٣٩

فنادته الملائكة وهو . . . . .

{فَنَادَتْهُ الْمَلَئِكَةُ } قيل : النداء يستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به ، فلم يكن هذا إخباراً من الملائكة على عرف الوحي ، بل نداءً كما نادى الرجل الأنصاري : كعب بن مالك ، من أعلى الجبل . قاله ابن عطية ، وغيره . ولا يظهر ذلك ، بل المناداة تكون لتبشير ولتحزين ولغير ذلك ، كما جاء . { يا أهل النار خلود بلا موت} وجاء : { فَرْعَوْنُ ياهَامَانُ ابْنِ لِى صَرْحاً } وإنما فهمت البشارة في الآية من قولهم { إِنَّ اللّه يُبَشّرُكِ } لا إن لفظ نادته يدل على ذلك ، لا بالوضع ولا بالاستعمال . ويحتمل أن يكون نداؤهم إياه على سبيل الوحي ، أي : أوحي إليهم بأن ينادوه ، أو يكون نادوه من تلقاء أنفسهم ، كما يقال لك : بلغ زيداً كذا وكذا ، فتقول له : يا زيد جرى كذا وكذا . وهما قولان للمفسرين .

وفي الكلام حذف تقديره : فتقبل اللّه دعاءه ، ووهب له يحيى ، وبعث إليه الملائكة بذلك ، فنادته . وذكر أنه كان بين دعائه والإستجابة له أربعون سنة ، والظاهر خلاف ذلك .

والظاهر أن مناديه جماعة من الملائكة لصيغة اللفظ ، وقد بعث تعالى ملائكة إلى قوم لوط وإلى إبراهيم وفي غير ما قصة .

وذكر الجمهور أن المنادي هو جبريل وحده ، ويؤيده قراءة عبد اللّه ومصحفه : فناداه جبريل وهو قائم .

وقال الزمخشري : وإنما قيل الملائكة على قولهم : فلان يركب الخيل ، يعني : إن الذي ناداه هو من جنس الملائكة ، لا يريد خصوصية الجمع ، كما أن قولهم : فلان يركب الخيل لا يريد خصوصية الجمع ، إنما يريد مركوبه من هذا الجنس . وخرج عليه الذين قال لهم الناس ، وهو نعيم بن مسعود . وقال الفضل : الرئيس يخبر عنه أخبار الجمع لاجتماع أصحابه معه ، أو لاجتماع الصفات الجميلة فيه ، المتفرقة في غيره . فعبر عنه بالكثرة لذلك . قيل : وجبريل رئيس الملائكة .

وقرأ حمزة ، والكسائي : فناداه ، ممالة وباقي السبعة : فنادته ، بتاء التأنيث و : الملائكة ، جمع تكسير ، فيجوز أن يلحق العلامة ، وإن لا يلحق . تقول : قام الرجال ، وقامت الرجال . وإلحاق العلامة قيل . أحسن ، ألا ترى : إذ قالت الملائكة ؟ ولما جاءت رسلنا ؟ ومحسِّن الحذف هنا الفصل بالمفعول .

{وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ } ذكر البغوي أن زكريا كان الحبر الكبير الذي يقرب القربان ، ويفتح باب المذبح ، فلا يدخلون حتى يؤذن . فبينما هو قائم يصلي في المحراب ، يعنى المسجد عند المذبح ، والناس ينتظرون أن يؤذن لهم في الدخول ، إذا هو برجل عليه ثياب بيض ، ففزع منه ، فناداه ، وهو جبريل : يا زكريا إن اللّه يبشرك .

وقيل : المحراب موقف

الإمام من المسجد ، وهو قول جمهور المفسرين .

وقيل : القبلة . والظاهر أن المحراب هو المحراب الذي قبله في قوله : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } ففي المكان الذي رأى فيه خرق العادة ، فيه دعا ، وفيه جاءته البشارة . وهذا يدل على مشروعية الصلاة في شريعتهم .

وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، وفي الآية دليل على جواز نداء المتلبس بالصلاة وتكليمه ، وإن كان في ذلك شغل له عن صلاته .

وهذه الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير المفعول ، أو من الملائكة ، و : يصلي ، يحتمل أن يكون صفة : لقائم ، ويحتمل أن يكون حالاً من الضمير المستكن في : قائم ، أو : من ضمير المفعول ، على مذهب من جوّز حالين من ذي حال واحد ، ويحتمل أن يكون خبراً ثانياً : لهو ، على مذهب من يجيز تعداد الأخبار لمبتدأ واحد ، وإن لم تكن في معنى خبر واحد .

ويتعلق : في المحراب ، بقوله : يصلي ، ولا يجوز أن يتعلق : بقائم ، في وجه من احتمالات إعراب : يصلي ، إلا في وجه واحد ، وهو أن يكون : يصلي ، حالاً من الضمير الذي استكن في : قائم ، فيجوز . لأنه إذ ذاك يتحد العامل فيه وفي : يصلى ، وهو : قائم ، لأن العامل إذ ذاك في الحال هو : قائم ، إذ هو العامل في ذي الحال ، وبه يتعلق المجرور .

وفي قوله :{ قَائِمٌ يُصَلّى فِى الْمِحْرَابِ } قالوا : دلالة على جواز قيام الإمام في محرابه ، وقد كرهه أبو حنيفة ، وقال : كان ذلك شرعاً لمن قبلنا .

ورقق وَرش راء : المحراب ، وأمال الراء ابن ذكوان إذا كانت : المحراب ، مجروراً ونسب ذلك أبو علي إلى ابن عامر . ولم يقيد بالجر .

{أَنَّ اللّه يُبَشّرُكَ بِيَحْيَى } قرأ ابن عامر ، وحمزة : إن اللّه ، بكسر الهمزة . فعند البصريين الكسر على إضمار القبول ، أي : وقالت . وعند الكوفيين لا إضمار ، لأن غير القول مما هو في معناه : كالنداء والدعاء ، يجري مجرى القول في الحكاية ، فكسرت بنادته ، لأن معناه قالت له .

وقرأ الباقون بفتح الهمزة ، وهو معمول لباء محذوفة في الأصل ، أي بتبشير :

وحين حذفت فالموضع نصب بالفعل أو جر بالباء المحذوفة ، قولان قد تقدما في غير ما موضع من هذا الكتاب .

وقرأ عبد اللّه : يا زكريا إن اللّه . فقوله : يا زكرياء ، هو معمول النداء . فهو في موضع نصب ، ولا يجوز فتح : إن ، على هذه القراءة ، لأن الفعل قد استوفى مفعوليه ، وهما : الضمير والمنادى . وتبليغ البشارة على لسان الرسول إلى المرسل إليه ليست بشارة من الرسول ، بل من المرسل . ألا ترى إضافة ذلك إليه في قوله : يبشرك ؟ وقد قال في سورة مريم :{ رَضِيّاً يازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشّرُكَ } فأسند ذلك إليه تعالى .

وقرأ حمزة ، والكسائي : يبشرك ، في الموضعين في قصة زكريا وقصة مريم ، وفي الإسراء ، وفي الكهف ، وفي الشورى ، من : بشر ، مخففاً . وافقهما ابن كثير ، وأبو عمر ، وفي الشورى زاد حمزة في الحجر : ألا فبم تبشرون ، ومريم

وقرأ الباقون : يبشر ، من بشر المضعف العين

وقرأ عبد اللّه يبشر في جميع القرآن من أبشر ، وهي لغىً ثلاث ذكرها غير واحد من اللغويين وقال الشاعر : بَشَرْتُ عِيالي إِذ رأيتُ صحيفة

أتتك من الحجاج يتُلى كتابها

وقال الآخر : يا بشر حق لوجهك التَّبشير

هلا غضبت لنا وأنت أمير

بيحيى ، متعلق بقوله : نبشرك ، والمعنى : بولادة يحيى منك ومن امرأتك ، فإن كان أعجمياً فمنع صرفه للعلمية والعجمة ، وإن كان عربياً فللعلمية ووزن الفعل ، كيعمر . وقد ذكرنا هذا .

وهذا الذي عليه كثير من المفسرين لاحظوا فيه

معنى الاشتقاق من الحياة .

قال قتادة : سماه اللّه يحيى لأنه أحياه بالإيمان . وقال الحسن بن المفضل : حيي بالعصمة والطاعة وقال أبو القاسم بن حبيب : سمي يحيى لأنه استشهد ، والشهداء أحياء روي في الحديث :  { من هوان الدنيا على اللّه أن يحيى بن زكريا قتلته امرأة } وقال مقاتل : سمي يحيى لأنه أحياه بين شيخ وعجوز وقال الزجاج : حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها

وقال ابن عباس : إن اللّه أحيا به عقر أمّه

وقيل : معناه يموت فسمي يحيى تفاؤلاً ، كالمفازة والسليم

وقيل : لأن اللّه أحيا به الناس بالهدى .

{مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّه} الجمهور على أن الكلمة هو عيسى ، وسيأتي لم سمي كلمة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والسدّي وغيرهم . قال الربيع ، وغيره : كان يحيى أوّل من صدق بعيسى وشهد أنه كلمة من اللّه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، قاله الأكثرون

وقيل : بثلاث سنين ، وقتل قبل رفع عيسى ، وكانت أمّ يحيى تقول لمريم : إني لأجد الذي في بطني يتحرك ،

وفي رواية : يسجد ،

وفي رواية : يومي برأسه لما في بطنك ، فذلك تصديقه ، وهو أول التصديق .

وقال أبو عبيدة ، وغيره { بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّه } أي : بكتاب من اللّه التوراة والإنجيل وغيرهما ، أوقع المفرد موقع الجمع ، فالكلمة اسم جنس ، وقد سمت العرب القصيدة كلمة روي أن الحويدرة ذكر لحسان ، فقال : لعن اللّه كلمته ، أي قصيدته . وفي الحديث : { أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد :

ألاكل شيء ما خلا اللّه باطل

وكل نعيم لا محالة زائل }

وقيل معنى : { بِكَلِمَةٍ مّنَ اللّه } هنا أي : بوعد من اللّه ،

وقرأ أبو السمال العدوي : بكلمة ، بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل : كتف وكتف ، ووجهه أنه أتبع فاء الكلمة لعينها ، فيقل اجتماع كسرتين ، فسكن العين . ومنهم من يسكنها مع فتح الفاء استثقالاً للكسرة في العين .

وانتصب : مصدّقاً ، على الحال

قال ابن عطية : وهي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

{وَسَيّدًا } قال ابن عباس : السيد الكريم وقال قتادة : الحليم ، ومنه قول الشاعر : سيد لا تحل حبوته

بوادر الجاهلين إن جهلوا

وقال عكرمة : من لا يغلبه الغضب وقال الضحاك : الحسن الخلق وقال سالم : التقي وقال ابن زيد : الشريف وقال ابن المسيب : الفقيه العالم وقال أحمد بن عاصم : الراضي بقضاء اللّه وقال الخليل : المطاع الفائق أقرانه وقال أبو بكر الورّاق : المتوكل وقال الترمذي : العظيم الهمة وقال الثوري : السيد مَن لا يحسد من قولهم : الحسود لا يسود وقال أبو إسحاق : السيد الذي يفوق في الخير قومه . وقال بعض أهل اللغة : السيد المالك الذي

تجب طاعته . ولهذا قيل للزوج : سيد

وقيل : سيد الغلام ، وقال سلمة عن الفراء : السيد المالك ، والسيد الرئيس ، والسيد الحكيم ، والسيد السخي .

وجاء في الحديث :  { السيد من أعطى مالاً ورزق سماحاً ، فأدنى الفقراء ، وقلت شكايته في الناس} . وفي معناه : من بذل معروفه وكف أذاه وقال في الحديث بني سلمة وقد سألهم من سيدكم فقالوا الجدّ بن قيس على بخله فقال عليه السلام : { وأي داء أدوى من البخل ؟ سيدكم عمرو بن الجموح} . وسمي أيضاً سعد بن معاذ سيداً في قوله :{ قوموا إلى سيدكم} .أي رئيسكم والمطاع فيكم . وسمي الحسن بن علي : سيداً . في قوله :{ إن ابني هذا سيد ، ولعل اللّه يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين} .

وقال الزمخشري : السيد الذي يسود قومه أي يفوقها في الشرف . وكان يحيى قائماً لقومه ، قائماً للناس كلهم في أنه لم يرتكب سيئة قط ، ويا لها من سيادة ؟ انتهى كلامه .

وقال ابن عطية ما ملخصه : خصه اللّه بذكر السؤدد ، وهو الإعتمال في رضا الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل ، وتفضيله : بذل الندى وهو الكرم ، وكف الأذى وهي العفة في الفرج واليد واللسان ، واحتمال العظائم وهنا هو الحلم من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإنقاذ من الهلكات . وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال ، وقد يوجد من يبرز فيها ، فيسمى سيداً وإن قصر في مندوب ، ومكافحة في حق وقلة مبالاة باللائمة .

وقال ابن عمر : ما رأيت أسود من معاوية ؟ قيل له : وأبو بكر وعمر ؟ قال : هما خير منه ، ومعاوية أسود منهما انتهى كلامه .

وهذه الأقوال التي ذكرت في تفسير السيد كلها يصلح أن يكون تفسيراً في وصف يحيى عليه السلام ، وأحق الناس بصفات الكمال هم النبيون .

وفي قوله : وسيداً ، دلالة على إطلاق هذا الاسم على من فيه سيادة ، وهو من أوصاف المدح . ولا يقال ذلك للظالم والمنافق والكافر .

وورد النهي : { لا تقولوا للمنافق سيداً } ، وما جاء من قوله { أَطَعْنَا سَادَتَنَا } فعلى ما في اعتقادهم وزعمهم .

قيل : وما جاء في حديث وفد بني عامر من قولهم لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أنت سيدنا وذو الطول علينا ، فقال صلى اللّه عليه وسلم : { السيد هو اللّه ، تكلموا بكلامكم } ، فمحمول على أنه رآهم متكلفين لذلك ، أو كان ذلك قبل أن يعلم أنه سيد البشر ، وقد سمى هو الحسن بن علي سيداً ، وكذلك سعد بن معاذ ، وعمرو بن الجموح .

{وَحَصُورًا } هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك ، قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، وعطاء ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والسدي ، وابن زيد ، قال الشاعر : وحصوراً لا يريد نكاحا

لا ولا يبتغي النساء الصِّباحا

وقد روي أنه تزوج مع ذلك ليكون أغض لبصره

وقيل : الحاضر نفسه عن الشهوات

وقيل : عن معاصي

اللّه

وقيل : الحصور الهيوب وقال ابن مسعود أيضاً ، وابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والمسيب : هو العنين الذي لا ذكر له يتأتى به النكاح ولا ينزل .

وإيراد الحصور وصفاً في معرض الثناء الجميل إنما يكون عن الفعل المكتسب دون الجبلة في الغالب ، والذي يقتضيه مقام يحيى عليه السلام أنه كان يمنع نفسه من شهوات الدنيا من النساء وغيرهن ، ولعل ترك النساء زهادة فيهن كان شرعهم إذ ذاك .

قال مجاهد : كان طعام يحيي العشب ، وكان يبكي من خشية اللّه حتى لو كان القار على عينيه لخرقه ، وكان الدمع اتخذ مجرىً في وجهه .

قيل : ومن هذا حاله فهو في شغل عن النساء وغيرهن من شهوات الدنيا .

وقيل : الحصور الذي لا يدخل مع القوم في الميسر . قال الأخطل : وشارب مربح بالكأس نادمني

لا بالحصور ولا فيها بسآر

فاستعير لمن لا يدخل في اللعب واللّهو .

وقد روي أنه : مر وهو طفل بصبيان فدعوه إلى اللعب ، فقال : ما للعب خلقت . والحصور والحصِر كما تم السر قال جرير : ولقد تساقطني الوشاة فصادفوا

حَصِراً بسرك يا أميم ضنينا

وجاء في الحديث عن ابن العاصي ، ما معناه : أن يحيى لم يكن له ما للرجل إلاَّ مثل هذا العود ، يشير إلى عويد صغير .

وفي رواية أبي هريرة : كان ذكره مثل هذه القذاة ، يشير إلى قذاة من الأرض أخذها . وقد استدل بقوله { وَحَصُورًا } من ذهب إلى أن التبتل لنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، وهو مذهب الجمهور خلافاً لمذهب أبي حنيفة ، فإنه بالعكس .

{وَنَبِيّا } هذا الوصف الأشرف ، وهو أعلى الأوصاف ، فذكر أولاً الوصف الذي تبنى عليه الأوصاف بعده ، وهو : التصديق الذي هو الإيمان ، ثم ذكر السيادة وهي الوصف يفوق به قومه ، ثم ذكر الزهادة وخصوصاً فيما لا يكاد يزهد فيه وذلك النساء ، ثم ذكر الرتبة العليا وهي : رتبة النبوّة . وفي هذه الأوصاف تشابه من أوصاف . مريم عليها السلام ، وذلك أن زكريا لما رأى ما اشتملت عليه مريم من الأوصاف الجميلة ، وما خصها اللّه تعالى به من الخوارق للعادة ، دعا ربه أن يهب له ذرية طيبة ، فأجابة إلى ذلك ، ووهب له يحيى على وفق . ما طلب ، فالتصديق مشترك بين مريم ويحيى ، وكانت مريم سيدة بني إسرائيل بنص الرسول في حديث فاطمة ، وكان يحيى سيداً ، فاشتركا في هذا الوصف . وكانت مريم عذراء بتولاً لم يمسسها بشر وكان يحيى لا يقرب النساء . وكانت مريم أتاها الملك رسولاً من عند اللّه وحاوراها عن اللّه بمحاورات حتى زعم قوم أنها كانت نبية ، وكان يحيى نبياً ، وحقيقة النبوّة هو أن يوحي اللّه إليه ، فقد اشتركا في هذا الوصف .

{مّنَ الصَّالِحِينَ } يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون المعنى من أصلاب الأنبياء ، كما قال :{ ذُرّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } ويحتمل أن يكون المعنى : وصالحاً من جملة الصالحين . كما قال تعالى في وصف إبراهيم { وَإِنَّهُ فِى الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } قال ابن الأنباري : معناه من صالحي الحال عند اللّه قال الكرماني : خص الأنبياء بذكر الصلاح لأنه لا يتخلل صلاحهم خلاف ذلك وقال الزجاج : الصالح هو الذي يؤدي ما افترض عليه وإلى الناس حقوقهم . انتهى .

وقد قال سليمان بعد حصول النبوّة له { وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ } قيل : وتحقيق ذلك أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوّة ، ثم بعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتهم في الزيادة على ذلك القدر ، فمن كان أكثر نصيباً من الصلاح كان أعلى قدراً .

وقال الماتريدي : الصلاح يتحقق في كل نبي من جميع الوجوه ، وفي غيرهم لا يتحقق إلاَّ بعضها ، وإن كان الاسم ينطلق على الكل لكن سبب استحقاق الاسم في الأنبياء هو تحقيق الصلاح من جميع الوجوه ، وفي غيرههم من بعضها ، فخصه بالذكر حتى ينقطع احتمال جواز النبوّة في مطلق المؤمنين ، فكان تقييده باسم الصلاح مفيداً .

وقيل : من الصالحين في الدنيا والآخرة ، فيكون إشارة إلى الدوام على الإيمان ، والأمن من خوف الخاتمة .

﴿ ٣٩