٢١

إن الذين يكفرون . . . . .

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ } الآية هي في اليهود والنصارى ، قاله محمد بن جعفر بن الزبير وغيره ، وصف من تولى عن الإسلام وكفر بثلاث صفات :

إحداهما : كفره بآيات اللّه وهم مقرون بالصانع ، جعل كفرهم ببعض مثل كفرهم بالجميع ، أو يجعل : بآيات اللّه ، مخصوصاً بما يسبق إليه الفهم من القرآن والرسول صلى اللّه عليه وسلم.

الثانية : قتلهم الأنبياء ، وقد تقدّمت كيفية قتلهم في البقرة في قوله { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } والألف واللام في : النبيين ، للعهد .

والثالثة : قتل من أمر بالعدل .

فهذه ثلاثة أوصاف بدىء فيها بالأعظم فالأعظم ، وبما هو سبب للآخر : فأولها : الكفر بآيات اللّه ، وهو أقوى الأسباب في عدم المبالاة بما يقع من الأفعال القبيحة ، وثانيها : قتل من أظهر آيات اللّه واستدل بها . و

الثالث : قتل أتباعهم ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .

وهذه الآية جاءت وعيداً لمن كان في زمانه صلى اللّه عليه وسلم ، ولذلك جاءت الصلة بالمستقبل ، ودخلت الفاء في خبر : أن ، لأن الموصول ضمن معنى اسم الشرط ، ولما كانوا على طريقة أسلافهم في ذلك ، نسب إليهم ذلك ، ولأنهم أرادوا قتله صلى اللّه عليه وسلم ، فقتل أتباعه

فأطلق ذلك عليهم مجازاً أي : من شأنهم وإرادتهم ذلك . ويحتمل أن تكون الفاء زائدة على مذهب من يرى ذلك ، وتكون هذه الجملة حكاية عن حال آبائهم وما فعلوه في غابر الدهر من هذه الأوصاف القبيحة ، ويكون في ذلك إرذال لمن انتصب لعداوة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، إذ هم سالكون في ذلك طريقة آبائهم .

والمعنى : إن آباءكم الذين أنتم مستمسكون بدينهم كانوا على الحالة التي أنتم عالمون بها من الاتصاف بهذه الأوصاف ، فينبغي لكم أن تسلكوا غير طريقهم ، فإنهم لم يكونوا على حق . فذكر تقبيح الأوصاف ، والتوعد عليها بالعقاب ، مما ينفر عنها ، ويحمل على التحلي بنقائضها من الإيمان بآيات اللّه وإجلال رسله وأتباعهم .

وقرأ الحسن : ويقتلون النبيين ، بالتشديد ، والتشديد هنا للتكثير بحسب المحل

وقرأ حمزة ، وجماعة من غير السبعة : ويقاتلون الثاني . وقرأها الأعمش : وقاتلوا الذين ، وكذا هي في مصحف عبد اللّه

وقرأ أبيّ : يقتلون النبيين والذين يأمرون ، ومن غاير بين الفعلين فمعناه واضح إذا لم يذكر أحدهما على سبيل التوكيد ، ومن حذف اكتفى بذكر فعل واحد لأشتراكهم في القتل ، ومن كرر الفعل فذلك على سبيل عطف الجمل وابراز كل جملة في صورة التشنيع والتفظيع ، لأن كل جملة مستقلة بنفسها ، أو لاختلاف ترتب العذاب بالنسبة على من وقع به الفعل ، فقتل الأنبياء أعظم من قتل من يأمر بالمعروف من غير الأنبياء ، فجعل القتل بسبب اختلاف مرتبته كأنهما فعلان مختلفان .

وقيل : يحتمل أن يراد بأحد القتلين تفويت الرّوح ، وبالآخر الإهانة وإماتة الذكر ، فيكونان إذ ذاك مختلفين .

وجاء في هذه السورة { بِغَيْرِ حَقّ } بصيغة التنكير ، وفي البقرة { بِغَيْرِ الْحَقّ } بصيغة التعريف ، لأن الجملة هنا أخرجت مخرج الشرط ، وهو عام لا يتخصص ، فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاماً ، وفي البقرة جاء ذلك في صورة الخبر عن ناس معهودين ، وذلك قوله { ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيّينَ بِغَيْرِ الْحَقّ } فناسب أن يأتي بصيغة التعريف ، لأن الحق الذي كان يستباح به قتل الأنفس عندهم كان معروفاً ، كقوله { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } فالحق هنا الذي تقتل به الأنفس معهود معروف ، بخلاف ما في هذه السورة .

وقد تقدّم في البقرة أن قوله :{ بِغَيْرِ الْحَقّ } هي حال مؤكدة ، إذ لا يقع قتل نبي إلاَّ بغير الحق ، وأوضحنا لك ذلك . فأغنى عن إعادته وإيضاحه هنا .

ومعنى : من الناس ، أي : غير الأنبياء ، إذ لو قال : ويقتلون الذين يأمرون بالقسط ، لكان مندرجاً في ذلك الأنبياء لصدق اللفظ عليهم ، فجاء من الناس بمعنى : من غير الأنبياء . قال الحسن : تدل الآية على أن القائم بالأمر بالمعروف تلى منزلته في العظم منزلة الأنبياء . وعن أبيه عبيدة بن الجراح ، قلت يا رسول اللّه : أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة ؟ قال : { رجل قتل نبياً أو رجلاً أمر بمعروف ونهى عن منكر} . ثم قرأها . ثم قال : { يا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة واثنا عشر رجلاً من عباد بني اسرائيل ، فأمروا قتلتهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعاً من آخر النهار} .

{فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الخطاب للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وهو يدل على أن المراد معاصروه لا آباؤهم ، فيكون إطلاق قتل الأنبياء مجازاً لأنهم لم يقتلوا أنبياء لكهنم رضوا ذلك وراموه .

وهذه الجملة هي خبر : إن ، ودخلت الفاء لما يتضمن الموصول من معنى اسم الشرط كما قدّمناه ، ولم يعب بهذا الناسخ لأنه لم يغير معنى الابتداء ، أعني : إن .

ومع ذلك في المسألة خلاف : الصحيح جواز دخول الفاء في خبر : إن ، إذا كان اسمها مضمناً معنى الشرط ، وقد تقدّمت شروط جواز دخول الفاء في خبر المبتدأ ، وتلك الشروط معتبرة هنا ، ونظير هذه الآية في دخول الفاء { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّه ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ اللّه لَهُمْ }{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللّه ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ }{ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ}

ومن منع ذلك جعل الفاء زائدة ، ولم يقس زيادتها . وتقدم أن البشارة هي أول خبر سار ، فإذا استعملت مع ما ليس بسار ، فقيل : ذلك هو على سبيل التهكم والاستهزاء كقوله :

تحية بينهم ضرب وجيع

أي : القائم لهم مقام الخبر السار هو العذاب الأليم

وقيل : هو على معنى تأثر البشرة من ذلك ، فلم يؤخذ فيه قيد السرور ، بل لوحظ معنى الاشتقاق .

﴿ ٢١