٣٥إذ قالت امرأة . . . . . {إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبّ إِنّي نَذَرْتُ لَكَ } الآية ، لما ذكر أنه تعالى اصطفى آل عمران ، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى وفد نجران ، ذكر ابتداء حال آل عمران ، وامرأة عمران اسمها : حنة ، بالحاء المهملة والنون المشدّدة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث ، وهو اسم عبراني ، وهي حنة بنت فاقود ، ودير حنة بالشام معروف ، وثم دير آخر يعرف بدير حنة ، وقد ذكر أبو نواح دير حنة في شعره فقال : يا دير حنة من ذات الاكيداح من يصح عنك فاني لست بالصاح وقبر حنة ، جدّة عيسى ، بظاهر دمشق . وقال القرطبي : لا يعرف في العربي اسم امرأة حنة ، وذكر عبد الغني بن سعيد الحافظ : حنة أم عمر ويروي حديها ابن جريج . ويستفاد حنة مع : حبة ، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل ، و : حية ، بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل ، وهما اسمان لناس ، ومع : خبة ، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل ، وهي خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي ، أم محمد بن نصر ، ومع : جنة بجيم ونون وهو أبو جنة خال ذي الرمة الشاعر ، لا نعرف سواه . ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ ، وخاطبت به اللّه تعالى ، وقدّمت قبل التلفظ بذلك نداء ها له تعالى بلفظ الرب . الذي هو مالكها ومالك كل شيء ، وتقدّم معنى النذر وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر . وقيل : ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة وبغير شريطة . قال الشاعر : فليت رجالا فيك قد نذروا دمي وهموا بقتلي يا بثين لفوني و : لك ، اللام فيه لام السبب ، وهو على حذف التقدير : لخدمة بيتك ، أو للاحتباس على طاعتك . {مَا فِي بَطْنِي } جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكراً ، أو لرجاء منها أن يكون ذكراً . {مُحَرَّرًا } معناه عتيقاً من كل شغل من أشغال الدنيا ، فهو من لفظ الحرية . قال محمد بن جعفر بن الزبير : أو خادماً للبيعة . قاله مجاهد ، أو : مخلصاً للعبادة ، قاله الشعبي . ورواه خصيف عن عكرمة ، ومجاهد ، وأتى بلفظ : ما ، دون : من ، لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل ، أو لأن : ما ، مبهمة تقع على كل شيء ، فيجوز أن تقع موقع : من . ونسب هذا إلى سيبويه . {فَتَقَبَّلْ مِنّي } دعت اللّه تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له ، والتقبل أخذ الشيء على الرضا به ، وأصله المقابلة بالجزاء ، و : تقبل ، هنا بمعنى : قبل ، فهو مما تفعل فيه بمعنى الفعل المجرد ، كقولهم : تعدى الشيء وعدّاه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها تفعل . {إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } ختمت بهذين الوصفين لأنها اعتقدت النذر ، وعقدته بنيتها ، وتلفظت به ، ودعت بقبوله . فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين . والعامل في : إذ ، مضمر تقديره : إذكر ، قاله الأخفش ، والمبرد ، أو معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى آل عمران . قاله الزجاج ، وعلى هذا يجعل { إِنَّ اللّه } من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات لزم أن يكون العامل فيه اصطفى آدم ، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء ، وزمان قول امرأة عمران ، فلا يصح عمله فيه . وقال الطبري ما معناه : إن العامل فيه : سميع ، وهو ظاهر قول الزمخشري ، أو : سميع عليم ، لقول امرأة عمران ونيتها ، و : إذ ، منصوب به . انتهى . ولا يصح ذلك لأن قوله : عليم ، إما ان يكون خبراً بعد خبر ، أو وصفاً لقوله : سميع ، فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفاً فلا يجوز أن يعمل : سميع ، في الظرف ، لأنه قد وصف . اسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ، ولأن اتصافه تعالى : بسميع عليم ، لا يتقيد بذلك الوقت . وذهب أبو عبيدة إلى أن إذ زائدة ، المعنى : قالت امرأة عمران . وتقدّم له نظير هذا القول في : مواضع ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو . وانتصب محرراً ، على الحال . قيل : من ما ، فالعامل : نذرت وقيل من الضمير الذي في : استقر ، العامل في الجار والمجرور ، فالعامل في هذا : استقر ، وقال مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدّره : غلاماً محرراً . و قال ابن عطية : وفي هذا نظر ، يعني أن : نذر ، قد أخذ مفعوله ، وهو : ما في بطني ، فلا يتعدّى إلى آخره ، ويحتمل أن ينتصب : محرراً ، على أن يكون مصدراً في معنى : تحريراً ، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة ، كما قال الشاعر : ألم تعلم مسرجي القوافي فلاعياً بهنّ ولا اجتلابا التقدير : تسريجي القوافي ، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف ، أي : نذر تحرير ، أو على أنه مصدر من معنى : نذرت ، لأن معنى : { نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } حررت لك بالنذر ما في بطني . والظاهر القول الأول ، وهو أن يكون حالاً من : ما ، ويكون ، إذ ذاك حالاً مقدّرة إن كان المراد بقوله : محرراً ، خادماً للكنيسة ، وحالاً مصاحبة إن كان المراد عتيقاً ، لأن عتق ما في البطن يجوز . وكتبوا : امرأة عمران ، بالتاء لا بالهاء ، وكذلك امرأة العزيز في موضعين ، وامرأة نوح ، وامرأة لوط ، وامرأة فرعون . سبعة مواضع ، فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعاً لرسم المصحف مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت ، بالتاء . ووقف أبو عمرو ، والكسائي : بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك ، وهي لغة أكثر العرب ، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق لامرأة عمران فروي أنها كانت عاقراً ، وكانوا أهل بيت لهم عند اللّه مكانة ، فبينا هي يوماً في ظل شجرة نظرت إلى طائر يذق فرخاً له ، فتحركت به نفسها للولد ، فدعت اللّه تعالى أن يهب لها ولداً . فحملت . ومات عمران زوجها وهي حامل ، فحسبت الحمل ولداً فنذرته للّه حبيساً لخدمة الكنيسة أو بيت المقدس ، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم ، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم ، ولم يكن أحد منهم إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس من الغلمان ، وكانت الجارية لا تصلح لذلك ، وكان جائزاً في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم ، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ ، فيخير ، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها ، وليس له الخروج بعد ذلك ، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلاَّ ومن نسله محرر لبيت المقدس . |
﴿ ٣٥ ﴾