٣٧

فتقبلها ربها بقبول . . . . .

{فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } قال الزجاج : الأصل فتقبلها بتقبل حسن ، ولكن قبول محمول على : قبلها قبولاً ، يقال : قبل الشيء قبولاً والقياس فيه الضم : كالدخول والخروج ، ولكنه جاء بالفتح ، وأجاز الفراء والزجاج ضم القاف ، ونقلها ابن الأعرابي فقال : قبلته قَبولاً وقُبولاً .

وقال ابن عباس : معناه سلك بها طريق السعداء وقال قوم : تكفل بتربيتها والقيام بشأنها . وقال الحسن : معناه لم يعذيها ساعة قط من ليل ولا نهار وعلى هذه الأقوال يكون تقبل بمعنى استقبل ، فيكون تفعل بمعنى استفعل ، أي : استقبلها ربها ، نحو : تعجلت الشيء فاستعجلته ، وتقصيت الشيء واستقصيته ، من قولهم : استقبل الأمر أي أخذه بأوله . قال : وخير الأمر ما استقبلت منه

وليس ببأن تتبعه اتباعاً

أي فأخذها في أول أمرها حين ولدت .

وقيل : المعنى فقبلها أي : رضى بها في النذر مكان الذكر في النذر كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك ، وقبل دعاءها في قولها : فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ، ولم تقبل أنثى قبل مريم في ذلك ، ويكون : تفعل ، بمعنى الفعل المجرد نحو : تعجب وعجب ، وتبرأ وبريء .

والباء في : بقبول ، قيل : زائدة ، ويكون إذ ذاك ينتصب انتصاب المصدر على غير الصدر ،

وقيل : ليست بزائدة .

والقبول اسم لما يقبل به الشيء : كالسعوط واللدود لما يسعط به ويلد ، وهو اختصاصه لها باقامتها مقام الذكر في النذر ، أو : مصدر على تقدير حذف مضاف أي : بذي قبول حسن ، أي : بأمر ذي قبول

حسن ، وهو الاختصاص .

{وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق ، فأنشأها على يالطاعة والعبادة . قال ابن عباس : لما بلغت تسع سنين صامت من النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار .

وقيل : لم تجر عليها خطيئة . قال قتادة : حُدِّثنا أنها كانت لا تصيب الذنوب كما يصيب بنو آدم .

وقيل : معنى { وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } أي : جعل ثمرتها مثل عيسى .

وانتصب : نباتاً ، على أنه مصدر على غير الصدر ، أو مصدر لفعل محذوف أي : فنبتت نباتاً حسناً ،

ويقال : القبول الحسن الاستقامة على الطاعة وإيثار رضا اللّه في جميع الأوقات .

{وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } قال قتادة : ضمها إليه . وقال أبو عبيدة : ضمن القيام بها ، ومن القبول الحسن والنبات الحسن أن جعل تعالى كافلها والقيم بأمرها وحفظها نبياً . أوحى اللّه إلى داود عليه السلام : إذا رأيت لي طالباً فكن له خادماً .

وقرأ الكوفيون : وكفلها ، بتشديد الفاء ، وباقي السبعة بتخفيفها . وأبيّ : وأكفلها ، ومجاهد : فتقبلها بسكون اللام ربها ، بالنصب على النداء ، و : أبنتها ، بكسر الباء وسكون التاء ، و : كفلها ، بكسر الفاء مشدّدة وسكون اللام على الدعاء من أم مريم لمريم .

وقرأ عبد اللّه المزني : وكفلها ، بكر الفاء وهي لغة يقال : كفل يكفِل وكفل يكفَل ، كعلم يعلم .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص : زكريا ، مقصوراً وباقي السبعة ممدوداً . وتقدم ذكر اللغات فيه .

روي أن حنة حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون ، وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم ، وصاحب قربانهم ، وكانت بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحق بها ، عندي خالتها . فقالوا : لا ، حتى نقترع عليها . فانطلقوا ، وكانوا سبعة وعشرين ، إلى نهر . قيل : هو نهر الأردن وهو قول الجمهور .

وقيل : في عين ماء كانت هناك ، فألقوا فيه أقلامهم ، فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فتكفلها . قيل : واسترضع لها . وقال الحسن : لم تلتقم ثدياً قط . وقال عكرمة : ألقوا أقلامهم فجرى قلم زكريا عكس جرية الماء .

وقيل : عامت مع الماء معروضة ، وبقي قلم زكريا واقفاً كأنما ركز في طين ، قال ابن إسحاق : إن زكريا كان تزوّج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين ، ولدت امرأة زكريا يحيى ، وولدت امرأة عمران مريم . وقال السدّي ، وغيره : كان زكريا تزوّج ابنة أخرى لعمران . ويعضد هذا القول قول صلى اللّه عليه وسلم في يحيى وعيسى : ابنا الخالة .

وقيل : إنما كفلها لأن أمّها هلكت ، وكان أبوها قد هلك وهي في بطن أمّها .

وقيل : كان زكريا ابن عمها وكانت أختها تحته . وقال ابن إسحاق : ترعرعت وأصاب بني إسرائيل مجاعة ، فقال لهم زكريا : أني قد عجزت عن إنفاق مريم ، فاقترعوا على من يكفلها ، ففعلوا ، فخرج إليهم رجل يقال له جريح ، فجعل ينفق عليها ، وهذا استهام غير الأول ، هذا المراد منه دفعها للإنفاق عليها ، والأول المراد منه : أخذها ، فعلى هذا القول يكون زكريا قد كفلها من لدن الطفولة دون استهام ، والذي عليه الناس أن زكريا إنما كفلها بالاستهام ، ولم يدل القرآن على أن غير زكريا كفلها ، وكان زكريا أولى بكفالتها ، لأنه من أقربائها من جهة أبيها ، ولأن خالتها أو أختها تحته ، على اختلاف القولين ، ولأنه كان نبياً ، فهو أولى بها لعصمته .

وزكريا هو ابن أذن بن مسلم من ولد سليمان بن داود عليهم السلام وذكر النقيب أبو البركات الجواني النسابة : أن يحيى بن زكريا ، واليسع ، والياس ، والعزير من ولد هارون أخي موسى ، فلا يكون على هذا زكريا من ولد سليمان ، ولا يكون ابن عم مريم ، لأن مريم من ذرية سليمان عليه السلام ، وسليمان من يهوذا بن يعقوب ، وموسى وهارون بن لاوي بن يعقوب .

قال ابن إسحاق : ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بنى لها محراباً في المسجد ، وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه إلاَّ بسلم ، مثل باب الكعبة ، ولا يصعد إليها غيره .

وقيل : كان يغلق عليها سبعة أبواب إذا

خرج قال مقاتل : كان يغلق عليها الباب ومعه المفتاح لا يأمن عليه أحداً ، فإذا حاضت أخرجها إلى منزلة تكون مع خالتها أم يحيى أو أختها ، فإذا طهرت ردها إلى بيت المقدس

وقيل : كانت مطهرة من الحيض .

{كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} قال مجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي : وجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء وقال الحسن : تكلمت في المهد ولم تلقم ثدياً قط ، وإنما كانت يأتيها رزقها من الجنة .

والذي ورد في الصحيح أن الذي تكلم في المهد ثلاثة : عيسى ، وصاحب جريج ، وابن المرأة وورد من طريق شاذ : صاحب الأخدود . والأغرب أن مريم منهم .

وقيل : كان جريج النجار ، واسمه يوسف بن يعقوب ، وكان ابن مريم حين كفلها بالقرعة وقد ضعف زكريا عن القيام بها ، يأتيها من كسبه بشيء لطيف على قدر وسعه ، فيزكو ذلك الطعام ويكثر ، فيدخل زكريا عليها فيتحقق أنه ليس من وسع جريج ، فيسألها . وههذا يدل على أن ذلك كان بعد أن كبرت وهو الأقرب للصواب .

وقيل : كانت ترزق من غير رزق بلادهم قال ابن عباس : كان عنباً في مكتل ولم يكن في تلك البلاد عنب ، وقاله ابن جبير ، ومجاهد

وقيل : كان بعض الصالحين يأتيها بالرزق .

والذي يدل عليه ظاهر الآية أن الذي كفلها بالتربية هو زكريا لا غيره ، فإن اللّه تعالى كفاه لما كفلها مؤونة رزقها ، ووضع عنه بحسن التكفل مشقة التكلف .

و : كلما ، تقتضي التكرار ، فيدل على كثرة تعهده وتفقده لأحوالها . ودلت الآية على وجود الرزق عندها كل وقت يدخل عليها ، والمعنى : أنه غذاء يتغذى به لم يعهده عندها ، ولم يوجهه هو . وأَبْعَدَ من فسر الرزق هنا بأنه فيض كان يأتيها من اللّه من العلم والحكمة من غير تعليم آدمي ، فسماه رزقاً قال الراغب : واللفظ محتمل ، انتهى ، وهذا شبيه بتفسير الباطنية .

{قَالَ يَاءادَمُ مَرْيَمَ إِنّى لَكَ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّه} استغرب زكريا وجود الرزق عندها وهو لم يكن أتى به ، وتكرر وجوده عندها كلما دخل عليها ، فسأل على سبيل التعجب من وصول الرزق إليها ، وكيف أتى هذا الرزق ؟ و : أنَّى ، سؤال عن الكيفية وعن المكان وعن الزمان ، والأظهر أنه سؤال عن الجهة ، فكأنه قال : من أي جهة لك هذا الرزق ؟ ولذلك قال أبو عبيدة : معناه من أين ؟ ولا يبعد أن يكون سؤالاً عن الكيفية ، أي كيف تهيأ وصول هذا الرزق إليك ؟ وقال الكميت : أنَّى ومن أين أتاك الطرب

من حيث لا صبوة ولا طرب

وجوابها سؤاله بأنه { مِنْ عِندِ اللّه } ظاهره أنه لم : يأت به آدمي ألبتة ، بل هو رزق يتعهدني به اللّه تعالى . وظاهره أنه كان يسأل كلما وجد عندها رزقاً ، لأن من الجائز في الفعل أن يكون هذا الثاني من جهة غير الجهة التي تقدّمت ، فتجيبه بأنه من عند اللّه ، وتحيله على مسبب الأسباب ، ومبرز الأشياء من العدم الصرف إلى الوجود المحض ، فعند ذلك يستريح قلب زكريا بكونه لم يسبقه أحد إلى تعهد مريم ، وبكونه يشهد مقاماً شريفاً ، واعتناءً لطيفاً بمن اختارها اللّه تعالى بأن جعلها في كفالته .

وهذا الخارق العظيم قيل : هو بدعوة زكريا لها بالرزق ، فيكون من خصائص زكريا

وقيل : كان تأسيساً لنبوّة ولدها

عيسى . وهذان القولان شبيهان بأقوال المعتزلة حيث ينفون وجود الخارق على غير النبي ، إلا إن كان ذلك في زمان نبي ، فيكون ذلك معجزة لذلك النبي .

والظاهر أنها كرامة خص اللّه بها مريم ، ولو كان خارقاً لأجل زكريا لم يسأل عنه زكريا ،

وأما كون ذلك لأجل نبوة عيسى ، فهو كان لم يخلق بعد .

قال الزجاج : وهذا الخارق من الآية التي

قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا ءايَةً لّلْعَالَمِينَ } وقال الجبائي : يجوز أن يكون من معجزات زكريا ، دعا لها على الإجمال . لأن يوصل لها رزقها ، وربما غفل عن تفاصيل ذلك ، فلما رأى شيئاً معيناً في وقت معين ، سأل عنه ، فعلم أنه معجزة ، فدعا به أو سأل عن ذلك خشية أن يكون الآتي به إنساناً ، فأخبرته أنه { مِنْ عِندِ اللّه } ويحتمل أن يكون على أيدي المؤمنين ، وسأل لئلا يكون على وجه لا ينبغي .

{إنَّ اللّه يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } تقدّم تفسير هذه الجملة ، والظاهر أنها من كلام مريم وقال الطبري : ليس من كلام مريم ، وأنه خبر من اللّه تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلم. .

وروى جابر حديثاً مطولاً فيه تكثير الخبز واللحم على سبيل خرق العادة لفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فسألها : من أين لك هذا ؟ فقالت : هو من عند اللّه . فحمد اللّه ، وقال : الحمد للّه الذي جعلك شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل .

قيل : وفي هذه الآيات أنواع من الفصاحة . العموم الذي يراد به الخصوص في قوله : على العالمين ، والإختصاص في قوله : آدم ، ونوحاً ، وآل إبراهيم ، وآل عمران . وإطلاق اسم الفرع على الأصل والمسبب على السبب ، في قوله : ذرية ، فيمن قال المراد الآدباء ، والإبهام في قوله : ما في بطني ، لما تعذر عليها الإطلاع على ما في بطنها أتت بلفظ : ما ، الذي يصدق على الذكر والأنثى ، والتأكيد في قوله :{ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } والخبر الذي يراد به الاعتذار في قولها : وضعتها أنثى ، والاعتراض في قوله : واللّه أعلم بما وضعت ، في قراءة من سكن التاء أو كسرها وتلوين الخطاب ومعدوله في قوله : واللّه أعلم بما وضعت ، في قراءة من كسر التاء ، خرج من خطاب الغيبة في قولها : فلما وضعتها ، إلى خطاب المواجهة في قوله : بما وضعت والتكرار في : وأنى ، وفي : زكريا ، وزكريا ، وفي : من عند اللّه ، إن اللّه والتجنيس المغاير في : فتقبلها ربها بقبول ، وأنبتها نباتاً ، وفي : رزقاً ويرزق والإشارة ، وهو أن يعبر باللفظ الظاهر عن المعنى الخفي ، في قوله : هو من عند اللّه ، أي هو رزق لا يقدر على الإتيان به في ذلك الوقت إلاَّ اللّه .

وفي قوله : رزقاً ، أتى به منكّراً مشيراً إلى أنه ليس من جنس واحد ، بل من أجناس كثيرة ، لأن النكرة تقتضي الشيوع والكثرة . والحذف في عدة مواضع لا يصح المعنى إلا باعتبارها .

﴿ ٣٧