١٣

قد كان لكم . . . . .

ويروى عن مجاهد .

{قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } قال في { ري الظمآن} : أجمع المفسرون على أنهها وقعة بدر ، والخطاب للمؤمنين ، قاله ابن مسعود ، والحسن . فعلى هذا معنى الآية تثبيت النفوس وتشجيعها ، لأنه لما أمر أن يقول للكفار ما قال ، أمكن أن يستبعد ذلك المنافقون وبعض ضعفة المؤمنين ، كما قال : من قال يوم الخندق : يعدنا محمد أموال كسرى وقيصر ونحن لا نأمن على النساء في المذهب ، وكما قال عدي بن حاتم ، حين أخبره النبي صلى اللّه عليه وسلم بالأمنة التي تأتي ، فقلت في نفسي : فأين دعار طيء الذين سعروا البلاد ؟ الحديث بكماله .

وقيل : الخطاب للكافرين ، وهو ظاهر ، ولا سيما على قراءة من قرأ : ستغلبون ، بالتاء . ويخرج ذلك من قول ابن عباس ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، وإعلاماً بأن اللّه سينصر دينه . وقد أراكم في ذلك مثالاً بما جرى لمشركي قريش من الخذلان والقتل والأسر .

وقيل : الخطاب لليهود ، قاله الفراء ، وابن الأنباري وابن جرير ، وعلى هذا يكون ذلك تخويفاً لهم ، كأنه قيل : لا تغتروا بدربتكم في الحرب ، ومنعة حصونكم ، ومجالبتكم لمشركي قريش ، فإن اللّه غالبكم ، وقد علمتم ما حل بأهل بدر ، ولم يلحق التاء . كان ، وإن كان قد أسند إلى مؤنث ، وهو الآية ، لأجل أنه تأنيث مجازي . وازداد حسناً بالفصل ، وإذا كان الفصل حسناً في المؤنث الحقيقي ، فهو أولى في المؤنث المجازي ، ومن كلامهم : حضر القاضي امرأة وقال : إن امرأ غره منكن واحدة

بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور

وقيل : ذكر لأن معنى الآية البيان ، فهو كما قال : برهرهة رودة رخصة

كخرعوبة البانة المنفطر

ذهب إلى القضيب ، وفي قوله { فِي فِئَتَيْنِ } محذوف تقديره في : قصة فئتين ، ومعنى : التقتا ، أي للحرب والقتال .

{فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِى سَبِيلِ اللّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } أي : فئة مؤمنة تقاتل في سبيل اللّه ، وفئة أخرى تقاتل في سبيل الشيطان ، فحذف من الأولى ما أثبتت مقابله في الثانية ، ومن الثانية ما أثبت نظيره في الأولى ، فذكر في الأولى لازم الإيمان ، وهو القتال في سبيل اللّه . وذكر في الثانية ملزوم القتال في سبيل الشيطان ، وهو الكفر .

والجمهورُ برفع : فئة ، على القطع ، التقدير : إحداهما ، فيكون : فئة ، على هذا خبر مبتدأ محذوف ، أو التقدير : منهما ، فيكون مبتدأ محذوف الخبر .

وقيل : الرفع على البدل من الضمير في التقتا .

وقرأ مجاهد ، والحسن ، والزهري وحميد : فئةٍ ، بالجر على البدل التفصيلي ، وهو بدل كل من كل ، كما قال : وكنت كذي رجلينٍ رجل صحيحة

ورجل رمي فيها الزمان فشُلَّتِ

ومنهم من رفع : كافرة ، ومنهم من خفضها على العطف ، فعلى هذه القراءة تكون : فئة ، الأولى بدل بعض من كل ، فيحتاج إلى تقدير ضمير أي : فئة منهما تقاتل في سبيل اللّه ، وترتفع أخرى على وجهي القطع إما على الإبتداء

وإما على الخبر .

وقرأ ابن السميفع ، وابن أبي عبلة : فئة ، بالنصب . قالوا : على المدح ، وتمام هذا القول : إنه انتصب الأول على المدح ، والثاني على الذم ، كأنه قيل : أمدح فئة تقاتل في سبيل اللّه ، وأذم أخرى كافرة .

وقال الزمخشري : النصب في : فئة ، على الاختصاص وليس بجيد ، لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهماً ، وأجاز هو ، وغيره قبله كالزجاج : أن ينتصب على الحال من الضمير في : التقتا ، وذكر : فئة ، على سبيل التوطئة .

وقرأ الجمهور : تقاتل ، بالتاء على تأنيث الفئة ،

وقرأ مجاهد ، ومقاتل : يقاتل بالياء على التذكير ، قالوا : لأن معنى الفئة القوم فرد إليه ، وجرى على لفظه .

{يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ رَأْىَ الْعَيْنِ } قرأ نافع ، ويعقوب ، وسهل ، ترونهم ، بالتاء على الخطاب

وقرأ باقي السبعة بالياء على الغيبة

وقرأ ابن عباس ، وطلحة : ترونهم بضم التاء على الخطاب

وقرأ السلمي بضم الياء على الغيبة ، فأما من قرأ بالتاء المفتوحة فهو جار على ما قبله من الخطاب ، فيكون الضمير في : لكم ، للمؤمنين ، والضمير المرفوع في : ترونهم ، للمؤمنين أيضاً . وضمير النصب في : ترونهم ، وضمير الجر في : مثليهم ، عائد على الكافرين ، والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي أنفسهم في العدد ، فيكون ذلك أبلغ في الآية ، أنهم رأوا الكفار في مثلي عددهم ، ومع ذلك نصرهم اللّه عليهم ، وأوقع المسلمون بهم . وهذه حقيقة التأييد بالنصر ، كقوله تعالى { كَم مّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّه } واستبعد هذا المعنى لأنهم جعلوا هذه الآية ، وآية الأنفال ، قصة واحدة ، وهناك نص على أنه تعالى قلل المشركين في أعين المؤمنين ، فلا يجامع هذا التكثير في هذه الآية على هذا التأويل ، ويحتمل على من قرأ بتاء الخطاب أن يكون الخطاب للمؤمنين ، والضمير المنصوب في : ترونهم للكافرين والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها المؤمنون الكافرين مثلي المؤمنين ، واستبعد هذا إذ كان التركيب يقتضي أن يكون : ترونهم مثليكم .

وأجيب بأنه من الالتفات من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة ، كقوله تعالى :{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ } ويحتمل أن يعود الضمير في : مثليهم ، على الفئة المقاتلة في سبيل اللّه ، أي : ترون أيها المؤمنون الفئة الكافرة مثلي الفئة المقاتلة في سبيل اللّه وهم أنفسهم . والمعنى : ترونهم مثليكم ، وهذا تقليل ، إذا كانوا نيفاً على ألف ، والمسلمون في تقدير ثلث .

منهم ، فأرى اللّه المسلمين الكافرين في ضعفي المسلمين على ما قرر في قوله : { إِن يَكُن مّنكُمْ مّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } لتجترئوا عليهم .

وإذن كان الضمير في : لكم ، للكافرين وفي : ترونهم ، الخطاب لهم ، والمنصوب والمجرور للمؤمنين . والتقدير : ترون أيها الكافرون المؤمنين مثلي أنفسهم .

ويحتمل أن يكون الضمير المجرور عائداً على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة وهم أنفسهم ، فيكون اللّه تعالى قد أرى المشركين المؤمنين أضعاف أنفس المؤمنين ، أو أضعاف الكافرين على قلة المؤمنين ليهابوهم ويجبنوا عنهم ، وكانت تلك الرؤية مدداً من اللّه للمؤمنين ، كما أمدهم تعالى بالملائكة ، فإن كانت هذه ، وآية الأنفال في قصة واحدة ، فالجمع بين هذا التكثير وذاك التقليل باعتبار حالين ، قللوا أولاً في أعين الكفار حتى يجترئوا على ملاقاة المؤمنين ، وكثروا حالة الملاقاة حتى قهروا وغلبوا ، كقوله :{ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ }{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ }

وأما من قرأ بالياء المفتوحة . فالظاهر أن الجملة صفة لقوله : وأخرى كافرة ، وضمير الرفع عائد عليها على المعنى ، إذ لو عاد على اللفظ لكان : تراهم ، وضمير النصب عائد على : فئة تقاتل في سبيل اللّه ، وضمير الجرّ في : مثليهم ، عائد على فئة أيضاً ، وذلك على معنى الفئة ، إذ لو عاد على اللفظ لكان التركيب : تراها مثليها ، أي ترى الفئةُ الكافرُة الفئةَ المؤمنةَ في مثلي عدد نفسها . أي : ستمائة ونيف وعشرين ، أو مثلي أنفس الفئة الكافرة ، أي ألفين ، أو قريباً من ألفين .

ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل عائداً على الفئة المؤمنة على المعنى ، والضمير المنصوب والمجرور عائداً على الفئة الكافرة على المعنى ، أي : ترى الفئة المؤمنة الفئة الكافرة مثلي نفسها .

ويحتمل أن يعود الضمير المجرور على الفئة الكافرة ، أي : مثلي الفئة الكافرة . والجملة إذ ذاك صفة لقوله : وأخرى كافرة ، ففي الوجه الأول الرابط الواو ، وفي هذا الوجه الرابط ضمير النصب . وإذا كان الضمير في : لكم ، لليهود ؛ فالآية كما أمر اللّه نبيه صلى اللّه عليه وسلم أن يقوله لهم احتجاجاً عليهم ، وتثبيتاً لصورة الوعد السابق من أن الكفار : سيغلبون .

فمن قرأ بالتاء كان معناه : لو حضرتم ، أو إن كنتم حضرتم ، وساغ هذا الخطاب لوضوح الأمر في نفسه ، ووقوع اليقين به ، لكل إنسان في ذلك العصر ، ومن قرأ بالياء فضمير الفاعل يحتمل أن يكون للفئة المؤمنة ، ويحتمل أن يكون للفئة الكافرة على ما تقرر قبل .

والرؤية في هاتين القراءتين بصرية تتعدّى لواحد ، وانتصب : مثليهم ، على الحال . قاله أبو علي ، ومكي ، والمهدوي . ويقوي ذلك ظاهر قوله : رأي العين ، وانتصابه على هذا انتصاب المصدر المؤكد .

قال الزمخشري : رؤية ظاهرة مكشوفة لا لبس فيها معاينة كسائر المعاينات .

وقيل : الرؤية هنا من رؤية القلب ، فيتعدى لإثنين ، والثاني هو : مثليهم . ورد هذا بوجهين :

أحدهما :قوله تعالى : رأي العين ،

والثاني : أن رؤية القلب علم ، ومحال أن يعلم الشيء شيئين .

وأجيب عن

الأول : بأن انتصابه انتصاب المصدر التشبيهي ، أي : رأياً مثل رأي العين أي يشبه رأي العين وليس في التحقيق به . وعن

الثاني : بأن معنى الرؤية هنا الإعتقاد ، فلا يكون ذلك محالاً . وإذا كانوا قد أطلقوا العلم في اللغة على الإعتقاد دون اليقين ، فلأن يطلقوا الرأي عليه أولى .

قال تعالى :{ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } أي فإن اعتقدتم إيمانهن ، ويدل على هذا قراءة من قرأ : ترونهم ، بضم التاء ، أو الباء . قالوا : فكأن المعنى أن اعتقاد التضعيف في جمع الكفار أو المؤمنين كان تخميناً وظناً ، لا يقيناً . فلذلك ترك في العبارة ضرب من الشك ، وذلك أن : أُري ، بضم الهمزة تقولها فيما عندك فيه نظر ، وإذا كان كذلك ، فكما استحال أن يحمل الرأي هنا على العلم ، يستحيل أن يحمل على النظر بالعين ، لأنه كما لا يقع : العلم غير مطابق للمعلوم ، كذلك لا يقع : النظر البصري مخالفاً للمنظور إليه ، فالظاهر أن ذلك إنما هو على سبيل التخمين والظن ، وإنه لتمكن ذلك في اعتقادهم .

شبه برؤية العين ، والرأي مصدر : رأى ، يقال : رأى رأياً ورؤية ورؤيا ، ويغلب رؤيا في المنام ورؤية في البصرية يقظة ، ورأيا في الإعتقاد ، يقال : هذا رأي فلان ، قال

رأى الناس إلا من رأى مثل رأيه

خوارج تراكين قصد المخارج

ومعنى : مثليهم ، قدرهم مرتين . وزعم الفراء أن معنى : يرونهم مثليهم ، ثلاثة أمثالهم كقول القائل : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها . وغلطه الزجاج . وقال : إنما مثل الشيء مساو له . ومثلاه مساويه مرتين .

وقال ابن كيسان : أوقع الفراء في هذا التأويل أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المسلمين يوم بدر ، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلاّ على عدتهم ، وهذا بعيد ، وليس المعنى عليه ، وإنما المعنى أراهم اللّه على غير عدتهم بجهتين : إحداهما : أنه رأى الصلاح في ذلك ، لأن المؤمنين يقوي قلوبهم بذلك . والأخرى : أنه آية النبي صلى اللّه عليه وسلم. انتهى كلام ابن كيسان .

وتظاهرت الروايات أن جميع الكفار ببدر كانوا نحو الألف أو تسعمائة ، والمؤمنين ثلثمائة وأربعة عشر .

وقيل : وثلاثة عشرة ، لكن رجع بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، ورجع طالب بن أبي طالب وأتباع ، وناس كثير حتى بقي للقتال من بقرب من الثلثين ، فذكر اللّه المثلين ، إذ أمرهما متيقن لم يدفعه أحد . وحكي عن ابن عباس : أن المشركين كانوا في قتال بدر ستمائة وستة وعشرين ، وقد ذهب الزجاج وغيره إلى أنهم كانوا نحو الألف .

وروي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال :  { يوم بدر القوم ألف} .

وقال ابن عباس : نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا ، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وقال في رواية : لقد قللوا في أعيننا حتى لقد قلت لرجل إلى جانبي تراهم سبعين ؟ قال : أراهم مائة . فأسرنا منهم رجلاً فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفاً . ونقل أن المشركين لما أسروا ، قالوا للمسلمين : كم كنتم ؟ قالوا : كنا ثلاثمائة وثلاثة عشرة ، قالوا : ما كنا نراكم إلاّ تضعفون علينا وتكثير كل طائفة في عين الأخرى ، وتقليلها بالنسبة إلى وقتين جائز ، فلا يمتنع .

{وَاللّه يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاء } أي : يقويه بعونه .

وقيل : النصر الحجة . ونسبة التأييد إليه يدل على أن المؤيد هم المؤمنون ، ومفعول : من يشاء ، محذوف أي : من يشاء نصره .

{إِنَّ فِى ذَلِكَ } أي : النصر .

وقيل : رؤية الجيش مثليهم { لَعِبْرَةً } أي اتعاظاً ودلالة .{ لاِوْلِى الاْبْصَارِ } إن كانت الرؤية بصرية ،

فالمعنى : للذين أبصروا الجمعين ، وإن كانت اعتقادية ،

فالمعنى : لذوي العقول السليمة القابلة للاعتبار .

﴿ ١٣