٣٨

هنالك دعا زكريا . . . . .

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } أصل : هنالك ، أن يكون إشارة للمكان ، وقد يستعمل للزمان

وقيل بهما في هذه الآية ، أي في ذلك المكان دعا زكريا ، أو : في ذلك الوقت لما رأى هذا الخارق

العظيم لمريم ، وأنها ممن اصطفاها اللّه ، ارتاح إلى طلب الولد واحتاج إليه لكبر سنه ، ولأن يرث منه ومن آل يعقوب ، كما قصه تعالى في سورة مريم ، ولم يمنعه من طلب كون امرأته عاقراً ، إذ رأى من حال مريم أمراً خارجاً عن العادة ، فلا يبعد أن يرزقه اللّه ولداً مع كون امرأته كانت عاقراً ، إذ كانت حنة قد رزقت مريم بعدما أيست من الولد .

وانتصاب : هنالك ، بقوله : دعا ، ووقع في تفسير السجاوندي : أن هناك في المكان ، وهنالك في الزمان ، وهو وهم ، بل الأصل أن يكون للمكان سواء اتصلت به اللام والكاف أو الكاف فقط أو لم يتصلا . وقد يتجوز بها عن المكان إلى الزمان ، كما أن أصل : عند ، أن يكون للمكان ، ثم يتجوز بها للزمان ، كما تقول : آتيك عند طلوع الشمس .

قيل : واللام في : هنالك ، دلالة على بعد المسافة بين الدعاء والإجابة ، فإنه نقل المفسرون أنه كان بين دعائه وإجابته أربعون سنة .

وقيل : دخلت اللام لبعد منال هذا الأمر لكونه خارقاً للعادة ، كما أدخل اللام في قوله : { ذالِكَ الْكِتَابُ } لبعد مناله وعظم ارتفاعه وشرفه . وقال الماتريدي : كانت نفسه تحدثه بأن يهب اللّه له ولداً يبقى به الذكر إلى يوم القيامة ، لكنه لم يكن يدعو مراعاة للأدب ، إذ الأدب أن لا يدعو لمراد إلاَّ فيما هو معتاد الوجود وإن كان اللّه قادراً على كل شيء ، فلما رأى عندها ما هو ناقض للعادة حمله ذلك على الدعاء في طلب الولد غير المعتاد . انتهى .

وقوله : كانت تحدثه نفسه بذلك ، يحتاج إلى نقل .

وفي قوله :{ هُنَالِكَ دَعَا } دلالة على أن يتوخى العبد بدعائه الأمكنة المباركة والأزمنة المشرفة .

{قَالَ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً } هذه الجملة شرح للدعاء وتفسير له ، وناداه بلفظ : رب ، إذ هو مربيه ومصلح حاله ، وجاء الطلب بلفظ : هب ، لأن الهبة إحسان محض ليس في مقابلتها شيء يكون عوضاً للواهب ، ولما كان ذلك يكاد يكون على سبيل ما لا تسبب فيه : لا من الوالد لكبر سنة ، ولا من الوالدة لكونها عاقراً لا تلد ، فكان وجوده كالوجود بغير سبب ، أتى هبة محضة منسوبة إلى اللّه تعالى بقوله : من لدنك ، أي من جهة محض قدرتك من غير توسط سبب .

وتقدّم أن : لدن ، لما قرب ، و : عند ، لما قرب ولما بعد ، وهي أقل إبهاماً من : لدن ، ألا ترى أن : عند ، تقع جواباً لأين ، ولا تقع له جواباً : لدن ؟ .

{وَمِنْ لَّدُنْكَ } متعلق : بهب ،

وقيل : في موضع الحال من : ذرية ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، فعلى هذا تتعلق بمحذوف ، والذرية جنس يقع على واحد ، فأكثر . وقال الطبري : أراد بالذرية هنا واحداً دليل ذلك طلبه : ولياً ، ولم يطلب : أولياء .

قال ابن عطية : وفيما قاله الطبري تعقب ، وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد ، وهكذا كان طلب زكريا . انتهى .

وفسر : طيبة ، بأن تكون سليمة في الخلق وفي الدين تقية . وقال الراغب : صالحة ، واستعمال الصالح في الطيب كاستعمال الخبيث في ضده ، على أن في الطيب زيادة معنى على الصالح .

وقيل : أراد : بطيبة ، أنها تبلغ في الدين رتبة النبوّة ، فإن كان أراد بالذرية مدلولها من كونها اسم جنس ، ولم يقيد بالوحدة ، فوصفها : بطيبة ، واضح وإن كان أراد ذكراً واحداً ، فأنث لتأنيث اللفظ ، كما قال : أبوك خليفة ولدته أخرى

سكات إذا ما عَضّ ليس بأدْرَدَا

وكما قال : أبوك خليفة ولدته أخرى

وأنت خليفة ذاك الكمال

وفي قوله :{ هَبْ لِى } دلالة على طلب الولد الصالح ، والدعاء بحصوله وهي سنة المرسلين والصديقين والصالحين .

{إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء } لما دعا ربه بأنه يهب له ولداً صالحاً ، أخبر بأنه تعالى مجيب الدعاء . وليس المعنى على السماع المعهود ، بل مثل قوله : سمع اللّه لمن حمده . عبر بالسماع عن الإجابة إلى المقصد ، واقتفى في ذلك جده الأعلى إبراهيم عليه السلام إذ ذال :{ الْحَمْدُ للّه الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدُّعَاء } فأجاب اللّه دعاءه ورزقه على الكبر كما رزق إبراهيم على الكبر ، وكان قد تعود من اللّه إجابة دعائه . ألا ترى إلى قوله :{ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً } ؟ .

قيل : وذكر تعالى في كيفية دعائه ثلاث صيغ :

أحدها : هذا ،

والثاني :{ إِنّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنّى } إلى آخره . و

الثالث :{ رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ } فدل على أن الدعاء تكرر منه ثلاث مرات بهذه الثلاث الصيغ ، ودل على أن بين الدعاء والإجابة زماناً . انتهى . ولا يدل على ذلك تكرير الدعاء ، كما قيل : لأنه حالة الحكاية قد يكون حكي في قوله { رَبّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً } على سبيل الإيجاز ، وفي سورة مريم على سبيل الإسهاب ، وفي هذه السورة على سبيل التوسط .

وهذه الحكاية في هذه الصيغ إنما هي بالمعنى ، إذ لم يكن لسانهم عربياً ، ويدل على أنه دعاء واحد متعقب بالتبشير العطف بالفاء في قوله :{ فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ }

وفي قوله :{ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يُحْىِ } وظاهر قوله في مريم :{ رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ } اعتقاب التبشير الدعاء لا تأخره عنه . .

﴿ ٣٨