٣٦فلما وضعتها قالت . . . . . {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبّ إِنّى وَضَعْتُهَا أُنثَى } أنث الضمير في وضعتها حملاً على المعنى في : ما ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم اللّه تعالى و قال ابن عطية : حملاً على الموجدة ، ورفعاً للفظ : ما ، في قولها : ما في بطني . وقال الزمخشري : أو على تأويل الجبلة ، أو النفس ، أو النسمة . جواب : لما ، هو : قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها ، وخلاف ما قدّرت لأنها كانت ترجو أن تلد ذكراً يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته محرراً . وجاء في قوله :{ إِنّى وَضَعْتُهَا } الضمير مؤنثاً ، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر ، إذ تكون الحال في قوله : أنثى ، مبينة إذا النسمة والنفس تنطلق على المذكر والؤنث . وقال الزمخشري : فإ قلت : كيف جاز انتصاب أنثى حالاً من الضمير في وضعتها ؛ وهو كقولك : وضعت الأنثى أنثى ؟ . قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال ، وذا الحال شيء واحد ، كما أنث الأسم في من كانت أمّك لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : { فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} إنتهى . وآل قوله إلى أن : أنثى ، تكون حالاً مؤكدة ، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة . وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمّك ، حيث عاد الضمير على معنى : من ، فليس ذلك نظير : وضعتها أنثى ، لأن ذلك حمل على معنى : من ، إذ المعنى : أية امرأة ، كانت امّك ، أي : كانت هي أيّ المرأة أمّك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى : من ، ولو فرضنا أنه تأنيث للأسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير : وضعتها أنثى ، لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير ، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى ، فإنه لمجرد التأكيد . وأما تنظيره بقوله :{ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ } فيعنى أنه ثنى بالأسم لتثنية الخبر ، والكلام عليه يأتي في مكانه ، فإنه من المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير في : وضعتها أنثى ، عائداً على النسمة ، أو النفس ، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة . وقيل : خاطبت اللّه تعالى بذلك على سبيل الاعتذار ، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت ، إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم . وقيل : كانت مريم أجمل نساء زمانها وأكملهنّ . {وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } قرأ ابن عامر ، وأبو بكر ، ويعقوب : بضم التاء ، ويكون ذلك وما بعده من كلام أمّ مريم ، وكأنها خاطبت نفسها بقولها : واللّه أعلم . ولم تأت على لفظ : رب ، إذ لو أتت على لفظه لقالت : وأنت أعلم بما وضعت . ولكن خاطبت نفسها على سبيل التسلية عن الذكر ، وأن علم اللّه وسابق قدرته وحكمته يحمل ذلك على عدم التحسر والتحذر على ما فاتنى من المقصد ، إذ مراده ينبغي أن يكون المراد ، وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها . ولعل هذه الأنثى تكون خيراً من الذكر ، إذ أرادهنا اللّه ، سلت بذلك نفسها . وتكون : الألف واللام في : الذكر ، للعهد فيكون مقصودها ترجيح هذه الأنثى التي هي موهوبة اللّه على ما كان قد رجت من أنه يكون ذكراً ، ويحتمل أن يكون مقصودها أنه ليس كالأنثى في الفضل والدرجة والمزية ، لأن الذكر يصلح للتحرير ، والاستمرار على خدمة موضع العبادة ، ولأنه أقوى على الخدمة ، ولا يلحقه عيب في الخدمة والاختلاط بالناس ولا تهمة . قال ابن عطية : كالانثى ، في امتناع نذره إذا الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان ؟ قاله قتادة ، والربيع ، والسدّي ، وعكرمة ، وغيرهم . وبدأت بذكر الأهمّ في نفسها ، وإلاَّ فسياق الكلام أن تقول : وليست الانثى كالذكر ، فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها ، وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد . إنتهى . وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في : الذكر ، للجنس . وقرأ باقي السبعة : بما وضعت ، بتاء التأنيث الساكنة على أنه إخبار من اللّه بأنه أعلم بالذي وضعته . أي : بحاله ، وما يؤول إليه أمر هذه الأنثى ، فإن قولها : وضعتها أنثى ، يدل على أنها لم تعلم من حالها إلاَّ على هذا القدر من كون هذه النسمة جاءت أنثى لا تصلح للتحرير ، فأخبر تعالى أنه أعلم بهذه الموضوعة ، فأتى بصيغة التفضيل المقتضية للعلم بتفاصيل الأحوال ، وذلك على سبيل التعظيم لهذه الموضوعة ، والإعلام بما علق بها وبابنها من عظيم الأمور ، إذ جعلها وابنها آية للعالمين . ووالدتها جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً . وقرأ ابن عباس : بما وضعت ، بكسر تاء الخطاب ، خاطبها اللّه بذلك أي : إنك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة ، وما علمه اللّه تعالى من عظم شأنها وعلوّ قدرها . و : ما ، موصولة بمعنى : الذي ، أو : التي ، وأتى بلفظ : ما ، كما في قوله :{ نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي } والعائد عليها محذوف على كل قراءة . {وَإِنّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } مريم في لغتهم معناه : العابدة ، أرادت بهذه التسمية التفاؤل لها بالخير ، والتقرب إلى اللّه تعالى ، والتضرّع إليه بأن يكون فعلها مطابقاً لاسمها ، وأن تصدّق فيها ظنها بها . ألا ترى إلى إعاذتها باللّه وإعاذة ذريتها من الشيطان ؟ وخاطبت اللّه بهذا الكلام لترتب لاستعاذة عليه ، واستبدادها بالتسمية يدل على أن أباها عمران كان قد مات ، كما نقل أنه مات وهي حامل ، على أنه يحتمل من حيث هي أنثى أن تستبدّ الأمّ بالتسمية لكراهة الرجال البنات ، وفي الآية تسمية الطفل قرب الولادة ، وفي الحديث : { ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم} . وفي الحديث أنه : { يعق عن المولود في السابع ويسمى} . وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها من كلامها ، وهي كلها داخله تحت القول على قراءة من قرأ : بما وضعت ، بضم التاء . وأما من قرأ : بما وضعت ، بسكون التاء أو بالكسر . ف قال الزمخشري : هي معطوفة على : إني وضعتها أنثى ، وما بينهما جملتان معترضان ، كقوله :{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} إنتهى كلامه . ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتا معترضتان ، لأنه يحتمل أن يكونه { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى } في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة ، كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : وضعت ، بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، لأن في اعتراض جملتين خلافاً مذهب أبي علي : أنه لا يعترض جملتان وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك . وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما بين المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله :{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو :{ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ } وجوابه الذي هو :{ إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ } بجملة واحدة وهي قوله :{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } لكنه جاء في جملة الأعتراض بين بعض أجزائه وبعض ، اعتراض بجملة وهي قوله :{ لَّوْ تَعْلَمُونَ } اعترض به بين المنعوت الذي هو : لقسم ، وبين نعته الذي هو : عظيم ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض لقوله :{ وَاللّه أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْنثَى } وسمي من الأفعال التي تتعدى إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه واثباته هو الأصل ، يقول سميت ابني بزيد ، وسميته زيداً . قال : وسميت كعباً بشر العظام وكان أبوك يسمى الجعل أي : وسميت بكعب ، ويسمى : بالجعل ، وهو باب مقصور على السماع ، وفيه خلاف عن الأخفش الصغير ، وتحرير ذلك في علم النحو . {وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أتى خبر : إن ، مضارعاً وهو : أعيذها ، لأن مقصودها ديمومة الإستعاذة ، والتكرار بخلاف : وضعتها ، وسميتها ، فإنهما ماضيان قد انقطعا ، وقدّمت ذكر المعاذ به على المعطوف على الضمير للأهتمام به ، ثم استدركت بعد ذلك الذكر ذريتها ، ومناجاتها اللّه بالخطاب السابق إنما هو وسيلة إلى هذة الاستعاذة ، كما يقدّم الانسان بين يدى مقصوده ما يستنزل به إحسان من يقصده ، ثم يأتي بعد ذلك بالمقصود ، وورد في الحديث ، من رواية أبي هريرة : { كل مولولد من بني آدم له طعنة من الشيطان ، وبها يستهل الصبي ، إلاَّ ما كان من مريم ابنة عمران وابنها ، فإن أمّها قالت حين وضعتها : واني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب} . وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث من طرق ، والمعنى واحد . وطعن القاضي عبد الجبار في هذا الحديث ، قال : لأنه خبر واحد على خلاف الدليل ، فوجب رده ، وإنما كان على خلاف الدليل لأن الشيطان إنما يدعو إلى الشر من يعرف الشر والخير ، والصبي ليس كذلك ، ولأنه لو تمكن من هذا المس لفعل أكثر من ذلك من إهلاك الصالحين وغير ذكل ، لأنه خص فيه مريم وابنها عيسى دون سائر الأنبياء ، ولأنه لو وجد المس لنفي أثره ، ولو نفي لدام الصراخ والبكاء ، فلما لم يكن كذلك علمنا بطلان هذا الحديث . وقال الزمخشري : وما يروي في الحديث : { ما من مولولد يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها} . فاللّه أعلم بصحته ، فإن صح فمعناه : أن كل مولود يطمع الشيطان في اغوائه إلاَّ مريم وابنها ، فإنهما كانا معصومين . وكذلك كل من كان صفتهما لقوله :{ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } واستهلاله صارخاً من مسه ، تخييل وتصوير لطمعه فيه كأنه يمسه ويضرب بيده عليه ويقول : هذا ممن أغويه ، ونحوه من التخييل قول ابن الرومي : لما تؤذن الدنيا به من صروفها يكون بكاء الطفل ساعة يولد وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا ، ولو سلط إبليس على الناس بنخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه . إنتهى كلامه . وهو جار على طريقة أهل الاعتزال ، وقد مرلنا شيء من الكلام على هذا في قوله :{ كَالَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ} |
﴿ ٣٦ ﴾