٤٠

قال رب أنى . . . . .

{قَالَ رَبّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } كان قد تقدّم سؤاله به :{ رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً } فلا شك في إمكانية ذلك ، وجوازه : وإذا كان ذلك ممكناً وبشرته به الملائكة ، فما وجه هذا الاستفهام ؟ .

وأجيب بوجوه : .

أحدهما : أنه سؤال عن الكيفية ، والمعنى : أيولد لي على سن الشيخوخة وكون امرأتي عاقراً ؟ أي بلغت سن من لا تلد ، وكان قد بلغ تسعاً وتسعين سنة ، وامرأته بلغت ثمانياً وتسعين سنة

وقال ابن عباس : كان يوم بشر ابن عشرين ومائة سنة وقال الكلبي : ابن اثنتين وتسعين سنة .

أم أُعاد أنا وامرأتي إلى سن الشبيبة وهيئة من يولد له ؟ فأجيب : بأنه يولد له على هذه الحال . قال معناه : الحسن ، والأصم .

الثاني : أنه لما بشر بالولد استعلم : أيكون ذلك الولد من صلبه نفسه أم من بنيه ؟ .

الثالث : أنه كان نسي السؤال ، وكان بين السؤال والتبشير أربعون سنة ونقل عن سفيان أنه كان بينهما ستون سنة .

الرابع : أن هذا الاستعلام هو على سبيل الاستعظام لقدرة اللّه تعالى ، يحدث ذلك عند معاينة الآيات وهو يرجع معناه إلى ما قاله بعضهم : إن ذلك من شدّة الفرح ، لكونه كالمدهوش عند حصول ما كان مستعبداً له عادة .

الخامس : إنما سأل لأنه كان عاجزاً عن الجماع لكبر سنه ، فسأل ربه : هل يقويه على الجماع وامرأته على القبول على حال الكبر ؟

السادس : سأل هل يرزق الولد من امرأته العاقر أم من غيرها .

السابع : أنه لما بشر بالولد أتاه الشيطان ليكدر عليه نعمة ربه ، فقال له : هل تدري من ناداك ؟ قال : ملائكة ربي قال له : بل ذلك الشيطان ، ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك ، فخالطت قلبه وسوسة ، فقال :{ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ } ليبين اللّه له من الوحي ، قاله عكرمة ، والسدي . قال القاضي : لو اشتبه على الرسل كلام الملك بكلام الشيطان لم يبق الوثوق بجميع الشرائع .

وأجيب : بأن ما قاله لا يلزم لاحتمال أن تقوم المعجزة على الوحي بما بتعلق بالدين ،

وأما ما يتعلق بمصالح الدنيا فربما لا يؤكد بالمعجزة ، فيبقى الاحتمال ، فيطلب زواله .

وقال الزمخشري : استبعاد من حيث العادة . كما قالت مريم . إنتهى . وعلى ما قاله : لو كان استبعاداً لما سأله بقوله :{ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً } لأنه لا يسأل إلاَّ ما كان ممكناً لا سيما

الأنبياء ، لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع .

و : يكون ، يجوز أن تكون تامّة وفاعلها غلام ، أي : أنَّي يحدث لي غلام ؟ ويجوز أن تكون ناقصة ، ولا يتعين إذ ذاك تقديم الخبر على الأسم ، لأنه قيل : دخول كان مصحح لجواز الإبتداء بالنكرة ، إذ تقدّم أداة الإستفهام مسوغ لجواز الإبتداء بالنكرة ، والجملتان بعد كل منهما حال ، والعامل فيهما : يكون ، إن كانت تامة ، أو العامل في : لي ، إن كانت ناقصة .

وقيل : { وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ } حال من المفعول في : بلغني ، والعامل بلغني ، وكانت الجملة الأولى فعلية لأن الكبر يتجدّد شيئاً فشيئاً ، فلم يكن وصفاً لازماً ، وكانت الثانية اسمية والخبر : عاقر ، لأنه كونها عاقراً أمر لازم لها لم يكن وصفاً طارئاً عليها ، فناسب لذلك أن تكون الأولى جملة فعلية ، وناسب أن تكون الثانية جملة اسمية ، ومعنى : بلغني الكبر ، أثر فيّ : وحقيقة البلوغ في الأجرام ، وهو أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه .

وأسند البلوغ إلى الكبر توسعاً في الكلام ، كأن الكبر طالب له ، لأن الحوادث طارئة على الإنسان ، فكأنهما طالبة له وهو المطلوب ،

وقيل : هو من المقلوب ، كما جاء :{ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } وكما قال : مثل القنافذ هدّاجون قد بلغت

نجران أو بلغت سوءاتهم هجر

وقال الراغب : إذا بلغت الكبر فقد بلغك الكبر . إنتهى . وهنا قدّم حال نفسه وأخر حال امرأته ، وفي مريم عكس ، فقال الماتريدي : لا تراعي الألفاظ في الحكاية إنما تراعي المعاني المدرجة في الألفاظ .

وقال غيره : صدر الآيات في مريم مطابق لهذا الترتيب هنا ، لأنه قدم : أنه وهن العظم منه ، { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} وقال :{ وَإِنّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَائِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا } ، فلما أعاد ذكرها في الاستعلام أخر ذكر الكبر ليوافق عتياً روؤس الآي ، وهو باب مقصود في الفصاحة يترجح إذا لم يخل بالمعنى ، والعطف هنا بالواو ، فليس التقديم والتأخير مشعراً بتقدم زمان ، وإنما هذا من باب تقديم المناسب في فصاحة الكلام .

{قَالَ كَذالِكَ اللّه يَفْعَلُ مَا يَشَاء } الكاف : للتشبيه ، وذلك : إشارة إلى الفعل ، أي : مثل ذلك الفعل ، وهو تكوّن الولد بين الفاني والعاقر ، يفعل اللّه ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخباراً من اللّه أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلاً ، مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء ، بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة : سواء كان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة ؟ وإذا كان تعالى يوجد الأشياء من العدم الصرف بلا مادة ولا سبب ، فكيف بالأشياء التي لها مادة وسبب وإن كان ذلك على خلاف العادة ؟ وتكون الكاف على هذا الوجه في موضع نصب على أنها صفة لمصدر محذوف ، أي : فعلاً مثل ذلك الفعل ، أو على انها في موضع الحال من ضمير المصدر المحذوف : من يفعل ، وذكل على مذهب سيبويه ، وقد تقدّم لنا مثل هذا ، ويحتمل أن يكون كذلك اللّه مبتدأ وخبراً ، وذلك على حذف مضاف ، أي صنع اللّه الغريب مثل ذلك الصنع ، ويكون { يَفْعَلُ مَا يَشَاء } شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة ، وقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة : اللّه ، قال :{ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاء } بيان له ، أي يفعل ما يشاء من الأفاعيل الخارقة للعادات . إنتهى .

و

قال ابن عطية : أي : كهذه القدرة المستغربة هي قدرة اللّه . إنتهى .

وعلى هذا الاحتمال ، تكون الكاف في موضع رفع ، لأن الجار والمجرور في موضع خبر المبتدأ والكلام جملتان ، وعلى التفسير الأول الكلام جملة واحدة . قال ابن عطية وغيره : واللفظ لابن عطية : ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته ، كأنه قال : رب على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا ؟ فقال له : كما أنتما يكحون لكما الغلام . والكلام تام على هذا التأويل . في قوله : كذلك وقوله : اللّه يفعل ما يشاء . جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب . إنتهى كلامه . فيكون : كذلك ، متعلقاً بمحذوف وشرح الراغب المعنى فقال : يهب لك الولد وأنت بحالتك .

والظاهر من هذه الأقوال الثلاثة هو الأول .

﴿ ٤٠