٤٦

ويكلم الناس في . . . . .

{وَيُكَلّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً } وعطف : ويكلم ، وهو حال أيضاً على : وجيهاً ، ونظيره :{ إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } أي : وقابضات . وكذلك : ويكلم ، أي : ومكلماً . وأتى في الحال الأولى بالاسم لأن الأسم

هو للثبوت ، وجاءت الحال الثانية جاراً ومجروراً لأنه يقد بالأسم . وجاءت الحالة الثالثة جملة لأنها في الرتبة الثالثة . ألا ترى في الحال وصف في المعنى ؟ فكما أن الأحسن والأكثر في لسان العرب أنه إذا اجتمع أوصاف متغايرة بدىء بالأسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة . كقوله تعالى : { وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مّنْ ءالِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } فكذلك الحال ، بدىء بالأسم ، ثم الجار والمجرور ، ثم بالجملة . وكانت هذه الجملة مضارعية لأن الفعل يشعر بالتجدد ، كما أن الأسم يشعر بالثبوت ، ويتعلق : في المهد ، بمحذوف إذ هو في موضع الحال ، التقدير : كائنا في المهد وكهلاً ، معطوف على هذه الحال ، كأنه قيل : طفلاً وكهلاً ، فعطف صريح الحال على الجار والمجرور الذي في موضع الحال . ونظيره عكساً :{ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ } ومن زعم أن : وكهلاً ، معطوف على : وجيهاً ، فقد أببعد .

والمهد : مقر الصبي في رضاعه ، وأصله مصدر سمي به يقال : مهدت لنفسي بتخفيف الهاء وتشديدها ، أي : وطأت ،

ويقال : أمهد الشيء ارتفع .

وتقدم تفسير : الكهل لغة . وقال مجاهد : الكهل الحليم ، وهذا تفسير باللازم غالباً ، لأن الكهل يقوى عقله وإدراكه وتجربته ، فلا يكون في ذلك كالشارخ ، والعرب تتمدح الكهولة ، قال : وما ضر من كانت بقاياه مثلنا

شباب تسامى للعلى وكهول

ولذلك خص هذا السن في الآية دون سائر العمر ، لأنها الحالة الوسطى في استحكام العقل وجودة الرأي ،

وفي قوله : وكهلاً ، تبشير بأنه يعيش إلى سن الكهولة ، قاله الربيع ،

ويقال : إن مريم ولدته لثمانية أشهر ، ومن ولد لذلك لم يعش ، فكان ذلك بشارة لها بعيشه إلى هذا السن .

وقيل : كانت العادة أن من تكلم في المهدمات ،

وفي قوله :{ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً } إشارة إلى تقلب الأحوال عليه ، ورد على النصارى في دعواهم إلهيته . وقال ابن كيسان : ذكر ذلك قبل أن يخلقه إعلاماً به أنه يكتهل ، فإذا أخبرت به مريم علم أنه من علم الغيب . واختلف في كلامه : في المهد ، أكان ساعة واحدة ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغ النطق ؟ أو كان يتكلم دائماً في المهد حتى بلغ إبان الكلام ؟ قولان :

الأول : عن ابن عباس .

ونقل الثعالبي أشياء من كلامه لأمه وهو رضيع ، والظاهر أنه كان حين كلم الناس في الهد نبياً لقوله :{ قَالَ إِنّى عَبْدُ اللّه ءاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى } ولظهور هذه المعجزة منه والتحدي بها .

وقيل : لم يكن نبياً في ذلك الوقت ، وإنما كان الكلام تأسيساً لنبوته ، فيكون قوله :{ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً } إخباراً عما يؤول إليه بدليل قوله :{ وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ } ولم يتعرض لوقت كلامه إذا كان كهلاً ، فقيل : كلامه قبل رفعه إلى السماء كلمهم بالوحي والرسالة .

وقيل : ينزل من السماء كهلاً ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فيقول لهم : إني عبد اللّه ، كما قال في المهد ، وهذه فائدة قوله : وكهلاً ، أخبر أنه ينزل عند قتله الدجال كهلاً ، قاله ابن زيد . وقال الزمشخري : معناه : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة التي يستحكم فيها العقل ، وينبأ فيها الأنبياء . إنتهى .

قيل : وتكلم في المهد سبعة : عيسى ، ويحيى ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج . وصبي ماشطة امرأة فرعون ، وصاحب الجبار ، وصاحب الأخدود ، وقصص هؤلاء مروية ، ولا يعارض هذا ما جاء من حصر من تكلم رضيعاً في ثلاثة ، لأن ذلك كان إخباراً قبل أن يعلم بالباقين ، فأخبر على سبيل ما أعلم به أولاً ، ثم أعلم بالباقين .

{وَمِنَ الصَّالِحِينَ } أي : وصالحاً من جملة الصالحين ، وتقدم تفسير الصلاح الموصوف به الأنبياء .

وانتصاب : وجيهاً ، وما عطف عليه على الحال من قوله : بكلمة منه ، وحسن ذلك ، وإن كان نكرة ، كونه وصف بقوله : منه ، وبقوله : منه ، وبقوله : اسمه المسيح .

﴿ ٤٦