٣٠

يوم تجد كل . . . . .

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا } اختلف في العامل في : يوم ، فقال الزجاج : العامل فيه : ويحذركم ، ورجحه . وقال أيضاً : العامل فيه : المصير . وقال مكي بن أبي طالب : العامل فيه : قدير ، وقال أيضاً : فيه مضمر تقديره اذكر . وقال ابن جرير : تقديره : اتقوا ، ويضعف نصبه بقوله : ويحذركم ، لطول الفصل . هذا من جهة اللفظ ،

وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود ، واليوم موعود ، فلا يصح له العمل فيه ، ويضعف انتصابه : بالمصير ، للفصل بين المصدر ومعموله ، ويضعف نصبه : بقدير ، لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم ، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائماً .

وأما نصبه باضمار فعل ، فالإضمار على خلاف الأصل .

وقال الزمخشري :{ يَوْمَ تَجِدُ } منصوب : بتود ، والضمير في : بينه ، ليوم القيامة ، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمداً بعيداً . إنتهى هذا التخريأ .

والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه ، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة ، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين ، وهي : إذا كان الفاعل ضميراً عائداً على شيء اتصل بالمعمول للفعل ، نحو : غلام هند ضربت ، وثوبي أخويك يلبسان ، ومال زيد أخذ ، فذهب الكسائي ، وهشام ، وجمهور البصريين : إلى جوزاز هذه المسائل . ومنها الآية على تخريج الزمخشري ، لأن الفاعل : بتودّ ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول : تودّ ، وهو : يوم ، لأن : يوم ، مضاف إلى : تجد كل نفس ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ .

وذهب الفراء ، وأبو الحسن الأخفش ، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز ، لأن هذا المعمول فضلة ، فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك ، لأنه يلزم ذكر المعمول ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ، ولهذه العلة امتنع : زيداً ضرب ، وزيداً ظنّ قائماً . والصحيح جواز ذلك قال الشاعر : أجل المرء يستحث ولا يد

ري إذا يبتغي حصول الأماني

أي : المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر .

و : تجد ، الظاهر أنها متعدّية إلى واحد وهو : ما عملت ، فيكون بمعنى نصيب ، ويكون : محضراً ، منصوباً على الحال .

وقيل : تجد ، هنا بمعنى : تعلم ، فتتعدّى إلى اثنين ،

وينتصب : محضراً على أنه مفعول ثان لها ، وما ، في : ما عملت ، موصولة ، والعائد عليها من الصلة محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : عملها ، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول ، أي : معمولها ، فقوله : ما عملت ، هو على حذف مضاف أي : جزاء ما عملت وثوابه .

قيل : ومعنى : محضراً على هذا موفراً غير مبخوس .

وقيل : ترى ما عملت مكتوباً في الصحف محضراً إليها تبشيراً لها ، ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل .

وقرأ الجمهور : محضراً ، بفتح الضاد ، اسم مفعول .

وقرأ عبيد بن عمير : محضرا بكسر الضاد ، أي محضراً الجنة أو محضراً مسرعاً به إلى الجنة من قولهم : أحضر الفرس ، إذا جرى وأسرع .

وما عملت من سوء ، يجوز أن تكون في موضع نصب ، معطوفاً على : ما عملت من خير ، فيكون المفعول الثاني إن كان : تجد ، متعدّية إليهما ، أو الحال إن كان يتعدّى إلى واحد محذوفاً ، أي : وما عملت من سوء محضراً . وذلك نحو : ظننت زيداً قائماً وعمراً ، إذا أردت : وعمراً قائماً ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون : تودّ ، مستأنفاً . ويجوز أن يكون : توّد ، في موضع الحال أي : وادة تباعد ما بينها وبين ما عملت من سوء ، فيكون الضمير في بينه عائداً على ما عملت من سوء ، وأبعد الزمخشري في عوده على اليوم ، لأن أحد القسمين اللذين أحضر له في ذلك اليوم هو : الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلاَّ بتجوّز إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر ، فتودّ تباعدة لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير . و

الأولى : عوده على : ما عملت من السوء ، لأنه أقرب مذكور ، لأن المعنى : أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه ، وإلى عطف : ما عملت من سوء ، على : ما عملت من خير ، وكون ، تودّ ، في موضع الحال ذهب إليه الطبري ، ويجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، موصولة في موضع رفع بالابتداء و : تودّ ، جملة في موضع الخبر : لما ، التقدير : والذي عملته من سبوء تودّ هي لو تباعد ما بينها وبينه ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وثنى به ابن عطية ، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، شرطاً .

قال الزمخشري : لارتفاع : تودّ . و

قال ابن عطية : لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضى جزمه ، اللّهم إلاَّ أن يقدر في الكلام محذوف ، أي : فهي تودّ ، وفي ذلك ضعف . إنتهى كلامه . وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع : تودّ ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة أبون العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي ، رحمه اللّه ، واستشسكل قول الزمخشري . وقال : ينبغي أن يجوز غاية ما في هذا أن يكون مثل قول زهير : وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول : لا غائب مالي ولا حرم

وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى :  { بالتذكرة } ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك ، بعد أن نقدّم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضياً ، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء ، جاز في ذلك المضارع الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقوم عمرو ، وان قام زيد يقم عمرو . فاما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ، ولا تعلم في جواز ذلك خلافاً ، وأنه فصيح ، إلاَّ ما ذكره صاحب كتاب { الإعراب} عن بعض النحويين أنه : لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع : كان ، لقوله تعالى { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها .

وظاهر كلام سيبويه ، ونص الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان ، وأنشد سيبويه للفرزدق :

دسَّت رسولاً بأن القوم إن قدروا

وقال أيضاً : تعال فإن عاهدتني لا تخونني

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير . وقال بعض أصحابنا : وهو أحسن من الجزم ، ومنه بين زهير السابق إنشاده ، وهو قوله أيضاً : وإن سل ريعان الجميع مخافة

يقول جهاراً : ويلكم لا تنفروا

وقال أبو صخر : ولا بالذي إن بان عنه حبيبه

يقول ويخفي الصبر : إني لجازع

وقال الآخر : وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه

تشوّف أهل الغائب بالمتنظِّر

وقال الآخر : وإن كان لا يرضيك حتى تردّني

إلى قطري لا إخالك راضياً

وقال الآخر : إن يسألوا الخير يعطوه ، وإن خبروا

في الجهد أدرك منهم طيب إخبار

هذا الرفع ، كما رأيت كثير ، ونصوص الأمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره . وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي ، وهو مصنف { وصف المباني} رحمه اللّه : لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام ،

وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع ، تقدّم الماضي أو تأخر ، وتأوّل هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجعله مثل قول الشاعر :

إنك إن يصرغ أخوك تصرغ .

على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة .

وأما المقدّمون فاختلفوا في تخريج الرفع ، فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم .

وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده .

وذهب الكوفيون ، وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء ، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم تظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط ، لكونه ماضياً ، ضعف عن العمل في فعل الجواب ، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء ، ولا على نية التقديم ، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان .

وتلخص من هذا الذي قلناه : أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً ، لكن امتنع أن يكون : وما عملت ، شرطاً لعلة أخرى ، لا لكون : تود ، مرفوعاً ، وذلك على ما نقرره على مذه سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلاً على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : إذا كان : تود ، منوياً به كالتقديم أدّى إلى تقدّم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية . ألا ترى أن الضمير في قوله : وبينه ، عائد على اسم الشرط الذي هو : ما ، فيصير التقدير : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء ؟ فيلزم من هذا التقدير تقدّم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز .

فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط ؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيداً غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير .

فالجواب : إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب . وإذا كان كذلك تدافع الأمر ، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها ، فتدافعا . وهذا بخلاف : ضرب زيداً غلامه ، هي جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً ، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم : ضرب غلامها هنداً ، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع : ضرب غلامها جار هند ، لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين . ولا يحفظ من لسان العرب : أودّلو أني أكرمه أياً ضربت هند ، لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره .

وقرأ عبد اللّه ، وابن أبي عبلة : من سوء ودّت لو أن ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون : ما ، شرطية في موضع نصب ، فعملت . أو في موضع رفع على إضمار الهاء في : عملت ، على مذهب الفراء ، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام ، وتكون : ودّت ، جزاء الشرط .

قال الزمخشري : لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى ، لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة . انتهى .

و : لو ، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول : تود ، محذوف ، والتقدير : تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسرت بذلك ، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في : لو ، و : أن ، وما بعدها في موضع مبتداً على مذهب سيبويه ، وفي موضع فاعل على مذهب أبي العباس .

وأمّا على قول من يذهب إلى أن : لو ، بمعنى : أن ، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا لولايتها أن وأن مصدرية ، ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلاّ

َ قليلاً ، كقوله تعالى { مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } والذي يقتضيه المعنى أن : لو أن ، وما يليها هو معمول : لتودّ ، في موضع المفعول به . قال الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبداً ، ذلك معناه .

ومعنى أمداً بعيداً : غاية طويلة ،

وقيل : مقدار أجله ،

وقيل : قدر ما بين المشرق والمغرب .

{وَيُحَذّرُكُمُ اللّه نَفْسَهُ} كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من اللّه بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه .

{وَاللّه رَءوفٌ بِالْعِبَادِ } لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجاً للقلوب ، ومنبهاً على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال واحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدّة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى :{ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف ، لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم اللّه ، وجاء المحذر مخصوصاً بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت إسمية ، فتكرر فيها اسم اللّه ، إذا لوصف محتمل ضميره تعالى ، وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رؤوف ، وجاء متعلقة عاماً ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه .

قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ، لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا دعاهم ذلك إلى طلب رضاه واجتناب سخطه . وعن الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمىً من أمرهم . وروي عن ابن عباس هذا المعنى أيضاً ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن .

﴿ ٣٠