٢٨

لا يتخذ المؤمنون . . . . .

{لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } قيل : نزلت في عبادة بن الصامت ، كان له حلفاء من اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو

وقيل : في عبد اللّه بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون اليهود

وقيل : في قوم من اليهود ، وهم : الحجاح بن عمر ، وكهمس بن أبي الحقيق ، وقيس بن يزيد ، كانوا يباطنون نفراً من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا : اجتنبوا هؤلاء اليهود ، فأبوا ، فنزلت هذه الأقوال مروية عن ابن عباس .

وقيل : في حاطب بن بلتعة ، وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش ، فنزلت .

ومعنى : اتخاذهم أولياء : اللطف بهم في المعاشرة ، وذلك لقرابة أو صداقة . قبل الإسلام ، أو يد سابقة أو غير ذلك ، وهذا فيما

يظهر نهوا عن ذلك ،

وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم ، واللطف عام في جميع الأعصار ، وقد تكرر هذا في القرآن . ويكفيك من ذلك قوله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّه وَالْيَوْمِ الاْخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللّه وَرَسُولَهُ } الآية ، والمحبة في اللّه والبغض في اللّه أصل عظيم من أصول الدين .

وقرأ الجمهور : لا يتخذ ، على النهي

وقرأ الضبي برفع الذال على النفي ، والمراد به النهي ، وقد أجاز الكسائي فيه الرفع كقراءة الضبي .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم اللّه تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها ، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق ، وكان الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه إذ هو تعالى مالك الملك .

وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلاَّ ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيداً ، والاستعانة بهم استعانه العزيز بالذليل ، والأرفع بالأوضع ، والنكاح فيهم . فهذا كله ضرب من الموالاة أذن لنا فيه ، ولسنا ممنوعين منه ، فالنهي ليس على عمومه .

{مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ } تقدم تفسير : من دون ، في قوله { وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّه } فأغنى عن إعادته .

و : يتخذ ، هنا متعدية إلى اثنين ، و : من دون ، متعلقة بقوله : لا يتخذ ، و : من ، لابتداء الغاية قال علي بن عيسى : أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين .

{وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّه فِي شَىْء } ذلك إشارة إلى اتخاذهم أولياء ، وهذا يدل على المبالغة في ترك الموالاة ، إذ نفي عن متوليهم أن يكون في شيء من اللّه ، وفي الكلام مضاف محذوف أي : فليس من ولاية اللّه في شيء

وقيل : من دينه

وقيل : من عبادته

وقيل : من حزبه . وخبر : ليس ، هو ما استقلت به الفائدة ، وهي : في شيء ، و : من اللّه ، في موضع نصب على الحال ، لأنه لو تأخر لكان صفة لشيء ، والتقدير : فليس في شيء من ولاية اللّه . و : من ، تبعيضية نفي ولاية اللّه عن من اتخذ عدوه ولياً ، لأن الولايتين متنافيتان ، قال : تود عدوي ثم تزعم أنني

صديقك ، ليس النَّوْكُ عنك بعازب

وتشبيه من شبه الآية ببيت النابغة : إذا حاولت في أسد فجورا

فإني لست منك ولست مني

ليس بجيد ، لأن : منك ومني ، خبر ليس ، وتستقل به الفائدة . وفي الآية الخبر قوله : في شيء ، فليس البيت كالآية .

قال ابن عطية { فَلَيْسَ مِنَ اللّه فِي شَىْء } معناه في شيء مرضي على الكمال والصواب ، وهذا كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم : { من غشنا فليس منا} . وفي الكلام حذف مضاف تقديره : فليس من التقرب إلى اللّه والتزلف . ونحو هذا مقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله :{ لَيْسَ مِنْ اللّه فِي شَىْء} انتهى كلامه . وهو كلام مضطرب ، لأن تقديره : فليس من التقرب إلى اللّه ، يقتضي أن لا يكون من اللّه خبراً لليس ، إذ لا يستقل . فقوله : في شيء ، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً ، فيبقى : ليس ، على قوله لا يكون لها خبر ، وذلك لا يجوز . وتشبيهه بقوله عليه السلام : { من غشنا فليس منا } ليس بجيد لما بيناه من الفرق في بيت النابغة بينه وبين الآية .

{إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } هذا استثناء مفرع من المفعول له ، والمعنى لا يتخذوا كافراً ولياً لشيء من الأشياء إلاَّ لسبب التقية ، فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون

ما ينعقد عليه القلب والضمير ، ولذلك قال ابن عباس : التقية المشار إليها مداراة ظاهرة وقال : يكون مع الكفار أو بين أظهرهم ، فيتقيهم بلسانه ، ولا مودة لهم في قلبه .

وقال قتادة : إذا كان الكفار غالبين ، أو يكون المؤمنون في قوم كفار فيخافونهم ، فلهم أن يحالفوهم ويداروهم دفعاً للشر وقلبهم مطمئن بالإيمان .

وقال ابن مسعود : خالطوا الناس وزايلوهم وعاملوهم بما يشتهون ، ودينكم فلا تثلموه وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : خالص المؤمن وخالق الكافر ، إن الكافر يرضى منك بالخلق الحسن .

وقال الصادق : التقية واجبة ، إني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فاستتر منه بالسارية لئلا يراني وقال : الرياء مع المؤمن شرك ، ومع المنافق عبادة .

وقال معاذ بن جبل ، ومجاهد : كانت التقية في جدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأما اليوم فقد أعز اللّه المسلمين أن يتقوهم بأن يتقوا من عدوهم .

وقال الحسن : التقية جائزة إلى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل وقال مجاهد : إلا أن تتقوا قطيعة الرحم فخالطوهم في الدنيا .

وفي قوله { إِلا أَن تَتَّقُواْ } التفات ، لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ، ولو جاء على نظم الأول لكان : إلا أن يتقوا ، بالياء المعجمة من أسفل ، وهذا النوع في غاية الفصاحة ، لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز ، جعل ذلك في اسم غائب ، فلم يواجهوا بالنهي ، ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذاناً بلطف اللّه بهم ، وتشريفاً بخطابه إياهم .

وقرأ الجمهور : تقاة ، وأصله : وقية ، فأبدلت الواو تاء ، كما أبدلوها في : تجاه وتكاه ، وانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، وهو مصدر على فعلة : كالتؤدة والتخمة ، والمصدر على فعل أو فعلة جاء قليلاً . وجاء مصدراً على غير الصدر ، إذ لو جاء على المقيس لكان : اتقاء ونظير

وقوله تعالى :{ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } وقول الشاعر : ولاح بجانب الجبلين منه

ركام يحفر الأرض احتفاراً

والمعنى : إلاَّ أن تخافوا منهم خوفاً . وأمال الكسائي : تقاة ، وحق تقاته ، ووافقه حمزة هنا

وقرأ ورش بين اللفظين ، وفتح الباقون .

وقال الزمخشري : إلاَّ أن تخافوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه وقرىء : تقية .

وقيل : للمتقي تقاة وتقية ، كقولهم : ضرب الأمير لمضروبه . انتهى فجعل : تقاة ، مصدراً في موضع اسم المفعول ، فانتصابه على أنه مفعول به لا على أنه مصدر ، ولذلك قدره إلاَّ أن تخافوا أمراً .

وقال أبو عليّ : يجوز أن يكون : تقاة ، مثل : رماة ، حالاً من : تتقوا ، وهو جمع فاعل ، وإن كان لم يستعمل منه فاعل ، ويجوز أن يكون جمع تقي . انتهى كلامه .

وتكون الحال مؤكدة لأنه قد فهم معناها من قوله { إِلا أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ } وتجويز كونه جمعاً ضعيف جدّاً ، ولو كان جمع : تقي ، لكان أتقياء ، كغني وأغنياء ، وقولهم : كمي وكماة ، شاذ فلا يخرجّ عليه ، والذي يدل على تحقيق المصدرية فيه قوله تعالى :{ اتَّقُواْ اللّه حَقَّ تُقَاتِهِ } المعنى حق اتقائه ،

وحسن مجيء المصدر هكذا ثلاثياً أنهم قد حذفوا : اتقى ، حتى صار : تقي يتقي ، تق اللّه فصار كأنه مصدر لثلاثي .

وقرأ ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والضحاك ، وأبو حيوة ، ويعقوب ، وسهل ، وحميد ابن قيس ، والمفضل عن عاصم : تقية على وزن مطية وجنية ، وهو مصدر على وزن : فعيلة ، وهو قليل نحو : النميمة . وكونه من افتعل نادر .

وظاهر الآية يقتضى جواز موالاتهم عند الخوف منهم ، وقد تكلم المفسرون هنا في التقية ، إذ لها تعلق بالآية ، فقالو : أما الموالاة بالقلب فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها ، وكذلك الموالاة بالقول والفعل من غير تقية ، ونصوص القرآن والسنة تدل على ذلك ، والنظر في التقية يكون فيمن يتقى منه ؟ وفيما يبيحها ؟ وبأي شيء تكون من الأقوال والأفعال ؟ فأما من يتقى منه فكل قادر غالب يكره بجور منه ، فيدخل في ذلك : الكفار ، وجورة الرؤساء ، والسلابة ، وأهل الجاه في الحواضر . قال مالك : وزوج المرأة قد يكره ؛

وأما ما يببحها : فالقتل ، والخوف على الجوارح ، والضرب بالسوط ، والوعيد ، وعداوة أهل الجاه الجورة .

وأما بأي شيء تكون من الأقوال ؟ فبالكفر فما دونه من : بيع ، وهبة ، وغير ذلك .

وأما من الأفعال : فكل محرم .

وقال مسروق : إن لم يفعل حتى مات دخل النار ، وهذا شاذ .

وقال جماعة من أهل العلم : التقية تكون في الأقوال دون الأفعال ، روي ذلك عن ابن عباس ، والربيع ، والضحاك .

وقال أصحاب أبي حنيفة : التقية رخصة من اللّه تعالى ، وتركها أفضل ، فلو أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل فهو أفضل ممن أظهر ، وكذلك كل أمر فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة . قال أحمد بن حنبل ، وقد قيل له : إن عرضت على السيف تجيب ؟ قال : لا . وقال : إذا أجاب العالم تقية ، والجاهل يجهل ، فمتى يتبين الحق ؟ والذي نقل إلينا خلفاً عن سلف أن الصحابة ، وتابعيهم ، بذلوا أنفسهم في ذات اللّه . وأنهم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم ولا سطوة جبار ظالم .

وقال الرازي : إنما تجوز التقية فيما يتعلق بإظهار الحق والدين ،

وأما ما يرجع ضرورة إلى الغير : كالقتل ، والزنا ، وغصب الأموال ، والشهادة بالزور ، وقذف المحصنات ، وإطلاع الكفار على عورات المسلمين فغير جائز البتة .

وظاهر الآية يدل على أنها مع الكفار الغالبين ، إلاَّ أن مذهب الشافعي : أن الحالة بين المسلمين إذا شاكت الحال بين المشركين جازت التقية محاماة عن النفس ، وهي جائزة لصون النفس والمال . إنتهى .

قيل : وفي الآية دلالة على أنه لادلالة لكافر على مسلم في شيء ، ماذا كان له ابن صغير مسلم باسلام أمة فلا ولا به له عليه في تصرف ولا تزوّج ولا غيره .

قيل : وفيها دلالة على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم ، وكذلك المسلم لا يعقل جنايته ، لأن ذلك من الموالاة والنصرة والمعونة .

{وَيُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ } قال ابن عباس : بطشه ، وقال الزجاج : نفسه أي : إياه تعالى ، كما قال الأعشى : يوماً بأجود نائلاً منه إذا

نفس الجبان تجهمت سؤَّالها

أراد إذا البخيل تجهم سؤاله . قال ابن عغطية : وهذه مخاطبة على معهود ما يفهمه البشر ، والنفس في مثل هذا راجع إلى الذات . وفي الكلام حذف مضاف لأن التحذير إنما هو من عقاب وتنكيل ونحوه . فقال ابن عباس ، والحسن : ويحذركم اللّه عقابه . إنتهى كلامه .

ولما نهاهم تعالى عن اتخاذ الكافرين أولياء ، حذرهم من مخالفته بموالاة أعداه قال :{ وَإِلَى اللّه الْمَصِيرُ } أي : صيرورتكم ورجوعكم ، فيجازيكم إن ارتكبتم موالاتهم بعد النهي . وفي ذلك تهديد وعيد شديد .

﴿ ٢٨