإنجيل : اسم عبراني أيضاً ، وينبغي أن لا يدخله اشتقاق ، وأنه لا يوزن ، وقد قالوا : وزنه فعيل . كإجفيل ، وهو مشتق من النجل ، وهو الماء الذي ينز من الأرض . قال الخليل : استنجلت الأرض نجالاً ، وبها نجال ، إذا خرج منها الماء . والنجل أيضاً : الولد والنسل ، قاله الخليل ، وغيره . ونجله أبوه أي : ولده .

وحكى أبو القاسم الزجاجي في نوادره : أن الولد يقال له : نجل ، وأن اللفظة من الأضداد ، والنجل أيضاً : الرمي بالشيء .

وقال الزجاج : الإنجيل مأخوذ من النجل ، وهو الأصل ، فهذا ينحو إلى ما حكاه الزجاجي .

قال أبو الفتح : فهو من نجل إذا ظهر والده ، أو من ظهور الماء من الأرض ، فهو مستخرج إما من اللوح المحفوظ ،

وإما من التوراة .

وقيل : هو مشتق من التناجل ، وهو التنازع ، سمي بذلك لتنازع الناس فيه .

وقال الزمخشري : التوراة والإنجيل اسمان أعجميان ، وتكلف أشتقاقهما من الوري والنجل ، ووزنهما متفعلة وإفعيل : إنما يصحح بعد كونهما عربيين . إنتهى . وكلامه صحيح ، إلاَّ أن في كلامه إستدراكاً في قوله : متفعلة ، ولم يذكر مذهب البصريين في أن وزنها : فوعلة ، ولم ينبه في : تفعلة ، على أنها مكسورة العين ، أو مفتوحتها .

وقيل : هو مشتق من نجل العين ، كأنه وسع فيه ما ضيق في التوراة .

الإنتقام : افتعال من النقمة ، وهو السطوة والأنتصار .

وقيل : هي المعاقبة على الذنب مبالغة في ذلك ،

ويقال : نقم ونقم إذا أنكر ، وانتقم عاقب .

صور : جعل له صورة . قيل : وهو بناء للمبالغة من صار يصور ، إذا أمال ، وثنى إلى حال ، ولما كان التصوير إمالة إبلى حال وإثباتاً فيها ، جاء بناؤه على المبالغة . والصورة : الهيئة يكون عليها الشيء بالتأليف . وقال المروزي : التصوير إنه ابتداء مثال من غير أن يسبقه مثله .

الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس { لاِوْلِى الاْبْصَارِ} وقال الراغب : الزيغ : الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين ، وزاغ وزال وما يتقارب ، لكن زاغ لا يقال إلاَّ فيما كان من حق إلى باطل .

التأويل : مصدر أوَّل ، ومعناه : آخر الشيء ومآله ، قاله الراغب . وقال غيره : التأويل المرد والمرجع . قال : أؤول الحكم على وجهه

ليس قضاى بالهوى الجائر

الرسوخ : الثبوت . قال : لقد رسخت في القلب منيّ مودة

لليلى أبت أيامها أن تغيّرا

الهبة : العطية المتبرع بها ، يقال : وهب يهب هبة ، وأصله : أن يأتي المضارع على يفعِل ، بكسر يالعين . ولذلك حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ، لكن لما كانت العين حرف حلق فتحت مع مراعاة الكسرة المقدرة ، وهو نحو : وضع يضع ، إلاَّ أن

هذا فتح لكون لامه حرف حلق ، والأصل فيهما : يوهب ويوضع . ويكون : وهب ، بمعنى جعل ، ويتعدى إذ ذاك إلى مفعولين ، تقول العرب : وهبني اللّه فداك ، أي : جعلني اللّه فداك . وهي في هذا الوجه لا تتصرف ، فلا تستعمل منها بهذا المعنى إلاَّ الفعل الماضي خاصة .

لدن : ظرف ، وقل أن تفارقها : من ، قاله ابن جني ، ومعناها : ابتداء الغاية في زمان أو مكان ، أو غيره من الذوات غير المكانية ، وهي مبنية عند أكثر العرب ، وإعرابها لغة قيسية ، وذلك إذا كانت مفتوحة اللام مضمومة الدال بعدها النون ، فمن بناها قيل : فلشبها بالحروف في لزوم استعمال واحد ، وامتناع الإخبار بها ، بخلاف : عند ، ولدي . فإنهما يكونان لابتداء الغاية ، وغير ذلك ، ويستعملان فضلة وعمدة ، فالفضلة كثير ، ومن العمدة { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ }{ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقّ } وأوضح بعضهم علة البناء فقال : علة البناء كونها تدل على الملاصقة للشيء وتختص بها . بخلاف : عند ، فإنها لا تختص بالملاصقة ، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف ، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف ، فهي كأنها متضمنة للحرف الذي كان ينبغي أن يوضع دليلاً على القرب . ومثله : ثم ، و : هنا . لأنهما بُنيا لما تضمنا معنى الحرف الذي كان ينبغي أن يوضع ليدل على الإشارة .

من أعربها ، وهم قيس ، فتشبيهاً : بعند ، لكون موضعها صالحاً لعند ، وفيها تسع لغات غير

الأولى : لَدُن ، ولُدْنُ ، ولَدْنٌ ، ولَدِنٌ ، ولَدُنِ ، ولَدٌ ولُدْ ، ولَدٌ ولَتْ . بإبدال الدال تاء ، وتضاف إلى المفرد لفظاً كثيراً ، وإلى الجملة قليلاً . فمن إضافتها إلى الجملة الفعلية قول الشاعر : صريع غوانٍ راقهن ورُقنَه

لدن شب حتى شاب سود الذوائبِ

قوال الآخر : لزمنا لدن سالتمونا وفاقكم

فلا يك منكم للخلاف جنوحُ

ومن إضافتها إلى الجملة الإسمية قول الشاعر : تذكر نعماه لدن أنت يافع

إلى أنت ذو فودين أبيض كالنسر وجاء إضافتها إلى : أن والفعل ، قال :

وليت فلم يقطع لدن أن وليتناقرابة ذي قربى ولا حق مسلم وأحكام لدن كثيرة ذكرت في علم النحو .

الإغناء : الدفع والنفع ، وفلان عظيم الغنى ، أي : الدفع والنفع .

الدأب : العادة . دأب على كذا : واظب عليه وأدمن . قال زهير : لأرتحلنْ بالفجر ثم لأدأبن

إلى الليل إلاَّ أن يعرجني طفل

الذنب : التلو ، لأن العقاب يتلوه ، ومنه الذنب والذنوب لأنه يتبع الجاذب .

{بِسْمِ اللّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الم اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } هذه السورة ، سورة آل عمران ، وتسمى : الزهراء ، والأمان ، والكنز ، والمعينة ، والمجادلة ، وسورة الاستغفارد وطيبة . وهي : مدنية الآيات ، وسبب نزولها فيما ذكره الجمهور : أنه وفد على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وفد نصاري نجران ، وكانوا ستين راكباً ، فيهم أربعة عشر من أشرافهم ، منهم ثلاثة إليهم يؤول أمرهم ، أميرهم : العاقب عبد المسيح ، وصاحب رحلهم : السيد الأيهم ، وعالمهم : أبو حارثة بن علقمة ، أحد بني بكر بن وائد . وذكر من جلالتهم ، وحسن شارتهم وهيئتهم . وأقاموا بالمدينة أياماً يناظرون رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم في عيسى ، ويزعمون تارة أنه اللّه ، وتارة ولد الإله ، وتارة : ثالث ثلاثة . ورسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يذكر لهم أشياء من صفات الباري تعالى ، وانتفاءها عن عيسى ، وهم يوافقونه على ذلك ، ثم أبوا إلاَّ جحوداً ، ثم قالوا : يا محمد ألست تزعم أنه كلمة اللّه وروح منه ؟ قال : { بلى} . قالوا : فحسبنا . فأنزل اللّه فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية منها ، إلى أن دعاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إبلى الإبتهال .

وقال مقاتل : نزلت في اليهود المبغضين لعيسى ، القاذفين لأمّه ، المنكرين لما أنزل اللّه عليه من الإنجيل .

ومناسبة هذه السورة لما قبلها واضحة لأنه ، لما ذكر آخر البقرة { أَنتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } ناسب أن يذكر نصرة اللّه تعالى على الكافرين ، حيث ناظرهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وردّ عليهم بالبراهين الساطعة ، والحجج القاطعة ، فقص تعالى أحوالهم ، وردّ عليهم في اعتقادهم ، وذكر تنزيهه تعالى عما يقولون ، وبداءة خلق مريم وابنها المسيح إلى آخر ما ردّ عليهم ، ولما كان متفتح آية آخر البقرة { الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } فكأن في ذلك الإيمان باللّه وبالكتب ، ناسب ذكر أوصاف اللّه تعالى ، وذكر ما أنزل على رسوله ، وذكر المنزل على غيره صلى اللّه عليهم .

قرأ السبعة : ألم اللّه ، بفتح الميم ، وألف الوصل ساقطة . وروى أبو بكر في بعض طرقه ، عن عاصم : سكون الميم ، وقطع الألف . وذكرها الفراء عن عاصم ، ورويت هذه القراءة عن الحسن ، وعمرو بن عبيد ، والرؤاسي ، والأعمش ، والبرجمي ، وابن القعقاع : وقفوا على الميم ، كما وقفوا على الألف واللام ، وحقها ذلك ، وأن يبدأ بعدها كما تقول : واحد اثنان .

وقرأ أبو حيوة بكسر الميم ، ونسبها ابن عطية إلى الرؤاسي ، ونسبها الزمخشري إلى عمرو بن عبيد ، وقال : توهم التحريك لالتقاء الساكنين ، وما هي بمقبولة ، يعني : هذه القراءة . إنتهى .

وقال غيره : ذلك رديء ، لأن الياء تمنع من ذلك ، والصواب الفتح قراءة جمهور الناس . إنتهى .

وقال الأخفش : يجوز : ألم اللّه ، بكسر الميم لالتقاء الساكنين . قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله .

واختلفوا في فتحة الميم : فذهب سيبويه إلى أنها حركت لالتقاء الساكنين ، كما حركوا : من اللّه ، وهمزة الوصل ساقطة للدرج كما سقطت في نحو : من الرجل ، وكان الفتح أولى من الكسر لأجل الياء ، كما قالوا : أين ؟ كيف ؟ ولزيادة الكسرة قبل الياء ، فزال الثقل . وذهب الفراء إلى أنها حركة نقل من همزة الوصل ، لأن حروف الهجاء ينوي بها الوقف ، فينوي بما بعدها الاستئناف . فكأن الهمزة في حكم الثبات كما في أنصاف الأبيات نحو : لتسمعن وشياً في دياركم

اللّه أكبر : يا ثارات عثماناً

وضعف هذا المذهب بإجماعهم على أن الألف الموصولة في التعريف تسقط في الوصل . وما يسقط لا تلقى حركته ، قاله أبو علي . وقد اختار مذهب الفراء في أن الفتحة في الميم هي حركة الهمزة حين أسقطت للتخفيف الزمخشري ، وأورد أسئلة وأجاب عنها .

فقال :

فإن قلت : كيف جامز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام ، فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها ؟

قلت : ليس هذا بدرج ، لأن ميم في حكم الوقف والسكون ، والهمزة في حكم الثابت . وإنما حذفت تخفيفاً ، وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ، ونظيره قولهم : واحد إثنان ، بالقاء حركة الهمزة على الدال . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وليس جوابه بشيء ، لأنه ادّعى أن الميم حين حركت موقوفة عليها . وأن ذلك ليس بدرج ، بل هو وقف ، وهذا خلاف لما أجمعت العرب والنحاة عليه من أنه لا يوقف على متحرك ألبتة ، سواء كانت حركته إعرابية ، أو بنائية ، أو نقلية ، أو لإلتقاء الساكنين ، أو للحكاية ، أو للاتباع . فلا يجوز في : قد أفلح ، إذا حذفت الهمزة ، ونقلت حركتها إلى دال : قد ، أن تقف على دال : قد ، بالفتحة ، بل تسكنها قولاً واحداً .

وأما قوله : ونظير ذلك قولهم : واحد اثنان بالقاء حركة الهمزة على الدال ، فإن سيبوية ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ، ولم يحك الكسر لغة . فإن صح الكسر فليس واحد موقوفاً عليه ، كما زعم الزمخشري ، ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ، ولكنه موصول بقولهم : إثنان ، فالتقى ساكنان ، دال ، واحد ، و : ثاء ، إثنين ، فكسرت الدال لإلتقائهما ، وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت في الوصل .

وأما ما استدل به الفراء من قولهم : ثلاثة أربعة ، بإلقائهم الهمزة على بالهاء ، فلا دلالة فيه ، لأن همزة أربعة همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها ، وليس كذلك همزة الوصل نحو : من اللّه ، وأيضاً ، فقولهم : ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة ، إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ، ولكن أقرت في الوصل هاء اعتباراً بما آلت إليه في حال مّا ، لا أنها موقوف عليها .

ثم أورد الزمخشري سؤالاً ثانياً . فقال :

فإن قلت : هلا زعمت أنها حركت لإلتقاء الساكنين ؟ .

قلت : لأن إلتقاء الساكنين لا نبالي به في باب الوقف ، وذلك كقولك : هذا إبراهيم ، وداود ، وإسحاق . ولو كان لإلتقاء الساكنين في حال الوقف موجب التحريك لحرك الميمان في ألف لام ميم لإلتقاء الساكنين ، ولما انتظر ساكن آخر . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وهو سؤال صحيح ، وجواب صحيح ، لكن الذي قال : إن الحركة هي لإلتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألف لام ميم في الوقف ، وإنما عنى إلتقاء الساكنين اللذين هما : ميم ميم الأخيرة . و : لام التعريف ، كالتقاء نون : من ، ولام : الرجل ، إذا

قلت : من الرجل .

ثم أورد الزمشخري سؤالاً ثالثاً ، فقال :

فإن قلت : إنما لم يحركوا لإلتقاء الساكنين في ميم ، لأنهم أرادوا الوقف ، وأمكنهم النطق بساكنين ، فإذا جاء بساكن ثالث لم يمكن إلاَّ التحريك فحركوا ؟

قلت : الدليل على أن الحركة ليست الملاقاة الساكن أنهم كان يمكنهم أن يقولوا : واحد اثنان ، بسكون الدال مع طرح الهمزة ، فجمعوا بين ساكنين ، كما قالوا : أصيم ومديق ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ،

وليست لالتقائ الساكنين . إنتهى هذا السؤال وجوابه . وفي سؤاله تعمية في قوله :

فإن قلت : إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ؟ ويعني بالساكنين : الياء والميم في ميم ، وحيئذ يجيء التعليل بقوله : لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين ، يعني الياء والميم ، ثم قال : فإن جاء بساكن ثالث ، يعني لام التعريف ، لم يمكن إلاَّ التحريك ، يعني في الميم ، فحركوا يعني : الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف ، إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن ، وهو لا يمكن . هذا شرح السؤال .

وأما جواب الزمخشري عن سؤاله ، فلا يطابق ، لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بامكانية الجمع بين ساكنين في قولهم : واحد اثنان ، بأن يسكنوا الدال ، والثاء ساكنة ، وتسقط الهمزة . فعدلوا عن هذا الإمكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال ، وهذه مكابرة في المحسوس ، لا يمكن ذلك أصلاً ، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء ، وطرح الهمزة .

وأما قوله : فجمعوا بين ساكنين ، فلا يمكن الجمع كما قلناه ،

وأما قوله : كما قالوا : أصيم ومديق ، فهذا ممكن كما هو في : راد وضال ، لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدّهما المشروط في النحو ، فأمكن النطق به ، وليس مثل : واحد اثنان . لأن الساكن الأول ليس حرف علة ، ولا الثاء في مدغم ، فلا يمكن الجمع بينهما .

وأما قوله : فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير ، وليست لالتقاء الساكنين ، لما بني على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن ، وحركة ا التقاء الساكنين إنما هي لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ ، ادّعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لالتقاء الساكنين ، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك ، فإن صح كسر الدال ، كما نقل هذا الرجل ، فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا لنقل ، وقد ردّ قول الفراء ، واختيار الزمخشري إياه بأن قيل : لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها ، لما في ذلك من الفساد والتدافع ، وذلك أن سكون آخر ميم إنما هو على نية الوقف عليها ، والقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ، ونية الوصل توجب حذف الهمزة ، ونية الوقف على ما قبلها توجب ثباتها وقطعها ، وهذا متناقض . إنتهى . وهو ردّ صحيح .

والذي تحرر في هذه الكلمات : أن العرب متى سردت أسماء مسكنة الآخر وصلاً ووقفاً ، فلوا التقى آخر مسكن منها ، بساكن آخر ، حرك لالتقاء الساكنين . فهذه الحركة التي في ميم : ألم اللّه ، هي حركة التقاء الساكنين .

والكلام على تفسير : { الم } ، تقدم في أول البقرة ، واختلاف الناس في ذلك الاختلاف المنتشر الذي لا يوقف منه على شيء يعتمد عليه في تفسيره وتفسير أمثاله من الحروف المقطعة .

والكلام على :{ اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } تقدم في آية { وَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ واحِدٌ لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ اللّه } وفي أول آية الكرسي ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .

وذكر ابن عطية عن القاضي الجرجاني أنه ذهب في النظم إلى أن أحسن الأقوال هنا أن يكون { الم } إشارة إلى حروف المعجم ، كأنه يقول : هذه الحروف كتابك ، أو نحو هذا .

{اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } على ما ترك ذكره ، مما هو خبر عن الحروف ، قال : وذلك في نظمه مثل قوله :{ أَفَمَن شَرَحَ اللّه صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مّن رَّبّهِ } ترك الجواب لدلالة قوله { فَوَيْلٌ لّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ اللّه } عليه ، تقديره : كمن قسا قبله ومنه قول الشاعر : فلا تدفنوني ، إن دفني محرم

عليكم ، ولكن خامري أم عامر

أي : ولكن اتركوني للتي يقال لها : خامري أم عامر .

قال ابن عطية : يحسن في هذا القول أن يكون نزل خبر قوله : اللّه ، حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى الذي ذكره الجرجاني ،

وفيه نظر ، لأن مثليته ليست صحيحة الشبه بالمعنى الذي نحا إليه ، وما قاله في الآية محتمل ، ولكن الآبرع في نظم الآية أن يكون { الم } لا يضم ما بعدها إلى نفسها في المعنى ، وأن يكون { اللّه لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } كلاماً مبتدأ جزماً ، جملة رادّة على نصارى نجران الذين وفدوا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فحاجوه في عيسى بن مريم ، وقالوا : إنه اللّه . إنتهى كلامه .

قال ابن كيسان : موضع : ألم ، نصب ، والتقدير : قرؤوا ألم ، و : عليكم ألم . ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى : هذا ألم ، و : ذلك ألم .

وتقدم من قول الجرجاني أن يكون مبتدأ ، والخبر محذوف ، أي : هذه الحروف كتابك .

وقرأ عمر بن الخطاب وعبد اللّه بن مسعود ، وعلقمة بن قيس : القيام . وقال خارجه في مصحف عبد اللّه : القيم ، وروي هذا أيضاً عن علقمة .

{اللّه} رفع على الإبتداء ، وخبره :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ } و { نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ } خبر بعد خبر ، ويحتمل أن يكون : نزل ، هو الخبر ، و : لا إله إلا هو ، جملة اعترض .

وتقدم في آية الكرسي استقصاء إعراب :{ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ } فأغنى عن إعادته هنا .

وقال الرازي : مطلع هذه السورة عجيب ، لأنهم لما نازعوا كأنه قيل : إما أن تنازعوا في معرفة اللّه ، أو في النبوة ، فإن كان الأول فهو باطل ، لأن الأدلة العقلية دلت على أنه : حي قيوم ، والحي القيوم يستحيل أن يكون له ولد ، وإن كان في الثاني فهو باطل ، لأن الطريق الذي عرفتم أن اللّه تعالى أنزل التوراة والإنجيل ، هو يعينه قائم هنا ، وذلك هو المعجزة .

﴿ ٢